إسلام ويب

الأزمات والمشكلات في العالم اليومللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من سنته تعالى أن كتب البلاء في هذه الدنيا، ونوع البلاء فيها والحكمة في ذلك عظيمة، فيبتلي الله خلقه بأنواع الأزمات والمشكلات، اقتصادية وأمنية وأخلاقية، ولكل منها مظاهر وآثار وأسباب، ينبغي أن تعيها الأمة وتسعى لعلاجها وفق منهج الله تعالى.

    1.   

    حكمة الله تعالى في الأزمات التي تصيب الناس

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فإن الناس في الحياة الدنيا يغفلون عن الله جل جلاله، وينشغلون بأمورهم، ويؤثرون أمر العاجلة على أمر الآجلة، فيذكرهم الحكيم جل جلاله بأيامه الخالية في الناس، وبأخذه الوبيل لأعدائه، وبنعمه التي لا يحصونها، وتذكيره لهم فيه مصالح كثيرة للبشرية، فهو سبب بتوبة التائبين ورجوع الآيبين إلى الله جل جلاله، وسبب للاتعاظ في هذه الحياة لعل ذلك يؤدي إلى توبة نصوح وإخلاص لله، وسبب كذلك لإصابة وإهلاك الذين يكرههم الله ويمقتهم من خلقه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين ).

    وهذه الأزمات والمشكلات التي يعيشها العالم من حولنا اليوم، وإن تنوعت تنوعاً كبيراً هي من أمر الله سبحانه وتعالى وتدبيره، وله الحكمة البالغة لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] وقد جاءت كثير من النصوص المؤذنة بكثير من المشكلات والضيق على المسلمين امتحاناً وابتلاء لهم، وبكثير من القوارع التي تصيب الكافرين أخذاً لهم فقد قال الله تعالى في شأن ابتلائه للمؤمنين: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، وفي أخذه للكفار يقول: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31].

    وهذه السنن الكونية التي يسير الله بها هذا العالم وهذا الكون كله هي من تعرفه على عباده، وهي من كمال قدرته وتدبيره ونفوذ ملكه وأمره جل شأنه؛ فلذلك لا يمكن أن ترفع إلا إذا أخذ بما أمر الله به مما يرفعها من الأسباب.

    1.   

    الأزمات الاقتصادية

    الأزمة الاقتصادية التي تعصف باقتصاد العالم القوي، وقد أكلت الأخضر واليابس، وبدأ كثير من الشركات في تسريح الموظفين، وكذلك كثير من الحكومات في العالم بدأت تشكوا العجز عن القيام بمهماتها وتدبير شئونها، والذين كانوا يفخرون على العالم بأن اقتصادهم جبار لا يهزم، تراجعوا اليوم عن ذلك فأصبحوا يعلنون الإفلاس والتراجع في كل حين، كل ذلك من النذر التي ينذر الله بها ويبينها لعباده ليتقوه.

    تحذير الكتاب والسنة من أسباب ظهور الفساد والأزمات

    وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد كثير من الأحاديث يشير إلى هذه الأزمات الاقتصادية، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قيل: من أين؟ قال: من قبل الروم )، وكذلك بين أنه سيقع بعد حصار العراق حصار الشام، وبين أنه من قبل العجم، وقد شوهد ذلك.

    ثم إن الله سبحانه وتعالى أوعد عند ظهور الفساد في البر والبحر وانتشاره بهذه الأزمات، فقد قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وبين أن هذا عام للناس كلهم، وهذا الفعل الماضي وهو (ظهر الفساد)، لا يقصد به في زمن محدد ماض، وإنما يقصد عندما يتكرر ذلك فستأتي هذه العقوبة، فيدل هذا على أنه كلما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسب أيدي الناس نبههم الله على أخطائهم لعلهم يعودون إليه ويرجعون عنها.

    وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند ابن ماجه و الحاكم في مستدركه، و أحمد في المسند، و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا وظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذه سنن ماضية بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن هذا العقاب مترتب على هذا الذنب، فمتى حصل هذا الذنب فلينتظر العقاب فإنه آن على أثره لا محالة، وهذه العقوبات الدنيوية ليست جزاء لهذه الذنوب ولذلك تصيب الكافة، فيتضرر الحيتان في البحر، ويتضرر بها الطير في الهواء والبهائم في الأرض؛ لأن العقوبة الحقيقة على الذنوب إنما هي العقوبة الأخروية، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا وعمل، وما يناله المسلم والمحسن من جراء عمله الصالح في الحياة الدنيا ليس من جزاء عمله وإنما هو من بركة عمله، وما يناله العاصي المسرف في الحياة الدنيا من الأذى ليس من عقاب عمله وجزائه، وإنما هو من شؤم سيئاته، فهذا الشؤم هو الذي يتعدى صاحبه فيتصل الضرر به إلى أهل الأرض جميعاً، فيكون الإنسان من إسرافه على نفسه أن يصل ضرره إلى غيره، فتتأثر به البهائم والصبيان وغيرهم من الذين لا مشاركة لهم في ذلك الأمر ولا رضا لهم به، لكن شؤم ذلك الذنب يصيبهم.

    أثر التعامل بالربا في حدوث الأزمة الاقتصادية

    والأزمة الاقتصادية اليوم ليست مثل الأزمات الماضية التي كانت يشكو منها الفقراء دون الأغنياء، بل قد أصبحت شكاية الأغنياء اليوم أكبر من شكاية الفقراء، فالفقراء لا يبالون كثيراً بالتضخم الاقتصادي، وإنما ينظرون إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية، ويرون أنه مشكل حقيقي يهدد سلامتهم، ولكن الأغنياء ينظرون إلى الانكماش والتراجع في النمو كله مما ينذر بخطر داهم، وسببه إنما هو هذه المعصية المنتشرة، وبالأخص في انتشار الربا، فإنه انتشر على وجه الأرض حتى لم يعد إنسان يستطيع السلامة منه، فمن لم ينل منه نال من غباره كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.

    فاقتصاد الدول الإسلامية اليوم يعصف به الربا عصفاً شديداً، ثم بعد ذلك يأتي ما يترتب على هذا الربا من المحسوبية والرشوة والفساد الإداري، وهذا منتشر في البلاد الإسلامية بدرجة كبيرة، وحدث ولا حرج عنها.

