بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن كل ملة ونحلة وكل أيديولوجية لها قيم وأسس تبينها وتميزها عما سواها، وإن هذا الدين الذي هو الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى له ميزات هي التي تميزه عما سواه، وهي التي يزداد بها منسوب الإيمان في قلوب ذويه، وهي التي يحسن الإنسان بها إيمانه فيصبح حسن الإسلام، ومن عدمها ولو كان مؤمناً بقلبه ولسانه وبعض جوارحه فإن إسلامه غير حسن، وحسن الإسلام هو الذي شرطه الرسول صلى الله عليه وسلم في تكفير الحسنات للسيئات، فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض أسس حسن الإسلام في قوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فعلى هذا الأساس فإن المؤمن مطالب بأن يعرف أسس شخصيته التي يرتضيها له بارئه سبحانه وتعالى، فيتخلق بهذه الأسس ويزيدها في نفسه، وما كان عادماً له منها تاب واستغفر وتدارك التثبيط فيما مضى، وما كان متصفاً به بفطرته أو بتربيته حمد الله عليه ورسخه وزاد فيه.
إن الأسس التي تميز بناء شخصية المسلم متعددة المشارب، فأعظمها وأقدمها: الأساس العقدي، فعقيدة المؤمن المقتضية للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره هي التي تميز تصوره لهذا الكون والحياة، وتميز كذلك تصرفه في حياته هذه، فإن الذي لا يحدد مبادئه بالإيمان يبقى ضائعاً في هذه الحياة مذبذباً كحال المنافقين الذين يقولون عندما يسألون في قبورهم: لا ندري، فالمنافق والمرتاب إذا سئل قال: لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
والمؤمن الصامد الثابت إذا سئل في قبره: ما ربك وما دينك وما تقول في هذا الرجل؟ يقول: الله ربي، والإسلام ديني، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا؛ ولذلك يجيبه الملائكة بقولهم: قد علمنا إن كنت لموقنا.
فهذا الأساس العقدي يميز شخصية المسلم ويلزمه بكثير من الأعمال وكثير من الأخلاق، وكثير من التصرفات، ويرد عنه ما يقابلها.
ومن هنا فهذا الأساس الأول مقتض من الإنسان محبة الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده ورجائه وخوفه والأدب معه، وكذلك مقتض لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر رسل الله، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وأن لا يعبد الله إلا بما بلغ عنه.. هذه ثلاثة أمور هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.
وكذلك فإن هذه الأسس العقدية تقتضي من الإنسان الصمود والصبر والثبات وعدم التزحزح، فالذي يؤمن بالله وحده ويعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، وأن الله كتب ما هو كائن في قدره النافذ، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، وأنها لو اجتمعت على أن تضره بشيء لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه؛ لا يمكن أن يخضع ويذل لغير الله، ولا يمكن أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الله، ولا يمكن أن يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى وحده، ذلك لأن إيمانه بالله سبحانه وتعالى مقتض لمعرفته به، بمعرفته وأنه ديان السماوات والأرض الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بيده مقاليد كل شيء، هو الحق الملك المبين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويعلم أنه سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء فلا يعجزه شيء، وأنه المدبر للكون كله، وأنه لا يغفل عنه لحظة واحدة، ومن هنا فإن قناعته بهذا مقتضية منه تمام التعلق بالله والاتصال به والتوكل عليه ورجائه وخوفه، وعدم رجاء من سواه أو خوفه أو الاعتماد عليه في أي شيء؛ لعلمه أن كل من سوى الله لا يملك لنفسه فضلاً عن الغير حياة ولا موتاً ولا نشوراً ولا نفعاً ولا ضرراً، ومن هنا لا يحق أن يتوكل عليه ولا أن يرجى نفعه ولا أن يخاف ضرره.
وإيمان الإنسان الراسخ بأن الأنفس كلها بيد الله، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، مقتض منه كذلك أن لا يثق فيما سوى الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي لا يبدو له البداء، فعلمه سابق لكل خلقه أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[البقرة:231] والمخلوق يبدو له البداء في كل لحظة، فيتغير رأيه ويعدل عن الآراء التي كان يراها.
كذلك فإن عقيدة المسلم هذه تقتضي منه أن يميز بين الخالق والمخلوق تمييزاً كاملاً، فمقتضيات الألوهية لا يعدل بشيء منها إلى المخلوق لعلمه أنها من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يصرف شيئاً منها للمخلوق، فلا يمكن أن تصرف عبادة للمخلوق أياً كانت لا في ظاهرها ولا في باطنها، فالمؤمن ذو الشخصية الإسلامية القوية لا يصرف شيئاً من عبادته الباطنية لمخلوق، فلا يرائي ولا يلتفت بشيء من عباداته لغير الله، لعلمه بالمراقبة الحقيقية (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه) .
وكذلك لا يعدل عنه بشيء من عباداته الظاهرة، فلا نذر للمخلوق، ولا رجاء ولا خوف؛ لأنه لا يأتي من عنده إلا ما كتبه الله، ومن هنا لن يصرف للمخلوق أي جزء من أجزاء العبادة بأي وجه من الوجوه؛ لأنها من خصائص الألوهية، حتى لو كان هذا المخلوق أشرف الخلق على الله وأكرمهم لديه وأحبهم إلى الناس وأنفعهم لهم، فرسل الله وملائكته المقربون عليهم السلام هم أبلغ عباد الله تحقيقاً لهذه العقيدة؛ ولهذا قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57] ويقول في وصف الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[الأنبياء:90] ويقول في وصف من ارتضى عملهم، ويدخل فيهم الأنبياء وغيرهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:16-18].
هذا الأساس مقتض لهذا التميز وعدم الميوعة، أما من اختل لديه شيء من الأسس العقدية فسيضع كل شيء في غير موضعه، فيجعل العبادة في غير موضعها فلا يتجه بها اتجاهها الصحيح، ويجعل التوكل في غير موضعه فلا يتجه به الاتجاه الصحيح، ويجعل الخوف والرجاء في غير موضعهما فلا يتجه بهما الاتجاه الصحيح، ومن هنا يصاب بالتذبذب كحال المنافقين الذين قال الله فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا[النساء:143] .
