إسلام ويب

وحدة المسلمينللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من مقاصد الإسلام العظمى الدعوة إلى الوحدة والاجتماع والتحذير من الفرقة والاختلاف، وقد حذر الشارع من الأسباب المؤدية إلى الخلاف والفرقة، ودعا إلى الألفة والعدل والإنصاف مع المخالف. ولا يزال اليهود والنصارى يسعون بكل ما أوتوا من خبث ودهاء في فرقة الأمة وزرع الأزمات بين دولها، والواجب التخلص من أسر الحدود الضيقة والسعي في وحدتها على نور من الله.

    1.   

    التحذير من الخلاف في القرآن الكريم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرف هذه الأمة بأن جعلها أمةً واحدة، لا يستقيم أمرها إلا بذلك، لم يرض الله سبحانه وتعالى لها التفرقة، بل جعل التفرقة قسماً من أقسام العذاب في قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

    فبين أن العذاب ثلاثة أقسام:

    قسم منزل من أعلى.

    وقسم خارج من أسفل.

    وقسم في الوسط وهو الخلافات بين الناس.

    وبين سبحانه وتعالى أن الخلاف سبب للفشل، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46].

    وبين كذلك أنه بريء من الذين يختلفون في أمر الدين، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

    وبين أن الخلاف مظهر من مظاهر الشرك بالله سبحانه وتعالى في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32].

    وبين كذلك أن الخلاف مناف لرحمة الله سبحانه وتعالى الواسعة، فقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119].

    وارتضى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الاعتصام بالدين، واجتماع الكلمة، والاعتصام بحبل الله جميعاً، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105].

    1.   

    تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الخلاف

    وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقة والخلاف، فقال في وصيته للناس التي أخرجها البخاري في الصحيح في مرض موته عليه الصلاة والسلام، قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وسمى ذلك كفراً، كما سمى سباب المسلم للمسلم فسوقاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، وكذلك في نهيه صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى الخلاف، فقال: ( هي الحالقة لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين )، وقطع كذلك أسباب الخلاف بين هذه الأمة في حياته، فلم يترك سبباً من أسباب الفتنة إلا قضى عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يعالج الفتنة أول ما تنجم بين الناس، عندما يبدأ أمرها يعالجها الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلاج النافع الناجع، فيقضي عليها كما حصل في غزوة المريسيع عندما خرجت والدة المهاجرين ووالدة الأنصار فازدحموا على الماء فاقتتلوا، فقال الأنصاري: (يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟! دعوها؛ فإنها منتنة).

    وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في وقت الظهيرة في وقت لم يكن يرتحل فيه، فواصل السير بهم بقية يومه وليلته وصبح غد حتى نزل بالظهيرة؛ ليشغل الناس بالتعب عن دائرة الفتنة.

    وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك من الذين يثيرون الفتن بين الناس، فقد ( كان يقسم الغنائم فجاء رجل فوقف عليه ثائر الرأس، ثائر الشعر، مقصر الثوب، قد بدت وجنتاه من وجهه، فقال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ابتسم: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر، فولى الرجل مدبراً، فقال: يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدكم إلى سنانه فلا يرى شيئاً، فينظر في قذذه فلا يرى شيئاً، ثم يتمارى في الفوق ).

    السهم: سنانه الحديدة التي في رأسه، لا يبقى فيها أي أثر، وقذذه: الريش الذي يشد على وسطه ليسرع في انطلاقته لا يبقى فيه أثر، ويتمارى الإنسان في الفوق وهو آخر السهم الذي يثبت في وتر القوس، هل بقي فيه أثر أم لا؟ من شدة انطلاقه حتى يخرج من الرمية، فهؤلاء لا يبقى معهم من الدين إلا كما يبقى فيما يتمارى فيه الإنسان في وجوده وعدمه في فوق السهم.

    1.   

    أسباب الفرقة والاختلاف كما في سورة الحجرات

    لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب مخصوصة من أسباب الفتن بين الله سبحانه وتعالى أكثرها في كتابه، فقد ذكر في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب الفتن، أو ردها الله سبحانه وتعالى، وحذر منها تحذيراً لا يمكن أن يرجع المؤمنون المتذكرون لتحذير الله بعده إلى هذه الأسباب، هذه الأسباب منها:

    تعدي الصلاحيات

    تعدي الصلاحيات، بأن يتجاسر الناس على الكلام على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما لم يأذن به الله، وهذا سبب للفوضى في الإفتاء، وللفوضى في العلم، فيكثر المفتون بغير علم فيضلون ويضلون الناس، وهذا الذي حذر الله منه في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

    عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم

    عدم التثبت في نقل الأخبار

    البغي والظلم والاعتداء على الناس

    ظن السوء

    ثم بين الله سبحانه وتعالى سبباً آخر من أسباب الخلاف وهو: ظن السوء، فإن كثيراً من الناس يمتلئ صدره بالحقد والشنآن على الناس بمجرد الظنون والأوهام الكاذبة التي هي من وحي الشيطان وإلقائه، وقد حذر الله من هذا النوع فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

    التجسس والنميمة

    ثم بين سبباً آخر من أسباب الخلاف وهو التجسس على الناس ونقل الأخبار على وجه الإفساد، فقال: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12].