    فبعض المؤسسات الحكومية ذات النفع العام في البلاد الإسلامية تقترض قروضاً ربوية لحاجتها، فإذا اقترضتها كان الربا أضعافاً مضاعفة لأولئك التجار الكبار الهوامير، ويضاعف مضروباً في الزمن، فإذا جاءت الحكومات وكانت لها نية صادقة صالحة تريد أن تقضي أولئك التجار هذا الدين يزعمونه أنه لهم، والواقع أن الذي لهم منه هو رأس مالهم فقط، وأن ما زاد على ذلك وهو أضعاف مضاعفة إنما هي من أملاك اليتامى والفقراء والضعفة، وهذا ظلم سافر بين، وهو يخرج في صورة عدل وإنصاف، فكثير من الحكومات تفعل هذا وتفتن به أنها قضت الديون ودفعت الأموال إلى التجار الذين كانوا قد باعوا هذه السندات، أو دفعوا هذه الأموال إلى المؤسسات الحكومية، ويكون الواقع خلاف ذلك؛ لأن الذي دفعته رباً أضعافاً مضاعفة هو من أموال اليتامى والفقراء والضعفة، وقد شاهدنا هذا في بلادنا وفي بلاد أخرى من بلاد العام الإسلامي في كثير من المؤسسات، وتتكرر هذه التجربة دائماً، فلا بد أن نتوقع أن يأتي إنذار من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جل جلاله لا يمكن إلا أن يعم عدله، ولا يمكن أن يؤاخذ أقواماً فيعمل آخرون نفس العمل ولا يؤاخذهم عليه فهو الحكم العدل جل جلاله، وهو أسرع الحاسبين فلا يمكن أن يفوته شيء من خلقه يعلم السر وأخفى.

    أثر نهب المال العام في حدوث الأزمة الاقتصادية

    وكذلك ما يحصل لكثير من الذين يبسطون أيديهم على المال العام، فإنهم ينهبونه نهباً ويبددونه تبديداً، ويحابون به أوليائهم وأقاربهم، ويحابون به من بينهم وبينه معاملة، ويكونون بذلك قد أفسدوا في الأخلاق وأفسدوا في القيم بالإضافة إلى الإفساد المالي والإفساد العام في المجتمع، فإن من تعود على أخذ الرشوة فسد خلقه فأصبح عضواً فاسداً في المجتمع يستحق البتر، ومن تعود على المحسوبية وأنه يحابى ويعطى من المال العام، أو يمنح المنح والقطع الأرضية، أو يعطى ما لا يستحقه فإنه يكون مريض النفس صاحب هوى ومطامع.

    وشر الأدواء والأمراض الطمع فلا يعرف مرض في العالم أخطر ولا أضر من الطمع، والذي يعود قريبه أو من هو في فلكه على الطمع قد أعطاه داءً عضالاً وأصابه بمرض سيئ فستترتب عليه آثاره في المستقبل، ويكون الضرر به ماحقاً وسيلحق بمن حوله.

    أثر الاحتباس الحراري في حدوث الأزمات والكوارث

    ومن الأخطار العالمية العظيمة التي يتحدث عنها الناس الآن ما يتعلق بالاحتباس الحراري وارتفاع المطر، وهلاك الحرث بسبب الفيضانات التي حصلت في أماكن مختلفة كالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، وهذا كله من أمر الله جل جلاله وقد أخبر: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]، وأنه ضمن للخلائق أرزاقهم فقال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]، فما يأخذه الله من ذلك إنما يفعل ذلك لحكمة بالغة وابتلاء وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

    تأثير بعض الدول الكبرى في الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع

    والمجاعات التي تتهدد العالم اليوم، ويتصور كثير من الناس أنها ربما قضت على خلائق لا يحصرون في القارات كلها، من أسبابها التي يعول عليها في الدراسات الحديثة ما يتعلق بندرة الحبوب، وارتفاع أسعارها، فما تشهدون اليوم من ارتفاع سعر الأرز والقمح وغيرهما من الحبوب هو داء عالمي مستشر، وقد يكون من أسبابه أن بعض الدول الكبرى تريد أن يكون لها تأثير بالغ في العالم فتفسد المحاصيل عمداً لترتفع أسعار هذه المواد ويكثر الطلب عليها، وكذلك ما يتعلق بالطاقة البديلة أو الطاقة البيئية أو الآمنة كما يزعمون، وهي طاقة تستنج من الحبوب وبالأخص من القمح فتكون بديلة للنفط، وهي غير ملوثة للبيئة كما يزعمون، ويستهلك فيها من القمح أضعاف ما يستهلكه البشر والدواب، فالإنتاج الذي يحصل منها في اليوم قليل جداً بالمقارنة مع ما يستهلك فيها من الحبوب.

    موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الأزمات الاقتصادية وتعامله معها

    ولا شك أن أزمة الغذاء من الأزمات المتكررة في تاريخ البشر، ففي حديث أنس في السنن قال: ( غلا السعر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأتيناه فقلنا له: يا رسول! سعر لنا، فقال: إن الله هو الحي القيوم الخالق الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله غداً وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم يقول: ( وإني لأرجو الله غداً وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما تأتي هذه المشكلات والغلاء، يضرع إلى الله سبحانه وتعالى ويجتهد في الدعاء، ومع ذلك يبذل الأسباب فكان يشجع على الزراعة والعمل، ففي الصحيحين من حديث أنس أنه قال: ( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو يستظل به إنسان إلى كان له صدقة )، فكل هذا تشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم على عمل الخير النافع، وبالأخص ما يتعلق بالزراعة التي تسد حاجة الفقراء وتؤدي إلى رخص الأسعار وتراجعها.

    عناصر خطة يوسف عليه السلام في حل الأزمة الاقتصادية التي حدثت في عصره

    ومن المعلوم أن الحبوب لها أهميتها البالغة في اقتصاد البشر وفي معاشهم، وكانت في أيام يوسف عليه السلام أزمة في الحبوب وغلاء، وكان يوسف في السجن فرأى ملك مصر رؤيا عجيبة، رأى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ [يوسف:43] فعرض على الناس هذه الرؤيا فقالوا: أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44]، وكان فيمن حضر مجلسه أحد صاحبي السجن الذين كانوا مع يوسف عليه السلام في سجنه فإنه تعرف عليهما في السجن، وقد ذكرا له ما رأيا قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36]، فانتهز يوسف عليه الصلاة والسلام فرصة تعرفهما إليه وسؤاله فدعاهما إلى التوحيد، وقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، وبعد ذلك فسر لهما رؤياهما وعبرها، فتحقق ذلك قال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [يوسف:41]، وفعلاً قتل أحدهما وصلب فأكل الطير من رأسه ونجا الآخر وكان نديماً للملك، ولكنه لما قال له: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42] نسي ذكر الله فلم يقل: إن شاء الله، فقال: نعم أفعل، ولم يذكر الاستثناء ولم يستثن، فمضى عليه بضع سنين في نسيانه تنبيهاً من الله سبحانه وتعالى على ذلك، فلما رأى الملك هذه الرؤيا تذكر الرجل تفسير يوسف وأنه قد تحقق تماماً، فخاطب الملك والملأ معه أن يرسلوه إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن، فأتاه فقص عليه رؤيا الملك ففسرها يوسف عليه السلام بخطة استعجالية تقضي على هذه المشكلة مشكلة الغلاء ونقص الحبوب والمجاعة.