الأساس الثاني بعد الأساس العقدي: هو الأساس التعبدي:
فمن شخصية المؤمن أنه عابد بطبعه، والإنسان مفطور على العبادة، فإذا عرف أن الله يستحق العبادة أبره بهذه العبادة، وإن لم يعرف إلهه بدأ يلتمس شيئاً يعبده، فلا بد أن يعبد شجراً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك، لأنه بطبعه مفطور على العبودية، والذي يزعم من البشر أنه هو الإله منتكس الفطرة مكذب لنفسه؛ ولذلك كان عمل فرعون وغيره من الذين ادعوا الربوبية نشازاً في عالم البشرية، فالبشر لا يمكن أن يصدقوا هذا، ومن الغريب أنه إذا لم يهتد الإنسان إلى ربه وإلهه فإنه يعبد شيئاً هو أشرف منه في الواقع، فقد كان الناس في أيام الجاهلية يعبدون الحجارة التي يصنعونها؛ ولهذا نبهم خليل الله إبراهيم إلى أنهم أشرف من هذه الحجارة وأعظم منها.
وكذلك كانوا يعبدون أتفه الأشياء، فقد حدث طارق بن شهاب : أنهم كانوا إذا وجدوا حجراً فأعجبهم عبدوه، فإذا وجدوا حجراً آخر أحسن منه عدلوا عن الأول وكسروه وعبدوا الثاني، فإذا لم يجدوا حجراً جمعوا تراباً واحتلبوا عليه شاة فإذا يبس عبدوه من دون الله.
هذا من انتكاس الفطرة، والموافق للفطرة إنما هو العبودية، فالإنسان بطبعه عبد، والذين يدعون الحرية ويدعون إليها يعلمون أن تلك الحرية مقيدة، وأن لها حدوداً لا بد أن تنتهي إليها، فالإنسان مفطور على العبودية.
لهذا فإن من أسس بناء شخصية المؤمن أن يكون عابداً لله سبحانه وتعالى وأن يكون مسارعاً في ذلك، وأن يعلم أن قيمته هي هذه العبادة، فقيمة كل شيء ما ينفع فيه، فمثلاً: هذا الجهاز قيمته أنه وضع للتسجيل، فما دام يقوم بوظيفته فهو ذو سعر مرتفع، وإذا خرب ولم يؤد هذا الدور لم يبق له ثمن، والإنسان كذلك خلق من أجل العبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات:56-58]، فإذا فقد الإنسان هذه القيمة ولم يؤد هذه العبادة أو كان يؤديها بدور ناقص، مثل الجهاز إذا كان يسجل لكن بتشويش وأصوات مزعجة، فإنه تنحط قيمته ويقل سعره.
وبهذا فإن الفضل في البشرية إنما يكون بحسب التقوى والعبادة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، وهذه القيمة لا شك أنها متدرجة متفاوتة، فأعظم العبادات وأجلها ما افترضه الله على عباده، ودونها سياجها المكمل لها من السنن والمندوبات، فالواجبات مثل البيت والسنن والمندوبات مثل السور الذي يحيط بالبيت ويعصمه من السراق ومن اللصوص والسيارات والبهائم، والبيت محتاج إلى هذا السور الذي يحيط به، وكذلك العبادات في تكميلها وتتميمها بهذه السنن والمندوبات، ومن فرط في شيء منها فإن ذلك سيكون على حساب الأصل؛ لأن العبادة كل متكامل، فإذا فرط الإنسان في المندوبات ساقه ذلك إلى التفريط في السنن، وإذا فرط في السنن ساقه ذلك إلى التفريط في الفرائض التي هي رأس المال.
والله تعالى من فضله وكرمه أن أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيلاً من الرمل فتمنى لو كان له مثله سويقاً فينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: من أين لي هذا وما أبصرته عيناي قط؟ فقال: إنك مررت بكثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويق فتنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك).
ونية المؤمن أبلغ من عمله، ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .
وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى؛ لأن أرجح شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن أجر خطاه إلى المسجد: فلا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن (يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله ويرجع غانماً) كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ[التوبة:18] ، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالحي الإنس والجن، فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب كما في الحديث الصحيح: (أشهدوا أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). كذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة، فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها أيضاً تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك.
كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي توزن فيه مثاقيل الذر وهي أصغر شيء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47] .. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8] .
كذلك مما ينمي هذه العبادات ويزكيها: الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وموافقتها لما شرع، وهذان الركنان هما ركنا صلاح العمل:
الركن الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً في كل حركاته وعباداته وحده ديان السماوات والأرض، لا يشرك معه غيره في شيء من تصرفاته، فهو الملك الحق المبين الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، فأنا أغنى الشركاء عن الشرك) ومن هنا يحاول الإنسان الإخلاص في تصرفاته، وقد كان كثيرٌ من الصالحين إذا بدأ عملاً في العبادة ثم تذكر أن بعض النيات قد ندت عن ذهنه، أو قصر عنها تفكيره رجع عنها إلى الوراء حتى يبتدئ العمل بهذه النيات المخلصة كلها.
والركن الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة لما شرع الله، فكم من أقوام يعبدون ولا يستريحون ولا يفترون؛ لكن عبادتهم غير موافقة لما شرع الله فلا يتقبلها الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ[الغاشية:2-7]، فهؤلاء خالفوا فلم يتقبل الله تعالى عبادتهم وردها عليهم؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن من أكبر المصائب على الإنسان العابد أن يكون أجنى جناياته عبادته التي يريد بها التقرب إلى الله، فإذا كانت الصلاة -التي هي القربة الأولى لدى الإنسان يتقرب بها إلى الله- هي الجناية الكبرى يوم القيامة، فهذا من أعظم المصائب.
ومن هنا فعلى الإنسان فيما يتعلق بعباداته أن يتعلم ما شرعه الله فيها، وأن يحافظ على ذلك، فهذا هو إقامتها والمحافظة عليها، فإنه لا ينبغي أن يمل الناس من دراسة أحكامها وسننها وهيئاتها وآدابها الكثيرة التي لا نرى تطبيق كثير منها، فكثير من الناس يعلم هيئة الركوع ولكنه لا يعطيه وقتاً ولا يطمئن فيه، وكثير منهم يعلم هيئة السجود ولكنه لا يؤديه كما شرع! فنراه منقبضاً يدخل مرفقيه عند بطنه ويمس جنبيه بضبعيه! ويخالف الهدي النبوي في هيئة الصلاة كلها.
إن دراسة الهدي النبوي في العبادة مقتض من الإنسان أن يحسن هذه العبادة، التي هي قيمة وأساس شخصيته، ومن هنا اعتنى كثير من أهل العلم ببيان الهدي النبوي في العبادات، ومن هؤلاء شمس الدين بن القيم رحمه الله الذي ألف كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد)، فحاول أن يجمع فيه الهدي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات التعبدات ليكون ذلك معيناً للمسلم على تطبيق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الحافظ البغوي رحمه الله فقد ألف كتابه (مصابيح السنة) ورتبه في كل عبادة وفي كل باب على فصلين:
الفصل الأول: ما جاء في الصحيحين.
