إسلام ويب

مصادر التشريع الإسلاميللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أرسل الله الرسل لئلا يكون للناس عليه حجة بعد الرسل, وقد أوتي نبينا عليه الصلاة والسلام القرآن ومثله معه, وقد احتاج الناس فيما بعد للبحث في الورود والدلالة فأنتج ذلك علوماً جديدة, وأعمل الفقهاء عقولهم في الاستنباط فأورثوا المذاهب الفقهية, لكنه لما كان لا بد من الخلاف لاختلاف العقول وضعت قواعد أصول الفقه لضبط الاستدلال, فكان منها ما هو متفق عليه, وكان منها ما هو مختلف فيه

    1.   

    بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبداية الوحي

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن الله عز وجل قد خلق هذه البشرية ولم يتركها سدى، بل أرسل إليها الرسل لإقامة الحجة عليها: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

    وكان في كل فترة يرسل رسولاً بشرع يتناسب مع مستوى أهل تلك الفترة، مستوى معاشهم، ومستوى ثقافتهم ومستوى حضارتهم، ولم تزل البشرية في تطور مضطرب، وفي كل فترة يأتيها رسول بشريعة ناسخة للتي قبلها، ويأتي بمعجزة أيضاً مناسبة لحضارة ذلك العصر تقوم بها الحجة على كل من رآها، أو من نقلت إليه بالتواتر, إلى أن وصلت البشرية إلى نضجها واكتملت أطوار تطورها، فمكثت فترة من الرسل تتجول بين الأفكار والنظريات السابقة وبين التجارب التي قد خاضتها فلم يبقَ لها إلا الرجوع إلى آثارها أو توجيه جديد من السماء. هذه الفترة هي أطول الفترات بين الرسل، ولذلك وصفها الله تعالى بقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ [المائدة:19].

    الجاهلية ومقت الله لأهل الأرض قبل البعثة

    في هذه الفترة امتلأت الأرض بالجهل فلذلك سميت بالجاهلية، وامتلأت بالطغيان فلذلك توزعت الأمم النفوذ، وتوزعت الثروات, ولم يبق لحكم الله تعالى أي ذكر فوق هذه الأرض، ولذلك أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن واقع تلك الفترة في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو حديث طويل يقول فيه: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض, فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأمتحنك وأمتحن بك ).

    ففي هذه الفترة نظر الله تعالى إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً, أي: حل عليهم مقت الله تعالى (غير بقايا من أهل الكتاب) وهم الرهبان المنفردون في دور العبادة لعبادة الله تعالى، وقيل: معناه بعد بعثته لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي أن الله تعالى بعد أن نظر إلى أهل الأرض فمقتهم نظر أيضاً إليهم بعين الرحمة فأهدى إليهم هذه الرحمة المهداة التي هي ختام لما قبلها، وأيضاً استمرار لكل ما يأتي بعدها وهي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب البليغ المؤثر فقال: ( إنما بعثتك لأمتحنك وأمتحن بك ).

    امتحان النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة

    الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ممتحن بهذه الرسالة هل يؤديها على الوجه الأكمل كما قد حصل أو ينكص على عقبيه، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وكان لافتتاح هذه الرسالة إرهاصات عجيبة، منها تكوينه صلى الله عليه وسلم، والعناية الربانية به حيث خرج عن طور عصره، وشق صدره وغسل منه مأوى الشيطان، ثم بعد ذلك ربي تربية خاصة تقتضي أن يغلب في قلبه جانب الرحمة على جانب القوة، ولذلك ربي على رعاية الغنم في فترة من فترات حياته، وربي أيضاً يتيماً من الأبوين، وعاش في كنف جده ثم مات جده قبل بلوغه فعاش في كنف عمه، ولم يكن له أخ ولا أخت وكل هذا مؤثر من مؤثرات التربية فيه، وذلك ليكون انتسابه وانتماؤه لهذا الدين الذي يأتيه، وليكون اعتزازه وولاؤه لله تعالى الذي أرسله واختاره وقواه.

    ولذلك خاطب الله تعالى المؤمنين به بقوله: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

    الرؤيا الصادقة في النوم

    فأول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والرؤيا الصادقة إذا كانت للأنبياء فهي وحي من السماء، ولذلك ذكرت في أنواع الوحي في سورة الشورى في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].

    فقول الله تعالى: (( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً )) أجمع المفسرون أن المقصود بالوحي هنا الرؤيا الصادقة في النوم، (( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ )) وذلك ككلام موسى من الشجرة، (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً) كما في القراءة الأخرى وهي بالرفع: (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) يرسل رسولاً وهو الملك المقرب، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتفصيل عن هذه الصورة الأخيرة، وذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وأخرجه البخاري ثاني حديث في صحيحه فقال: أخبرنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعيي عنه ما يقول، وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي, فيفصم عني وقد وعيت ما قال).

    اعتبار فترة الرؤيا الصادقة من فترة الرسالة

    فهذا البيان الشافي لطريقة نزول الوحي أيضاً منبه إلى هذه العوامل المؤثرة في تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد مكث صلى الله عليه وسلم ستة أشهر لا يأتيه من الوحي إلا الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وهذه الأشهر الستة هي الأولى طبعاً من فترة الوحي, إذا أضيفت إلى فترة رسالته منذ البعثة إلى وفاته وهي ثلاث وعشرون سنة، وقسمناها تقسيماً على الطريق الحسابي فإن نسبة ستة أشهر إلى ثلاث وعشرين سنة هي نسبة جزء من ستة وأربعين جزءاً؛ لأن ثلاثاً وعشرين سنة لو وزعت على اثنين، مثلاً ستة أشهر هي نصف السنة لو ضربت في اثنين كم يصير؟ ثلاثة وعشرون لو ضربت في اثنين: النتيجة ستة وأربعون، ستة وأربعون جزء واحد منها كم عدده على هذا؟ عدده ستة أشهر.

    ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من أجزاء النبوة )، فأجزاء نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو وزعناها على ستة أشهر وهي ثلاث وعشرون سنة، فيكون الجزء الواحد من ستة وأربعين جزءاً هي ستة أشهر، وهذه هي فترة الرؤيا الصادقة التي بُدئ بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الخلوة في غار حراء وفوائدها

    ثم كان من تكوينه أن حبب إليه الخلاء, فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه، معناه يتعبد، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، وذلك ليخرج عن هذه الدنيا وعن ما فيها، وعن ما يعلو فوق سطحها من الأوهام والخرافات، وعما يصبغها من صبغة الشرك، ونفاياته، فخرج الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قمة هذا الجبل الوعر، وحبب إليه الخلو فيه بنفسه وبربه، فكان يتعبد في هذه الفترة. وقد اختلف العلماء في تعبده بأي ملة كان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا بأي ملة تعبد هو ربه في هذه الفترة، ولكن الراجح من الأقوال: أنه كان بملة إبراهيم.

    النزول من الغار والمرحلة الثانية من الوحي

    ثم نزل من قمة هذا الجبل إلى الأرض بعد أن أتاه الملك في آخر ليلة السابع والعشرين من رمضان على تمام ستة أشهر كما ذكرنا من تحبيب الخلاء، وقد غطه الملك ثلاثاً، وفي كل ذلك يبلغ منه الجهد، ثم يرسله وأنزل عليه قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:1-3]، فنزل بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده وقال: (زملوني زملوني)، وكانت هذه النزلة من رأس هذا الجبل بداية عهد جديد وبداية تفاعل بين المجتمع الأرضي، وبين مجلس الصدق عند مليك مقتدر جل وعلا، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم حينئذٍ قد شملهم المقت، فأهل مكة كلهم قد دخلوا في هذا المقت في ذلك الوقت, وما هم إلا مثال واحد من أمثلة قرى الأرض، قد شملهم المقت ما عدا رجالاً محصورين معدودين على الأصابع منهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب وهو ابن عم خديجة ، ومنهم أيضاً: زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب وهو والد سعيد بن زيد وابن عم عمر بن الخطاب .

    الأمر بالنذارة وتحديد الوظيفة

    جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا المجتمع وبدأ تكوين النواة الأولى اقتداءً بهذا الأمر الكريم، وهو قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]. فبدأ يقرأ ما أنزل إليه من ربه، ولكن فتر الوحي هنا, وهذا يدلنا على أهمية التربية في مجال التعليم؛ فتر الوحي بعد أن نزل عليه قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:1-3]. فتر الوحي ثلاث سنوات لا يأتيه جبريل ، فلما انتهت فترة الوحي بدأ فترة جديدة، وهي أمره بالنذارة والبشارة، وتحديد وظيفته صلى الله عليه وسلم، فحددت له وظيفته من البشارة والنذارة في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2].

    فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم علاج هذا المجتمع الذي قد حل عليه مقت الله تعالى، وبدأ يمارس فيه وظيفته التي وظفه فيها ربه جل وعلا، وكان في ذلك مؤيداً بعناية الله تعالى وبنصح الملك الذي يأتيه وبالوحي الذي ينزل عليه، وما هذا إلا بداية خيط هو الذي سنصل إليه، وهو: مصادر التشريع, بمعنى: نزول الوحي التشريعي عليه صلى الله عليه وسلم.

    في هذه الحياة التي أشرنا إلى بعض معالمها نزل الأمر الرباني إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينذر، وبدأ نزول الوحي وحمي وتتابع، فكانت بداية الوحي بعد فترة الرؤيا الصادقة هي هذا القرآن، فالرؤيا الصادقة لم يكن فيها أمر ولا نهي, وإنما كان فيها تكوين روحي وتقوية حتى يقوى روحه صلى الله عليه وسلم على السماع من الملك وعلى مخالطة الملائكة.