    وهذه الخطة تقوم على خمسة عناصر، قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.

    العمل الجماعي

    فالعنصر الأول هو: العمل الجماعي، فالمجاعة مشكلة جماعية، والتضخم الاقتصادي والانكماش مشكلة جماعية، فلا يمكن أن تعالج إلا بعمل جماعي وأن يهتم له الجميع فلذلك قال: تزرعون، ولم يقل: يزرع الزارعون منكم، قال: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ [يوسف:47]، فإذاً هذا الركن الأول هو العمل الجامعي لمكافحة المشكلة.

    المواصلة في العمل

    والعنصر الثاني: المواصلة وهو قوله: دَأَبًا [يوسف:47]، فلا بد من المواصلة في ذلك، فالعمل إذا كان يراد له النجاح والتقدم لا بد أن يكون مستمراً وأن يكون تراكمياً وإلا ضاع، فكثير من الخطط التي توضع لا ينظر إليها بهذه النظرة المتأنية فتضيع؛ لأن بعضها لا ينبني عليه شيء ولا يتصل بغيره، فلا يحقق المراد منه، فلذلك قال: (دأباً).

    التوفير والادخار

    ثم العنصر الثالث من عناصر الخطة: التوفير والادخار قال: فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47]، فلا بد من وسائل للادخار والتوفير، وأهمه ما توفر به الحبوب أن تترك في سنابلها، فهذه الذي يمنعها من التسوس والضياع، وهذا أهم ما يحفظها بإذن الله سبحانه وتعالى حتى من الطفيليات والأمراض ونحو ذلك.

    التقشف ونقص الاستهلاك

    ثم العنصر الرابع من هذه الخطة: هو قوله: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47]، وذلك بالعمل بالتقشف ونقص الاستهلاك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ لأنه قال: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47].

    الإدارة الراشدة الناصحة القوية الأمينة

    والعنصر الخامس من عناصر هذه الخطة: هو قوله للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، معناه الإدارة الراشدة الناصحة القوية الأمينة، فإذا حصلت هذه العناصر الخمسة أمن الناس من المجاعة ومن الهلاك.

    فقدان عناصر خطة يوسف عليه السلام في العالم الإسلامي اليوم

    واليوم نجد أن هذه العناصر الخمسة مفقودة في أغلبها في العالم الإسلامي، فلا نجد الاهتمام العام والمشاركة الشعبية، ودعوة الحكومات الناس إلى المشاركة في أمرها والقيام بمصالحها العالمة.

    وكذلك العنصر الثاني من عناصر الخطة: لا نجد أيضاً سعياً حثيثاً للاستمرار في العمل.

    وكذلك العنصر الثالث: لا نجد سعياً للتوفير والادخار.

    والعنصر الرابع: أيضاً أشد وأنكى، فالاستهلاك يزيد في كل يوم، ويجد الإنسان ولو كان رشيداً ولو كان مهتماً بشأنه يجد نفسه مجبراً على مسايرة المجتمع من حوله في الاستهلاك المرتفع في أمور هو في غنىً عنها، وانظروا إلى الاتصالات فقط، فأفقر الناس وأقلهم دخلاً ينفق يومياً في الاتصالات في الهاتف مبالغ كبيرة، كأنها أصبحت من غذائه ومن ضرورياته؛ لأن العالم من حوله يجبره على هذه الاتصالات، فهذا استهلاك يفرضه المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.

    أما العنصر الأخير وهو اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] ، فتعرفون الخلل العالمي فيه، فإن كثيراً من ولاة الأمور في البلاد الإسلامية لا يولون على الجانب المالي وما له علاقة بالإدارة وما له علاقة باقتصاد الناس، إلا من ليس مثل يوسف عليه السلام في أقل ما يقال عنه.

    فيوسف قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، فذكر وصفين:

    الوصف الأول: الأمانة، (إني حفيظ)، والوصف الثاني: العلم، صاحب تخطيط وخبرة، وهذان الوصفان قلما اجتمعا، كما قال عمر رضي الله عنه: اللهم إليك أشكو جلد الفاجر، وعجز الثقة. فكثير من الفجرة لديهم جلد، وربما كانت لديهم علوم وتخصصات نافعة، أما من كان من أهل الثقة فيفتقر إلى الهمة التي تحفزه على تعلم هذه العلوم والإبداع والبراعة فيها؛ فلذلك يندر أن يجمع هاتين الصفتين إنسان واحد كما جمعهما يوسف عليه السلام، اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

    وهذه الخطة التي وضعها يوسف عليه السلام وإن كانت تعبيراً لرؤيا إلا أنها صالحة للتطبيق في مشكلاتنا المعاصرة، فإذا أرادت أية حكومة رشيدة أن تعالج مشكلة الفقر أو مشكلة الغلاء أو مشكلة المجاعة، فلا يمكن أن تعالجها بأنفع من هذه الخطة التي وضعها الصديق يوسف عليه السلام في عناصرها الخمسة.

    1.   

    مشكلة العالم الأمنية: التطرف والإرهاب

    وكذلك من المشكلات التي يعيشها العالم اليوم المشكلات الأمنية، فهي تكاد تعصف بالعالم اليوم ولا يستطيع العالم درءها؛ لأنه اتجه في مواجهتها مواجهة لا تقضي عليها.

    ظاهرة التطرف والإرهاب واختلاف الناس في تعريفها

    فمثلاً: يتحدث الناس عن ظاهر تسمى عالمياً بظاهرة الإرهاب، وهذه الظاهرة ليس لها تعريف، فالولايات المتحدة الأمريكية التي ترفع لواء الحرب على الإرهاب، تعرفه بكثير من التعريفات، ولكن مدارها على مظاهر التدين والالتزام والخلق، والمخالفة لما عليه النظام العالمي الجديد، فنظير هذا نجده في كثير من البلدان فـفرنسا التي منها انطلق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اليوم تتدخل للطالبات في ملابسهن وتمنع المحجبات أن يغطين رءوسهن في المدارس وغيرها، مع أن هذا من حقوق الإنسان العادية الطبيعية، ولو صدر أي مرسوم بمنع استعمال الكرفتة أو بمنع استعمال أي نوع من أنواع الملابس لجعل الناس ذلك تقييداً للحريات وطعن فيها، ولاتخذوا منه كارثة كبرى، لكن تغطية الرأس يرون أنها من الإرهاب؛ لأن هذا الشكل مروع عندهم ومرعب؛ والسبب أن له صلة بالدين، فكل ما له صلة بالدين يعتبر مروعاً مرهباً، وهكذا في كثيراً من البلدان نجد تعاملاً مع هذه الظاهرة بأوجه مختلفة.

    ولو سئل أي إنسان أي وزير داخلية في العالم عن تعريف للإرهاب؟ لما استطاع أن يعرفه؛ لأنه ليس له تعريف واحد، وقد رأيت بعض الجامعات في العالم العربي حاولت حصر بعض التعاريف فجمع مائتي تعريف لظاهرة الإرهاب، وهذه التعاريف لا تشترك في شيء، فمعنى هذا أن الإرهاب هو ظاهره وهو باطنه أيضاً؛ لأنه مجهول لا يعرف ما هو.

    وهو مشكلة يعاني منها العالم؛ لأنه لا يعرفها، لكن الواقع أن التطرف حاصل في كثير من البلدان وهو موجود في مختلف الديانات، وما يروج له عالمياً أن المتطرفين دائماً من المسلمين، وأن الذين يعتدون على الناس ويهلكون الأرض والنسل ويفسدون في الأرض دائماً من المسلمين، فهذا الادعاء كاذب باطل، فالمسلمون هم أقل الناس تطرفاً وأقل الناس إضراراً، نعم يوجد فيهم متطرفون ويوجد فيهم مفسدون، لكنهم إذا ما قورنوا بديانات أخرى والأمم الأخرى والملل والنحل وجدوا أقل جميع الملل متطرفين وأقلهم مفسدين.

    أنواع التطرف والإفساد في العالم

    المتطرفون الذين ينطلقون من سوء فهم للدين هم أقل أهل الفساد إذا ما عدوا في العالم الإسلامي، فالمفسدون في المجال المالي، والمفسدون في الأخلاق، والمفسدون في الإدارة، والمفسدون في الصحافة، والمفسدون في الرأي العام، والمفسدون بالرشا وتبديد المال العالم هؤلاء لا شك أن نسبتهم أكبر بكثير في الشعوب المسلمة من المتطرفين المفسدين الذين يأخذون ذلك من فهمهم الخاطئ لبعض الأمور الدينية.

    فلماذا يركز فقط على هؤلاء ويجعلون هم أصل لهذه المشكلة ولا توجد هذه المشكلة إلا فيهم؟ لا شك أن وراء ذلك سياسة عالمية، وهي غير مجهولة فنحن نعرف أنها قائمة، وذكرنا لكثرة أنواع الفساد والتطرف من غير عوامل دينية، لا يقتضي إنكارنا لوجود تطرف ووجود فساد وراءه عوامل دينية، لكن يوجد ذلك في اليهود ويوجد في النصارى ويوجد في الملل كلها، متطرفون ينطلقون من واقع ديني.

    نماذج من التطرف الديني لغير المسلمين في العالم

    وقد عرفنا في الولايات المتحدة الأمريكية طائفة قتلت أنفسها؛ لأنها كان في ملتها واعتقادها أن الساعة ستقوم في وقت محدد، فلما جاء ذلك الوقت ولم تقم الساعة أرادت أن تقيم الساعة، فاجتمعوا فأحرقوا أنفسهم، وهذا تطرف من منظور ديني.

    ونجد نظير هذا في الهند، وفي بلاد كثيرة، في غير المسلمين كثير من المتطرفين الذين ينطلقون في تطرفهم من مفاهيم دينية خاطئة.

    فكثير من الهندوس يعتقدون أنه يجب على الهندوسي أن يضحي سنوياً بمسلم يذبحه، مثلما يضحي المسلم بشاة يوم العيد، وهذا تطرف ولكنه لا يذكر ولا ينسب إلى هذه الملة ولا يقال: إن هذه الملة متطرفة.

    ونظير ذلك ما يشتهر اليوم في رهبان الكنائس، فإنه قد شاعت فيهم اللوطية والشذوذ شيوعاً كبيراً أقرت به الكنيسة؛ لأنه أصبح يكلفها مبالغ باهظة؛ لأن القضاء يحكم على هؤلاء فتدفع الكنيسة ما يحكم به القضاء من الأموال، ولكن هذا لا يسمى تطرفاً ولا يقيم الدنيا ولا يقعدها، وهو من منظور ديني ويمارسه رجال دين.

    وهكذا التطرف اليهودي فالصهاينة الذين يهلكون الحرث والنسل ويقتلعون شجر الزيتون، ويهدمون البيوت على أهلها ويقتلون العجزة الضعفاء، يهلكون الأطفال في مدارسهم، ويستعملون كل آلات الدمار الشامل، هذا الذي يفعلونه لا تجدون من يصفه بالتطرف، وفيهم أحزاب متشددة، يصفها الصهاينة واليهود أنفسهم بأنها متشددة، لكن تشددها لا يعتبر إرهاباً ولا تطرفاً دينياً، مع أن دوافعه هي دوافع دينية في الواقع من خلال عقيدتهم، وعقائدهم فيها كثير من الحروب التي يدينون الله بها، فالنصارى يعتقدون بالحرب الكبرى التي ستأتي ويقع فيها الإثخان في الأرض وإهلاك أكثر البشرية، واليهود يعتقدون ذلك، ويعتقدون أنه سيخرج المسيح فيخرجون معه فيهلكون الناس ويكثرون القتل من دافع ديني، وهم يعتقدون ذلك اعتقاداً جازماً فيؤمنون به، لكن مع ذلك لا يعتبر هذا تطرفاً.

    سبب تطرف بعض الجماعات من المسلمين

    وما يحصل في المسلمين من التطرف عادة يكون لدى بعض ناقصي العلم، وبعض زائدي الحماس، فبعض الشباب الذين لم يدرسوا كثيراً من العلم الشرعي، ولديهم حماس وهم يرون كثيراً من الفساد المخالف للشرع الذي لا يختلف اثنان أنه مخالف للشرع، يتصرفون تصرفاً غير موزون وغير مأذون به شرعاً، وهم يجتهدون فيظنون أنه يؤدي إلى نتيجة، ويكون من ورائه خير فيخطئون ويقعون في هذه الأخطاء التي تشوه السمعة، ويقع بها الضرر عليهم وعلى مجتمعاتهم وعلى الشعوب الإسلامية كلها.

    وليس حل هذه الظاهرة وعلاجها بما يعتقده كثير من الناس أن عليهم أن يضربوا بيد من حديد وأن يقتلوا ويشردوا، فهذا لا يفيد هذه الظاهرة إلا انتشاراً وقوة، وقد جرب في كثير من بلدان العالم.

    كيفية علاج تطرف المتطرفين من المسلمين

    فالتطرف لا يمكن أن يعالج بتطرف، ولا يمكن أن يعالج إلا بالمناقشة والحوار بالتي هي أحسن، وأن تعرف منطلقات هؤلاء من أين انطلقوا؟ وعلى أي دليل اعتمدوا؟ وأين حصل لهم الفهم الخاطئ؟ ويجابون عن ذلك، فإذا كان دافعهم دافعاً دينياً فسيرجعون لا محالة؛ لأن الدين لن يأمر بهذا الفساد، والبديل عنه قائم في الدين، وإذا كان لهم دافع آخر اكتشف وعرف، فحينئذ لا ينسب ذلك للدين أصلاً، وهذا الحوار هو الحل الصحيح لكل هذه المشكلات.

    فنحن نعلم أن بعض الناس قد يدخل فيه شيطان فيدخل عليه بعض الأفكار وبعض الوساوس، كما حصل لـصبيغ في أيام عمر رضي الله عنه، فكان يناقش في كتاب الله ويجادل، فلما جلس إلى عمر وسمع كلامه عرف أنه مصاب بفتنة، فأخذ الدرة فضربه بها على رأسه، فلما سال منه دم ذهب ما كان يجده، فقال: زدني يا أمير المؤمنين! فو الله إني لأحس أن ما كنت أجده يتبخر من رأسي، فهذا علاج أمير المؤمنين رضي الله عنه لذلك.

    وعلي رضي الله عنه عندما تطرف الخوارج في أيامه وكفروه وكفروا أصحابه ومعه ثمانمائة ممن بايع تحت الشجرة وهم خير أهل الأرض، سئل عنهم: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، وقال: إن لكم علينا ثلاثاً، ألا نبدأكم بقتال ما لم تقاتلونا، وألا نمنعكم مساجدنا ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من بيت المال ما دامت أيديكم مع أيدينا.

    فهذه السياسة الإسلامية التي عبر عنها هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه، وفيها ما فيها من علاج التطرف ورده بالتي هي أحسن؛ ولذلك أرسل إليهم ابن عباس فقال له: خذهم بالسنة فإن القرآن حمال كثير الوجوه، فلما جلس إليهم ابن عباس قال: ما تنقمون من ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ننقم منه ثلاثاً: فإنه محا اسمه من الخلافة، وحكم الرجال في كتاب الله، وقاتل فلم يسب ولم يغنم، فقال: أرأيتم لو أقمت لكم الحجة على خلاف ما ترون أترجعون إليه؟ قالوا: نعم، قال: ما الأولى؟ فقالوا: إنه محا اسمه من الخلافة فليس بخليفة المسلمين؟ قال: ألا تدرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم محا اسمه من النبوة يوم الحديبية، قالوا: بلى، قال: أفينفي ذلك عنه النبوة؟ قالوا: لا، قال: هذه واحدة، فما الثانية؟ فقالوا: حكم الرجال في كتاب الله؟ فقال: أرأيتم أرنباً تقتل في الحرم أعظم أم دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بل دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم، قال: إن الله حكم الرجال في كتاب الله في أرنب تقتل في الحرم فما فوقها، فقال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95]، فقال: هذه الثانية، فما الثالثة؟ فقالوا: قاتل فلم يسب ولم يغنم، فقال: أرأيتم لو أنه وزع السبي ففي سهم أيكم ستكون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فاستنكفوا من ذلك واستكبروا منه ورأوه شيئاً عظيماً، قال: فما الفرق بينها وبين المسلمات الأخريات، فكلهن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتصلي الخمس إلى القبلة، فهي معصومة كما عصمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرجع معه أربعة آلاف وأصر ألفان على باطلهم، لكن عرف أن إصرارهم غير منطلق من فهم ولا من دين، وإنما هو منطلق من نظرة سياسية وتعصب.

    جواب عثمان رضي الله عنه عن الصلاة مع الخوارج

    وكذلك من قبل ما فعل عثمان رضي الله عنه مع الخوارج الذين حاصروه وقتلوه في الشهر الحرام والبلد الحرام مظلوماً، فإنه لما قيل له: يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة وهؤلاء إمامهم إمام بدعة وهم يصلون أفنصلي معهم وقد نزل بك ما نرى؟ فقال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم. فلم ينه عن مخالطتهم ولا الصلاة معهم، بل أمر بها فقال: الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم، وهذا غاية الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه.

    1.   

    المشكلة الأخلاقية

    كذلك أكبر المشكلات التي تعصف اليوم بالعالم المشكل الخلقي، فأخلاق الناس فسدت إلا من رحم الله، وسبب المشكل الأخلاقي أن الله سبحانه وتعالى جعل الناس على نظام اجتماعي، فالأسرة لها رب هو القائم بشئونها وهو المسئول عن أخلاقها وعن ديانتها، والمطالب بتأديب أهلها وأطرهم على الحق، وفوق ذلك في المجتمع أيضاً لا بد ممن يرعى أخلاق الناس ويهتم بديانتهم وشئونهم، وكذلك في الدولة لا بد أن يهتم الراعي بشئون الرعية ودينهم وأخلاقهم وقيمهم، فهذا النظام فطر الله البشرية عليه، فلو كان في الأسرة الواحدة ربان لا بد أن يقع فيها الاختلال كما أن العالم ليس فيه إلا رب واحد: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وهكذا في كل الشئون.

    وقد بالغت البشرية في طلب الحرية فتجاوزوا الحدود، وظنوا أن الحرية تقتضي أن لا تدخل للفرد مطلقاً في أخلاقه ودينه وقيمه وفي كل شئونه.