الفصل الثاني: ما كان في السنن والمسانيد والمعاجم.
وسمى الأول الصحاح والثاني الحسان، وإن كان أهل الحديث قد لاحظوا عليه هذا الاصطلاح؛ لأن أحاديث السنن منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف فلا توصف كلها بالحسن؛ ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية:
والبغوي قسم المصابحا إلى الصحاح والحسان جانحا
أن الحسان ما رووه في السنن عيب عليه إذ بها غير الحسن
لكن مع هذا جمع هذا الجمع المفيد الطيب الذي أفاد الناس في مختلف العصور، وجاء بعده الإمام التبريزي رحمه الله فاختصر (المصابيح) واستخرج منها أهم أحاديث الأبواب في كتابه (مشكاة المصابيح)، وهذا الكتاب ميسر وسهل وفي متناول الأيدي، وبالإمكان أن يرجع الإنسان فيه إلى الهدي النبوي في كل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أصلاً يرجع إليه في إحسان عباداته لله وحده.
إن هذه القيمة التعبدية هي التي بها النور، والإنسان محتاج إليه، فنور بصيرته وفهمه وأدبه مع الله إنما يستقى من قيمته التعبدية، فهي أساس عظيم من أسس شخصيته تستنير بها بصيرته ويستنير بها وجهه وقلبه ويصلح للتلقي عن الله سبحانه وتعالى والتفهم في كتابه، ومن عدم هذه القيمة لم ينل وقار العلم ولا هيبته، حتى لو أفنى عمره في الدراسات ولن يستشعر هذه العظمة والسعادة والراحة القلبية التي عبر عنها أحد العلماء في هذه البلاد بقوله: إن من أعظم النعم التي تذاق بها حلاوة الإيمان أن يأتي إلى الإنسان خطاب من ربه أن افعل كذا، فيكون قد علم حكمه وعرف هيئته الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأداه على وفق ما شرع، فيحصل له بهذا سعادة عجيبة.
والأساس الثالث من أسس شخصية المسلم: أساس المعاملة، وهذا أساس عظيم جداً، ففيه الجانب الخلقي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا)، وفيه جانب التعاون بين الناس الذي قال الله فيه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ[المائدة:2] .
وفيه جانب الاكتساب والسعي في الأرض الذي يقول الله فيه: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[الملك:15]، فكل هذه الجوانب داخلة في هذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم وهو أساس التعامل.
وهذا الأساس معناه أن الإنسان مضطر للتعامل مع غيره، وأولى من يتعامل معه ربه سبحانه وتعالى، فعليه أن يحسن المعاملة معه.
الأساس الأول: وهو أهم ضوابط إحسان المعاملة مع الله، الصدق في التوجه إليه، فإذا علم الله الصدق من عبده بالتوجه إليه هداه سبله وأراه طريق الحق وأخذ بناصيته إلى ذلك.
أما إذا رأى منه كذباً في التوجه إليه وأنه لم يكن صادقاً في ذلك فإن الله يغويه ويضله، كما قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:109-111] ، إن صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى يقتضي من الإنسان أن يتأدب مع الله في الأخذ وفي التلقي.
والأساس الثاني: أن يعرف نعمة الله ويقيدها بشكرها، وهذا أساس في التعامل مع النعم، فكثير من الناس لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، فإذا فقدوا النعمة تذكروا أنهم كانوا في خير وعافية، وأن ذلك قد فارقهم فأسفوا وندموا!! وهذا مخالف لأساس شخصية المسلم؛ لقول الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23] . إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ[المعارج:19-22] .
وعلى هذا فلابد أن نعرف نعمة الله بوجودها لا بزوالها، ثم بعد ذلك لا بد أن نعرف من أين أتت هذه النعمة، فكثير من الناس تطغيه النعمة فينسى من أين أتت، والله تعالى يذكر رسوله صلى الله عليه وسلم بمصدر نعمته عليه فيقول: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[الشرح:1-4] ويقول في السورة التي قبلها: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى[الضحى:1-8] فيذكره بمصدر النعمة.
كثير من الناس يجهل مصدر النعمة بالطغيان، يطغى بالنعمة فينسى مصدرها. كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7] ؛ ولهذا فإن قارون حين أغناه الله نسي مصدر النعمة، فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ[القصص:78] .
والأساس الثالث في التعامل مع الله: هو تقييد نعمه بالشكر، ومعناه: أن كثيراً من الناس ينكر هذه النعمة بعد معرفته بها ومعرفته من أين أتت، كما قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ[النحل:83] ، وأهل الإيمان يعرفون نعمة الله ويقيدونها بالشكر، فإذا شرب الإنسان أو أكل قال: الحمد لله، فتذكر هذه النعمة عليه، وإذا استيقظ من نومه ورد الله عليه روحه تذكر هذه النعمة فقال: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره، وإذا من الله عليه بالعبادة حمد الله على ذلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده يقول: ربنا لك الحمد، وهكذا..
فالنعم المتسلسلة يصاحبها ويحاذيها الحمد الذي هو قيدها، والشكر الذي هو سبب زيادتها، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7] .
ومن أسس التعامل مع الله سبحانه وتعالى: أن يتعرف الإنسان إليه في الرخاء كما ذكرنا، وهذا مقتض لأن يكون الإنسان راغباً إلى الله في كل أحواله، فكثير من الناس لا يعرفون الدعاء إلا في وقت الشدة، أما في وقت الراحة والسعادة والطمأنينة والغنى والصحة فإنهم يبطرون بتلك النعم فلا يدعون الله!! وكثير من الناس إذا رأى من تسيل دمعته وتفيض عيناه ويمد يديه إلى بارئ السماوات والأرض يقول: هذا في مشكلة، هذا مصاب بمصيبة!! لتصور الناس أنه لا يدعى الله إلا في وقت المشكلات، والواقع خلاف هذا.