    الغيبة

    ازدراء الناس والترفع عليهم

    ثم بين سبباً آخر من أسباب الخلاف بين الناس وهو: ازدراء بعض الناس لبعض وإعجابه بنفسه، فهذا السبب يتكبر به الإنسان على إخوانه الذين يرجعون معه إلى أصل واحد، ( فالناس جميعاً لـآدم و آدم من تراب )، ( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى )، فلذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات:11]، فالخيرية عند الله لا يمكن أن تكشف إلا عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59].

    ومن كان لا يدري هل هو خير أم الذي يزدريه ويسخر منه؟ فعليه أن لا يسخر منه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، ولاحظوا بلاغة القرآن، فإن هذه الصفة تكثر في النساء أكثر منها في الرجال؛ فلذلك بدأ بالقوم ثم ثنى بالنساء، مع أن القوم في أغلب استعمالها في اللغة تتناول الرجال والنساء كقول الله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الأنعام:66]، وإن كانت قد تطلق على الرجال دون النساء كقول زهير بن أبي سلمى :

    وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟

    فقدم هنا القوم المتناول للرجال والنساء، ثم ثنى بذكر النساء بالخصوص دلالةً على أن هذه الصفة تكثر في النساء، وهي فيهن أكثر منها في الرجال.

    التنابز بالألقاب

    ثم حذر من سبب آخر من أسباب الخلاف، وهو: التنابز بالألقاب، وهو ناشئ كذلك عن الكبر والإعجاب، فقال: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11]، واللمز هو الهمز يقع بالعين، وبطرف الشفة، وبالإصبع، والمقصود به التنبيه على ما في الإنسان من العيوب التي سترها الله سبحانه وتعالى، والتي كثير منها ليس من صنع الإنسان وإنما هو من صنع الديان سبحانه وتعالى، الذي يقول في كتابه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، ويقول: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8].

    فلذلك لا يمكن أن يعاب الإنسان بشيء خلقه الله عليه لم يشهد خلقه، ولم يشاور: هل يخلق على هذه الصورة؟ هل يخلق أبيض أو أسود؟ هل يخلق طويلاً أو قصيراً؟ هل يخلق حسناً أو دميماً؟ لم يشاور الإنسان في ذلك، بل هذا من تصرف مالك الملك سبحانه وتعالى للحكمة البالغة، وقد جعله امتحاناً للناس في هذه الدنيا، ولذلك فإن الألوان ستختلف، فيوم القيامة يحشر أهل الجنة جميعاً على قدر آدم ستين ذراعاً في السماء، وسبعة أذرع في الأرض، وأعمارهم في الثالثة والثلاثين، وهم جميعاً قد ابيضت وجوههم، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، ويحشر أهل النار -نسأل الله السلامة والعافية- في أضخم الصور، فمجلس أحدهم من النار كما بين مكة والمدينة، وأقدامهم في الأغلال كالجبال السود المتراكمة، وضرس أحدهم كجبل أحد، نسأل الله السلامة والعافية؛ وذلك ليذوقوا العذاب، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].

    وتسود وجوههم جميعاً من كان منهم أبيض الوجه ومن كان أسود، فلذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن التنابز بالألقاب، وعن اللمز والهمز.

    1.   

    خلق الناس من نفس واحدة

    ثم بين أنه سبحانه وتعالى إنما خلق الناس من بشر من نفس واحدة لحكمة بالغة، هي: ليتوحدوا فيما بينهم، فالله قادر على أن يجعل كل إنسان بمثابة آدم لم يسبقه إلا خلق ربه سبحانه وتعالى، قادر على أن يخلق البشر جميعاً من تراب دون أن يمروا بالأرحام، ودون أن يمروا بمراحل الخلق، لكنه خلقهم من نفس واحدة لهذه الحكمة، ولذلك فإنه قسم بينهم الأخلاق والأرزاق، وجعل ما يحتاج إليه بعضهم عند بعض، ولم يجعل أحداً منهم مستغنياً بنفسه عمن سواه، لا يستطيع أحد من البشر أن يستغني بنفسه عمن سواه، إذا استغنى في ملبسه يحتاج في طعامه أو شرابه أو مسكنه أو حتى في أنسه وطمأنينته، فهو محتاج إلى غيره دائماً، لا يمكن أن يستغني بنفسه في كل شئونه.

    ثم بين سبحانه وتعالى أن التفاضل إنما يتم بالتقوى؛ لأن الإنسان إنما خلق من أجل عبادة الله، وقيمته هي ما حقق مما خلق من أجله، فهذا الجهاز قيمته إنما تنشأ عما خلق من أجله وصنع فهو صنع من أجل التسجيل، فإذا لم يقم بهذه الوظيفة ولم يكن يسجل، ولا يسمع منه صوت، هل له قيمة؟ هل تشترونه بثمنه؟

    لا يشتريه أحد، فكذلك الإنسان إنما خلق من أجل عبادة الله، فإذا عطلها لم تكن له أية قيمة، ولا يشتريه أحد بأي ثمن.

    1.   

    ضرورة الوحدة للأمة

    لقد بين الله سبحانه وتعالى وحدة هذه الأمة، وأرشد إلى الحفاظ عليها في عدد من آيات كتابه، وبين كذلك أن هذه الوحدة ضرورة لا بد منها بالإضافة إلى أنها واجب شرعي كما ذكرنا من النصوص فهي ضرورة من ضرورات الأمة.