    وقد شاهدت في بعض المواقع الإلكترونية عندما اعتقل بعض المفسدين وذكر أنه متلبس بفاحشة اللواط أو الزنا، تدخل كثير من الكتاب الذين يكتبون في المواقع الالكترونية ويعقبون، ما قالوا هذا: من حرية الأفراد ومن حقوقهم ولهم أن يمارسوه، فالغريب في الأمر أن بعضهم يقول: والدين يدعو إلى الحرية وأن يترك هؤلاء يفعلون ما أرادوا، فهذا النوع هو الأزمة الخلقية الكبرى التي تعصف بالعالم ولا تبقي ولا تذر، فإذا كانت الحرية تقتضي أن يباح للناس الزنا واللواط وأن يباح لهم القتل والنهب والسرقة، وأن يباح لهم الاعتداء وأن يتركوا ليفعلوا ما يريدون مما حرم الله، ويدافع عن ذلك بعض الناس من واقع الحرية ومن واقع الدين، فهذا فساد كبير في الأرض لا يمكن أن يبقي ولا أن يذر شيئاً من القيم ولا من الدين ولا من الأخلاق.

    دور أولياء الأمور في غرس الأخلاق الفاضلة

    إن كثيراً من أولياء الأمور يفرطون فيمن ائتمنهم الله عليه وجعله تحت أيديهم، وهم مسئولون عنه مجزيون على ما يبذلون في سبيل تأديبه وتربيته ورعاية دينه وخلقه، فالله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فهذا خطاب لكم جميعاً خطاب للمؤمنين، فكل من ولاه الله سبحانه وتعالى على رعية ولو كانت فرداً واحداً فهو مخاطب بهذه الآية قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].

    ولو تصور الإنسان أن ولده لو اعتقل ووجه بتعذيب فإنه سيبذل قصار جهده من أجل إطلاق سراحه وتخليصه من ورطته، بل إن بعض القبائل ما زالت تتعصب لو اعتقل منها فرد لبذلت كل ما تستطيعه من أجل استخراجه من سجنه وأذاه، لكن هو عرضة الآن لعذاب الله، للتعذيب في هذه النار العظيمة التي عليها ملائكة غلاظ شداد فكيف لا يتدخلون لصالحه، وكيف لا ينقذونه من هذا العذاب؟!

    دور كل فرد في الأخذ على يد الظلمة والمفسدين وإصلاح أخلاقهم

    إن كل فرد حي على وجه الأرض يمكن أن ينقذ من عذاب الله، وإنقاذه من عذاب الله هو نصرة له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن ظلمه فإن ذلك نصره ).

    وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوماً استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )، هذا خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب مثلاً توضيحياً واضحاً جداً للقائم على حدود الله والواقع فيها، فهذه الأرض بمثابة سفينة يركبها الناس، وهم شركاء فيها، والذين يعصون الله عليها كأنما يخرقون السفينة وهي تنخر عباب الماء، فإذا غرقت السفينة هلكوا وهلك من سواهم هلك الجميع؛ فلذلك ليس الإمساك على أيديهم تدخلاً في شئونهم الداخلية وكبح لحرياتهم، وإنما هو إنقاذ لأنفسنا أولاً ثم إنقاذاً لهم هم، ولمن يشركهم في هذه السفينة المركوبة.

    فلذلك لا بد من الأخذ على أيدي الظلمة والمفسدين، وأن يمنعوا من ظلمهم وفسادهم، وإلا فإن الأمر سيزداد سوءاً، ولا يستطيع الإنسان حينئذ ترقيعه بعد أن يتسع الخرق على الراقع, وعلاج الأمور إنما يكون ما دامت قابلة للعلاج، فإذا أفرخ البيض فحينئذ لا يمكن أن يعاد كما قال عمرو بن مضاض الجرهمي:

    صاح إن ريت أو سمعت براع رد في الضرع ما قرى في الحلاب

    فلا بد من المبادرة لإصلاح القيم والأخلاق.

    أسباب الأزمة الأخلاقية اليوم

    ومن المعلوم أن هذه الأزمة من أسبابها تنوع المشارب وما يتلقى منه فالمراجع كثيرة، والفتى والفتاة في هذا المجتمع يتلقون من كثير من الجهات، فوسائل الإعلام والمدارس والشارع والموضات والأسواق كلها من مكونات الرأي العام ومن المؤثرات في الأخلاق والقيم والمفاهيم, بالإضافة إلى ما يتلقاه من تعليمه في القرآن، أو أمر أسرته له بالخير أو ما يسمعه في الدروس في المسجد، أو ما يسمعه من خطب الجمعة، فهذه أيضاً من المؤثرات في قيمه وأخلاقه بالمقابل، وكل شيء مبناه على الميزان فهو العدل دائماً كما قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، فإذا كانت متلقيات الإنسان الفاسدة أغلب في الميزان وأثقل من متلقياته الصحيحة فإنها لا شك سترجح بها وتميل، وإذا كان الوقت الذي يمكثه الشاب أو الشابة أمام التلفزيون أو أمام وسيلة إعلام أياً كانت الإنترنت أو الصحافة المرئية أو غير ذلك، أكثر من الوقت الذي يمكثه في تلقي العلم الشرعي، والوقت الذي يمكثه في المسجد للعبادة، ومجالسته لأهل الفساد أكثر من مجالسته للصالحين، وتطلعه للدنيا أكثر من تطلعه للآخرة، فلا شك أن الميزان سيرجح إلى الكفة الأخرى نسأل الله السلامة والعافية.

    أما إذا عدلت المناهج التعليمية فصلحت، فأصبح الناس يدرسون في المدارس ما يصدق ما يدرسونه في المساجد ويوافقه فحينئذ ستقع المؤازرة، وكذلك إذا صلحت وسائل الإعلام فأصبحت وسائل للتلقي للخير ولما هو نافع ومفيد فإن الناس سيجدون ما يؤازر ما يأخذونه ويساعدهم على فهم ما يتلقونه، وحينئذ لن يقع التناقض ولا الإشكال.

    أثر داء الانفصام في الشخصية على الأخلاق

    واليوم في الأزمة الأخلاقية يبتلى كثير من الناس بما يشبه الانفصام الشخصي، انفصام في الشخصية وهو داء نفسي من الأدواء النفسية التي لا علاج لها، فالإنسان يسمع أن الكذب حرام وأن الربا حرام وأن الغش حرام وأن الغيبة حرام، لكن من المؤسف أنه يسمع الذين يصدر منهم أن هذا حرام يجدهم يمارسونه، فيقع لديه انفصام، ويظن أن هذا كلام يقال، ولكنه لا يتبعه عمل، وهذا خلاف دعوة الأنبياء ومنهجهم فـشعيب عليه السلام قال: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

    عقوق الآباء والأمهات وما ينجم عنه من مشكلات وأخطار

    وكذلك من مظاهر الأزمة الخلقية، ما يتفشى من عقوق الآباء والأمهات في كثير من الأبناء والبنات، وهو مشكلة واقعية تؤدي إلى كل أنواع المشكلات، فكثير من الأرزاق إنما تمسك عن الأفراد بسبب عقوقهم لآبائهم وأمهاتهم، وكثير من الفتن في الدين تصيب الأفراد بسبب عقوقهم لآبائهم وأمهاتهم، وكثير من الفشل في الزواج وفي بناء البيوت يصيب الأفراد بسبب عقوقهم لآبائهم وأمهاتهم، وهذا العقوق هو أول مظاهر قطيعة الرحم التي قال فيها: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