    من فوائد خلوته صلى الله عليه وسلم في الغار

    وكذلك فترة الخلوة التي حبب فيه إليه الخلاء كانت لتقوية روحه بانفصاله عن بني آدم حتى يستعد لمخاطبة الملائكة، ولا شك أن من يكثر الاختلاء بنفسه من بني البشر يكون أشجع من غيره، وبالأخص إذا كانت الخلوة في مكان موحش كقمة جبل وعر في ظلام شديد، فإذا كان الشخص يذهب إلى الأماكن الخالية البعيدة, ويستغرق فيها في فترات الظلام المتقطعة، فلا شك أنه سيكتسب شجاعة وقوة، وهذا ما حصل في تربيته صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    صفة الوحي والموقف من مضمونه

    نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا التشريع, وكان هذا التشريع في بداياته تشريعاً مقتصراً على مجال التوحيد، ثم بدأت الشرائع تتالى، والذي ينصب إليه اهتمامنا في هذا الدرس هو التشريع القولي؛ لأن التشريع منه ما هو قولي، وأقواله هي: الكتاب والسنة مثلاً، ومنه ما هو فعلي وهو بيانه صلى الله عليه وسلم وتطبيقه وبيان الملك له.

    بيان الملك وعلاقته بالوحي

    بيان الملك كان من الوحي؛ لأنه بيان لهيئة معينة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما فرضت عليه الصلاة ليلة الإسراء والمعراج نزل إلى الأرض ولم يصلّ الفجر في ذلك اليوم؛ لأنه لم يتعلم هيئة الصلاة بعد، فأتاه جبريل وذهب به إلى المسفلة من بطن وادي مكة وحفر بعقبه، فنبغ ماء فتوضأ منه جبريل وأراه صلى الله عليه وسلم هيئة الوضوء، ثم أمه عند البيت مرتين، وهذا هو ما صرح به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: ( أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين صار الفيء مثل الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حين بزغ الفجر، وصلى بي الظهر في الثانية منهما حين صار ظل كل الشيء مثله لوقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصار بي المغرب حين وجبت الشمس لوقتها الأول، وصلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل، وصلى بي الصبح حين أسفر، ثم التفت إلي وقال: يا محمد! هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين ).

    هذا بيان من جبريل عليه السلام لهيئة الصلاة التي فرضت ليلة الإسراء, وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم تبين له الصلاة في وقت الفجر؛ لأنه قال: ( فصلى بي الظهر في الأولى منهما )، فدل هذا على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهي قاعدة أصولية مهمة، ولذلك سنبني عليها بعض التفريعات في مقالنا هذا.

    الأمور التي تضمنها الوحي في بداياته

    لذلك نزل هذا الوحي فكان في بداياته مضمناً في قولين هما: كتاب الله، والثاني: سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    أما كتاب الله تعالى فهو القرآن الذي تكلم الله تعالى به، وهو من كلامه بحروفه ومعناه، وعليه صفة أضفيت عليه هي صفة الإعجاز، وهي التي تميزه عن السنة القدسية، فالحديث القدسي هو من كلام الله تعالى بلفظه ومعناه، ولكنه ليس متصفاً بصفة الإعجاز.

    وأما السنة النبوية: فهي كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وهي تنقسم إلى قسمين:

    كلامه بصفة الرسالة وهو المعصوم فيه عن الخطأ: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، وكلامه بصفته البشرية وهو الذي يعصم فيه عن الاستمرار في الخطأ، ولكنه لا يعصم عن بداية الخطأ فيه، فيمكن أن يقع منه الخطأ بصفته البشرية، ولكنه لا يقر على ذلك الخطأ، ولذلك عوتب في عدة مواضع من كتاب الله تعالى، كعتابه في سورة عبس، وكعتابه في سورة الأنفال، وكعتابه في سورة براءة.

    معاناة الرسول مع تنزيل الوحي

    بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم كانت معاناته فيما يتعلق بتنزيل القرآن، وبتنزيل السنة عليه معاناة جسديةً؛ لأنه كان يعاني من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه فيشتد عليه كما وصفه ابن عباس بذلك، ولكن معاناة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم للتنزيل ليست بدنية، فالله تعالى وصف القرآن بقوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5]، فثقله مادي بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم شديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً)، ولذلك كان يعاني منه شدة.

    أثر الوحي على الصحابة عند نزوله على النبي

    وقد يحس بعض أصحابه بتلك الشدة، كما روي عن زيد بن ثابت أنه كانت فخذه تحت ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي وعلاه الغشي والرحضاء، فكادت فخذي أن ترض من شدته، وكذلك ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ( كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده يسمع مثل أزيز النحل )، فهذا الذي يسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم مثل صلصلة الجرس يسمعه عمر مثل أزيز النحل، فإدراك الرسول صلى الله عليه وسلم له أقوى؛ لأنه أولاً قوي في حسه حتى صار مثل صلصلة الجرس، وذلك كجر السلسلة العظيمة على الجبل الصلب. وأما عمر فلم يصل إلى هذه الدرجة من الإحساس، ولكن وصل إلى أن يحس بمثل صوت النحل أزيز النحل فقط.

    أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم إذا انفصم عنه يعي ما يقول, وعمر لم يع إلا مثل أزيز النحل فقط.

    المهم أن تعاملنا نحن مع هذا القرآن ومع هذه السنة ذو ثقل معنوي لا ثقل مادي، فالثقل المادي هو ما يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يعاني من التنزيل شدة.

    الثقل المعنوي للنصوص الشرعية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة الورود والدلالة

    أما الثقل المعنوي فهو ما نعانيه نحن, وهو متجه إلى منحيين:

    الأول: منحى الثبوت، والثاني: منحى الدلالة، وهما ما يسميان عند الأصوليين ببحثي الورود والدلالة، فالنصوص الشرعية كلها وأهمها مصادر التشريع التي نذكرها، يبحث فيها من جهتين: من جهة الورود، ومن جهة الدلالة.

    نسبة احتياج الصحابة إلى جهة الورود والدلالة في النصوص

    أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الدائرة الأولى في حلقة السلسلة حلقة الثبوت، أو الورود، فلم يحتاجوا إلى البحث في الناحيتين جميعاً؛ لم يحتاجوا إلى البحث في جهة الورود؛ لأنهم سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، أو سمع بعضهم من بعض وهم كلهم عدول معدلون بتعديل الله تعالى؛ لأن الله تعالى يقول: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18], ويقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، فانتفت عنهم صفة الفسق، والمحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، فعلم إذاً أن صفة العدالة ثابتة لهم؛ لأن صفة الفسق هي ضدها وقد انتفت عنهم.

    فإذاً كان الصحابة كلهم عدولاً فيما يتعلق بالرواية، فلم يجدوا إشكالاً من جهة الورود؛ لأن الأمر إما أن يسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، أو يسمعه بعضهم من بعض وهم العدول.

    وقد كان بعضهم يزيد تأكداً مثلما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (كنت إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفعت بما نفعني الله به منه، فإن لم أسمع منه سألت من سمعهُ واستثبت منه وكنت أستحلفه, وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر ..) إلى آخر الحديث، فكان علي بن أبي طالب إذا حدثه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفه، وما ذلك إلا للمبالغة في اطمئنان القلب كما حصل لإبراهيم خليل الله الذي قال: بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

    وكذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التثبت في الشهادة في قصة الاستئذان، حيث أخبره أبو موسى أنه طرق الباب ثلاثاً ورجع، وأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الاستئذان ثلاث، فإن أذن له وإلا فليرجع ) فـعمر أراد التثبت فسأله أن يأتي بشاهد معه، فذهب أبو موسى إلى الأنصار ووقف عليهم، فقالوا: لا نرسل معك إلا أصغرنا؛ لأن الأمر معروف لديهم جميعاً، وما هذا إلا للتثبت من عمر ولذلك قال: أما إني لم أتهمك، فـعمر لم يتهم أبا موسى بالكذب، ولكنه أراد التثبت من القصة.

    الجهة الثانية: وهي جهة الدلالة، والدلالة والمقصود بها: معنى كلام الله تعالى، ومعنى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعبارة أخرى: ما الذي يريد منا الله تعالى بهذا الخطاب الموجه إلينا؟ وما الذي يريد منا رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الذي وجه إلينا؟ هذه هي جهة الدلالة, والصحابة رضوان الله عليهم أيضاً لم يحتاجوا إلى جهة الدلالة، لماذا؟ لأن القرآن والحديث كلاهما بلسان عربي مبين، والصحابة كلهم من الناطقين بالعربية، لا أقول من السلالة العربية؛ لأن السلالة العربية كما تعلمون تنقسم إلى قسمين: عرب عاربة، وعرب مستعربة. والرسول صلى الله عليه وسلم وقريش من العرب المستعربة، لا من العرب العاربة، وإنما تعلموا اللغة من جرهم، فإسماعيل على نبينا وعليه السلام لم يكن ناطقاً بالعربية أصلاً، وإنما تعلم العربية من جرهم.

    وكذلك بعض أصحابه الذين هم من أعراق أخرى، مثل سلمان الفارسي ، فقد كان ناطقاً بالعربية وكان خطيباً بها مشهوراً، وكذلك بلال الحبشي كان أيضاً خطيباً بالعربية مشهوراً، وهكذا. فإذاً لا يجدون صعوبة في فهم النصوص الوحيية، سواءً كانت قرآناً أو سنة إنما يفهمونها بالسليقة على الأصالة.

    نسبة احتياج التابعين إلى البحث في جهة الورود والدلالة

    انقرض عصر الصحابة، وماتوا جميعاً فجاء التابعون فلم يحتاجوا أيضاً إلى البحث في جهة الورود كثيراً؛ لأنهم أدركوا الصحابة وهم عدول، فما سمعوه من الصحابة لا يحتاجون فيه إلى تثبت، وإنما يبقى الإشكال فيما لم يسمعوه من الصحابة وهو رواية بعضهم عن بعض، وهو ما سنذكره إن شاء الله تعالى بما يسمى عند المحدثين والأصوليين بالمراسيل، مراسيل التابعين التي يسقط منها الصحابي.

    وكذلك ما أسندوه بواسطة غيرهم من التابعين، وهو رواية بعض التابعين عن بعضهم، وقد تتكرر في طبقات متعددة، فمثلاً حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، هذا الحديث في إسناده ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: يحيى بن سعيد الأنصاري يروي عن محمد بن إبراهيم التيمي ، يروي عن علقمة بن وقاص الليثي ، والثلاثة من التابعين، فـيحيى من صغارهم و محمد بن إبراهيم من أواسطهم، و علقمة بن وقاص من كبارهم، وهكذا.