فعلى الإنسان أن يتعرف إلى الله في الرخاء وأن يكثر من دعائه، وأن يعلم أن هذا الدعاء هو حقيقة المذلة بين يدي الله، فحقيقة التذلل لله إنما تكون بدعائه، والإنسان محتاج إلى هذا في كل أوقاته، وهذا الدعاء هو مخ العبادة، وهو مقتض لأن يثني الإنسان على الله بالمحامد والثناء الذي هو أهله ومستحقه، وهي فرصة عجيبة تتاح للإنسان للثناء على الله، ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يهمل هذا الجانب من شخصية المؤمن، فلو عرضت عليه صحيفة كلامه لوجد فيها كثيراً من الثناء على المخلوقين، ولما وجد فيها من الثناء على الخالق إلا شيئاً يسيراً، مع أن الله هو الذي يستحق الثناء، وألسنة كثير من الناس لا تتعود الثناء على الله بصفاته ونعمه وآلائه الجسيمة وهو أهل للثناء (وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أعرابياً قام في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج إلى بيته فجاء بذهيبة -أي قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك) جائزة على حسن ثنائه على الله.
وثبت في صحيح البخاري: (أن رجلاً من الأنصار خرج في سرية فكان يؤمهم، فكان إذا قرأ الفاتحة قرأ بعدها سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1]، ثم يقرأ سورة أخرى، فأنكر عليه أصحابه، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: (قل هو الله أحد) صفة الرحمن فأجدني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة)، كان يحب الثناء على الله فأدخله ذلك الجنة.
كذلك: الدعاء فإنه مقتض أن يتذكر الإنسان مذلته وفقره وعجزه فيتذكر ما يقابل ذلك من صفات الله المخالف للحوادث، يتذكر غنى الله المطلق، يتذكر دوامه وقيوميته التي لا انتهاء لها ولا انقضاء، يتذكر كرمه وجوده وسخاءه، يتذكر فضله وأن يده سبحانه وتعالى سحاء لا تغيض الليل والنهار.
ويتذكر حلمه ورأفته ولطفه فهو الذي يرى الناس على المعصية فيغفر ويستر، فما من أحد منا إلا ويتذكر مواقف بينه وبين الله يخجل منها، ويستحي أن يطلع الله عليه وهو على المعصية، ولكنه يستره ويسامحه وهو قادر على أخذه أخذاً وبيلاً بهذه اللحظة؛ نسأل الله أن يتبع الستر بالمغفرة وأن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا في أمرنا.
فإذا تذكر الإنسان ذلك عرف أنه محتاج إلى هذا الدعاء، وأنه أساس من أسس شخصيته التي تميزه، فغير المسلم يدعو غير الله ويكثر من دعائه! والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].
وهذا الدعاء لله سبحانه وتعالى هو حقيقة الغنى بالله عما سواه، والذي إذا أصابته أية مصيبة أو احتاج إلى أي حاجة، أو تذكر فقراً أو تذكر ذنباً بادر إلى باب الدعاء، فسيغلق الله عنه باب الفقر ويفتح له باب الغنى، فيستغني بالله عمن سواه، والذي إذا تذكر حاجة أو فاقة علقها بالمخلوق فبدأ يسأل الناس فإنه كلما سأل فتحت عليه أبواب أخرى من الفقر، فيجعل الله فقره بين عينيه، ويجعله متعلقاً بالآخرين دائماً، وهذا الذي كتبه الله على اليهود، فقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ[آل عمران:112] فهم دائماً يريدون من يحميهم، ويريدون من ينفق عليهم، ويريدون من يبدي لهم جانب الرحمة؛ لأنهم مفطورون على الذلة للمخلوق.
بخلاف أهل الإيمان فإن من أساس شخصيتهم أنهم يسألون الله الذي رضي لهم أن يسألوه فقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر:60] وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[البقرة:186] ولهذا يعلقون آمالهم ودعاءهم في حوائجهم كلها بالذي يقدر على قضائها، الذي لو اجتمعت الخلائق كلها في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، الذي لا يعجزه قضاء حوائج عباده، ولا تغيض يداه بل هما سحاءان بالليل والنهار، هذا هو الذي يستحق أن يسأل وأن يدعى ومن سواه لا يستحق ذلك، بل العباد مفطورون على البخل في الأصل؛ ولهذا يقول أحد الحكماء:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
ويقول آخر:
إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد
وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد
ثم إن التعامل مع الله سبحانه وتعالى مقتض أن يتعرف الإنسان على عجائب خلقه وتدبيره ولطفه، فإن الإنسان إذا لم يدرك هذه الحقائق يبقى جانب عظيم من تعلقه بالله مهملاً مغلقاً، لكن إذا رأى تصرف الله في هذا الكون الذي يخرج فيه النقيض من نقيضه والضد من ضده يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ[يونس:31]، يرى العجائب العجيبة، وذلك مقتض منه لزيادة التعلق به، وزيادة محبته وزيادة الإيمان به وزيادة الرجاء وعدم الانقطاع عنه مطلقاً.
من رأى عجائب كون الله سبحانه وتعالى ودقائق ملكوته لم ينزعج ولم تسد أمامه الأبواب، ولم يقنط ولم ييأس إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[يوسف:87] ، فإذا تعالى الباطل وعلت صيحاته وانتفش وانتفخ فإن أهل الإيمان يعلمون أن الفرج قريب، وأن النصر مع الصبر وأن الذي أهلك قوم نوح فأمر السماء ففتحت أبوابها بالماء المنهمر وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ[القمر:12] ، وأهلك عاداً بالريح التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وأهلك ثمود بالصيحة التي لم تبق لهم باقية، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى[النجم:51] وأهلك قوم لوط بالحاصب الذي قلب مدينتهم، وأهلك أصحاب فرعون وفرعون بالتطام البحر والتقائه عليهم، غير عاجز عن أن يهلك أعداءه في أي زمان وأي مكان أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:43-45] .
فمن هنا لا ييأس الإنسان ولا يحزن إذا رأى انتفاش الباطل، لعلمه أن له صولة ثم يضمحل.
كذلك فإن من واقع التعامل مع الله سبحانه وتعالى الذي ينبغي أن يكون حاضراً في أذهان المؤمنين: أن المؤمن إذا أصابته أي مصيبة، أو نفذ فيه أي قدر من أقدار الله سبحانه وتعالى، تذكر الكلمة البليغة التي هي الأدب الشرعي في التعامل مع الله عند المصائب وهي: إنا لله وإنا إليه راجعون. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:156-157].
(إنا لله) فنحن مملوكون له سبحانه وتعالى وتصرفه فينا نافذ ماض لا معقب لحكمه، (وإنا إليه راجعون) فنحن جميعاً راجعون إليه حتى لو تعدتنا المصائب الآن وتجاوزتنا، فلا بد أن نصل إلى الرجوع إليه؛ لأن مصير الأمور كلها إليه أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:53] .
ثم في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أمنّ الخلق على الناس، وقد شرط الله عليهم محبته في الإيمان (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك).
ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروطة بالإيمان، والتعامل معه صلى الله عليه وسلم مقتض للتأدب معه تمام الأدب كما قال سبحانه وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:63]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحجرات:1-5]، فالتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أساس التقدير والتوقير الذي شرطه الله سبحانه وتعالى وأمر به، يعتبر من مميزات شخصية المسلم في مجال التعامل.
أما من لم يأخذ بهذه القيمة من قيم شخصية المسلم فسيكون ما بين مفرط ومفرط، فالمفرط: سيحل الرسول صلى الله عليه وسلم في غير منزلته، ولن يعرفه على حقيقته، بل سيحجب عن صفاته الحقيقية وعن الأدب معه بمجرد خرافات وأقوال اختلقها أقوام ليس لها أساس، والنبي صلى الله عليه وسلم في غنى عنها، فقد شرفه الله وكرمه بالتشريف الكافي، ولا يحتاج إلى الإطراء بالباطل ولا يحتاج إلى الخرافات، بل آتاه الله المعجزات الحقيقية التي هي مقنعة لكل من سمع وبلغ.
النوع الثاني: المفرِّطون الذين يسيئون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقرونه ولا يقدرونه ويعتدون على جانب النبوة فينسبون إليه بأفهامهم ما هو خلاف الواقع، ويظنونه كرجالاتهم، وليس كذلك، بل هو المعصوم الذي شرفه الله على سائر الناس وكرمه، والمؤمن بين هاتين الرذيلتين: بين الإفراط والتفريط.
كذلك فإن من مقومات شخصية الإنسان المؤمن في مجال التعامل: تعامله مع إخوانه المؤمنين الذين وصف الله تعاملهم فيما بينهم بالرحمة والشفقة، فقال سبحانه وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا[الفتح:29]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ[المائدة:54] .
ومن هنا فالصفة العظيمة التي كتبها الله على نفسه وأمر بها عباده هي صفة الرحمة، فيتصف بها المؤمنون فيما بينهم، فهم الرحماء الذين يرحمهم الله، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يرحم لا يُرحم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وهذه الرحمة يحتاج الناس إليها في تعاملهم فيما بينهم، وإذا انعدمت فإن الخيرية سترفع، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها)، فإذا نزعت الرحمة من الناس زالت الخيرية منهم، وعدموا الخير الذي اختارهم الله له: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[آل عمران:110] .
عند التعامل مع الناس لا بد أن يتذكر الإنسان أنه مخلوق مثلهم، وأنه ليس محصياً لذنوبهم ولا مكلفاً بذلك، وأن عليهم ملائكة يحصون أعمالهم لا يفوتهم شيء منها، وأنه لا يكلف إلا نفسه، ويؤمر بتحريض الآخرين فقط، فهو يأمر وينهى لكن ليس حسيباً ولا مسيطراً ولا مهيمناً، إنما هو شاهد فقط، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).
وهذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم في التعامل مع الناس: مقتض كذلك لتفاوت درجات الناس في الحقوق الشرعية، فأحق الناس بحسن صحابة الإنسان أمه، ثم بعدها أبوه، ثم أدناه فأدناه، وكذلك حقوق الجار الذي حض النبي صلى الله عليه وسلم على أداء حقوقه، وحقوق الضيف، وحقوق ذي الشيبة في الإسلام، وحقوق أهل العلم والدين، فهذه الحقوق أعلى مما سواها من حقوق عوام المسلمين.
ثم بعد ذلك حقوق الداعين والساعين في طريق الحق، وأدنى من ذلك حقوق عوام المسلمين الذين لا يلتزمون بجزئيات الإسلام، ولا يتبعون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفصيلاته، لكن مع ذلك فإن حق الأخوة لا ينصرم ولا ينقطع إلا بالكفر بالله؛ ولهذا فقد أثبت الله الأخوة بين المؤمنين مع وجود الظلم والبغي في قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[الحجرات:10] الأخوان هنا هما الباغي والمبغي عليه، فكلاهما أخوان لنا، فالأخوة الإيمانية لا ينقضها البغي والظلم، لكن حقوق أهلها متفاوتة على ترتيب الحقوق الشرعية.
الجانب الآخر من جوانب التعامل هو جانب الاكتساب:
فالله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، ومن حكمته فيما يقتضي حصول الترابط بينهم أن يعطي هذا ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، ويعطي الآخر ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، حتى يقع التكامل بينهم، وحتى يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض فيقع التبادل بينهم؛ ولهذا شرع لهم البيع وحرم عليهم الربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275] ليقع التكامل فيما بينهم، وهذا التكامل لا بد أن يكون وفق الشرع.
فميزة المسلم المؤمن أنه يميز بين دائرتين متباينتين هما دائرة الحلال ودائرة الحرام، ففي طلب الرزق والاكتساب يعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل له دائرة هي دائرة الحلال وأجاز له التصرف فيها والسعي الموافق للشرع بما ليس فيه مذلة ولا إساءة في الطلب، بل عليه أن يجمل في الطلب ويعلم أن رزقه مضمون، وأنه لا ينال بالحيلة، وكم رأينا من يبذل جهده ووقته طيلة عمره في محاولة جمع المال ويموت فقيراً لا يملك شيئاً! وكم رأينا من لم يتعب في هذه الدنيا ولم يبذل فيها جهداً يذكر ومع هذا مات غنياً وعاش غنياً غير محتاج إلى الناس!! فالقضية هنا ليست باتباع الحيل، بل يقول أحد الحكماء:
مثَل الرزق الذي تطلبه مثَل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك
ويقول الآخر:
باتت تعيرني الاقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما
تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما
ومن هنا فعلى الإنسان أن يجمل في الطلب وأن لا يذل نفسه، وأن لا يجعل نفسه خادماً للدنيا، بل المطلوب أن تكون الدنيا خادمة له هو.
وفي هذا المجال عليه أن يعلم أن الدائرة الأخرى وهي دائرة الحرام دائرة مسدودة، ولا خير له فيها، وإذا زين له الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء أو إخوان السوء أن يتزود من هذه الدائرة التي حرم الله؛ فليتذكر قصة إبليس مع آدم وحواء حين أخرجهما من الجنة، ليتذكر أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة وعليها ستور، ووراء كل باب داع يدعو للولوج، وفوقه داع الله ينادي يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه.