    الحاجة في نصرة الدين إلى التوحد

    يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، إن الكاف هنا ترشد إلى التعليل، فحاجة المسلمين إلى مقاتلة المشركين كافةً سببها أن المشركين يقاتلون المسلمين كافة، والصف العظيم المجتمع الكلمة، المتنظم في شئونه لا يمكن أن يقارع ويقابل إلا بمثله، فلذلك قال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76].

    وقد بين سبحانه وتعالى أن هذه الأرض سيستمر فيها الصراع بين الحق والباطل، وأنه لو توقف لحظةً واحدةً لفسدت، فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251]، أي: لولا هذا الدفاع على هذه الأرض بين أهل الحق وأهل الباطل لفسدت، فلو تغلب الحق وشمل الأرض كلها بحيث لم يبق عليها أي فساد لأذهب الله الناس؛ لأن حكمة امتحانهم قد انتهت، حكمة الامتحان هي مقارعة الباطل بالحق، فلو تمحض الحق على الأرض لانتهت الدنيا؛ لأن الامتحان قد عرفت نتيجته، ولو تمحض الباطل على الأرض لكان الفساد أشد وأنكأ، فلذلك احتاجت الأرض إلى وجود هذا الصراع المستمر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحكمة فيما أخرج مسلم في الصحيح في قوله: ( والذي نفس محمد بيده لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب الله بكم، ثم لأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ).

    فالأرض محتاجة إلى أن يستمر عليها هذا الصراع، وإذا تمحض أحد الطرفين ورجحت إحدى الكفتين واستقلت بذلك فهذه نهاية الدنيا، عندما تمتلئ الأرض عدلاً، أو عندما يتمحض الباطل ولا يقف في وجهه أحد فالدنيا قد انتهت حينئذ.

    لذلك أرشدنا الله سبحانه وتعالى في الدعوة إليه، وفي نصرة دينه بالتوحد، فقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2].

    وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ [التوبة:71].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، ومعنى (ثبات): جماعات وهي جمع ثبت والثبت الجماعة، وقال: (أو انفروا جميعاً)، ولم يقل: انفروا فرادى.

    وقال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، ولم يسند هذه المهمة إلى فرد.

    حاجة الرسل إلى الأتباع والأعوان

    كذلك قال سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ولم يقل: أنا وحدي، فلذلك لا بد للرسل من أعوان؛ لأن الله جعل لهم أعداءً وهم شياطين الإنس والجن، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]، فلا بد أن يكون للرسل أنصار وأعوان كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف:14].

    فلا بد أن يكون للرسل أنصار، وبالأخص إذا عرفنا أن عداوة الناس للرسل ليست ناشئةً عن ذواتهم، ولا عن أخلاقهم، ولا عن خلقهم، هل تظنون أن عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على أساس ذاته أو نسبه أو خلقه أو خلقه؟ أبداً، فهو أوسط الناس نسباً هو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن قصي بن كلاب ، وأم أبيه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن عبد الله بن مخزوم بن يقظة بن مرة ، وأم أمه برة بنت عبد العزى بن قصي بن كلاب ، فهو أوسط الناس نسباً، وقد اختاره الله من ذرية آدم اختياراً.

    كذلك في خلقه، فقد أوتي الحسن كله، هو أحسن الناس خلقاً.

    كذلك في خلقه، فقد كان خلقه القرآن ويكفينا هذا، ولذلك قال للأعراب يوم أوطاس حين ألجئوه إلى شجرة فأمسكت رداءه، قال: ( إليكم عني، فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً ولا كذاباً ولا بخيلاً )، إنهم لم يقاتلوه على أساس شيء من هذه الأوصاف، إنما قاتلوه على أساس الدين الذي جاء به، فهذا سر الخلاف، قبل أن يأتيهم بالدين كانوا يلقبونه المأمون، وكان أعز فتىً فيهم، وكانوا يحبونه جميعاً، ولا يضعون أماناتهم وأموالهم إلا عنده في بيته؛ ولهذا أقام الله عليهم الحجة في قوله في سورة يونس: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [يونس:16]، فقد كان لبث فيهم عمراً من قبله ولم ينقدوه بأي نقد، وإنما جاءت عداوتهم له حين خصه الله من بينهم بأن أرسله بالحق، فصدع بالحق ولم يخف في الله لومة لائم، فكان ذلك سبباً لعداوة الناس له.

    إن هذه العداوة مستمرة الآن، فنحن الآن لم نفقد إلا شخص النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، فالدين كما شرع، والقرآن كما أنزل، والسنة كما تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خلاف إلا على أساس هذا الدين، وهذا الدين باق كما كان، فكل يوم من أيامنا هذه هو يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، ويوم الفتح، ويوم خيبر.. وغير ذلك، بخلاف ما يتوهمه كثير من الناس الذين يظنون أن المعركة قد حسمت، وأن أيام النبي صلى الله عليه وسلم هي فقط الأيام التي كانت في حياته، وهؤلاء جهلوا أن الله وعده بفتح كنوز كسرى وقيصر وإنفاقهما في سبيل الله، ولم يقع ذلك في أيام قتاله في حياته، إنما كان بعد موته، فدل هذا على أن أيام أمته هي أيام له صلى الله عليه وسلم، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم: أن الله نصره بالرعب مسيرة شهر، وأنه ترك ذلك الرعب لأمته، فهذا الرعب باق لأمته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحرب قائمة، وهي حرب على الدين ليست على شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك من رأى هذه الحرب اليوم فكأنما يرى الناس يرجمون النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة، أو يرمونه بالسهام، أو يقاتلونه بالسيوف وهو متفرج جالس ليس له دفع ولا رد، هل يرضى بذلك مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر؟ لا يرضى به أحد، فلذلك علينا جميعاً أن ننصر رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن نقوم بالحق لله سبحانه وتعالى، وأن نتوحد على منهجه، فإن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا.