    فلم يحتاجوا إذاً كثيراً إلى جهة الدلالة, ولم يحتاجوا كذلك كثيراً إلى جهة الورود، وإن كانوا قد احتاجوا في بعض الأحيان إلى التفسير، فقد ثبت عن مجاهد أنه قال: عرضت المصحف ثلاثاً على ابن عباس أوقفه عند كل كلمة، فأسأله عن ما فيها من التفسير والعلم. ولذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فاشدد عليه يديك؛ لأن مجاهد بن جبر وهو من كبار التابعين قد قرأ المصحف ثلاثاً على ابن عباس يوقفه عند كل كلمة فيفسرها له.

    احتياج تابعي التابعين للبحث في جهة الورود وجهة الدلالة

    انتهى عصر التابعين مع ما ذكرنا أن الحاجة فيه في جهة الورود وفي جهة الدلالة قليلة، فجاء عصر تابعي التابعين، فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى البحث في جهة الورود وفي جهة الدلالة معاً، ولذلك قال محمد بن سيرين وهو من التابعين، ولكنه أدرك عصر تابعي التابعين قال: والله ما كنا نبالي عن من نأخذ هذا العلم حتى ركب الناس الصعب والذلول، فقلنا: سموا لنا رجالكم.

    وقال عبد الله بن المبارك وهو من صغار تابعي التابعين أو من أتباعهم قال: إن هذا العلم دين فاعرفوا ممن تأخذون دينكم، والله ما كنا نبالي ممن يؤخذ العلم حتى شاع الكذب، فأخذنا الناس بالأسانيد، فما كان منها معروفاً أخذناه, وما كان منكراً تركناه.

    إذاً جاء الآن عصر الحاجة، والحاجة هي التي تولد الاختراع، فجاء تابعو التابعين فاحتاجوا إلى الاختراع فيما يتعلق بجهة الورود وجهة الدلالة، أما جهة الورود فيحتاجون إلى ضبط الرجال الذين يصلحون للرواية من التابعين؛ لأن التابعين ليسوا معدلين بتعديل الله تعالى كالصحابة، ويحتاجون إلى النقل، والبحث فيهم, فمنهم من هو مقبول ومنهم من هو مردود.

    وكذلك في ناحية الدلالة ليس كل أتباع التابعين من الناطقين بالعربية، وقد اختلطت لغة العرب بغيرها من اللغات لاتساع رقعة الإسلام ولشموليته أيضاً، فهذا الدين لم ينزل للعرب، فالله تعالى لم يخاطب العرب في القرآن وإنما خاطب الناس أو الذين آمنوا: يا أيها الذين آمنوا.. يا أيها الناس.. يا أيها الإنسان، فالخطاب إذاً عام شامل, ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، وذكر منها: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الأحمر والأسود )، وهذا الحديث في رواية: (خمساً)، وفي رواية: (ستاً)، وكل ذلك مذكور مبين.

    1.   

    العلوم التي أنتجها البحث في جهة الورود وجهة الدلالة وآثار ذلك

    نشوء علم الرجال

    أما حاجة تابعي التابعين إلى جهة الورود فأنتجت لنا علوماً متعددة، هي: علم الرجال الذي يبحث فيه لمعرفة الجرح والتعديل، وفي طبقات المجرحين والمعدلين، وحتى في الاصطلاحات المتخصصة في درجات الجرح والتعديل من حيث الاصطلاح، وهو الذي ألفت فيه الطبقات ومن أقدمها مثلاً كتاب الطبقات لـمحمد بن سعد كاتب الواقدي وهو في طبقة تلامذة مالك بن أنس, وكذلك كتاب الطبقات لـخليفة بن خياط وهو أصغر منه وهو شيخ البخاري ، وكذلك كتاب العلل ومعرفة الرجال لـأحمد بن حنبل ، وكتاب التاريخ لـيحيى بن معين .

    وكان البخاري رحمه الله تعالى من أدرى الناس بهذا العلم, فوضع لنا كتابه التاريخ الكبير الذي قال فيه إسحاق بن راهويه وهو شيخ البخاري : ما هذا الكتاب إلا السحر بعينه؛ لأنه أول كتاب رتب ترتيباً جيداً على حروف المعجم. حيث لم يكن الناس يتقنون ترتيب المعجمية في ذلك الوقت.

    نشوء علم أصول الفقه

    أما بحثهم في ناحية الدلالة فقد أنتجت لنا علوماً أخرى أهمها: علم أصول الفقه، وهذا العلم لنا وقفة خاصة معه؛ لأن مصادر التشريع كلها داخلة في أصول الفقه، فنحن نعلم أن هذا القرآن المنزل الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم معصوم من التغيير والتبديل والتحريف، وآياته محصورة بالعد، ففي العد المدني ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، والعد المدني هو الذي تقرءون به هنا قراءة نافع ، وهو الذي عليه رواية ورش و قالون ، وكلتا الروايتين عدد آيات القرآن فيها ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، والعد الآخر مثلاً العد الكوفي أو العد البصري أو العد المكي أو العد الشامي تختلف مع هذه باعتبار الترقيم فقط، لا باعتبار الزيادة والنقص مثلاً هل كلمة: الم [البقرة:1] آية مستقلة أم أن نهاية الآية: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]؟ وهذا ما تلاحظونه في المصاحف المطبوعة هنا، مثلاً في قراءة نافع تجدون الآية: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2], هذه هي الآية الأولى من البقرة، أما المصاحف الحفصية التي هي في قراءة الكوفيين بالعد الكوفي برواية حفص عن عاصم فتجدون الم [البقرة:1]، آية، و ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] آية رقم اثنين وهكذا، فهذا الخلاف ليس يزيد شيئاً، إنما هو اختلاف في عدد الآيات وترقيمها لا في زيادة ولا نقص.

    وآيات التشريع منه المتخصصة بالأحكام أوصلها كثير من العلماء إلى خمسمائة آية فقط، وهي التي ألف فيها الذين قصروا تآليفهم على تفسير آيات الأحكام كـالجصاص و الكيا هراسي و البيهقي الذي ألف كتاب تفسير آيات الأحكام للشافعي أو أحكام القرآن للشافعي ، وكذلك أبو بكر بن العربي الذي ألف كتابه تفسير آيات الأحكام، وكذلك ابن الفرس الأندلسي الذي ألف كتابه تفسير آيات الأحكام، وغير هؤلاء اقتصروا على خمسمائة آية فقط، وقد حاول السيوطي رحمه الله تعالى أن يضيف إضافات بسيطة إليها من آيات القصص في كتابه الذي سماه الإكليل في استنباطات التنزيل حيث حاول أن يزيد زيادات بسيطة من الأحكام المستنبطة من القصص القرآنية.

    إذاً هذا العدد محصور.

    أما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصلها فهي غير محصورة بالعد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب عنه، بل قد نهى عن الكتابة في فترة من الفترات، فقال: ( لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه )، ومع ذلك أذن لبعض أصحابه بالكتابة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص, وكذلك أذن لـأبي شاة وهو من أهل اليمن لما حضر خطبته فلم يحفظها فقال: ( اكتبوا لـأبي شاة ) وكذلك الكتب التي كتبها مع أشخاص بأعيانهم ككتابه مع عمرو بن حزم الأنصاري إلى أهل اليمن ، وفيه تفاصيل الديات، والعقل والجراح، وكذلك كتابه الذي كتب لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان عنده بقراب سيفه، وكان يسمى الصحيفة صحيفة علي بن أبي طالب وفيها: ( العقل وفكاك الأسير، والمسلمون تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يد على من سواهم، ويقوم بذمتهم أدناهم ) وفيها ( لعن الله من ذبح لغير الله ) وفيها ( المدينة حرم ما بين عير إلى كذا, من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ). وفيها: ( من تولى غير مواليه أو انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً )، إلى آخر الصحيفة التي كانت عند علي بن أبي طالب .

    وأحاديث الأحكام وحدها أوصلها كثير من المحدثين إلى أحد عشر ألف حديث، وطبعاً هذا العدد فيه المكررات، وفيه بعض الأحاديث التي تأخذ فيه حكم الرفع وليست مرفوعة، وهذا العدد هو الذي حاول البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه: السنن الكبرى حصره، وقد جاء المتأخرون الذين حاولوا استخراج الأحاديث المرفوعة وحدها صحيحها وسقيمها وحسنها، فخصصوا كتباً لأدلة الأحكام من الحديث، وأذكر منها على سبيل المثال كتاب المنتقى لـابن الجارود الذي خصصه لبعض أحاديث الأحكام, وفيه ألف وزيادة بسيطة من الأحاديث، وكذلك كتاب منتقى الأخبار لـابن تيمية وهو من أحسن الكتب المتخصصة في أدلة الأحكام من الحديث وأكملها، وهو الذي شرحه الشوكاني في كتابه نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار. وكذلك كتاب العمدة للحافظ عبد الغني المقدسي ، وإن كان قد اقتصر فيه على الأحاديث الموجودة في الصحيحين أو أحدهما من أحاديث الأحكام، ولذلك لم تتجاوز أحاديثه أربعمائة تقريباً، وكذلك كتاب الأحكام الكبرى والأحكام الوسطى والأحكام الصغرى للحافظ عبد الحق الأشبيلي بن الخراط , وكتبه وإن كانت في الماضي معدومة إلا أنها وجد بعضها, وقد طبع كتابه الأحكام الصغرى، والآن الأحكام الوسطى وجد بعضه أيضاً، وكذلك كتاب تقريب الأسانيد بجمع المسانيد للحافظ زين الدين العراقي الذي ألفه لولده أبي زرعة وأراد به أن يعوده على حفظ أسانيد الحديث ومتونه. وكذلك كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام لـلحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني وهو الموجود لديكم, وقد شرحه ابن الأمير الصنعاني بكتابه سبل السلام, وغير هذه من الكتب المتخصصة بأدلة الأحكام من الحديث, ومن أشهرها كتاب الإلمام لـلحافظ ابن دقيق العيد وهو كتاب مهم جداً, وقد شرحه بكتاب الإمام, وقد وجد أيضاً كتاب تلخيص له وهو مطبوع كتاب تلخيص الاهتمام بالإلمام.