ليتذكر الإنسان إذا عرضت عليه أية صفقة أو أي مكسب وهو مما حرم الله عليه، أنه يمكن أن يستدرج بهذا حتى يهوي في النار، فيحاول الابتعاد عن دائرة الحرام ما تيسر له ذلك، وليعلم أن (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به) ، وأن ضعاف الإيمان هم الذين يريدون أن يدخلوا هذه الدوائر ويتزودوا من هذا الحرام؛ ولهذا فولاؤهم المنبني على أساس العقيدة غير صحيح، فهم يوالون الكفار لا رغبة في دينهم ولا في قيمهم، ولكن لأنهم يخشون الدوائر، فيريدون أن يغنيهم الكفار مما تحت أيديهم، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ[المائدة:51-52].
وفي هذا المجال على الإنسان أن يتعلم حدود الحلال والحرام؛ ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى)، وقال: (من لم يكن فقيهاً فليخرج من سوقنا)؛ لأنه يخاف أن يغلب غير الفقهاء على الأسواق فيتعاملون بمعاملات محرمة فتنتشر تلك المعاملات، وهي الغبار الذي ينال الناس من الربا، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه في آخر الزمان سيعم الربا فمن لم ينل منه ناله من غباره) .
وهذا هو واقعنا اليوم، فالاقتصاد العالمي كله يقوم على الربا المؤدي إلى حرب الله ورسوله، ومن لم ينل منه ناله من غباره.
فعلى المؤمن وهو يسعى لبناء شخصيته أن يعلم أن من مقومات شخصيته الابتعاد عن الحرام.
والمقوم الرابع من مقومات بناء شخصية المسلم بعد المقوم العقدي والمقوم التعبدي ومقوم التعامل، هو: مقوم الرغبة فيما عند الله والرغبة في الآخرة.
فالمؤمن يعلم أن هذه الدنيا ليست دار بقاء، وأن ما فيها كله فان منتقل، وبالتالي لا تكون أكبر همه ولا مبلغ علمه، يعلم أن زخارفها لن يمضي عليها زمن يسير حتى تكون أقذر ما فيها! فإذا رأيت شيئاً يعجبك من الدنيا فتذكر حاله بعد عشرين سنة أو خمسين سنة أو مائة سنة، فإذا كان مبنى جميلاً فإنه بعد مائة سنة لن يستطيع أحد السكنى فيه بل سيبقى للحمام وغيره.
إذا رأيت أي شيء يعجبك من أمور هذه الدنيا فاعلم أنه إلى زوال.
إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ فدعه وواكل أمره واللياليا
فلهذا قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132].
وهذا المقوم مقتض للرغبة فيما عند الله والزهادة في هذه الدنيا، فالمؤمن يعلم أنها فتنة، فالأموال والأولاد كثيراً ما تشغل الناس عن طاعة الله وعبادته؛ ولهذا كانت عذر الأعراب حين أمرهم الله بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11]، وهي الفتنة التي قال الله فيها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ[الأنفال:28]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدونه بعدي من زهرة الدنيا فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل)
قيمة المؤمن الخلقية في مجال الدنيا هي أن يتذكر قول الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ[يونس:24]، وكقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا[الكهف:45].
إذا أعجب الإنسان بأي شيء مما في هذه الدنيا مما يتنافس الناس عليه من الأموال والأولاد والملك وغير ذلك تذكر أن كل هذا إلى زوال، فالذين ينعمون بهذه الدنيا ويسعدون بما فيها من زخارفها عما قليل سينقلون عنها ويخرجون، وهذا ما نشاهده يومياً، فكم رأينا ممن كان يخدمه الناس وقد أصبح في حفرة لا ندري هل هي روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، قد انتقل من هذه الدنيا وخلفها وراء ظهره كما قال تعالى: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94] انتقلوا من هذه الدنيا وخرجوا منها لم يصحبهم منها إلا أكفانهم وأعمالهم، وسكنوا بعد القصور القبور، وقطعوا عن أخبار العالم بعد أن كان كل واحد منهم لا يستطيع الصبر عن وسائل الإعلام ومتابعة القنوات الفضائية، يسهر عليها ليله كله، واليوم قد انقطعت عنهم الأخبار فلا يصل إليهم أي خبر.
فلهذا لا يغتر المؤمن بهذه الدنيا، وليعلم أن كل ما فيها مما يتنافس الناس فيه مصيره للزوال.
كل شيء مصيره للزوال غير ربي وصالح الأعمال
وبهذا يعلم المؤمن أن تنافس الناس في هذه الدنيا وفي زهرتها وملكها قد سبق هذا الزمان، وأنها لو كانت تدوم لأحد لما وصلت إلينا اليوم؛ ولذلك قال أحد الوعاظ لأحد الملوك حين جلس في ملكه واستعرض جيشه وإمكانياته المختلفة، قال له: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك! فتذكر مفارقة السابقين لها والحال الذين كانوا فيه، وهذا ما أرشدنا الله إليه في بيان أن السابقين قد عمروها أكثر مما عمرها اللاحقون، فأولئك قد مكن لهم في الأرض ما لم يمكن لنا، ومع ذلك خرجوا منها وتركوها وراء ظهورهم.
فلذلك لما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مكة في حجته، وقف على ضجنان وهو جبل في شمال مكة فقال: كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن قيصر يوم خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا
وكما قال الآخر:
ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا
يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء حالكة وسحق مهوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا
والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا
فبينا الإنسان مشتغل بهذه الدنيا يهدبها ويطول أمله فيها، وكلما فتح له منها باب تمنى أن يكون وراءه أبواب، إذا بالموت يهجم عليه فلا يرده حراس ولا أعوان ولا يجد مدافعاً عن الباب كما قال ابن مناذر:
كل حي لاق الحمام فمودي ما لحي مأمل من خلود
لا تهاب المنون شيئاً ولا تبـ ـقي على والد ولا مولود
يرضخ الدهر في شماريخ رضوى ويحط الصخور من هبود
ولقد تترك الحوادث والأيا م وهياً في الصخرة الجلمود
يفعل الله ما يشاء فيمضي ما لفعل الإله من مردود
فكأن أهل الموت ركب محثو ن سراعٌ لمنهل مورود
إذا تذكر الإنسان سرعة زوال هذه الدنيا وتقلباتها علم أنها ليست دار بقاء ولا خلود، وأن حال الذي يرجو فيها البقاء ويريد أن لا يناله فيها كدر هو كما قال الشاعر:
طبعت على كدر وأنت تريدها خلواً من الأقذار والأكدار
وهذا ما لا يمكن أن يتم أبداً.
ومكلف الأيام غير طباعها متطلب في الماء جذوة نار
فمن أسس ومقومات شخصية المسلم أن يعرف قيمة هذه الدنيا ولا يزيدها عن حجمها، ومع هذا فما ذكرناه لا يقتضي منه إهمال العمل فيها فهي دار العمل، وهو مسئول عن عمارتها ومستخلف فيها، وقد استعمرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض وجعلنا خلفاء فيها، ومن هنا أوجب علينا الأسباب لكنه بين لنا أن هذه الأسباب لا تقدم ولا تؤخر: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28-29].