    1.   

    الخلاف في الاجتهادات

    إن الخلاف في الاجتهادات إذا لم يكن معه اتباع هوىً ولا تعصب أمر مقبول في الشرع، وليس متوعداً عليه بذنب، وهذه الأمة المحمدية قد تقبلته فاختلف أئمتها المجتهدون، واختلف قبلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون، فلم يؤد ذلك إلى تعصب، ولم يؤد إلى اتباع هوىً، بل كان كل إنسان منهم يرى أنه يجب عليه إعمال اجتهاده، فما رآه حقاً تبعه، دون أن يحتكر الحق، ودون أن يجزم بأن ما معه هو الحق.

    من أقوال أئمة المذاهب في الخلاف

    وانظروا إلى قول الشافعي رحمه الله: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

    وكذلك انظروا إلى قول مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.

    وانظروا كذلك إلى قول أبي حنيفة رحمه الله: إذا جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه فعلى الرأس والعين، فإن لم يبق إلا عبيدة و زر بن حبيش و إبراهيم النخعي فهم رجال ونحن رجال.

    يقصد هنا أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله لا يمكن أن يخالفها مسلم، وكذلك أقوال أصحابه المعدلين بتعديل الله، الذين وعدهم الله الحسنى، لكن التابعين أصحاب اجتهاد، فإذا اجتهدوا، فليس أبو حنيفة ملزماً بأن يتبع رأي أحدهم إذا لم يبق إلا عبيدة السلماني و زر بن حبيش و إبراهيم النخعي ، فهم رجال ونحن رجال، ولم يؤد هذا إلى تعصب بين الأمة في عصر المجتهدين، بل كانوا في غاية ما يكونون من الانسجام والمحبة.

    أمثلة على عدم تعصب العلماء في الخلاف السائغ

    عندما تزوجت ابنة مالك رحمه الله أرسل إليه الليث بن سعد من مصر إلى المدينة حمولة خمسين بعيراً من الشورة وهي المتاع، وقد اختلفا في كثير من المسائل الاجتهادية، ورسائلهما مشهورة متداولة بين الناس.

    وكذلك عندما كان أبو يوسف صاحب أبي حنيفة يقرر أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل قال: إن الجرح إذا سال منه دم أو صديد فتفاحش انتقض الوضوء بذلك سواءً كان في ساق الإنسان أو في غيره، ويقصد بذلك أن خروج النجس من أحد السبيلين علة قاصرة؛ لعدم تجاوزها للمحل، فلا تصلح للتعليل عند الحنفية والحنابلة. والمالكية والشافعية يرون صلاحية العلة القاصرة للتعليل، فلذلك رأوا أن خروج النجس من أحد السبيلين هو الناقض. وكذلك رأوا أن الثمنية أو الغلبة في الثمنية هي علة الربا في النقدين، وهذه علة قاصرة، فلما قرر ذلك أبو يوسف قال له رجل: أرأيت إن صليت وراء إماء فرأيت الدم يسيل من ساقه، أأعيد الصلاة أو أقطع الصلاة؟ قال: سبحان الله! ألا تصلي خلف مالك ؟

    كذلك قال أحمد بن حنبل عندما أتاه رجل فسأله عن الطلاق المعلق أيمضي على صاحبه؟ قال: لا، لا طلاق للإنسان ولا عتاق إلا فيما يملك، فقال: أرأيت من أتى المدنيين فأفتوه بخلاف ما تقول أيسمع لهم؟ فقال: سبحان الله! ألا تأخذ بقول مالك ؟ واستغرب ذلك، إنه كان بينهم من الانسجام والإخاء والمحبة والمودة الشيء الكثير، حتى إن الشافعي رحمه الله كان يرجع عن كثير من أقواله إلى أقوال بعض طلابه من أهل الحديث، وقال لـأحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين : أنتم الصيادلة ونحن الأطباء، فصححوا لنا الحديث ونحن نستنبط منه.

    وكذلك فإن مالكاً رحمه الله رجع إلى قول عبد الله بن وهب وهو أحد تلامذته ولا يمكن أن يساوي شيئاً من علم مالك ولا من منزلته بين الأمة، لكنه عندما روى ما لم يبلغ مالكاً لم يجد مالك نفسه إلا مضطراً للرجوع إلى قوله، فقد سئل مالك عن تخليل الأصابع في الوضوء فقال: لا أعلم فيه شيئاً، فلما انفض المجلس قال له عبد الله بن وهب : حدثني محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه، عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابعه )، فرجع مالك إلى قول ابن وهب ، فلما اجتمعت الحلقة قال مالك : كنت بالأمس أخبرتكم أني لا علم لي في تخليل الأصابع، فقد حدثني عبد الله بن وهب ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه، عن أبي هريرة .. وساق الحديث.