    فعقوق الآباء والأمهات بالإضافة إلى مضاره الأخروية هو سبب لفساد العمل كله، فالعاق لا يتصور منه خير أبداً؛ لأنه لا يمكن أن يقنع أحداً بصفائه له، كما قال العلامة محمد مولود رحمة الله عليه:

    لا تثقن بصداقة عقق لقطعه من وصله منك أحق

    فأمن الناس عليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والداه وقد قطعاه، فهل ترجو أنت منه خيراً بعد ذلك؟ ولذلك رأى عمر رضي الله عنه رجلاً قد يبست يمينه ملوية، وكان عمر صاحب فراسة وبصيرة، فقال له: من أين جاءتك هذه المصيبة؟ فقال: دعوة أبي، فقال: وما ذاك أيها الرجل؟ قال: لقد كنت عاقاً بأبي وكان شيخاً كبيراً، فكان إذا سألنا شيئاً منعناه، وإذا أكلنا أو شربنا اختفينا منه، وجاءني يوماً يلتمس حاجة فأخذت العصا وضربته بها ولويت يده، فقال:

    وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

    وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

    فأخرجني منها لقى ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

    فاستجاب الله دعوته، فلوى يده الله الذي هو غالب، فسأله عمر : وهل أبوه كان عقاً بأبيه أيضاً؟ قال: نعم، وأبوه يقول فيه:

    وكيف أرجي النفع منه وأمه حرامية ما غرني بحرام؟

    فالبر بالآباء والأمهات يؤدي إلى أن يبر الإنسان بنوه في المستقبل، والعقوق بهما يؤدي أن يعقه أولاده في المستقبل، ولا يمكن أن يتخلف ذلك.

    خروج النساء على أمر أزواجهن وعاقبة ذلك

    وكذلك من مظاهر هذه الأزمة الخلقية ما يتعلق بخروج النساء على أمر الأزواج، وعدم طاعتهن أزواجهن خلافاً لأمر الله جل جلاله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ).

    وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الأزواج فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، فالصاحب بالجنب هو: الزوج والزوجة، فكل واحد منهما مخاطب بالإحسان إلى صاحبه وأوصاه به.

    التنازع على ملكية الأرض وأثره على فساد ذات البين

    ومن هذه المظاهر أيضاً: التفكك الأسري، فإنه ناشئ عن الأزمة الخلقية، ومثل ذلك فساد ذات البين بين الجيران، وكثيراً ما يحصل، ومن أسبابه التنازع على ملكية الأرض، وكثيراً ما يكون ذلك لأسباب تافهة، وقد حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: ( ولا تزدد في تخوم فإنك تأتي يوم القيامة وعليك سبع أرضين )، كما في حديث أميمة رضي الله عنها في مستدرك الحاكم وغيره، وقال: ( من اغتصب شبراً أرضاً طوق هو من السبع أرضين يوم القيامة )، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم ستفتتحون مصر وهي أرض يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم نسباً وصهراً، فإذا رأيت الرجلين يقتتلان على موضع لبنة فيها فاخرج منها. قال أبو ذر: فخرجت يوماً إلى السوق، فرأيت ربيعة بن شرحبيل بن حسنة يقاتل أخاه على موضع لبنة، فخرجت منها )، خرج أبو ذر إلى السوق ولم يعد إلى بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إذا رأيت الرجلين يقتتلان على موضع لبنة فاخرج منها )، ونحن نشاهد اليوم الاقتتال على موضع لبنة وعلى الأشياء التافهة من الأرض، وما هو إلا ناشئ من أزمة الأخلاق.

    فلو أن الإنسان قدر أن الذي له من الأرض في الواقع هو قبره وأنه يكفيه ولا يتعداه، وقد قال الحكيم:

    سر في البلاد وصاحب إن تنل فطناً فيها ذليلاً وجانب ضيق العطن

    ولا تبيتن فيها ألفاً وطنناً فلم يكن لك قبل القبر من وطن

    فإن وطنه الحقيقي هو قبره وهو لا يدري أين يكون؟ كما قال تعالى: مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، والأرض التي يقاتل عليها ويختلف مع جاره ومع أخيه عليها قد ملكها القرون على القرون وتداولتها الأملاك، وتداولها الناس ثم ذهبوا وبقيت وراءهم.

    الخلاف السياسي وأثره على الأخلاق

    كذلك من آثار هذه الأزمة الأخلاقية ما يحصل أيضاً من سوء الأدب في الخلاف السياسي، فمن المعلوم أن الأفراد يمكن أن يختلفوا في السياسة، وأن تختلف وجهات نظرهم؛ لأن مدار السياسة على المصالح والمفاسد، وهي أمور عقلية يتفاوت الناس فيها بحسب إدراكهم ومعلوماتهم ومعطياتهم، لكن من المفروض إذا كان ذلك بين المسلمين أن يكون بأدب واحترام، وأن يكون لقصد الحق ولطلبه، وألا يحمل الإنسان مخالفته لأخيه أن يطعن فيه وأن يصفه بما ليس فيه، وأن يكذب عليه ويبهته، فإن ذلك حرام لا محالة، وهو من أشد ما يفسد في الأرض، والظلم والطعن في الناس والبغي عليهم بغير سبب، هذا من أعظم أنواع الفساد في الأرض.

    فإذا اختلف اثنان في الرأي فلهما فيمن اختلف قبلهم أسوة صالحة، ليسا أول من اختلف، قد اختلف الناس في كثير من الأمور وفي تقدير كثير من المصالح والمفاسد، وهي في حياتهم اليومية ومع ذلك يستطيعون التغلب عليها، ولن يكتشفوا القدر ولن يعرفوا الغيب فالله تعالى يقول: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28].

    فالمختلفون في السياسة كثيراً ما يرى بعضهم ينتهز الفرصة فإذا رأى نكبة أصابت خصمه يقول: أنا كنت أعرف أن هذا سيحصل، بأنه يدعي الغيب، ولو لم تحصل هل كنت تعلم أيضاً أنها لن تحصل؟

    إن من الأخلاق والقيم التي لا بد منها أن يحرص الإنسان على الصدق في القول ولو كان في خصامه، فقد قال الله تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152]، فلا بد أن يعدل الإنسان مع خصومه، وأن يكون صادقاً في قوله حتى لو خالفهم في كثير من الأمور.

    الحرص على الدنيا وأثره على الأخلاق وأسبابه

    كذلك من آثار هذه الأزمة الخلقية، ما نشاهده من حرص على الدنيا الفانية، فكثيراً من الناس يحرصون عليها حرصاً عجيباً وهو متنوع.

    وهذا النوع من الحرص على الدنيا له أسباب: منها ما تكون بدايته معقولة، ولكن الإنسان يبالغ فيه من التجاوز في الحد، كحرص الطلاب على النجاح، فهذا حرص على الدنيا لكنه في البداية له مبررات وله أسباب ومسوغات، لكن قد يتجاوز الحد، فنجد أن بعض الطلاب يصابون بأزمات نفسية، ومشكلات حقيقية عندما يكتشفون أن أسماءهم لم تظهر في لائحة الناجحين، ولو عرفوا النتائج وعرفوا أن كثيراً من الذين يتخرجون فيأخذون الشهادات العليا كثيراً ما يموتون قبل التوظف أو يموتون في بداية الوظيفة، فنحن نعرف كثيراً من الطلاب المتفوقين الذين أخذوا شهاداتهم وجاءوا يحملون الشهادات العليا، وما وصلوا إلى الوظيفة حتى ماتوا وانتقلوا إلى الدار الآخرة، ونعرف عدداً من الذين نجحوا في الاختبارات وأخذوا الشهادات العليا وجاءوا دكاترة فتوظفوا، وفي الشهر الأول ماتوا في حوادث سير، ونعرف كثيراً من الذين نجحوا وأحرزوا كثيراً من الشهادات العليا لكنهم لم يجدوا وظيفة واشتغلوا في غير مجالهم وبغير شهاداتهم.

    فلا بد أن ينظر بنظرة اعتدال، يحرص الإنسان على النجاح، لكن حرصه عليه إنما هو لحرصه على أن يعمل هو ويبذل، لكن ما يتعلق بالقدر وما إلى الله سبحانه وتعالى من ذلك الأمر فلا بد من الاستسلام فيه دائماً، يستسلم لأمر الله وقدره، ويبذل هو الأسباب، بما لا ينهك بدنه وبما لا يضر بعقله وواجباته الأخرى، وإذا بذل هو الأسباب فهو ناجح سواء طلع اسمه على اللائحة أو لم يطلع؛ لأنه هو بذل الأسباب بذل ما عليه، كما قال تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، والقدر لا تستطيع تغييره مهما كان، لا يمكن أن تغير شيئاً من قدر الله؛ ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( بسم الله على نفسي وأهلي ومالي وديني، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي، اللهم رضني بقضائك، وبارك لي فيما قدر لي، حتى لا أحب تعجيل ما أخرته ولا تأخير ما عجلته )، فإذا أدرك الإنسان أن الخير مجهول بالنسبة إليه وأنه معلوم عند الله سبحانه وتعالى يكتب ما فيه ما أراد وهو الحكيم الخبير، وهو ذو الحكمة البالغة عرف أنه عسى أن يكره شيئاً وهو خيراً له، وعسى أن يحب شيئاً وهو شر له.

    مظهر انتهاز التجار فرصة غلاء الأسعار

    ومن مظاهر الحرص على الدنيا كذلك: أن كثيراً من التجار ينتهزون فرصة غلاء الأسعار فيحتكرون البضائع، ويريدون أن يصلوا إلى الأرباح الطائلة ما دامت الأثمان في ارتفاع، ينتهزون فرصة ارتفاع سعر البنزين، وتوقع ارتفاعه عندما تضرب إيران مثلاً فيريدون أن يستغنوا خلال شهر أو شهرين أو ثلاثة، مع أن الروح الإنسانية تقتضي منهم في مثل هذه الأوضاع أن يرخصوا وأن يقتصروا على أصل رأس المال، وألا يطلبوا الربح الآن في وقت الأزمة، وأن يتصدقوا على الناس بترخيص البضائع، فإذا حافظوا على رأس مالهم فهم رابحون، والركود العالمي الاقتصادي كله لا يطلب أحد فيه ربحاً في الواقع وفيما يعيشه الناس إلا إذا كان صاحب انتهاز يريد أن ينتفع هو وليضر غيره، ومن كان عاقلاً فإنه يعلم أن المستهلك والتاجر شريكان، فالمستهلك والمنتج شريكان، لو تعطل المستهلك ولم تبق له طاقة شرائية لا شك أن البضائع ستبقى راكدة على الرفوف لا يشتريها أحد، وبقدر الطاقة الشرائية للمواطن والمستهلك بقدر تحرك التجارة وحصول الأرباح؛ فلذلك العاقل يريد أن يقوي الطاقة الشرائية للمواطنين والمستهلكين، ويكون بذلك متعاوناً معهم على البر والتقوى، ويعلم أن الأزمات لا يمكن أن تتجاوز إلا بجهد جماعي مشترك، وبذلك يحرص على رأس ماله، ولا يحرص على طلب الربح في مثل هذه الأوقات.

    قواعد عثمان رضي الله عنه في جمع المال

    وقد سئل عثمان رضي الله عنه فقيل له: إنك هاجرت مع إخوانك المهاجرين فقراء لا تملكون شيئاً فأصبحت أغناهم فبم نلت ذلك؟ فقال: بخمس، كنت أعالج وأنمي ولا أزدري ربحاً ولا أشتري شيخاً وأجعل الرأس رأسين. خمس قواعد هي أصول جمع المال بالطرق الحكيمة العاقلة التي لا تؤدي إلى الشحناء والبغضاء وليس فيها حرص على الدنيا، وليس فيها استعمال للحرام.

    وقوله: (ولا أزدري ربحاً) قاعدة مهمة، وبالأخص في أوقات الغلاء وارتفاع الأسعار.

    إن هذه الأزمات الخانقة للعالم لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان وأن يعيش كأنه لا يشعر بها، فالعاقل لا بد أن يكون خبيراً بأهل زمانه ولا بد أن يكون مشاركاً في الحلول وأن يكون جزءاً من الحل وألا يكون جزءاً من المشكلة، فإذا فكر كل إنسان منا في الأزمات الخانقة التي تحيط به وبالعالم من حوله وتعصف بالجميع، وأراد أن يكون جزءاً من الحل، فإنه يهدى إلى ما وفقه الله له من الحلول، وبذلك يكتب له الخير ويجرى الخير على يديه، كما حصل في قصه يوسف عليه السلام: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49].

    ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا إيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاث، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755772246