فنحن مطالبون بأن نعمل وأن نعمر هذه الدنيا بخير ما استطعنا، لكن نحن مطالبون كذلك بأن لا نغتر بها وأن نعلم أنها ليست دار بقاء، ومن هنا فالتعامل الصحيح مع هذه الدنيا أن يجعلها الإنسان في يده وأن لا يجعلها في قلبه، فإنه إن جعلها في يده كان بالإمكان أن يستفيد منها وأن يتصرف فيها وأن يبعد قذرها عن نفسه، وإن جعلها في قلبه ملكته وكان وعاء لها وخادماً ولم يفته شيء من أقذارها وأكدارها.
إن الذي حمل الناس على الإيغال والمبالغة في جمع هذه الدنيا هو أنهم يطلبون السعادة بها، والواقع أنهم يعلمون أنها لا تدوم على حال وأنها عرض يزال، ومن هنا فما يطرأ فيها من التغيرات سيصيبهم بالغموم والهموم فتزول السعادة لديهم.
وأنا أعرف أحد التجار الكبار أغمي عليه ذات يوم فنقل من مكتبه إلى المستشفى فلما حضر الأطباء أجروا له كل التحليلات اللازمة فلم يجدوا فيه أي مرض، فاكتشف أحد الأطباء أن الذي أصابه هو الجوع، قال: صاحبنا قتله الجوع والعطش، فبحثوا عن سبب ذلك فإذا هو منذ أيام يراقب مؤشر أسعار العملات، فلم يجد وقتاً لشرب ولا لأكل، يأتيه الخادم بكأس الشاي أو بالشرب فيضعه بين يديه وهو مشغول لا يتناوله والهواتف على أذنيه، ومتابع مؤشر العملات بين يديه، فيأتي العامل ويأخذ الكأس ويضع جديداً مكانه، وهكذا حتى يذهب الوقت دون أن يتناول أكلاً ولا شرباً!
فقد أصبح خادماً لهذه الدنيا وباذلاً وقته ونفسه لخدمة الدنيا بدل أن كانت تخدمه، فلم يستفد منها شربة ماء حتى أهلكه الجوع والعطش!
وأعرف آخر من التجار في هذه البلاد يحدثني عن نفسه فيقول: أنا وفلان من أغنى الناس في هذا المكان، ومع ذلك حرم علينا كل ما في هذه الدنيا من الشهوات، فحرم علينا كل ما فيه حلاوة وكل ما فيه دسم، وكل ما فيه ملح، فلا نتغذى إلا بالعيش والحليب الذي ليس فيه دسم!
فكثير من الناس لا يميزون بين جعل الدنيا تحت أيديهم وبين تسخيرها لهم، كثير من الناس يتمنى أن يجعل تحت يديه الملايين أو المليارات لكن لا يعلم أن جعلها تحت يديه لا يقتضي انتفاعه منها، فكم من إنسان جعلت تحت يديه فلم ينتفع منها أصلاً، ولم تسد له أية حاجة، فهذه هي قيمة الدنيا الحقيقية.
ومن أسس بناء شخصية المسلم: أساس العلم:
وهو أساس مهم يميز المسلمين، فالمسلم دائماً يسعى لزيادة العلم، وهو يتذكر أن الله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]، ويتذكر أن هذا العلم ميز الله سبحانه وتعالى به شهداءه على الناس وائتمنهم عليه، وبقدر علم الإنسان تتحقق خشيته لله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] ويتحقق تلقيه عن الله: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وترتفع منزلته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11].
ومن هنا فالمؤمن حريص على ضالته التي يبتغيها في أي مكان، وهي الحكمة، فأنّى وجدها فهو أحق بها، يسعى للازدياد من الكتاب ومن السنة ومن الأحكام الشرعية، ومن كل علم يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يستنكف عن الازدياد من العلم؛ ولهذا قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18].
والمسلم الذي يفرط في الازدياد من العلم شخصيته ناقصة، وهو مهزوز لا يستطيع الاستقرار ولا الصمود؛ لأنه لم يتخذ من وسائل التحصين ما يكفيه سلاحاً ضد كيد أعدائه وضد شبهات الشيطان التي يلقيها، فهذه لا تزال إلا بالازدياد من العلم، ومن التشريف للمؤمن أن يثبت إيمانه بما يتعلم من القرآن والسنة كما في حديث حذيفة في الصحيحين: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال تعلموا من الكتاب ثم علموا السنة) ، فكان هذا سياجاً للأمانة وتثبيتاً لها في القلوب، والذي يحاول أن يزداد كل يوم علماً أياً كان فهو سائر في طريق الجنة (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)
والذي يعرض عن ذلك مصيره أن يحشر يوم القيامة أعمى، ويضمن الله له معيشة ضنكاً ونكداً في العيش في هذه الدنيا، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى[طه:126-127].
كذلك فإن حفاظ المسلم على الازدياد من العلم يقتضي منه حرصاً على أن يكون أحد ثلاثة:
إما أن يكون عالماً، وإما أن يكون متعلماً، وإما أن يكون معيناً، ولا يمكن أن يكون الرابع الذي لا له ولا عليه؛ لأن الرابع هو الذي ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالقيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً فقال: (وذلك مثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به)، فلهذا كان من بناء شخصية المسلم أن يكون متعلماً، فهو حريص على الازدياد من العلم بالفكر والمطالعة والسماع والاستفتاء والسؤال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:82-83]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في صحيح البخاري: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أي: خير المسلمين من تعلم القرآن وعلمه، فلهذا كان من أسس بناء شخصية المسلم التعلق بهذا القرآن وقراءته وتدبره، والذي لا يجد ذلك ولا يأنس بكتاب الله، ولا تتعود أصابعه على فتح المصحف، ولا يتعود يومياً على قراءة آيات من كتاب الله ينور بها بصيرته وبصره، فجوفه خال، وهو بمثابة البيت المهجور الذي ليس فيه خير!
أما المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتدبره سواء كان ذلك شاقاً عليه أو كان سهلاً عليه فهو موعود بالأجر العظيم والذخر الجسيم، الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به ولا يتتعتع فيه وهو عليه غير شاق مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق ممن يؤتى أجره مرتين.
فلذلك فإن الذين يعرضون عن هذا التعلم بالكلية ولا يهتمون به، ولا يجعلون جزءاً من أوقاتهم له، لم يتخلقوا بشخصية المسلم في هذا الباب.