    وهذا الذي أورثوه من جاء بعدهم من الأئمة المجتهدين في كل زمان، فكلما اتسع حظ الإنسان من العلم، وازداد نصيبه منه كلما اتسع صدره للخلافات الاجتهادية، وكلما قبل أقوال إخوانه، وكلما لم يحتكر الحق على نفسه.

    كان ابن عرفة -وهو من أئمة المالكية رحمه الله- يدرس في جامع عقبة بن نافع بالقيروان، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وآلى من نسائه، وظاهر من نسائه، فانفضت الحلقة فبقي شاب ليس في وجهه شعرة جالساً في مجلسه، فقال: ما حاجتك؟ قال: أيها الشيخ! حدثتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق، وقد صح ذلك عنه، وحدثتنا أنه آلى من نسائه وقد صح ذلك عنه، وحدثتنا أنه ظاهر من نسائه، وكيف وقد قال الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً [المجادلة:2]؟ فقال: إذاً أنت الفتى ابن مرزوق ؟ فقال: نعم، فلما رجع كل إنسان إلى مكانه من الحلقة في اليوم اللاحق قال ابن عرفة : كنت بالأمس حدثتكم أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وقد صدقت، وحدثتكم أنه آلى من نسائه وقد صدقت، وحدثتكم أنه ظاهر من نسائه وقد كذبت، وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً [المجادلة:2]، إنما تعلمتها من هذا الفتى الجالس وأشار إلى ابن مرزوق .

    فهذا لا يمكن أن ينقص منزلته، ولا أن ينقص علمه، ولا أن ينقص ثقة الناس به، بل هذا مما يزيد الثقة بالإنسان الذي يرجع إلى الحق، ولذلك كتب عمر في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

    وقد قال العلامة محمود بابا رحمه الله:

    ليس من أخطأ الصواب بمخط إن يؤب لا ولا عليه ملامة

    إنما المخطئ المسيء من إذا ما ظهر الحق لج يحمي كلامه

    حسنات الرجوع تذهب عنه سيئات الخطأ وتنفي الملامة

    تسويغ الشرع للخلاف في دائرة الاجتهاد

    شرعنا الطاهر يسمح بالخلاف في دائرة الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد أمر تعبدي تعبد الله به عباده، ولو شاء الله لأنزل النصوص كالنصوص القانونية مرقمةً بالمواد، ولكنه لم يشأ ذلك، وإنما أنزل هذه النصوص مختلفة الدلالات والأنواع، فجعل منها واضح الدلالة الذي لا يمكن أن يختلف في فهمه اثنان، وجعل منها خفي الدلالة الذي يلتبس شأنه إلا على الراسخين في العلم، وجعل منها المشكل الذي لا يمكن إزالة إشكاله إلا بنص آخر، وجعل منها المجمل الذي لا يمكن بيانه إلا عن طريق الاستنباط والعقل، كل ذلك بحكمة الله البالغة، فلهذا نعلم أن الله قد جعل في الشرع مكاناً للاجتهاد وإعمال العقول، وأرشد إلى ذلك وأمر به في قوله سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر ).

    وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه خصم -أي: رجلان يختصمان- فأمرني أن أقضي بينهما، فقلت: يا رسول الله! كيف أقضي بينهما في مجلسك؟ فقال: إن أصبت أقررتك، وإن أخطأت بينت لك، فقضيت بينهما ).

    وكذلك قضى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النفر الذين أسقطوا رجلاً على أسد في زبية باليمن، فرفع قضاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، وأصل ذلك من هدي الأنبياء السابقين قصة داود و سليمان ، فإن داود عليه السلام كما في حديث ابن مسعود في مستدرك الحاكم وغيره: (أتتهم امرأتان تختصمان في ولد لهما كانتا خارج قريتهما، وكل واحدة منهما معها ولدها، فجاء قوم فقتلوا ولد أحد المرأتين، وأعطوه كلباً، فقالت الأخرى: إنما قتلوا ولدك، فاختصمتا على الولد، فنقلت القضية إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا فمرتا بـسليمان فقال: كيف قضى بينكما؟ فقالتا: قضى به للكبرى، فقال: ليس القضاء على ما قضى، ولكن ائتوني بسكين فلأقسمنه بينكما، فرضيت الكبرى بذلك، فلما رأى رضاها بقسم الولد بينها وبين الأخرى حكم به للصغرى، فأقر داود قضاءه).

    ومثل ذلك حكمهما في الغنم التي نفشت في حرث القوم في آية الأنبياء.

    1.   

    أسباب الخلاف الداخلية

    من كل هذا نعلم أن الخلافات الاجتهادية ليست هي سبب التعصب ولا التناحر الحاصل بين الأمة، إنما السبب سببان: سبب داخلي، وسبب خارجي.

    اتباع الهوى

    أما السبب الداخلي فأعظمه اتباع الهوى، فإن الناس إذا اتبعوا الهوى جعلوه معبوداً من دون الله سبحانه وتعالى، ولم يرض أحد أن يتنازل عن رأيه لرأي آخر بالغاً ما بلغ، وكان ذلك داعياً إلى التعصب المقيت الذي كثيراً ما يؤدي إلى الحروب والشحناء، فيكون ذلك سبباً لحبس الرحمة والمغفرة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يغفر لكل مؤمن ومؤمنة يوم الإثنين ويوم الخميس، إلا رجلين بينهما شحناء، فيقال: أركوا هذين حتى يفيئا )، وفي رواية: ( أرجوا هذين حتى يصطلحا )، أي: أخروا هذين حتى يصطلحا، فتحبس عنهم المغفرة والرحمة حتى يصطلحا، ومن حبست عنه الرحمة والمغفرة كان ذلك سبباً لتماديه في الخلاف.

    عدم اتساع الصدر لرأي الطرف الآخر

    ثم من أسباب الخلاف كذلك: عدم اتساع الصدر لرأي الطرف الآخر، بل عدم الاستعداد لسماعه أصلاً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يمدح أحداً بالإعراض عن السماع، بل ذم المشركين والمنافقين بالإعراض عن سماع الحق، وامتدح المؤمنين بالسماع، فقال: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18]، فهم أولاً يستمعون، ثم بعد ذلك لا بد أن يميزوا بين ما هو حسن وما هو قبيح، فيأخذوا ما كان حسناً فيتبعونه، ويدعوا ما كان قبيحاً وينبذونه، فلذلك قال: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18].

    سوء الخلق والتجبر على عباد الله

    كذلك من أسباب الاختلاف: سوء الخلق، والتجبر على عباد الله، فهو سبب من أسباب الشحناء والبغضاء، ولهذا قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].

    إن لين الجانب سبب لاجتماع الكلمة، ولذلك جاء رجل من الخوارج إلى علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! ما لك اختلف الناس عليك وعلى عثمان ، واتفقوا على أبي بكر و عمر ؟ فقال: اتفق الناس على أبي بكر و عمر حين كان الناس أنا و عثمان ، واختلف الناس علي وعلى عثمان حين كان الناس أنت ونظراؤك. فأصحاب التعصب والكبرياء والجبروت هم الذين يؤدون إلى الخلاف، ويشقون العصا، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83].

    وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج : أن رجلاً أتى عطاء بن أبي رباح ، فقال: يا عطاء! إنه يكون في مجلسك أنواع الناس، وإني أكلمهم فأقسو عليهم ولا أراك تفعل ذلك. ويقصد بأنواع الناس من كان في زمانه من الخوارج والشيعة وأهل السنة وغيرهم. فقال: إني سمعت قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83]، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني.

    إن الله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى القول الحسن، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله كتبه على كل شيء، ففي حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ).

    إزالة الإنصاف والعدل لأسباب الخلاف

    إن الإنصاف والعدل قاطع لهذا النوع من أسباب الخلاف، وقد أمر الله بالإنصاف والعدل حتى مع أعداء الله وأعداء رسوله من المشركين، فقال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وقال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2].

    وقد بين الله سبحانه وتعالى في أساليب الجدال للمشركين أمراً عجيباً جداً من العدل والإنصاف، استمعوا إلى قول الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، إن هذا وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوله للوليد بن المغيرة ، و العاص بن وائل ، ومن كان من نظرائهم من المستهزئين، يقول لهم: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، هذا غاية الإنصاف والعدل.

    واذكروا كذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى صاف بن صياد -كما في الصحيحين- وهو غلام من اليهود ولد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فزعم الناس أنه الدجال ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليه ليكتشف أمره، فكان يتستر له بجذوع النخل وهو على فراش له له همهمة أو غمغمة، فرأتهم أمه فقالت: (أي صاف محمد وأصحابه، فجلس وسكت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركته بُيِّن، فأتاه فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال صاف : نعم، فقال صاف للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أنت أني رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسله )، هذا غاية في الإنصاف والعدل، لم يرد تنفير القلوب من أول وهلة، بل قال: ( آمنت بالله ورسوله )، وهذا ما أرشد الله إليه أيضاً في جدال أهل الكتاب حيث قال: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46].

    وقد صح كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون ).

    إن هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين أوحى الله إليه في كتابه أنهم شر من دود العذرة ومن فيروس السِدى ومن غيرها من الخلائق، فجعلهم شر ما خلق الله من الخلائق، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، ومع ذلك قال: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ).

    الجدال بالتي هي أحسن ودوره في القضاء على أسباب الخلاف

    كذلك في جدال المشركين شرع الله أن يكون ذلك بالتي هي أحسن، فقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148].

    ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم في مجادلته للمشركين كان يقول لـعتبة بن ربيعة : ( اسمع أبا الوليد ويتلطف به )، فيكنيه بكنيته، ويتلطف به لعل الله يهديه على يديه، ولهذا وصفه الله بهذا في قوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، لاحظوا أن هذه الآية تتضمن خمس صفات من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاث منها لجميع الخلائق تشمل المؤمن والكافر، واثنتان للمؤمنين فقط، فالثلاث الأولى قوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، فهو من البشر ليس ملكاً ولا جنياً ولا نوعاً آخراً من الخلق، حتى ينفر الناس منه بل هو من البشر؛ ولذلك في القراءة الأخرى: (لقد جاءكم رسول من أنفَسِكم) أي: من أعلاكم نسباً وحسباً، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128]، أي: يشق عليه عنت البشرية، فهو ساع للتخفيف دائماً، عندما فرض الله عليه خمسين صلاةً لم يزل يتردد بين موسى وربه ويسأل ربه التخفيف، وعندما أنزل عليه: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، قال لأصحابه: قولوا: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فهو حريص على كل تخفيف على هذه الأمة، وشديد عليه عنتها.

    ثم قال: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة:128]، فهو حريص على هداية الناس أجمعين، حريص على المؤمن، وحريص على الكافر، حريص على المشرك، حريص على اليهودي، على النصراني، يريد هداية الجميع، ولذلك بين هذا في قوله في الصحيحين: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار ).

    وقال: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى )، وقام ليلةً كاملةً بآية واحدة وهي قول الله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، فهذا من حرصه على الأمة جميعاً أمة الدعوة.

    ثم بين ما يختص من صفاته بالمؤمنين فقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فرأفته ورحمته تختصان بالمؤمنين، أما الكفرة فهو حريص على هدايتهم، أما إذا يئس منهم فليس لهم إلا الشدة والغلظة كما قال الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم:9].

    وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، فرحمته ورأفته للمؤمنين فقط، ولهذا قال أهل العلم: إن مما يميز أهل الأهواء عمن سواهم: أن أهل الأهواء يتشددون على أهل الخير، ويتساهلون مع أهل الشر. أهل الأهواء طبيعتهم التشدد مع أهل الخير، من يتفق معهم في أكثر مبادئهم، ولا يخالفهم في الأصول العقدية، ولا يخالفهم في كثير من أمور الدين يتشددون عليه إذا رأوا خطأه في مسألة يمكن أن يكون مصيباً فيها.

    وأهل الباطل يتساهلون معهم، ويلتمسون لهم الأعذار، ولذلك فإن الخوارج حين مروا بدجلة نزلوا على

    عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنهما فامتحنوه فقالوا: ما تقول في أبي بكر و عمر ؟ فأثنى خيراً، فقالوا: فما تقول في عثمان ست سنين وفي علي قبل التحكيم؟ فأثنى خيراً، فقالوا: وما تقول في عثمان ست سنين الأخيرة وفي علي بعد التحكيم؟ فأثنى خيراً كذلك، فأضجعوه على النهر وذبحوه حتى اعترض دمه فوق النهر، حتى وصل إلى الضفة الأخرى، ثم جلسوا يختصمون في أمرهم في ظل نخلة لرجل يهودي، فقال لهم أحدهم: إنكم قد اعتديتم على هذا اليهودي فأخذتم ظل نخلته دون مقابل، فادفعوا إليه ثمن ظل نخلته، فدعوه فعرضوا عليه الثمن فقال: عجباً لقوم يستحلون قتل عبد الله بن خباب ذبحاً، ويتورعون عن ظل نخلة لرجل يهودي!.

    إننا نشاهد هذا اليوم مع الأسف في كثير من الدعاة الذين لا شك في أن قصدهم الحق، لكنهم يخطئون فيقعون في بعض مناهج أهل الأهواء، عندما يتشددون مع أهل الحق، ويتساهلون مع أهل الباطل، تجد بعضهم يلتمس الأعذار للظلمة بل للكفرة في بعض الأحيان من حكام بعض البلدان الإسلامية الذين حكموا على أنفسهم بالكفر قبل أن يحكموا عليهم من سواهم، أو على الأقل بالفسق والطغيان، فيتساهلون معهم، ويلتمسون لهم الأعذار، وفي المقابل يتشددون مع علماء الملة ودعاة الحق، وإذا خالفوهم في جزئية أو جزئيات اجتهادية قابلة للصواب والخطأ جعلوا من الحبة قبةً، وأعظموا هذا الأمر وأكبروه، إن هذا من أدلة أهل الأهواء كما نص على ذلك أهل العلم.

    ارتباط المصالح بواقع معين

    كذلك فإن من أسباب الخلاف الداخلية في الأمة: أن كثيراً من الناس ترتبط مصالحه بواقع معين، فيسعى لأن يستمر هذا الواقع كما كان؛ لأن مصلحته مرتبطة به، فإذا كان الواقع مبنياً على فساد، على انحراف، على بدع، على ظلم، لا يريد تغييره بل يريد التمسك به؛ لأنه قد أخذ مكانه فيه فأصبح من الملأ المنظور إليهم أهل التمكن، ولو تغير الواقع وأخذ القوس باريها وعادت الأمور إلى مجاريها لفقد هو بعض مصالحه فلذلك يحافظ على الواقع الفاسد، فيكون سبباً للخلاف، والمشكلة أن كثيراً من هؤلاء أيضاً يفعلون ذلك من غير قصد سيئ، فكثير من كبار السن يتعصبون على أمور هي من الواقع الذي يعيشونه، وليس لهم بها كبير اتصال، ليس بينهم وبينها نسب في الواقع، ولكنهم يتعصبون لها؛ لأنها مرتبطة بهذا الواقع الذي لهم فيه مصالح، فلا يريدون تغيير أي شيء فيه، ولو راجعوا أنفسهم لعلموا أن صلاح المجتمع خير لهم، وأن ما يجنونه من صلاح المجتمع خير مما يجنونه من فساده.