    إذاً هذه كلها لا تذكر من أحاديث الأحكام إلا القليل.

    إذاً ذكرنا أن آيات الأحكام خمسمائة آية، وأن آيات القرآن كلها على العد المدني ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، وأن الأحاديث النبوية ليس لها حصر بعدد محدد، وإن كان السيوطي رحمه الله تعالى قد حاول استخلاص عدد لها في كتابه جمع الجوامع، وهو الجامع الكبير وتوفي قبل إكماله، وكان يظن أنه سيوصله إلى مائتي ألف حديث، وهي آخر ما يمكن أن يجمعه، وقد جمع الآن زياداته على جامعه الصغير، وعلى زيادات الجامع الصغير، وعلى كتابه في الموضوعات المسمى اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، وجمع ذلك كله فلم يتجاوز ستين ألف حديث تقريباً.

    فإذاً الأحاديث النبوية محصورة، وآيات القرآن محصورة، والأحكام والنوازل لا حصر لها، وفي كل يوم يتجدد ما لا يعلمه إلا الله تعالى من النوازل والأحكام، فاحتجنا إلى أن نستخرج من هذه النصوص المحصورة أحكام النوازل غير المحصورة، فجاء هنا علم اقتصاد الشريعة، فأنتم تعلمون أن علم الاقتصاد هو: علم يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحدودة من الموارد المحدودة، هذا الشخص راتبه بضعة آلاف محددة يتقاضاها عند نهاية الشهر، هل يمكن أن يحد حاجاته ويحصرها بعدد محدد؟ لا، حاجيات غير محدودة كم سينفق على العلاج والتداوي؟ كم سينفق في الملابس؟ كم سينفق في الصابون؟ كم سينفق في المرطبات؟ كم سينفق في الأسفار؟ كم سينفق في ظروفه الطارئة؟

    نشوء القواعد والمذاهب الفقهية

    إذاً الحاجيات غير محصورة والموارد محصورة، فعلم الاقتصاد هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجات غير المحدودة من الموارد المحدودة، وكذلك هنا علم اقتصاد الشريعة وهو أصول الفقه يمكن من خلاله تغطية النوازل والوقائع غير المحدودة من النصوص المحصورة المحدودة، فجاء الاختراع نتيجة للحاجة عند تابعي التابعين، فاستخرجوا لنا هذا العلم الذي هو أصول الفقه، وبدءوا بتقنين بعض القواعد المتعلقة به، وهذه القواعد هي التي سميت فيما بعد بالمذاهب، وقد تطور هذا المفهوم، حتى أصبح كثير من الناس يظن أن المذاهب بمعنى ديانات، وأن الدين الإسلامي ليس ديناً واحداً، إنما فيه دين حنفي, ودين شافعي, ودين مالكي، ودين حنبلي، ودين ظاهري.. إلى آخر، وهذ سوء فهم إلى درجة الصفر؛ لأن المذاهب ليست ديانات، الدين واحد: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

    والرسول الذي اختاره الله لنا وهو القدوة وحده هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وحده صلى الله عليه وسلم.

    إذاً ما هي هذه المذاهب؟ ومن أين أتت؟

    هذه المذاهب ما هي إلا طرق للتعامل مع النصوص في ضوء قواعد مستنبطة اتفق الناس على بعضها واختلفوا في بعضها، لا تعدو هذا بقدر أنملة؛ لذلك لا تجدون مذهباً ينسب إلى الصحابة، فلا تجدون مذهب أبي بكر ومذهب عمر ، ومذهب عثمان مثلاً، لماذا؟ لأنهم لم تكن لهم في ذلك الوقت حاجة إلى طرق التعامل مع النصوص من جهة الدلالة، كما أنه لم يؤلفوا لنا كتباً، ولم يذكروا لنا أسانيدهم، كذلك في ناحية الورود لم يحتاجوا إليها، وكذلك تابعو التابعين لا تجد مثلاً مذهب عطاء بن أبي رباح الآن، ولا مذهب مجاهد بن جبر ، ولا مذهب سعيد بن المسيب ، ولا مذهب سعيد بن جبير ، ولا مذهب علقمة ، ولا مذهب عبيدة السلماني ، ولا مذهب قيس بن أبي حازم ، ولا مذهب زر بن حبيش ، ولا مذهب عامر الشعبي ، لماذا؟ هؤلاء أئمة وهم الذين نقلوا إلينا الكتاب والسنة، لكن لم يكن عصرهم بحاجة إلى البحث في جهة الدلالة، والاختراع وليد الحاجة.

    أوجه العلم ووسائل الحصول عليه

    عندما جاء عصر تابعي التابعين نشأت فيه هذه الحاجة إلى طرق التعامل مع النصوص فيما يتعلق بالدلالة، فجاء أهل ذلك العصر وبدءوا التفكير في طرق تجمعهم، وذلك أن العقول متفاوتة بشكل عجيب، فالله تعالى إذ خلق هذا الخلق وأعطاهم ثلاثة أوجه للعلم هي:

    أولها: الوحي المنزل من السماء، وهذا يختص الله تعالى به فئة من عباده، وقد ختمهم بـمحمد صلى الله عليه وسلم.

    القسم الثاني: العقل الذي يفكرون به, فيستنتجون الأمور من بعد القضايا الأولية المسلمة لدى الجميع، وهذا العقل جارحة من الجوارح، فالجوارح ذات حدين: حد أعلى، وحد أسفل، فالعين لا تدرك العروق الحمراء داخل الجفن، وهي أقرب شيء لديها، وكذلك لا تدرك ما يبعد مائة كيلو متر فوق سطح المحيط، إذاً لها حدود في النهايات وحدود في البدايات.

    كذلك العقل هو العين بالضبط له حدود في البدايات لا يفكر العقل تحتها، هي إطار التفكير الأولي، مثلاً: الواحد نصف الاثنين هذا لا يحتاج إلى إثبات العقل، وما يذكره أصحاب الرياضيات من أن هذه القاعدة غير مسلمة إنما هو من السفسطة؛ لأن المقصود به حتى في النهايات لو وصلوا إلى آخر الأرقام تحت الصفر سيجدون أن الواحد نصف الاثنين.

    كذلك البدايات فالشخص مفطور على الأعداد ولا يعرف ما وراءها، أنت الآن إذا خاطبت أي شخص غبي بكلمة عشر أو مائة أو ألف أدرك أن هذه وحدة عددية معينة، لكن عقله لا يصل إلى ما ورائياتها من أين اتفقنا على هذه الوحدات العددية. وكذلك وحدات الكيل ووحدات الوزن، من أين اتفقنا على هذه الوحدات الكيلية أو الوزنية؟ هذه أمور يبدأ العقل منها، العقل يبدأ من هنا، تفريق بين العلو والسفل العقل بدأ من هنا.

    ولذلك حتى في المنظار العلمي بدايات العلم التجريبي إنما يكون بافتراض عقلي، وإن كان قد يستند إلى حدس في بعض الأحيان.

    إذاً هذا هو العقل وهذه بدايته، وله نهايات أيضاً هي مواقف العقول التي حاول المتكلمون حصرها في تسعة جمعوها في: عجل وقتل، وهي العرو من النقيضين، وجمع النقيضين، ولزوم الدور والتسلسل, ووقوع عدد لا نهاية له، وتعدد الفاعل، وترجيح بلا مرجح، وتحصيل الحاصل، وقلب الحقيقة, وبطلان الحاصل، فهذه إذاً هي تسعة وهي مواقف العقل التي ينتهي إليها.

    أرى أن ثمة منطقة لا يصل إليها العقل وهي التي نحتاج فيها إلى الوحي، ونحتاج فيها إلى الخبر عموماً، أنت الآن لا تعرف شيئاً عما قبل ميلادك، ولن تعرف شيئاً عن ما بعد موتك، فقد تجد خبراً عما قبل ميلادك بتحديث شخص الخبر، لكن هذا من قبيل الخبر، قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً، قد تقتنع به أنت وقد لا تقتنع.

    العنصر الثالث من عناصر المعرفة التي أعطانا الله تعالى هي: التجربة، والتجربة معناها تكرار العملية حتى تنضبط, وهذا الانضباط مشكك، فلذلك كانت أضعف وسائل العلم، والعصر الحديث الآن أصبحت فيه هذه الوسيلة التي هي أضعف وسائل العلم أقوى وسائل العلم عندهم لانعكاس الفطرة؛ لماذا؟ لأن بداية العلم التجريبي هي ما يسمى بالمنهاج التجريبي، وأصله فرض العلم فيجرب عدة مرات، فإذا وصل إلى درجة الظن سمي نظرية علمية، فإذا جرب أكثر من ذلك وقل تخلفه سمي حقيقة علمية، والفرق بين الفرض العلمي والنظرية العلمية نسبي قد لا يتفق عليه، كما أن الفرق بين النظرية العلمية والحقيقة العلمية نسبي قد لا يتفق عليه. متى نجزم جميعاً بأن هذا الأمر أصبح حقيقة علمية ثابتة؟ يصعب جداً أن نتفق عليه، ولذلك تجدون كثيراً من الأمور التي تثبت بالتجربة في عصر من العصور تنتفي وتزول؛ لأن التطور العلمي التجريبي في بداياته لا يكون مطرودًا، وأدق مثال لذلك هو: العلاجات والأدوية، العلاجات والأدوية التي تستغل في فترة من الفترات لعلاج مرض معين كثيراً ما تعلن منظمة الصحة العالمية أنها لم تعد صالحة للاستخدام، أو على الأقل تبين بعض أخطارها ومساوئها، مثلاً: الآن لديكم مادة الإسبرين هذه مكثت فترة طويلة يعيش بها الناس، والآن أصبحت مادة مرغوب عنها ولم تعد صالحة للاستعمال الآن، وهكذا.