كذلك من مقومات شخصية المسلم: المقوم السياسي:
فمن مقومات شخصيته وأسسها أن موقفه السياسي محدد منطلق من عقيدة راسخة لديه لا يتزحزح عنها، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[المائدة:55-56]، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ[المجادلة:21-22]، هذا هو المقوم السياسي لشخصية المسلم أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[المجادلة:22].
فيعرف المؤمن لمن يكون ولاؤه وعلى من تكون عداوته، ومع من يكون يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ[الصف:14]، فلا يلتبس عليه الأمر، ولا تزيغ به الأهواء، ولا يسير وراء كل ناعق ولا يتقلب مع الرياح ولا تذهب به المطامع يميناً وشمالاً، بل موقفه ثابت صامد على وفق ما رضي الله له وعلى وفق ما شرع له.
ثم المقوم الاجتماعي لشخصية المسلم:
فمن أسس بناء شخصية المسلم أنه يحب الخير للناس ويحب أن ينفعهم، ويحب أن يكون من أودية الخير، فأهل السخاء هم أودية البشر في الأرض، تمطر السماء مكاناً بعيداً فتنقل تلك الأودية المياه وتسقي بها أماكن أخرى، فكذلك في الناس أهل سخاء يكدون ويجمعون ثم يصل خيرهم إلى من سواهم، ويتعدى نفعهم إلى الأباعد، وهؤلاء هم أودية السخاء في البشر، وهم مفاتيح الخير مغاليق الشر، والله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار بهذا السخاء فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[الحشر:9] .
فيسعى المؤمن في هذا المجال أن يكون وسيلة للخير ووسيلة لتخفيف المعاناة عن الناس، ووسيلة لفتح أبواب الخير أياً كانت وإغلاق أبواب الشر، لا يريد أن يستغل في باطل ولا أن يكون سبباً لأذى الناس ومعاناتهم، بل يعلم أن ذلك من أوصاف المنافقين والمرجفين؛ ولهذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[الأحزاب:58].
يريد أن يكون مشعل هداية ونور، وأن يرحم عيال الله، والناس كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، يريد أن يخفف معاناة أقوام وما يلقونه من البأساء ليخفف الله عنه كما قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ[الإنسان:8-11].
هؤلاء يخافون ذلك اليوم؛ فلهذا يعدون العدة من الآن إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا[الإنسان:9-10].
ثم المقوم الثقافي: فإن ثقافة المؤمن متميزة ليست كثقافة من سواه، فأهل الإيمان مصادرهم في التلقي معروفة واضحة، يعلمون أن الحق هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وأن الوحي كما أنزل وأن الدين كما شرعه الله، وأنه لا يمكن أن يزاد ولا أن ينقص منه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، فمرجعهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجعون إلى الراسخين في العلم فيما اخلتفوا فيه من الحق، ويسألون الله الهداية والتنوير فيما اختلف فيه من الحق بين الناس، ومن هنا فليست ثقافتهم كثقافات الذين يتقيدون بالعصور، ويتقيدون بالحضارات والمدنيات المتباينة المتضاربة، بل ثقافة المؤمن تنطلق من الوحي المنزل الذي يقول الله فيه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:193-195]، فيحسمون مأخذهم ومرجعهم ولا يحتاجون إلى التذبذب والسير وراء كل ناعق في مجال الثقافة.
ثم المقوم الاقتصادي في شخصية المسلم:
ومبناه على أن المسلم يعلم أن الأرض وما فيها لله وحده، وأن الرزق بيد الله، وأن المال مال الله، وما جعل تحت يده منه فليس له، وإنما هو أمانة عنده يتصرف فيها تصرف الوكيل ينتظر العزل في كل حين، والعزل إما أن يكون بالموت، وإما أن يكون بحجر، وإما أن يكون بالافتقار، وإما أن يكون بالسجن.. أو غير ذلك، وهذا ما نبه الله عليه بقوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] فهذا المال ليس لنا وإنما هو لله ونحن مستخلفون فيه مدة محددة لا نعلمها، ولكنها ستنتهي، فتارة يكون الإنسان غنياً وتارة يكون فقيراً، وتارة يتعاقب عليه الأمران، وكثير من الناس من ينظر إلى ذوي العروض فيظنهم أغنياء، والواقع أن كل واحد منهم يعتريه الفقر يومياً؛ لأن الفقر ليس معناه أن لا يكون الإنسان قادراً على الاكتساب، بل المقصود به أن تعرض له حاجة فلا يجد ما يحققها به.
فما من غني على وجه الأرض إلا ويعتريه الفقر عدة مرات يومياً، تعرض له كثير من الحوائج ولا يستطيع قضاءها، وهذا هو الفقر بعينه، فما الفرق بينه وبين الفقير في الحوائج الأخرى؟ الجميع فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، ومن هنا فنظرة المؤمن الاقتصادية أنه لا يحزن إذا حصلت الندرة في المواد، ولا يفرح ويبطر إذا حصل فيها الرخاء والاستمرار، لعلمه أن ذلك متعاقب، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وأن الأمر كله بيد الله، ومن هنا فتصرفه في كل ذلك مضبوط بضوابط الشرع، فإذا حصل تضخم أو انكماش في الاقتصاد لم يقتض ذلك منه عدولاً عن الحق الذي جاءه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقتض ذلك منه ادخاراً لأكثر من حاجته، ولم يقتض منه كنزاً لما لا يزكى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ[التوبة:34-35].
هذه مقومات شخصية المسلم، وعلى كل واحد منا أن ينظر إلى تنوعها واتساعها، فيرى شمول هذا الدين واتساعه وتميز أهله في مختلف الجوانب، ويعلم بذلك أن هذا الدين دين الله وليس دين الناس، وأنه هو الكفيل بقضاء حوائج الناس ومصالحهم كلها، ما كان منها دنيوياً وما كان أخروياً، وأنه لا يعتريه النقص وإنما يعتري النقص الناس، فهم الذين يقصرون في التطبيق والأخذ بالدين، أما الدين نفسه فقد أكمله الله (اليوم أكملت لكم دينكم).
ومن هنا يتشبث المؤمن بهذه القيم والمبادئ التي تميزه عمن سواه، ويعلم أن شرفه وعزه ومكانته مرتبطة بهذه القيم، وإذا فرط في شيء منها انتقص ما يقابل ذلك، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين؛ ولذلك لا يمكن أن يبتغي العزة في غير الدين، لعلمه أن عزته مرتبطة بهذه القيم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يهدينا سواء السبيل، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وفيما أنزلت فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر