إسلام ويب

دفع الشبهات عن الدعوةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الشبهات المثارة حول الدعوة والدعاة كثيرةٌ جداً، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الدعوة في أوساط الناس، والحرص على نزع هذه الشبهات من قلوب المسلمين؛ من أجل تثبيت الإسلام وقواعده في الحياة العملية وغيرها.

    1.   

    طريق الدعوة وأحوال الناس مع الدعوة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن عز وجل أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس، بعد أن خاضت البشرية تجارب مختلفة ومرت بأطوار متعددة؛ ففتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وأخرج به من الضلالة إلى الهداية، ونور به طريق الهدى؛ فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

    وقد شرط الله علينا في كتابه الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36]، فشرط على جميع المؤمنين والمؤمنات الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والانقياد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم ذلك على ما تزينه العقول وما تأتي به الأهواء، وما يألفه الناس من التقاليد والأعراف والعادات؛ فما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حاكم على كل ما سواه، فلا يمكن أن يخالف ولا أن ينبذ عرض الحائط، بل هو الحاكم الذي لا بد من الرضا بما جاء به تفصيلاً وإجمالاً.

    وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بكل خير، وبين أنه ما من خير إلا وقد أرشدنا إليه وما من شر إلا وقد حذرنا منه، وكان من جملة ما وظفه الله تعالى فيه وافترضه عليه أن يبين للناس هذا السبيل الذي جاء به، وبين الله تعالى وظيفته في ذلك وأمره أن يخبر الناس بها؛ فقال سبحانه وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، هذا بيان لوظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي الدعوة إلى الله تعالى إلى هذه المحجة البيضاء التي جاء بها، وهذا النور الذي أنزل عليه؛ لينقذ الناس من نار جهنم، ويهديهم الله به إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لنفسه؛ فقال: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الفراش يتساقط فيها، فجعل ينفيه بيده، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار )، فهذه وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي قام بها منذ أمره الله تعالى بالدعوة إليه، وأنزل إليه جبريل ليبين له هذا المنهج الواضح؛ من ذلك الوقت قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالبشارة والنذارة حتى توفاه الله إليه بعد أن أتم له الدين ورضيه له، وترك هذا المنهج الذي كان يدعو إليه أمانة في أعناق الذين اقتنعوا بدعوته وآمنوا برسالته؛ فالدعوة إلى سبيل الله سبحانه وتعالى وصف الله الذي وصف به نفسه فقال سبحانه وتعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ[يونس:25]، ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم الذي ارتضاه الله له بقوله: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46] وأمره به بقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وهو طريق من ارتضى الله تعالى أقوالهم؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33].

    أحوال المدعوين إلى الله تعالى

    وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج وهذا الطريق، وذكر تفاوت الناس عليه، وأنهم في ذلك على أربعة أقسام:

    القسم الأول: قوم لا يتحملون سماع الذكرى، ويفرون منها فرارهم من الأسد، وهم الكفرة الفجرة، يقول الله تعالى فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، والقسورة: الأسد، وهؤلاء يفرون من الذكرى ومن الدعوة كفرارهم من الأسد، وهم المشركون.

    القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع ذلك بآذانهم ولكنه لا يصل إلى أفئدتهم ولا يخالطها، وهؤلاء هم المنافقون الذين يقول الله تعالى فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16]، فهم يسمعون بآذانهم ولكنهم لا ينتفعون؛ فلا تصل الذكرى إلى أفئدتهم ولا تعمل بها جوارحهم، وبذلك تكون حجة عليهم لا لهم، فتقوم الحجة لله عليهم، ولا يستطيعون مناكرة الله سبحانه وتعالى بعد أن أقام عليهم الحجة.

    القسم الثالث: قوم يسمعون الذكرى من بعض الناس دون بعض؛ فيفرقون بين من يسمعون منه، وهؤلاء لا ينظرون إلى المدعو إليه وإنما ينظرون إلى الداعي نفسه، وحالهم حال مشركي قريش والطائف حين أرسل الله إليهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن؛ فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ[الزخرف:31-32]؛ فهؤلاء يستنكرون قدر الله تعالى وقسمته لأرزاق عباده، والله تعالى يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51]، وقد أمرنا أن نستمع إلى القول ونفرق فيه؛ فنأخذ الصواب ونترك الخطأ، وآتانا فرقاناً نميز به بين الحق والباطل، وامتدح الذين يفعلون ذلك فقال سبحانه وتعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18].

    القسم الرابع: قوم يسمعون الذكرى بآذانهم فتنقلها الآذان إلى القلوب فتشربها القلوب فتفيض أنوارها بالجوارح فتتيسر لطاعة الله سبحانه وتعالى والانقياد لأمره، وتنشط الأعضاء حينئذ لعبادة الله سبحانه وتعالى والانتفاع بما يتعلمون، وهؤلاء هم المؤمنون؛ لأن الله تعالى يقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالذكرى، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، فهؤلاء يسمعون الذكرى ويتأدبون فيها أدبها، ثم تحملها آذانهم إلى قلوبهم فتخالط بشاشة قلوبهم، وتوزعها القلوب إلى الجوارح فتكون نوراً مستقيماً في جوارح الشخص، فيؤيدها ويهيئها لطاعة الله سبحانه وتعالى، وبذلك تصفو القلوب وتلين بطاعة الله تعالى، ولا تكون العبادة مجرد رياء يتراءى به الشخص أمام الناس أو مجرد أعمال وروتين وجده مجبراً عليه أو ورثه عن آبائه، بل يكون إذا سجد يعفر وجهه لله تعالى ويلاحظ نعمة الله عليه حين أذن له بالسجود، بعد أن أمره به، ولم يحرمه منه كما حرم منه إبليس الذي أمره بالسجود، ثم حرمه بالكبر على أن يعفر جبهته لله؛ لأنه يلاحظ أن الذين يؤذن لهم في السجود في هذه الدنيا فيضعون جباههم بين يدي الله إجلالاً لعظمة وجهه سبحانه وتعالى فيخرون بين يديه لوجهه معظمين، ولجلال أمره مقدرين، فلم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فهؤلاء قد اختيروا من بين الخلق وأذن لهم؛ وبذلك إذا نودوا بالسجود يوم القيامة يتمكنون من السجود قال الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ[القلم:42]، فلا يستطيع من امتنع من السجود في هذه الدنيا إذا نودي إلى السجود يوم القيامة، فيدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك، فيجعل الله ظهورهم نحاساً؛ فلا يستطيعون السجود لعظمة الله سبحانه وتعالى.

    وأما الذين أدركوا معنى السجود، وذاقوه تذللاً لعظمة الله سبحانه وتعالى وإجلالاً لوجهه؛ فخروا بين يديه لوجهه معظمين وجلال قدره مقدرين، فهم الذين يؤذن لهم بالسجود حين ينادى بالناس على رؤوس الأشهاد، فيسجدوا ليمتازوا عن المتكبرين الجبارين، ويقال: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ[يس:59]، فيخرج بعث النار حينئذ.

    إن هؤلاء الذين ينتفعون بالذكرى ويستفيدون بها هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرط في هذه الآية الكريمة أن من قال إنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فوظيفته أن يدعو إلى الله على بصيرة؛ لأنه قال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]؛ فمن ادعى أنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يدع إلى الله على بصيرة فإنه كاذب كذبه الله تعالى في كتابه.

    1.   

    جنود إبليس التي يدخل بها على عباد الله

    ولكن كثيراً من الناس قد يعرض له جند من جنود الشيطان كالشبهة؛ فإن الشيطان له جندان أحدهما الشهوة والثاني الشبهة، فالشهوة هي التي يقع بها الشخص فيما لا يرضي الله تعالى، فمن الناس من تكون شهوته في جوارحه؛ فيسلط على ما حرم الله عليه، ومنهم من تكون شهوته في لسانه؛ فيسلط على قول ما لا يرضي الله تعالى، ويسلط على الفري في أعراض الناس والتكلم فيهم، ويسلط على نفسه بالكذب والنميمة والكلام القبيح، ومنهم من تكون شهوته في النفخة التي يجدها في صدره؛ فيكون متكبراً جواظاً عتلاً غليظاً في نفسه كبيراً وعند الله صغيراً، يتكبر وينتفخ على عباد الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11].

    ثم الجند الثاني وهو الشبهة، والشبهات التي يلقيها الشيطان متفاوتة متنوعة، والله تعالى يعصم من هذه الشبهات من شاء من عباده؛ فهي فتن تعرض عليها القلوب كأعواد الحصير عوداً عوداً، حتى تكون القلوب على قلبين: قلب تنبو عنه الفتن، ولا يتأثر بها، ولا يشربها، وينكرها، وقلب لا ينجو من فتنة، وتتراكم الفتن فيه حتى يكون كالكوز مسوداً مجخياً، وبذلك يظلم فلا يدرك شيئاً من براهين الله وآياته الساطعة الواضحة، ولله سبحانه وتعالى يقول في ضربه لآياته الواضحة: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:109-111]، فلا تغني الآيات شيئاً إلا إذا صب الله تعالى الهداية في قلوب العباد؛ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ[يونس:101]، فمن لم يرد الله به الهداية لا يمكن أن ينتفع بالذكرى؛ فإن أعظم ما يجاهد به الإنسان وأعظم ما تكافح به الشبهات هو هذا القرآن، الذي يقول الله تعالى فيه: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، ويقول فيه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، ومع ذلك نجد كثيراً من الناس يسمع القرآن من ألفه إلى يائه، ومن أوله إلى آخره وينبو عن قلبه؛ فلا يباشر بشاشة قلبه ولا يتأثر به ولا تقطر له دمعة واحدة، ولا يقشعر جلده ولا ترتفع منه شعرة بعد أن سمع القرآن من أوله إلى آخره؛ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[الأعراف:185]، فمتى تأتي هذا القلب الميت الهداية وقد مر عليه القرآن من أوله إلى آخره فلم ينتفع به؟! وبأي كتاب يهتدي؟ والله تعالى يقول: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185].

    إن هذا القرآن نور وآيات بينات، ولكن الله لم يكن ليجعله بدار هوان، فهو عزيز على الله تعالى وعظيم: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]؛ فكل قلب متنجس يقذره الله أن يجعله محلاً للقرآن، ولكن يمكن أن يجعل بعض الألسنة محلاً للقرآن ولكنه لا يصل إلى قلوبها الميتة؛ لأن القلوب التي هي جيفة ميتة نجس، فلا يمكن أن تكون محلاً للقرآن الذي هو مشرف عند الله تعالى في الصحف؛ لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ[الواقعة:79]، لذلك يمنع الله تعالى أقواماً ببعض الشبهات، وكثير منها ناشئ عن أعمالهم فيحول بينهم وبين هذه الهداية بسبب ذلك.

    1.   

    شبهات تعترض الدعوة والدعاة

    شبهة جعل من يدعو للخير والجنة إنما يدعو للنار

    وهذه الشبهات متنوعة في مجال الدعوة، وبالأخص في زماننا هذا؛ فمنها أننا نجد بعض الناس يسمع بعض الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف قوم يأتون في آخر الزمان يدعون إلى أبواب جهنم فلا يظن أن الذين يدعون إلى أبواب جهنم إلا الذين يدعون إلى الخير وإلى أبواب الجنة، والواقع أنه قد وصل في الغباء إلى حد عجيب فالتبست عليه المفاهيم، وشرق حيث ينبغي أن يغرب، والتبس عليه الليل بالنهار، أي: التبس عليه من يدعو إلى أبواب الجنة، وإلى الصلاة والصيام والحج والزكاة والصدقة والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام وترك الموبقات وغيرها، وبين من يدعو إلى أبواب النار، ويدعو إلى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويدعو إلى الكفر والإلحاد والعقوق وقطع الأرحام وترك الصلاة وتضييع الواجبات كلها، ويدعو إلى المخدرات والخمور والفواحش، فشتان بين هذين الداعيين.

    والرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث حذيفة بن اليمان : ( أن شراً سيأتي في آخر الزمان، وهو دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها )، وإن أبواب جهنم هي هذه الموبقات، التي توبق صاحبها في النار، وهي التي عليها دعاة يدعون إليها ويروجون لها، وله مسائل متعرجة في ذلك، ونحن نشاهدهم بين أظهرنا؛ فكم شاهدنا من الوسائل التي تسمعونها وترونها، يستغلها الشيطان وجنده في إغواء الناس عن سبيل الله، وكم رأيتم من الوسائل التي أفسدت عقائد أولاد المسلمين، وكم رأيتم من المدارس التي ألقت الشبهات على أولاد المسلمين، وجعلتهم يتركون الصلاة ويتكاسلون عن عبادة الله، وكم رأيتم من الجماعات التي تربي أولاد المسلمين على قطيعة الأرحام وعلى عقوق الوالدين والانفصال عنهما، وكم رأيتم من وسائل الإعلام التي تروج لقبيله وتسعى لنشر الفواحش بين المسلمين، وكم رأيتم من الذين يدعون إلى نبذ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتحكيم القوانين الوضعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي هي تغيير وتبديل لما جاء به الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم الرسل وآخرهم وأكرمهم على الله سبحانه وتعالى.

    إن هؤلاء دعاة على أبواب جهنم، ولكنه من حكمة الله تعالى أن يبقى الصراع مستمراً مستميتاً، وأن لا يستسلم أهل الحق أبداً، وأنه لا بد لراية الحق من يحملها، ولا يمكن أن يستسلم المؤمنون الذين باعوا أنفسهم لله ووقعوا معه عهداً موثقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، بينه الله في كتابه بقوله: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111]، ولا يمكن أن يستسلم هؤلاء وأن ينقادوا إلى الدعاة على أبواب جهنم.

    لا بد أن نجد من أبناء المسلمين من يدعون إلى أبواب الجنة، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبواب الجنة هي هذه العبادات؛ ففيها باب اسمه (الريان) لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق؛ فلم يدخل منه أحد، وفيها باب اسمه (باب الجهاد) يدخل منه المجاهدون، وباب اسمه (باب الصدقة) يدخل منه المتصدقون، وباب اسمه (باب الصلاة) يدخل منه المصلون، قال أبو بكر : ( يا رسول الله! أيمكن أن يدعى أحد من جميع أبواب الجنة الثمانية؟ قال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم )، فلم يرض أبو بكر أن يدعى من باب واحد من أبواب الجنة أو من اثنين أو من ثلاثة، بل لم يرض حتى يدعى من أبواب الجنة الثمانية، إنها الهمة العالية.

    ولكننا نجد آخرين على العكس من أبي بكر ، وعلى النقيض من ذلك، فهممهم عالية ولكنها إلى الشر، ولا يرضون أن يدعوا من باب واحد من أبواب النار، بل يريدون أن لا تبقى فاحشة إلا دعوا من بابها، فيدعون من باب الزنا ومن باب شرب الخمر، ومن باب قطيعة الرحم، ومن باب القذف، ومن غير ذلك من أنواع أبواب جهنم، ولا يريدون أن يتركوا فاحشة من الفواحش إلا أتوها، فهؤلاء علت هممهم ولكنها إلى الشر.

    إن الذين يدعون إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به هم الذين يدعون على أبواب الجنة، ومن أجابهم إليها دخل من هذه الأبواب التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن من زعم أن الذين يدعون إلى هذه الأبواب هم دعاة على أبواب النار فقد حكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الرسل بأنهم دعاة على أبواب جهنم، فهذه الشبهة إذاً داحضة.

    شبهة اعتبار الدعاة إلى الله من القصاصين الذين حذر منهم النبي

    وكذلك من الشبهات ما يتذرع به كثير من الناس حين يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من القصاصين، الذين يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، وقال - كما أخرج عنه أبو داود في السنن - : ( لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور )، وفي رواية: ( أو مراء )، ولكن محل هذا عندما يكون الأمير صالحاً لأن يقص على الناس، وعندما يكون الأمير صالحاً لأن يعتلي المنبر ويخطب الناس ويؤمهم ويصلي بهم؛ كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل و أبو بكر و عمر و عثمان و علي ، والخلفاء الراشدون من بعدهم، فهؤلاء هم الذين كانوا يعلمون الناس ويقومون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القيام، ولكننا حين عدمناهم ولم نجد مثل أبي بكر ولا مثل عمر ولا مثل عثمان ولا مثل علي يتقدمنا ويعلمنا لا يمكن أن ندع لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقط على الأرض لا يرفعه أحد؛ فمن فعل ذلك فقد نكث البيعة التي بايع الله عليها.

    إن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بينها وهي أنه بمثابة رجل أوقد ناراً فجعل الفراش يتساقط فيها وهو ينفيه بيده وظيفة قائمة باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها، ويجب على المؤمنين القيام لله بالحجة، وأن يحاولوا أن يمنعوا الناس من نار جهنم، وأن يمسكوا بحجز الناس عن نار جهنم ما استطاعوا.

    وإن القصص الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم هو أحاديث مكذوبة وروايات مختلقة أحدثت في القرن الثاني من الهجرة، وشاعت واشتهرت وكانت من أعلام النبوة ومن آيات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اشتهر في كل مدينة من مدن الإسلام في ذلك العصر قصاصون، وأكثرهم كذابون يضعون الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهم يقص في مسجد الكوفة فقال: حدثني أحمد بن حنبل و يحيى بن معين وذكر حديثاً طويلاً، وكان من الصدفة أن في المسجد أحمد بن حنبل و يحيى بن معين فالتفت كل واحد منهما إلى صاحبه فقال: أنت حدثته؟ فقال: لا، والله! فقاما إليه فقال: أنا أحمد بن حنبل وهذا يحيى بن معين ، ووالله ما عرفناك ولا حدثناك بما قلت! فقال: يا غبي! ألا تدري أن في البصرة وحدها مائة ممن يسمى أحمد بن حنبل ومائة ممن يسمى يحيى بن معين ، فالرجل وضاع كذاب قصاص، ولكنه افتضح على الملأ.

    ومن حفظ الله تعالى لشريعته أن من كاد لها وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد أن يفتضح على الملأ؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: (والله لو هم رجل من الليل وهو في الصين أن يضع حديثاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس ببغداد يقولون: فلان كذاب وضاع) لأن هذا الوحي نور الله، وهو الذي تولى حفظه بنفسه وعصمه، ولم يكل حفظه إلى أحد، فلا يمكن أن يأتمن الله عليه المفلسين فيه، الذين يوقعون عن رب العالمين ولا يمكن أن يكونوا من المفلسين الذين خربت ذماتهم، فلا بد أن يكونوا من الأمناء؛ ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ).

    فإذا عرفنا هذا فإن القصاصين الذين حذر منهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهاهم أن يقصوا على الناس إلا بأمر من الخليفة إن كان هم الذين يختلقون هذه الأحاديث ويكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يذكرون الناس بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي قرآناً وسنة، ويعلمونهم أحكام دينهم ويذكرونهم بالله سبحانه وتعالى ويرققون قلوبهم لتنقاد إلى طاعة الله ومحبته، ولتنبذ الهوى وتخالف الشيطان؛ فهؤلاء لم يسلكوا إلا مسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهجه ومنهج أصحابه، وقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم رضي الله عنهما: ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً )، إذاً فهذه الشبهة داحضة.

    شبهة اعتبار أهل البادية ما لم يبلغهم من الدين من محدثات آخر الزمان

    وتأتي شبهة ثالثة في الترتيب يلهج بها كثير من الناس، وهي أن كثيراً من الناس قد عاش في حياة البادية وتربى فيها على نمط من العيش معين؛ فإذا رأى ما يخالف ما أدرك الناس عليه ظن أنه من محدثات آخر الزمان، فإذا سمع من يذكر الناس أو من يعظ الناس ويعلمهم، أو رأى من يستغل وسيلة من الوسائل التي أنعم الله على عباده بها في نصرة دين الله تعالى ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يقرأ من العلم والكتب ما لم يكن متوفراً لدى بيئته هو أنكر ذلك، وقال: قد أتى هؤلاء بدين مستورد جديد، والواقع أن الدين كله مستورد، فالدين ليس دين أهل الأرض، الدين منزل من السماء، ومستورد من السماء، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ[الشعراء:193-194]، والدين الذي لدينا في هذه البلاد مستورد؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يولد في هذه المقاطعة، ولا ولد في هذا البلد، وإنما ولد في مكة وبعث بها، وهاجر إلى المدينة ومات فيها ودفن بها، ولكن مع ذلك فالدين الذي جاء به دين عالمي، دين يراد أن يتبعه الناس ولا يختص به جيل عن جيل ولا أمة عن أمة، دين يشمل الإنس والجن ويشمل الأبيض والأسود والأحمر، دين عام، وهو مستورد إلى هذه البلاد، فالذي ينكر الدين المستورد ينبغي أن يتخلص من هذا القرآن ومن هذه السنة ومن كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مستورد.

    والواقع أن سبب هذه الشبهة هو اختلاف نمط حياة الناس عما كانوا فيه، وأنهم خرجوا بغتة من حياة البادية إلى حياة الحاضرة دون أن يقام لذلك اعتبار ودون أن يكون له تهيئة، ودون أن يقام له تبرير يخرج الناس عن النمط الذي تعودوا عليه، والذي يقول: لم ندرك آباءنا يلقون المحاضرات ولا الخطب في المساجد، ولا يصلون الجمعات ولا يخرجون إلى الناس يعلمونهم دين الله، ولا يذكرون بدين الله ولا يجاهدون في سبيل الله، قد ظلم آباءنا الذي افترى عليهم هذه الفرية؛ لأن التكليف بقدر النعمة، إن نعمة الله علينا الآن ليست مثل نعمته على آبائنا، أيكم يستطيع أن يعيش الآن على ما كان يعيش عليه أجداده قبل مائة سنة في ملبسه أو مأكله أو مشربه، لا يرضى أحد منكم اليوم أن يلبس ما كان يلبسه جده الثالث ولا أن يأكل ما كان يأكله، ولا أن يشرب ما كان يشربه ولا أن يركب ما كان يركبه ولا أن يسكن في المسكن الذي كان يسكن فيه، مع ذلك فإن هذه النعمة عليكم كان على آبائكم من النعم أمثالها؛ فقد كانوا في عافية من أمور قد حاطت بكم وحلت بكم، فهل كان آباؤكم قبل مائة سنة يتوقعون أن ولداً من أولاد المسلمين يعيش بين ظهرانيهم، وبين أبويه، فإذا بلغ الحلم ترك الصلاة؟! هل كانوا يتوقعون أن بنتاً من أولاد المسلمين تتربى بين أبويها وفي محيط أسرتها فإذا بلغت عشرين من عمرها تذهب وحدها وتسافر في الطائرات إلى بلاد الكفر؟! وهل تعلمون أن آباءكم كانوا يتوقعون أن يخرج بين ظهرانيهم من أولاد المسلمين من يروج الخمور والمخدرات ويتناولها، ويوزعها؟ وهل ترون أنهم كانوا يرضون بتبديل حكم الله تعالى وإقامة أحكام الطاغوت وتنصيب القوانين الوضعية مقام شرع الله؟! وأنهم سيرضون بذلك؟!

    موقف من مواقف نصرة الإسلام والشريعة

    إننا في هذا البلد قد حصلت واقعة ينبغي أن نتذكرها، حصلت في سنة 1961م عندما دعت الحكومة الموريتانية -حكومة الاستقلال إذ ذاك- أربعمائة وستين من علماء البلد من مختلف الولايات، وجمعتهم في العاصمة نواكشوط، وعرضت عليهم القانون الوضعي الذي هو قانون الحكم في موريتانيا ليناقشوه؛ ليقنعوا الناس به، فلما قرئ عليهم قام أحدهم وقال:

    جواباً به تنجو اعتمد فوربنا لعن عمل أسلفت لا غير تسأل

    إننا شيوخ كل واحد منا قد بلغ دقاقة الأعناق، ولا يمكن أن نكون أعواناً على تغيير شرع الله، قوموا! فقاموا جميعاً وخرجوا. ورفضوا ذلك القانون الوضعي، فلم يصوت له واحد منهم.

    إن هذا الموقف مشرف، وهو من المواقف التي يسدل عليها الستار وتطوى ولا تروى، ولكنه واقع وما زال الذين حضروه بعضهم على قيد الحياة.

    إن آباءنا لم يكونوا ليقبلوا شيوع هذه المنكرات بين ظهرانينا، وما هي وسيلة مكافحتها؟ هل تظنون أن شرع الله ترتفع رايته ويعلو ويحكم ويغير كل هذه المنكرات التي ترونها دون عمل الرجال ودون دعوة إليه؟! لو كان كذلك لقام شرع الله أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قتال ودون حروب ودون جهاد، بل الشرع كله امتحان للعباد؛ فالله تعالى يقول: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4]، إنما لا يرضى أن يعيش على ما كان يعيش عليه أسلافه في مجال الدنيا ويريد أن يتحجر على ما كانوا عليه في مجال الدين؛ فقد آثر الدنيا على الآخرة، وقدم حظه الدنيوي على حظه الأخروي؛ فكان ممن يريد حرث الدنيا، والله تعالى يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20]، ويقول سبحانه وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء:18-19].

    موقف المسلم الحق من المنكرات وانتقاص الدين

    إن هذه المناكر التي ظهرت بين ظهرانينا واشتهرت، وهذه الذلة والمسكنة التي فرضت على رقاب المسلمين، وهذا التغيير الذي حصل على شرع الله تعالى لا يمكن أن يرضاه عبد مؤمن يقول في صلاته: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ[الأنعام:162-163]، لا يمكن أن يكون الشخص مقراً بأن حياته ومماته ونسكه وعبادته لله سبحانه وتعالى ثم بعد ذلك يرضى أن يتنقص هذا الدين وهو حي معافىً، سليم في بدنه معافىً في سربه. إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد العرب عن دين الله كسر قراب سيفه وقال: (أينقص هذا الدين وأنا حي؟!) لا يمكن أن ينقص الدين وأنا حي، وإن الله لم يأخذ على أبي بكر من العهد إلا ما أخذ عليكم أجمعين، فكل شخص منكم تكليفه مثل تكليف أبي بكر ، والموقف المطلوب منه شرعاً مثل الموقف المطلوب شرعاً من أبي بكر رضي الله عنه، ولنقارن، وليقارن كل واحد منا موقفه مع موقف أبي بكر وماذا قام به لهذا الدين حين استضعف وحين امتهن وحين اعتدي عليه، هل انتصر لدين الله أو لا؟ إن من ينتصر لنفسه ويحاول ألا يعتدى على شيء من حقه، بل يحاول في كثير من الأحيان أن يأخذ ما ليس من حقه وأن يعتدي على حقوق الآخرين لجدير به أن يرعى دين الله تعالى، وألا يرضى لدين الله بالضيم، وأن يكون أبياً واقفاً مع الحق، ناصراً لدين الله، الذي هو غني عنه؛ فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا[التوبة:38-40].

    إذاً هذه الشبهة داحضة، وأصحابها كان الحري بهم والجدير أن ينظروا إلى ما جد من المنكرات وأن ينكروها ويكافحوا الذين يدعون إليها قبل أن ينكروا الدعوة إلى الله وقبل أن ينكروا السنن التي أحييت بعدما أميتت، وأن ينكروا على أقوام لا يرضون دينهم ولا مروءتهم ولم يعرفوهم في المساجد، وإنما عرفوهم في السينما ودور اللهو، ولم يعرفوهم متوضئين متطهرين، سيماهم في وجوههم، وإنما عرفوهم بأنواع الفواحش وبالخزي وبالعار في الدنيا، جدير بهم أن ينكروا على هؤلاء وأن يسالموا أولئك، لكن انقلاب الموازين وانعكاسها داء عضال حاصل في كثير من الشعوب الإسلامية مع الأسف!

    شبهة معرفة الحق بالرجال

    كذلك من هذه الشبهات التي يتذرع بها كثير من الناس؛ أن كثيراً من الناس لا يقتنع بالقناعات والأفكار وإنما يقتنع بالأشخاص، والأصل أن المكلف إنما كلفه الله بمقتضى عقله هو لا بمقتضى عقل شخص آخر، فإذا كان قد أنعم الله عليه بأذنين وعينين وقلب يميز به وسمع الحق فأصاخ له وعرف أنه الحق لا يعذر إذا أعرض عن الحق اتباعاً لفلان أو فلان من الناس، فالحق أحق أن يتبع، والرجال يعرفون بالحق والحق لا يعرف بالرجال، وبذلك فإن مجرد كون فلان أو فلان من الناس قد اجتهدوا فأخطئوا أو التبس عليهم بعض الأمر أو حصلوا في بعض الشبهات ليس عذراً لمن لم تكن لديه تلك الشبهة، ليس ذلك عذراً منجياً بين يدي الله سبحانه وتعالى لمن سمع الحق وسمع كتاب الله ناطقاً عليه وسمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، واقتنع قناعة عقلية بمقتضاها، فهذا قد قامت عليه الحجة، ولم يبق له عذر بين يدي الله سبحانه وتعالى.

    شبهة أخذ الدعوة بجريرة بعض منتسبيها

    كذلك من هذه الشبهات التي يقدمها كثير من الناس شبهات تتعلق بأقوام من الذين يمارسون الدعوة، فقد يقعون في بعض الأخطاء فيحمل الهوى أقواماً على حمل تلك الأخطاء على جميع من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، والوقع أن هذا غاية في الفساد والجور في الحكم، الله تعالى يقول: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى[النجم:36-41]؛ لذلك فإن الذين يدعون إلى الله سبحانه وتعالى متفاوتو الدرجات في العلم، ومتفاوتو الدرجات في العقل، ومتفاوتو الدرجات في الخلق، ولكنهم جميعاً قد اتجهوا إلى خير قول أهل الدنيا؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ[فصلت:33]، فيهم من يصيب وفيهم من يخطئ، و مالك رحمه الله تعالى يقول: (ما منا أحد إلا وهو راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم) ولكن أخطاء كل شخص هو وحده المسئول عنها، لا ينبغي أن تجر على من سواه ولا أن تحتسب عليه، بل كل شخص مسؤول عما أتاه، ولا يكلف ما عمله آخر؛ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ[المدثر:38].

    لذلك فإن بعض الأخطاء أو بعض الأمور التي يمكن أن تصنف على أنها أخطاء قد يقع فيها بعض الناس لا ينبغي أن تكون مانعة من سماع الحق ولا من قبوله، سواءً صدر من أولئك أو ممن سواهم، ولا ينبغي أن نحكم على أقوام بخطأ آخرين، ولا أن نصف قوماً بوصف لم نشهده فيهم وإنما رأيناه فيمن سواهم؛ فالله تعالى يقول: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات:6]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات:12]؛ لذلك فإن العدل مقتض منا أن نزن الأمور كلها بميزان القسط، وننظر بعينين ولا ننظر بعين واحدة، وأن نحسب لكل شخص ما أتاه من الصواب ونحسب عليه ما أتاه به من الخطأ، وألا نجر ذلك على من سواه.

    شبهة أن الدعوة هي فقط للكفار دون المسلمين

    كذلك من هذه الشبهات أن كثيراً من الناس يرى أن هذه الدعوة ينبغي أن تتجه إلى الكفار المعرضين، وأن لا تتجه إلى المسلمين، فإذا دعي إلى سبيل الله قال: نحن مسلمون، فاذهب إلى الكفار فادعهم، وهذه الشبهة داحضة أيضاً جداً، وصاحبها يعلم أنها داحضة؛ لأنه لو قيل له: أترضى عن إيمانك وترضى عن التزامك وترضى عن قلبك وتأمن النفاق على نفسك؛ فإنه في كل ذلك يجيب بـــ(لا) يقول: (لا) على كل سؤال من هذه الأسئلة، إذا قيل له: هل ترضى عن مجتمعك وتعلم أنه كالمجتمع الذي توفي عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن الناس على المحجة البيضاء، لم يتغير فيها شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سيقول: لا، فإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه أقر بالحاجة إلى هذه الدعوة وأقر بأن الله عز وجل إنما أمر بتذكير المؤمنين المنتفعين بالذكرى، قال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، وأخبر أن هؤلاء هم المستجيبون فقال سبحانه وتعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ[ق:45].

    وكذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذين يتحملون هذه الذكرى وينتفعون بها هم الذين لم يطبع على قلوبهم ولم يشرب النفاق قلوبهم، وكذلك فإننا من الناحية الواقعية لو نظرنا إلى أن هذه الجهود ينبغي أن تصرف إلى إدخال الكفار في الدين؛ فدعوناهم ليسلموا فإن أبلغ حجة سيقيمونها في وجوهنا هي: هذا الإسلام الذي تدعوننا إليه، وهذا الكتاب الذي تدعوننا إليه - الذي هو القرآن - هل هو مطبق في المجتمعات الإسلامية؟! هل الإسلام الذي تدعوننا إليه مجرد فكرة غير واقع؟! تريدون أن تلزمونا بأمر لم تلتزموه؟! وبذلك نعلم علم اليقين أن مجرد دخول هؤلاء في النطق بالشهادتين ودخولهم مع فجرة المسلمين فيما هم فيه لا يعز الإسلام ولا يرفع له راية؛ لأن المسلمين اليوم كثير، ولكن كثيراً منهم غثاء كثغاء السيل؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في قوله: ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ويوشك أن يدب فيكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت )، إن هذا قد دب في نفوس كثير من الناس، وأصبح كثير منهم لا يلتزمون بهذه القيم التي يأمر الله بها في كتابه ويأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم. ولو سألت ولداً من أولاد المسلمين تربى بين أبويه حتى بلغ عشرين من عمره اليوم هل يستطيع أن يعد عليك ما فرط من كذباته فيما مضى من عمره؟ لم يستطع ذلك، ومع هذا يقرأ عليه والداه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول حين سئل فقيل له: ( المؤمن يكذب؟ قال: لا ).

    فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا؛ لذلك فإن هذه الشبهة داحضة مزالة.

    شبهة أن القائمين بالدعوة من حدثاء الأسنان دون كبار العلماء

    كذلك من هذه الشبهات التي يعرض بها كثير من الناس وينهج بها أن كثيراً منهم يقول: إن الذين يقومون بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في كثير من الأحيان من الشباب الذين ما لهم كبير تجربة ولا كبير علم، في حين نجد كثيراً ممن هم أسن منهم وأكثر علماً لا يقومون بذلك، وهذه الشبهة راجعة إلى الشبهة الماضية التي ذكرناها من قبل في التمييز بين الأشخاص الذين يستمع منهم الحق؛ فالله عز وجل أعلم بمن يأتمنه على دينه؛ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124]، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75]؛ فاصطفاء الله سبحانه وتعالى سابق، وقدره نافذ، وهذا العلم يرفع الله به أقواماً ويضع به آخرين؛ كما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري أن واليه على مكة حين أتاه سأله: من وليت على القوم؟ قال: مولىً لبني فلان، فقال: كيف تولي على حرم الله مولىً؟! فقال: إنه حافظ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يرفع بهذا العلم أقواماً ويضع به آخرين )؛ فلذلك لا اعتبار حينئذ لنسب ولا لسن، وإنما العبرة فيمن استطاع أن ينتصر على نفسه وأن يعملها في طاعة الله تعالى، وأن يبلغ ما اؤتمن عليه وألا يمنعه الحياء الذميم من إيصاله؛ فإن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته كانوا من الشباب، وكذلك أتباع الرسل كلهم، أما الكبار الذين نشأوا على منهج محدد وسلكوا أثراً ارتبطت به مصالحهم، وأرادوا أن يبقى الوضع على ما كان عليه؛ حتى لا تتغير مصالحهم ولا تتغير مستوياتهم الاجتماعية وآثارهم الباقية بالمجتمع، يريدوا أن يحافظوا على نفس المستوى؛ فهؤلاء لا مصلحة لهم في الاستجابة، وبذلك يقفون سداً في وجه هذا التغيير المنشود، فلا يريدون أن يتغير حال الناس وأن يعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الصحيح، وإنما يريدون أن يبقى الأمر على ما كان عليه حتى يبقى لهم ما لهم من شرف ومكانة اجتماعية مؤقتة، لكن ذلك لا يمكن أن يبقى؛ لأنه مخالفة لسنة كونية من سنن الله سبحانه وتعالى.

    فالله سبحانه وتعالى لا بد أن ينصر دينه وأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وأن الله سيعزه بذل ذليل أو بعز عزيز، لا بد أن ينتصر هذا الدين ولا بد أن تعلو كلمته ولا بد أن يعز الله به أقواماً وأن يضع به آخرين، وإنما يتفاوت شرف الناس بتفاوت بذلهم في سبيل الله وما قدموه للدين؛ فالله غني عن الجميع، ولا ينظر إلى أجسامهم ولا إلى أنسابهم، وإنما ينظر إلى قلوبهم وما فيها من الإيمان بالله ومحبته، وما قدموه لدين الله سبحانه وتعالى.

    لذلك فإن هذه الشبهة من أصلها داحضة، والذين يتذرعون بها ما قرأوا التاريخ وما قرأوا عن إسلام عمرو بن الجموح حين أسلم أولاده، ولا عن إسلام كبار القوم الذين أسلم أبناؤهم فحملوهم على الإسلام، ولا عن نفاق أقوام أسلم أولادهم فحملوهم على الإسلام في الظاهر؛ كــعبد الله بن أبي ابن سلول وغيرهم.

    شبهة اعتبار حضور النساء المساجد والدروس ابتداع جديد

    كذلك من هذه الشبهات الداحضة: أن كثيراً من الناس يمتعض إذا رأى أن النساء قد حبب إلى كثير منهن المساجد والدروس وأصبحن يستفتين في أحكامهن، ويتعلمن ما استطعن من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحجبن ويمتنعن عن مخالطة الأجانب، ولا يخرجن في الخرجات المشينة، ويحاولن أن يحافظن على عفافهن وعلى ما أمرهن الله سبحانه وتعالى به من عدم إبداء زينتهن إلا لمن يجوز إبداؤها له، يمتعض أقوام من هذا ويرونه منكراً من القول ومن الفعل، ويرون أنه ابتداع جديد، وينكرون على هذه الشرذمة من النسوة التي رغبت عما أدركت عليه كثيراً من الناس، وربأت بنفسها عن منهج الجاهلية، وأرادت أن تلتزم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبما أمره الله أن يأمر به النساء في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ[الأحزاب:59].

    وهؤلاء النسوة لا يمكن أبداً أن ينظر إلى ما هن فيه على أنه ابتداع في الدين أو مخالفة لهدي سيد المرسلين، بل إنه صلى الله عليه وسلم حض على ما هن فيه وثبت عنه أنه قال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات )، ومعنى تفلات: غير متطيبات ولا متزينات.

    وكذلك فإن هذا الدين دين الله خاطب به المكلفين عموماً ذكوراً ونساءً، لم يستثن منه أحداً، وليس لأحد أن يخرج شريحة من شرائح المجتمع منه، بل هو عدل الله الذي لأهل الأرض حق فيه، لكل أهل الأرض حق أن يدخلوا في دين الله وأن يتشرفوا بذلك عما كانوا فيه من رذائل الأعمال والأخلاق والاعتقادات.

    شبهة وصف الدعاة والمصلحين بين الناس بالرياء

    كذلك من هذه الشبهات الداحضة: أن كثيراً من الناس ينظر إلى المصلحين الذين يحاولون هداية الناس بما يستطيعون فيحاول أن يتهم نياتهم وأن يصفهم بأنهم من المرائين، الذين يقولون: اعرفوني.. اعرفوني! والواقع أن هذا من الجسارة على الله سبحانه وتعالى ومن رجم الظن أو التطلع على الغيب، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحبه ابن حبه أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم: ( هلا شققت عن قلبه، فقال أسامة : فلوددت أني لم أسلم قبل يومئذ )؛ ولذلك فإن النيات من السرائر التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن أقواماً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع بالنبوة، وإنما نحن قوم نحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر، فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه) فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يعلم السرائر، ونحن إنما نحكم بالظواهر؛ فمن رأينا منه خيراً حملناه على ذلك، ومن رأينا منه شراً حملناه على ذلك حتى يبدي لنا توبته، ولا يمكن أن نتهم نيات الناس؛ وذلك من عمل المنافقين؛ فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المنافقين حين خرجوا معه في غزوة تبوك لمزوه ولمزوا أصحابه؛ فقالوا: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أجبن أفئدة ولا أرغب بطوناً، ولا أخور عند اللقاء) فأنزل الله تعالى فيهم سورة التوبة المقشقشة، التي فضحت كل ما قالوه؛ ولذلك جاء زيد بن اللصيت وكان ممسكاً بغرض رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر له، فيقول: (إنما كنا نخوض ونلعب) فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ[التوبة:65-66]؛ لذلك فإن شبهة اتهام النيات والاطلاع على سرائر الناس منبوذة مرفوضة شرعاً، ولا يحكم على شخص إلا بحسب ظاهره وتوكل سريرته وباطنه إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يتجرأ أحد على ادعاء الغيب وادعاء أنه يعلم ما تبطنه القلوب وما في السرائر.

    شبهة اشتراط بلوغ منتهى العلم للتأهل للدعوة

    كذلك من هذه الشبهات: أن كثيراً من الناس يرى بعض الأقوام الذين بلغهم الأمر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان قليلاً؛ فقاموا بما بلغهم، ولم يدعوا أنهم قد أحاطوا بالعلم، بل الإحاطة بالعلم إلى الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يدعي شخص أنه أحاط بالعلم؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]، ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كان موسى في ملأ من بني إسرائيل فأتاه رجل فقال: يا موسى ! أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله على موسى إذ لم يرد العلم إليه، فقال: بلى، عبدنا خضر أعلم منك، فسأل موسى السبيل إلى لقيه؛ فجعل الله له الحوت آية ).

    إذاً لا يمكن أن نشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى أن يكون الشخص منتهياً في العلم؛ لأننا لو شرطنا ذلك لما وجدنا أحداً منتهياً في العلم حتى نصل إلى الأنبياء الذين قال الله تعالى في خطاب أكرمهم عليه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]، وقال في كليمه: ( بلى، عبدنا خضر أعلم منك ).

    إذاً فليس المستوى المطلوب من العلم في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير حال الناس هو المستوى المرموق المشكور بين الناس، بل يكفي في ذلك ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، فكثير من الناس يكونون أوعية للفقه فيحملون آية أو حديثاً أو كلمة تنفتح لها القلوب، وتدخل في الآذان فتفيد أقواماً يرسل الله تعالى الهداية عن طريقها إليهم، ومع ذلك يكون مستواهم العلمي قليلاً جداً، فكثير من الصحابة الذين هدى الله تعالى بهم كثيراً من الناس، وبين على ألسنتهم كثيراً من الشرائع، وخدموا هذا الدين وجاهدوا في سبيله وبذلوا في سبيله الأنفس والنفيس، ونصروا الله تعالى بأنفسهم وأموالهم؛ كثير منهم لم يصلوا إلى هذا المستوى الذي يشترطه أصحاب هذه الشروط، بل لم يصل إلى مستوى الاجتهاد والإفتاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثمانية عشر فقط، هم الذين وصلوا إلى رتبة الاجتهاد والإفتاء، أما من سواهم فكلهم مجاهدون دعاة في سبيل الله، يدعون إلى الله ويجاهدون في سبيل الله ويبذلون أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لنصرة دين الله.

    شبهة قصر الدعوة على أناس بأعيانهم

    وكذلك من هذه الشبهات: أن كثيراً من الناس يظن أن الدعوة مجال مقصور على أقوام بأعيانهم، ويرى أنه هو لا ينبغي أن يكون من هؤلاء أو له عذر ومندوحة في الاتصاف بهذا الوصف؛ فيقول: يكفي أن أكون من المسلمين، لست من الذين يدعون إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الكلام متناقض؛ لأن المسلمين جميعاً هم الذين يدعون إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل أن يكون شخص منهم مقتنعاً بالإسلام ثم لا يدعو إليه، ولا يريد نصرته، وأنا سأضرب لكم مثلاً واضحاً، وكل شخص منكم عليه أن يتدبره، وأن يحمل نفسه عليه:

    أرأيتم لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج اليوم من قبره وبعثه الله من جديد، هل سيرضى بهذا الواقع الذي أنتم عليه؟ ما هي الوسيلة التي سيتخذها للتغيير؟ هل سيذهب إلى الحكومات يطلب الوظائف؟ أو هل سيعتزل الناس ويغلق عليه بابه ويأخذ سبحته؟ لا شك أن الوسيلة التي يتخذها هي التي اتخذها فيما مضى من حياته، يقول: من أنصاري إلى الله؟ والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ[الصف:14]، قراءة أخرى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصاراً لله؛ كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله) أنتم اليوم لاحظوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ناطق عليكم وكأنه قد قام بين ظهرانيكم اليوم في هذا المسجد الآن، فقال: من أنصاري إلى الله؟ فماذا عسى يكون جوابكم؟ هل فيكم من سيرجع إلى بيته ويقول: أنا لست من هذه الجملة، لست من أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله، لا أحد من المسلمين يرضى بهذا، بل كلكم تريدون أن تكونوا من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وحماة دينه وملته، إذا كان الأمر كذلك؛ فهل هذا الأمر بالتمني والتظني؟ هل مجرد التمني يكون به الشخص جندياً من جنود محمد صلى الله عليه وسلم؟ فلا بد أن تكون تلك القناعة مترجمة إلى عمل، إذا لم تكن مترجمة إلى عمل فهي كذب على الله. فكثير من الناس يشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، فيكذب على الله، ويزعم أنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وأنصاره ولكنه مع ذلك لا يريد أن يفقد شيئاً من ماله أو شيئاً من وقته، أو يتكلم بكلمة أو يضرب بضربة في سبيل نصرة محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء رغبوا بأنفسهم عن رسول الله، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: مَا كَانَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[التوبة:120-121].

    إن كثيراً من الناس قد ابتلي بالسلبية فأصبح معدوداً على المسلمين، إذا عد عداد المسلمين كان كبيراً ومع ذلك فالذين ينصرون الدين منهم قليل، فلو صفا لنا من كل ألف رجل واحد لكان هذا ربحاً عظيماً، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: ( أن مثل الناس كمثل إبل مائة.. )، إبل تعدادها مائة، ( ولكن قل ما تجد فيها راحلة )؛ فالرواحل قلة.

    جعلني الله وإياكم من الذين يحملون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدافعون عنه وينصرونه، ويبذلون في سبيل ذلك أنفسهم ونفيسهم.

    إن هذه الشبهة داحضة جداً، وإن الذين يتذرعون بها قد خدعوا في أنفسهم وضاعت منهم ديانتهم؛ فاعتدي على الدين وهو يدعوهم لنصرته فلم ينصروه.

    إذاً أقف عند هذا القدر من هذه الشبهات.

    وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755963821