    إذاً وسائلنا للعلم هي هذه الثلاثة: الوحي، والعقل، والتجربة، فإذا قصرنا الوحي على آيات القرآن المحصورة وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المحصورة لم تحصل الكفاية فيكون للعقل دخل للاستنباط، التجربة لا دخل لها في مجال التشريع إلا في أمور جزئية فيما يتعلق بتقدير المصالح والمفاسد.

    إعمال العقل في النصوص الشرعية

    أما العقل فله مجال هنا؛ لأن الشرع قعد لنا قواعد عامة يمكن للعقل أن يستغل في إطارها، لكن أين العقل الذي يتحاكم إليه؟ هل هو عقل فلان أو علان من الناس؟ لا يمكن أن نجزم بشيء عند هذا لم يحدد لنا الشارع أن العقل الذي يتحاكم إليه في تفسير النصوص أو التعامل معها هو عقل فلان من الناس, لو كان كذلك لوجب علينا جميعاً أن نقلد فلاناً هذا، وأن نأخذ برأيه، لكن الحكمة الشرعية أن الناس متفاوتون في العقول، ولذلك يقول الحكماء: ما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم. أقل الناس عقلاً يظن أنه أعقل الناس.

    وهذه قضية ثابتة لذلك نحتاج إلى قواعد نتعارف عليها ونحتكم إليها عند تفاوت عقولنا، هذه القواعد هي التي قعدها عصر تابعي التابعين عندما احتاجوا إليها، لكن من الممكن جداً أن نتعارف نحن اليوم على قواعد مغيرات لها، وما المانع فإن تلك القواعد لم ينزل بها جبريل من السماء، وليست نابعة إلا من تفكير رجال وعقولهم، فلذلك لا حصر للاجتهاد، وباب الاجتهاد مفتوح لا يغلق إلى قيام الساعة لماذا؟ لأن الخطاب موجه إلى الجميع.

    إن دخولي أنا هنا وأنا بينكم ودخول مالك بن أنس ودخول عمر بن الخطاب في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، سواء، لماذا؟ لأن القواعد الشرعية لها خصائص مثل خصائص القاعدة القانونية. واسمحوا لي هنا في ضرب هذا المثل, فالقانونيون يقولون: من خصائص القاعدة القانونية أن تكون عامة ومجردة، وكذلك من خصائص القاعدة الشرعية أن تكون عامة ومجردة, فالناس سواسية أمام الأمر الرباني، فالناس جميعاً مخاطبون بهذا التشريع, ولا فرق فيهم بين أولهم وآخرهم ولا بين ذكرهم وأنثاهم، فكل بالغ يتجه إليه هذا الخطاب كأنه كان موجوداً وقت نزول الشرع.

    ولذلك كان هذا القرآن دائماً ينطق علينا بالحق، لا يبلى ولا يخلق، فهو جديد دائماً موجه إلينا في كل عصر، ولذلك كان فيه من حكم الله تعالى أن جعل فيه آيات متشابهات، وإن كانت قليلة نسبة إلى المحكم منه.

    وهنا أعرج قليلاً إلى ذكر المحكم والمتشابه، حيث إن الله عز وجل قد وصف القرآن عامة بوصفين أحدهما: الإحكام، والآخر: التشابه، ووصف بعضه بالإحكام وبعضه بالتشابه، فالإحكام العام معناه الإتقان والحسن، وكون بعضه يصدق بعضاً ويفسره، وهذا هو المذكور في قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1], فالقرآن كله محكم بهذا الاعتبار، وكذلك وصفه بالتشابه جميعاً في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً [الزمر:23]، فالقرآن كله متشابه بمعنى أن بعضه يصدق بعضاً ويفسره.

    فإذاً كله متشابه هذا التشابه العام، فرق أيضاً في آية سورة آل عمران فقال: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، معناه جمهوره وأكثره، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، المتشابهات اختلف العلماء في تفسيرها، ولكن الراجح فيه أن المقصود بالتشابه خفاء الدلالة، وخفاء الدلالة نسبي فمنه ما يخفى مطلقاً، ومن الحكمة خفاؤه إلى أن يبقى الإيمان بالغيب حتى نهاية الدنيا، مثل: فواتح السور مثلاً: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2]، كهيعص [مريم:1]. آلمص[الأعراف:1]. حم عسق [الشورى:2].

    هذه من حكم خفائها أن يبقى الإيمان بالغيب يمتحن به الناس, ولو اتضح كل القرآن وأصبح كل الناس يفهمون كل كلمة فيه دون أي إشكال في أي حرف منه لم يكن لهذا الامتحان العظيم وهو الإيمان بالغيب كبير تأثير، لكن هذا القسم لا يوجد منه شيء في التشريع، التشريع كله والعقيدة ليس فيهما شيء من المتشابه بمعنى الذي استأثر الله به منهما، كل ما خاطبنا به لنعلمه عقيدة، أو لنعمل به تشريعاً كله لا يمكن أن يكون مما استأثر الله بعلمه، لكنه قد يخفى على بعض الناس دون بعض، وهذا الخفاء يسمى بالإجمال عند المتكلمين. والحنفية يفصلون فيه فيقسمونه إلى ثلاثة أقسام: المشكل، والمجمل، والخفي. فالمشكل عندهم: هو الذي لا يعرف معناه إلا بوحي آخر، إلا أن يفسر بوحي آخر، مثل هيئات الأحكام، مثلاً فرضت الصلاة ليلة الإسراء ولم نعرف ما الصلاة حتى جاء جبريل وبينها، فرض الحج ولم نعرف ما الحج حتى بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ( خذوا عني مناسككم )، وفرض غير هذا من الأحكام وبين بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

    إذاً هذا هو المشكل الذي لا يعرف إلا بوحي آخر.

    القسم الثاني: المجمل: وهو الذي يعرف تفسيره بالعقل أو باللغة، فالعقل لا شك أن له دوراً كبيراً في استنباط الأحكام، فمثلاً: استنباط علي رضي الله عنه في الجمع بين قول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]، فجمع بين الآيتين واستنبط منهما أقل أمد الحمل وهو ستة أشهر؛ لأن ثلاثين شهراً إذاً نزع منها سنتان وهما مدة الإرضاع كم يبقى؟ ستة أشهر، فالستة أشهر إذاً هي التي بقيت لحمله؛ لأنه قال: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ [الأحقاف:15]، فصاله معناه فطامه وفطامه لا يتم إلا بعد إرضاعه، وإرضاعه في حولين كاملين، فلم يبق لحمله إلا ستة أشهر من ثلاثين شهراً، فهذا الاستنباط جاء قطعاً بإعمال العقل.

    ومثل ذلك استنباط مالك رحمه الله تعالى لجواز الإصباح بالجنابة في أيام الصوم من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ [البقرة:187]، قال: هذه الآية تدل على جواز إصباح الصايم جنباً، لماذا؟ لأن الله أباح لنا معاشرة النساء طيلة الليل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فإذا كان الوقت كذلك فلن يبقى وقت للاغتسال، فدل هذا على جواز الإصباح جنباً.

    إذاً هذا من إعمال العقل في مجال فهم النصوص.

    تأليف العلماء كتباً للقواعد والأصول في التعامل مع النصوص

    لقد احتجنا كما ذكرت إلى قواعد تضبط لنا هذا العقل، فجاء هؤلاء الأئمة فاستخرجوا بعض القواعد, ولم تبرز في وجهها النهائي في بداية الأمر ككل تجربة، مثلاً كبارهم أبو حنيفة لم يؤلف لنا كتاباً في أصول الفقه، ومالك لم يؤلف لنا كتاباً في أصول الفقه، وهكذا غيرهما, وأول من ألف كتاباً متخصصاً في أصول الفقه هو: محمد بن إدريس الشافعي , كتابه هو: (الرسالة) ولم يتناول هو فيها كل أبحاث أصول الفقه، وغيره من العلماء أدرجوا بعض الإشارات وبعض القواعد في كتبهم, مثلاً في موطأ الإمام مالك وهو أقدم كتاب وصل إلى المسلمين اليوم من الكتب المصنفة, لم يصل إلينا شيء من الكتب التي ألفت في عصره، هذا الكتاب فيه كثير من الإشارات إلى بعض القواعد الأصولية, ولذلك ألف ابن العربي كتاباً لاستخراج القواعد الأصولية منه فقط، وسماه: القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس, ولم يرد به إلا استخراج القواعد الأصولية فقط من الموطأ، وصرح بذلك في ترجمة الكتاب, ولم يتكامل هذا العلم إلا في فترة متأخرة، فجاءت القواعد التي تكلموا فيها، فكان بعضها محل اتفاق بينهم، وبعضها محل اختلاف، فالذي هو محل اختلاف بينهم قواعد أصولية محصورة، وهي قطعيات الأصول، والقواعد الخلافية بينهم هي أكثره.

    أمثلة للقواعد المختلف فيها

    فمثلاً: اختلفوا عند التعارض هل يقدم الجمع أم الترجيح؟ أبو حنيفة يقدم الترجيح على الجمع، و مالك و الشافعي و أحمد يقدمون الجمع على الترجيح، واختلفوا في دلالة العام والخاص هل دلالة العام على أفراده قطعية قبل التخصيص؟ وهل دلالة الخاص قطعية أم لا؟ فذهب أبو حنيفة إلى أن دلالة العام قطعية، وأن دلالة الخاص تكون قطعية إذا لم يكن في عام، فيكون تخصيص منه، وذهب مالك و الشافعي وغيرهما إلى أن دلالة الخاص قطعية، وأنها مخصصة للعام, فيبدأ بدلالة الخاص قبل دلالة العام، ومحل هذا قبل التخصيص، وغير هذا من القواعد التي اختلفوا فيها.

    ولكن الذي أريد التنبيه إليه أننا الآن يمكن أن نستحدث قاعدة جديدة لا مانع من ذلك ما دامت القضية قضية عقلية، والعقول لم يعين لنا الشارع أن العقل الذي نتحاكم إليه هو عقل فلان من الناس، كما بين لنا في الميزان والمكيال والرسول صلى الله عليه وسلم قال كما ثبت عنه في سنن أبي داود بسند صحيح: ( المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة )، فبين لنا المكيال والميزان اللذين تخرج فيهما الزكاة، ويتعامل بهما في البيوع، لكن لم يبين لنا أن العقل الذي يرجع إليه هو عقل فلان من الناس، لذلك بقيت العقول متفاوتة, وبقي إنتاجها أيضاً محل ثقة من الناحية الشرعية؛ لأن الشارع خاطبنا بنصوص بعضها عام، وبعضها خاص، وبعضها فيه إجمال، ومن حكمته أن يبقى ذلك الإجمال مستمراً في كل عصر ليتضح بعض ما كان خفياً على العصر السابق.

    فمثلاً: في عصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115]. وكان قوله: (ويتبع سبيل غير المؤمنين) كان من المجمل لا يعرفون معناه، لماذا؟ لأن سبيل المؤمنين المعروف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل للمؤمنين في ذلك الوقت إلا هو؛ لأن إجماعهم في حياته غير معتبر؛ لأنه إما أن يوافقهم فالعبرة بقوله لا بقولهم، وإما أن يخالفهم فإجماعهم فاسد الاعتبار لمخالفته للنص، فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم عرفنا المقصود بسبيل المؤمنين، وأن المقصود به إجماعهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إجماع مجتهديهم في حكم شرعي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانحسمت المشكلة.

    كذلك قول الله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8], فقوله: (يخلق ما لا تعلمون) جاءت بصفة الفعل المضارع، ومعناه أن الله تعالى سيخلق من المراكب ما لا يعلمه الناس وقت نزول هذه الآية. وهذا كان متشابهاً في وقت نزول الآية؛ لأنه إحالة على الغيب، لكن زال التشابه عن بعضه، فعرفنا الآن السيارات ما كانت موجودة، وعرفنا الطائرات ما كانت موجودة، وعرفنا المراكب الفضائية ما كانت موجودة، ويبقى الفعل مضارعاً معناه مستقبلاً ممكن أن يخلق كثيراً من الأمور التي لم نعرفها نحن الآن أيضاً، وهكذا.

    إذاً هذا هو التشابه الخاص الذي يزول في عصر من العصور، وزواله بتأويله، والتأويل معناه: إرجاع الشيء إلى أصله، وإبداء حقيقته وإبرازه للعيان، ولذلك قال الله تعالى في خطاب المشركين الذين أنكروا كثيراً مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر, وأنها ستنفق كلها في سبيل الله، وأخبر أن هذا الدين سيبلغ ما بلغه الليل والنهار، عندما أخرج من مكة ثاني اثنين إذ هما في الغار, ولم يكن أحد من المشركين يتصور هذا.

    ولذلك لما جاء في يوم الحديبية أتاه عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه فقال: (يا محمد! إن قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً)، هذا الآن موقف المتعصب المتصلب الذي وقف في قريش في ذلك الوقت، إذا جئت الآن إلى مكة فدخلتها من جهة الحديبية على الطريق المعبد بين جدة ومكة، وسألت: أين أولئك الذين كانوا يتعصبون لموقفهم في منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول مكة؟

    هؤلاء المشركون لم تستوعب عقولهم القاصرة أن من الأمور التي يحدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ما سيأتي لماذا؟ لأن القرآن ليس خطاباً لهم وحدهم، هو خطاب للأجيال اللاحقة إلى أن يرفع، ولذلك يرد فيه ما لا يمكن معرفته في هذا العصر، وإنما هو مخصص لعصر آخر؛ لأنه خطاب لكل العصور، فلذلك قال الله تعالى مخاطباً لهم: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39]، فقوله: (لما) لنفي الماضي المنقطع، ومعناه: وسيأتي تأويله، لم يقل: لم يأتهم تأويله، ولم يقل: لن يأتيهم تأويله، بل قال: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39]، معناه: سيأتي قطعاً لا محالة، وهذا ما حصل؛ ولذلك قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في عمرة القضاء لما كان يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

    خلوا بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله

    واليوم نضربكم على تأويله

    (تأويله) هو بروزه للعيان: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [الفتح:27]. وقد دخلوه فعلاً في ذلك اليوم.

    فكان هذا تأويلاً للمتشابه من هذه الآية التي هي وعد مستقبل، لا يدرى متى يتحقق.

    تواصل إعمال العقول في فهم القرآن والسنة

    القرآن والسنة بما أنهما خطاب لكل الأجيال التي أرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تبقى العقول معملة في فهمهما إلى أن يرفع القرآن؛ لذلك كانت القواعد التي قعدها الأصوليون قابلة للنقاش، والذي يتخصص في أصول الفقه أو يدرسه لا يجد قاعدة مسلمة لا تقبل النقاش، أو لم يخالف فيها أحد إلا النوادر المحصورة، وذلك أن القواعد المستنبطة التي ليست وحياً كلها تخضع للعقول، مثلاً: قواعد النحو، والنحو علم من أضبط العلوم؛ لأنه متعلق بلغة مفرداتها محصورة، وأساليبها مضبوطة، ومع ذلك ليس فيه قاعدة مسلمة لا خلاف فيها إلا ثلاث قواعد فقط، يعني: هناك ثلاث قواعد من النحو هي التي لا استثناء منها، وهي: وكل حرف مستحق للبناء، وكل مضمر له البناء يجب، والثاني يجرر بالإضافة، ثلاث قواعد فقط من النحو كله هي التي ليس فيها شذوذ ولا مخالفة، أما ما عداها من القواعد فكلها محل خلاف وفيها شواذ مستثناة، فكذلك قواعد الأصول.

    1.   

    استنباط الأحكام وطبقات الناس في التعامل مع النصوص

    أصل من خلال هذا إلى أن استنباط الأحكام واستخراج أحكام الجزئيات معلوم تسليمه بالإجمال؛ لأننا نعلم أن لله حكماً في كل واقع، وأن الله لم يترك البشرية سدى، ولكن ذلك الحكم يتفاوت الناس فيه على طبقتين:

    طبقة أهل الاستنباط

    طبقة أهل الاستنباط: وهم المخاطبون بقول الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، فقوله: (إذا جاءهم أمر من الأمن) معناه: ما يشمل الظروف العادية الظروف المعتادة، (أو الخوف) معناه: ما يشمل الظروف الاستثنائية أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، معناه جعلوه ديمقراطية، فسمعوا أصوات كل ناعق فيه، كل شخص يسأل عن رأيه فيه.

    هل هذا هو الموقف السليم؟ لا؛ لأن الله نعى عليهم فقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، ليس كل الناس صالحاً للاستنباط، للتصويت في مجال الأحكام الشرعية، الفهم له أهله، فلذلك قال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ [النساء:83]، وهم من أعطاهم هذا النور الذي يفهمون به النصوص ويعلمون كيف يتعاملون بها: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، ولم يقل: لعلموه جميعاً.

    طبقة الجهال

    الطبقة الثانية: هم أهل الجهل، معناه: الذين لا يكادون يفهمون نصاً، مثل من لا يفهم العربية، شخص لا يفهم إلا اللغة الأردية، أو لا يفهم إلا الفرنسية، أو لا يفهم إلا اللهجة الكلارية مثلاً، هذا الآن كيف نلزمه بالتعامل مع كتاب الله الذي هو بلسان عربي مبين، أو مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة؟ هذا من العناء والتكليف بما لا يطاق، ومع ذلك هو مخاطب بما فيه، وليس معذوراً في عدم تعلمه، فما هو الحل إذاً؟ الحل إذاً: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    هؤلاء البلداء أو القاصرون في عقولهم، أو الجاهلون في تصورهم حلهم هو خطابهم المذكور في هذه الآية: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    فمعناه: أن من كان عالماً أخرجه هذا الشرط، عالماً معناه: فاهماً من كان يفهم اللسان العربي ويستطيع استنباط حكم منه، لا يسأل أهل الذكر، ليس حكمه سؤال أهل الذكر؛ لأنه قال: (( اسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ))، في أي موضع نسألهم؟ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    تقسيم نوعية النصوص واختلاف الناس في فهمها

    إذاً في موضع محدد وحتى نضع النقاط على الحروف، فإن هذه النصوص التي بين أيدينا منها ما هو قطعي الدلالة والثبوت، ومن يفهم العربية ولو قليلاً غير معذور في عدم تطبيقه والعمل به، وكل من أتاه نص صريح من كتاب الله واضح الدلالة، أو أتاه نص صحيح صريح من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمه لم يجز له أن يقلد أحداً فيه، لماذا؟ لأن الخطاب موجه إليه هو، وقد خوطب به وفهمه، فكيف يخاطبني ربي الذي هو خالقي وخالق كل شيء يخاطبني بأمر فهمته، ثم أقول: لا أفعل ولا أنكر حتى يخاطبني فلان، أو حتى أستشير فلاناً؟ مستحيل. وكذلك خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الله بالاقتداء به، كيف يأتينا كلامه الواضح الصحيح يأمرنا بأمر ثم نتوقف عن تنفيذه حتى يشير إلينا فلان أو فلان؟ مستحيل، لا يقع هذا.

    لكن إلى جانب هذا من النصوص أيضاً ما هو خفي الدلالة، ومنها ما هو غير قطعي الورود، قد يكون صحيحاً وقد لا يكون، وهذه تحتاج إلى تخصص، فهنا من لم يكن منا متخصصاً بهذه يحتاج إلى من يبصره فيها، وهذا التبصير أيضاً متفاوت في الدرجات، منا من يحتاج فقط إلى أن نحكم هل هذا الحديث صحيح أو ضعيف، أما دلالته فلا يحتاج إلى أن نساعده فيها؛ لأنه ما شاء الله أستاذ متخصص في اللغة العربية والأدب، ويعرف يحلل النصوص. إذاً يحتاج فقط أن نقول له: هذا الحديث صحيح أو ضعيف.

    ومنا من يحتاج إلى المرتبتين جميعاً، لا يعرف لا يفهم العربية، ولا يعرف هل هذا النص صحيح أم لا، لا يفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم مثلاً: ( الطهور شطر الإيمان )، أو لا يفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ )، فيريد أن يسألني: هل هذا الحديث صحيح؟ فأقول: نعم. هذه الدرجة الأولى، ثم يسأل: ما معنى هذا الحديث؟ فأقول: معناه كذا وكذا. هذه الدرجة الثانية.

    هذا الآن درجة علمية معدودة، وبها يزول عنه الجهل لماذا؟ لأن التقليد جهل مطلق، التقليد لا يكون إلا عن جهل، وهذا معروف حتى في اللغة، يقول البحتري :

    عرف العالمون فضلك بالعلـ م وقام الجهال بالتقليد

    الجهال هم الذين يقولون بالتقليد، من يدعي شيئاً من العلم ولو قليلاً لا يمكن أن يصنف نفسه أنه مقلد، إذا فعل ذلك فمعناه أنه يدعي الصبوة لنفسه بعد أن بلغ، كأنه يتراجع ويحجم نفسه حتى يصل إلى الصبوة بعد أن بلغه الله تعالى سن الرشد.

    إذا كان الشخص أعطاه الله قوة في عضده يستطيع بها حمل أغراضه، فإذا كان مدركاً لهذه القوة وغير معطل لها فإنه يحمل أغراضه وأموره دون أن يساعده أحد على ذلك، لكن إذا كان أبلهاً، أو كان مغطى على عقله، ولم يستخدم هذه الطاقة الموجودة فيه دائماً يبحث عن من يحمل له متاعه لا يستطيع أن يحمله.

    وهاتان الطبقتان كما ذكرنا بينهما تدرج وتفاوت.

    1.   

    مراتب الاجتهاد

    ذكر الأصوليون أن مراتب الاجتهاد ستة:

    الاجتهاد المطلق

    فلدينا الاجتهاد المطلق، وهو: الاجتهاد في أصل القواعد، ثم بعده اجتهاد المجتهد المقتدي معناه الذي يأخذ القواعد المنصوصة أصولاً ولكن لا يقلد أحداً في الفروع، ينظر إلى كتب الأصول مثلاً، ويقرأ كتب المصطلح ويقرأ كتب الحديث, ويستخرج هل هذا الحديث صحيح أو ضعيف؟ ثم بعد ذلك يطبق عليه القواعد الأصولية التي درسها، يعلم أن الخلاف في هذه القاعدة محصور في قولين فيترجح عنده الصواب في أحدهما، مثلاً: دلالة العام هل هي قطعية أو ظنية؟ لا يمكن لأحد أن يقول: دلالة العام شكية أو وهمية، لا بد أن تقول: إما قطعية وإما ظنية، لكنك لا تقول ذلك تقليداً للذين قالوا: بأنها ظنية أو بأنها قطعية حينما تقول ذلك؛ لأن القضية قد انحصرت في قولين, ويترجح لديك أحدهما.

    الاجتهاد المقيد

    كذلك الدرجة الثالثة هي: المجتهد المقيد, معناه المجتهد في جزئية معينة درسها فوصل فيها إلى حد الاجتهاد، والاجتهاد يقبل التجزؤ.

    الاجتهاد في المذهب

    بعد هذا مجتهد المذهب، وهو: الذي درس مذهباً معيناً من خلال قواعده وفروع إمامه، ولكنه يستطيع استخراج أحكام مسائل لم ينص عليها الإمام، وهؤلاء يسمون أصحاب التخريج، وهم أكثر الفقهاء المتقدمين. الفقه الآن المنسوب لـأبي حنيفة ، والفقه المنسوب إلى مالك ، هل كله من كلام أبي حنيفة أو مالك ؟ لا والله. هذه الفروع الموجودة مثلاً لدينا في مختصر خليل ، والفروع الموجودة في الهداية عند الحنفية, والفروع الموجودة مثلاً في المقنع عند الحنابلة والفروع الموجودة في المنهاج للنووي عند الشافعية، هل كلها من كلام الأئمة؟ لا. ولا من كلام تلامذتهم ولا من كلام الذين دون أولئك، بل هي على مر العصور تأتي وقائع ونوازل في عصر معين، فيأتي مجتهدو التخريج أو مجتهدو المذهب في ذلك العصر فيستخرجون أجوبة لها، إما تخريجاً على نص للإمام أو استنباط من قاعدة معينة، أو بحثاً عن النظائر.

    مثلاً يجدون أن مالكاً قد أعمل الدليل الفلاني في موضع كذا، فيقولون: إذا كان كذلك فقاعدة مالك كذا، في مختصر خليل الفروع المنصوص منها عن مالك لا يصل منها إلى عشرين ألف فرع فقط. ومجموع الفروع على أقل تقدير مائة وعشرون ألفاً بين المنطوق والمفهوم، فلاحظوا أن أقل من عشرين ألفاً منها هو الذي ينسب إلى مالك ، والنسبة إليه أيضاً تتفاوت، فليس الإسناد إليه متصلاً في كثير من الأحيان، ولذلك تختلف الروايات عنه ويختلف العلماء في الترجيح، فيأتي مثلاً ابن القاسم فيروي لنا روايته يرويها عنه سحنون في المدونة، ولكن يأتي العتبي فيستخرج لنا في المستخرجة وهي العتبية، روايات أخرى عن مالك وهي تخالف رواية ابن القاسم ، أو يأتي ابن حبيب في الواضحة فيذكر لنا روايات أخرى عن مالك من طريق المدنيين من أصحابه، كـعبد الملك بن الماجشون و مطرف و المغيرة وغيرهم.

    أو يأتي ابن عسكر أو أبو بكر الأذهري ، فيأتي لنا بروايات أخرى عن مالك من طريق العراقيين من أصحابه كالقاضي إسماعيل وكـأبي مصعب الزهري مثلاً، كل هؤلاء من أصحاب مالك ، وأصحاب مالك الذين رووا عنه تسعمائة وزيادة، الذين رووا عنه الموطأ، والذين وصلت إلينا رواياتهم من الموطأ تقريباً ستة وعشرون هم الذين اشتهرت رواياتهم، والمطبوع منها الآن من الموطآت أو المطلع عليه لا يعدو ستة موطآت ليست كاملة، مثلاً موطأ يحيى بن يحيى كامل وموطأ أبي مصعب الزهري كامل، لكن موطأ القعنبي لا يوجد منه إلا نبذة، وموطأ علي بن زياد لا يوجد منه إلا نبذة، وموطأ ابن القاسم لا يوجد منه إلا مسنده الذي عمله القابس، وموطأ ابن وهب سمعت أنه توجد منه نبذة في تركيا ولم يطبع حتى الآن.

    فإذاً هذه هي الموطآت الموجودة من هذه الروايات التي أصلها تسعمائة وزيادة، فعلى هذا يقع التضارب في الروايات، فلذلك لا يلزم أن هذا الفقه فقه الأئمة فضلاً عن كونه صحيحاً من ناحية الدليل.

    1.   

    اختلاف منهجية التأليف في الفروع الفقهية على مر العصور

    يبقى لنا أن منهجية المؤلفين في التأليف فيما يتعلق بجمع الفروع الفقهية لم تكن موحدة، ففي كل عصر تسود منهجية معينة، وذلك ناشئ لحاجة أهل ذلك العصر ومستواهم العلمي، ففي البدايات مثلاً كانت الفروع لا تذكر إلا مربوطة بالأدلة، وهذه المنهجية لاشك أنها من أسلم المنهجيات وأقواها، وهي التي كان يعملها السلف، ولذلك انظروا إلى موطأ مالك ستجدون أنه يفتتح الباب غالباً بحديث أو يذكره في آخره, ويذكر ما يستنبط منه من الأحكام الفقهية.

    وكذلك إذا نظرتم إلى الكتب المؤلفة في ذلك العصر ككتاب الآثار لـمحمد بن حسن الشيباني ، أو كتاب المبسوط له فإنه يربط الأحكام بأدلتها، وكذلك كتاب الأم للشافعي ، وكذلك إلى حد ما كتاب المدونة، وإن كانت الأدلة التي فيها أكثرها من الآثار المقطوعة، وليست من المرفوعات المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي فيها من الأحاديث المرفوعة لا يتجاوز تقريباً أربعة آلاف حديث، بينما فيها كثير من الآثار المقطوعة عن أهل المدينة من التابعين.

    ربط الفروع الفقهية بأصولها وأدلتها

    ولذلك اجتهد بعض هؤلاء العلماء السابقين في ربط الفروع الفقهية بأصولها وأدلتها، فمثلاً: كتب شروح الحديث ومن أهمها: شروح الموطأ وقد زادت على ثلاثمائة شرح، فهو أكثر كتاب اعتنى به المسلمون من ناحية الشرح، وكذلك صحيح البخاري وقد زادت شروحه على ثمانية وثمانين شرحاً، وكذلك صحيح مسلم وشروحه كثيرة، وأذكر منها ثمانية عشرة شرحاً تقريباً، وكذلك كتب السنن التي اعتني بشرح كثير منها، هذه الآن شروحها إنما هي لربط الأحكام بأدلتها، ولذلك من شروح الموطأ مثلاً: كتاب الاستذكار لـأبي عمر بن عبد البر الذي سماه الاستذكار لما سطره الإمام مالك في موطئه من مذاهب أئمة الأمصار في جميع الأعصار، وأدلتها من الآيات والأخبار والآثار، وقد طبع الآن في اثنين وثلاثين مجلداً، وكذلك كتابه الآخر التمهيد، والذي يذكر فيه ما حواه الموطأ من المعاني والمسانيد، فيتعرض فيه كثيراً للأحكام وأدلتها، ويناقش ويرجح.

    وكذلك الكتب التي اعتنت بهذه الأدلة وترجيح الأقوال، مثلاً في المذهب الشافعي كتاب المجموع للنووي، الذي هو شرح للمهذب للشيرازي فقد اعتنى بذكر أدلة الفروع وترجيحها وذكر أقوال العلماء.

    وكذلك في المذهب الحنفي مثلاً كتاب المبسوط للسرخسي ، حيث ذكر الفروع وكان ذا عناية واضحة بالأدلة، وحتى كتب الحنفية المتأخرة مثل: الهداية، التي يدعون أنها أفضل الكتب الفقهية، فيها كثير من الأدلة، لذلك احتيج إلى تخريج أحاديثها، فخرجها الحافظ الزيلعي في كتابه نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية.

    وكذلك في المذهب الحنبلي كتاب مغني ابن قدامة وهو شرح لمختصر أبي قاسم الخرقي, فقد ملأه بأقوال العلماء وأدلتها وترجيحه في بعض الأحيان والمناقشة، وكذلك في المذهب الظاهري كتاب المحلى بالآثار لـأبي محمد علي بن حزم الظاهري الذي ذكر فيه الأحكام مربوطة بأدلتها، وهذه المنهجية هي أصح المنهجيات وأقواها، وهي التي ينبغي أن يرجع إليها عندما قل العلم، وقل إقبال الناس عليه، والآن هي أحسن المنهجيات بعد أن تطورت المنهجيات وأخذت تجارب متعددة، فمثلاً: كان هناك التأليف في مذهب واحد وذكر أدلته فقط، ثم التأليف في مذهب وذكر الأقوال داخله دون أدلة ودون ترجيح، ثم ذكر قول واحد في مذهب واحد، وهو ما به الفتوى دون ارتباط بأدلة، وكل هذه المنهجيات كانت لعصور معينة، وقد تغيرت, فأنتم الآن لا يلفت انتباهكم كثيراً تغيير وزارات التعليم مثلاً للمقررات التي تدرس، مثلاً عندنا هنا المعهد التربوي قد يغير مقرر مادة الفيزياء مثلاً من سنة إلى أخرى، والمقرر في هذه السنة يختلف عن المقرر قبل خمس سنوات.

    إذاً هذه منهجية معينة في تأليف المقررات، فلا مانع إذاً أن نأخذ أي منهجية شئناها فيما يتعلق بالمقررات الفقهية أيضاً.

    الاختيار في تأليف المقررات الفقهية والتركيز على التفقه في الأدلة

    لا شك أن أحسن المنهجيات هي المنهجية التي تربط الفروع بأدلتها مع أن إثقال كواهل الشباب بكثير من الفروع قبل أن يتمرسوا على الاستنباط وقبل أن يتمرسوا في التعامل مع نور الأدلة، التي هي نور من عند الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49], وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. لا شك أن تعلمهم لهذه الأدلة قبل إكثار تعلمهم للفروع أولى، وهذا ما لا يخالف فيه أحد.

    وذلك أن هذا الخطاب موجه إلى جميع الناس وهم فيه سواسية، فكيف تحرم نفسك من خطاب ربك الموجه إليك؟ وكيف تتركه ظهرياً وتعرض عنه وأنت تقرأ فيه قول الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30]؟ وهذه الآية ناطقة عليك في كتاب الله تعالى تقرأها وتسمعها.

    هجر القرآن يكون بمعنيين:

    أحدهما: بهجر تدبره معناه بعد التفهم فيه، وهذا ما حصل لدى كثير من الناس في عصور الانحطاط والتأخر، فتجد شيخاً كبيراً يحفظ القرآن كاملاً، ولكنه لا يجاوز ترقوته، ولا يتفهم في شيء منه، ولا يتدبره، وإذا سألته عن تفسير آية منه كان هذا من المنكر البين الذي يجب تغييره عنده، وقال: معاذ الله أن أتجاسر على كتاب الله. هذا غاية في الجهل؛ لأنه إذا راجع نفسه يقول: سنفتح كتاباً في التفسير لمن الكتاب؟ الكتاب في بعض الأحيان يكون حاشية الصاوي مثلاً، من هو الصاوي ؟ صوفي مصري متأخر في القرن الثاني عشر الهجري، لماذا تكل فهم كلام الله إلى الصاوي وأنت لا تعرف من هو الصاوي ؟ وتعطل عقلك الذي آتاك الله تعالى وهو نعمة أنعم الله بها عليك، هذا من الغريب، لماذا تفهم كلام الصاوي ولا تفهم كلام رب العالمين؟

    أهو أبلغ منه أو أوضح؟ معاذ الله هذا القرآن هو المعجز بلفظه ومعناه، وهو الواضح الذي لا إشكال فيه، وهو الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمره الله ببيانه: أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]. وقد فعل؛ لأن الله شهد له بالتبليغ فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54].

    كذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ). وقال: ( يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله, ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ).

    فهذا نص قاطع واضح الدلالة موجه إليك أيها المسلم الذي رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، فكيف تضعه ظهرياً خلف ظهرك، وتنصرف تبحث عن غيره؟ من طلب الهدى في غيره أضله الله.

    فلذلك لا بد أن نراجع هذه المقاطعة التي حصلت بين كثير من الشباب وبين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الأدلة المتفق عليها عند الأصوليين

    أما ما استنبطه العلماء من أدلة التشريع فقد قسمتها إلى قسمين:

    القسم الأول: الأدلة التي اتفقوا عموماً، أو التي اتفق أكثرهم, وما أذكره طبعاً هنا هو الأدلة الإجمالية، ولاحظوا معي التفريق بين الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية، فالأدلة التفصيلية لا حصر لها، مثلاً هنا في الأدلة الإجمالية سأعد القرآن كله دليلاً واحداً، وأعد السنة كلها دليلاً واحداً، لكن في مجال التفصيل القرآن كم يدل عليه من الأحكام؟ لا حصر له، فالقرآن فيه من الأدلة ما لا يعلمه إلا الله، والسنة فيها من الأدلة ما لا يعلمه إلا الله، والإجماع فيه من الأدلة الكثير ومواقع الإجماع كثيرة، والقياس فيه من الأدلة ما لا يعلمه إلا الله.

    ولكن أنا هنا أذكرها إجمالاً فالمقصود بها: أصناف الأدلة, فأصنف القرآن على أنه دليل واحد، بمعنى دليل إجمالي، وطبعاً ليس دليلاً واحداً من ناحية ليس متساوي المرتبة في الدلالة، فمنه أدلة واضحة يتفق الناس على دلالتها، ومنه دلالة غير ذلك، ومنه أدلة يناقش في وجه دلالتها، فقد يأتي شخص فيستدل علي الآن بآية من كتاب الله، مثلاً يأتيني منحرف أو مبتدع الآن يريد إباحة المصافحة، أو يريد إباحة بعض المحرمات فيقول: إن الله تعالى يقول: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225]، فيقول: أنا الآن قلبي بريء, فلذلك يحل لي أن أصافح هذه المرأة، أو أن أجلس إلى جنبها، أو أن أخلو بها، أو يحل لي أن أشرب ما شئت؛ لأن الله تعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة:93]، فلا شك أن هذه الآيات آيات من كتاب الله، ولا شك أنها صدق تكلم الله بها، ولكن العلة من أين أتت؟ هي من فهمه هو واستدلاله، فإذاً أنا إذا ناقشته هنا لا أناقشه في ذات الدليل، وإنما أناقشه في المدلول، وأناقشه في وجه الدلالة.

    الخلاف في القياس ومجال التطبيق فيه

    فإذاً المشكلة هنا ليست بذات الدليل، وإنما هي بوجه الدلالة.

    والأدلة التي اتفقوا جميعاً في الجملة على إعمالها هي هذه الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وكأني ببعضكم يستنكر إدراج القياس معها فيقول: القياس يخالف فيه الظاهرية، وبعض الناس ينكر بعض الأقيسة، وهذا الاعتراض صحيح ووارد، ولكننا إذا رجعنا إلى مجال التطبيق وجدنا أنهم يثبتون القياس من حيث ينفونه، وذلك أن القياس يكون في ثلاثة أمور: قياس في تنقيح المناط. وقياس في تحقيق المناط، وقياس في تخريج المناط. والمناط معناه: مكان تعليق الحكم من النص، أي: علة الحكم، وهذه العلة إما أن نبحث في تحقيقها، فنحن الآن عرفنا هذا الحكم، وعرفنا علته بصريح القرآن، ولكن نريد أن نطبق هذه القاعدة على الأفراد، فمثلاً يقول الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، أو ((وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ)) فيأتي شخص الآن فيقول فلان هذا عدل لماذا؟ أنا وجدت هذه الآية وهي قاعدة عامة ولم تبين لي أن فلاناً من الناس عدل وأن فلاناً ليس بعدل، وإنما جاءت في شكل قاعدة عامة مطلقة.

    فتحقيق المناط معناه البحث في الأفراد حتى تتحقق فيهم الصفة التي هي الصفة التعليلية التي تصلح للتعليل، فالعدالة مثلاً هي الاستقامة الشاملة الكاملة في العقيدة والسلوك والخلق، وقد وجدنا هذا الرجل متصفاً بها، فإذاً حققنا المناط هنا، فهذا اجتهاد في تحقيق المناط، وهذا لا ينقطع ولا خلاف فيه وهو من القياس، ولا يمكن أن يخالف فيه عاقل.

    كذلك الاجتهاد في تنقيح المناط، وتنقيح المناط معناه: البحث عن استخراج صفة تصلح للتعليل من عدة صفات مذكورة في النص، مثلاً: في الحديث (أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب صدره وينتف شعره، فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بعتق رقبة.) إلى آخر خصال الكفارة. هذا الحديث فيه ذكر لسبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالكفارة, لكن هذا السبب ما هو؟ وجدنا عدة صفات:

    أولاً: كونه أعرابياً.

    ثانياً: كونه جاء متأثراً هذا التأثر البالغ يضرب صدره وينتف شعره.

    ثالثاً: أنه قال: واقعت أهلي.

    رابعاً: أنه قال: في نهار.

    خامساً: أنه قال: رمضان. لكن هذه الأوصاف نجري عليها عملية تنقيح، فنزيل منها ما لا يصلح للتعليل، كونه أعرابياً لا تصلح للتعليل؛ لأنه لا فرق بين الأعرابي والحضري في الأحكام الشرعية، وكونه جاء متأثراً أيضاً لا دخل لها في التعليل؛ لأنه لو لم يتأثر فهو مخاطب بالشرع، وكونه قال: واقعت أهلي، لو واقع غير أهله كأجنبية مثلاً زنى بها أو واقع أمته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    764967057