    ومن أعجب ما رأيت في هذا أن شيخاً كبيراً جاء يحمل نسعاً معه إلى المدينة حين سمع أن أحد أولاده خرج مع جماعة الدعوة والتبليغ يريد أن يوثقه، وأن يرده إلى البيت؛ لأنه يزعم أنه مجنون، فقيل له في ذلك، فقال: إنه قد تصرف تصرفاً غير معهود ولم أجده من قبل ولا أدركت عليه آبائي، فقيل له: إنه كان يتعاطى الربا، ويأكله، وكان يقصر في فرائض الله ولم يكن يشهد الصلاة في المسجد، ولم يكن براً بوالديه، وكان مقاطعاً لهما، هل أدركت والديك على ذلك؟ فقال: لا، ثم رجع إلى نفسه وفكر هل حال ولده السابقة خير أم حاله اللاحقة؟

    إن هذا النوع إنما هو من العجلة والخفة، فلو أن الإنسان فكر وتدبر ملياً لعلم أن صلاح المجتمع خير من فساده على كل حال، وأن المجتمع الفاسد لا يأمن فيه الإنسان على نفسه، ولا على دينه، ولا على ماله، ولا على حرمه، وأن المجتمع الصالح أمان للإنسان في دينه وفي دنياه، فكيف لا يسعى الناس لإصلاح هذه المجتمعات الفاسدة؟

    1.   

    أسباب الخلاف الخارجية

    تحريض الشيطان وخطواته

    إن من أسباب الخلاف الخارجية كذلك: ما هو من عمل الشيطان، فالشيطان لا يرتضي لهذه المجتمعات إلا الفساد، ولذلك يسعى دائماً لإغواء الناس، وقد أقسم يميناً مؤكدةً بين يدي الله سبحانه وتعالى ليغوين أكثر الناس، وقد فعل فأعمل لذلك جميع حيله، ومن حيله: التحريش بين الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم، ولكن بالتحريش بينهم )، فيسعى للتحريش بين الناس لعله يجد مدخلاً يدخل به إلى القلوب، وإذا حصل التحريش فإنه في البداية سيكون بالكلام ثم سرعان ما يصل إلى القذف والسباب المحرم، ثم سرعان ما يصل بعد ذلك إلى سفك الدماء، وحينئذ قد اعتدي على الدين في صميمه وبيضته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً )، ولاحظوا أن الغارات القبلية التي كانت في بلادنا هذه هي من عمل الشيطان الواضح البارز، تقتتل قبيلتان يجمعهما نسب واحد وجوار وحسن معاملة على أساس مجرد الادعاء لانتساب قطعة أرض إلى هذه القبيلة أو تلك، وهذه الأرض ليس لها أية فائدة، ليست أرضاً زراعيةً، وليس فيها معادن، وليس فيها نفط ولا غير ذلك، وتستمر الحروب فيها زماناً يشتغل به الحلماء قبل السفهاء، وهذا من عجائب كيد الشيطان العجيبة جداً، ولذلك يقول أحد قضاة البلد: إن الشيطان قد خرف فأصبح مشتغلاً بتخليط الأرض بيديه، فلذلك يخلطها بين الناس حتى يختلفوا.

    إشعال الحروب لأمور تافهة

    كذلك فإن له وسائل أخرى لإغواء الناس بالحروب فيما بينهم بأمور تافهة، من ذلك ما يتعلق باستقصاء الحقوق، والازدياد منها، فإنه كثيراً ما تنشأ حروب بين الناس على أساس حق كان بالإمكان أن يرجع فيه إلى حكم الله ورسوله فيفصل وينتهي الأمر، ولذلك فإن الذين يرضون بحكم الله ورسوله في مثل هذا الأمر هم المستسلمون للحق، وهم الذين يعصمون من هذه الفتن.

    جاء رجل إلى مروان وهو قاضي المدينة فرفع عنده قضيةً على علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إنه قد غصب داري التي بنيتها في مكان كذا وكذا، فدعاه مروان فقال: إن أخاك هذا يدعي عليك أنك غصبت داره التي في مكان كذا وكذا، وهي دار لـعلي بن الحسين ، فقال علي : إن كانت له فليأخذها وإن كانت لي فهي له، وخرج من هذه الخصومة.

    وقد قال مالك رحمه الله: المخاصم رجل سوء، وقال: كفى بك ظالماً ألا تزال مخاصماً.

    وقد حذر أهل العلم من اتباع خطوات الشيطان في الخصام، وبينوا أن الخصام ينشأ في البداية من الشرر الخفيف، ثم يأتي معظم النار من ذلك الشرر المستصغر.

    الطعن في الأنساب

    كذلك من وسائل الشيطان لإثارة النعرة والخلاف بين الناس ما يتعلق بالطعن في الأنساب، فهو أمر منتشر في هذه الأمة، بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أمر الجاهلية، وأنه سيبقى في هذه الأمة، وهو إلى الآن باق، مع أن الأمر ميسور فالناس جميعاً لـآدم و آدم من تراب، وحتى لو ثبت انتساب فلان من الناس لأصل شريف، فإذا لم يثبت هو ذلك بالتقوى والورع فلا فائدة في هذا النسب؛ لأن النسب منقطع بمجرد النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104].

    دور اليهود في اختلاف المسلمين

    كذلك من الأسباب الخارجية لحصول الخلاف بين الأمة: فعل أعداء الأمة الذين لا ينعمون بالاً، ولا يقرون عيناً باتفاق شأن هذه الأمة وكلمتها، بل ينطلقون من مبدئهم المعروف: (فرق تسد)، فيسعون لتفريق هذه الأمة، وكل ما استطاعوا من ذلك بادروا إليه. في الصدر الأول عرف اليهود عليهم لعائن الله أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة قوية بتماسكها، ووحدتها، فأرادوا أن يشتتوا شملها وأن يفرقوا كلمتها، فحاولوا الاتصال بالمنافقين من الذين أعلنوا إسلامهم في الظاهر، وأبطنوا كفرهم، فكان اليهود يملون عليهم بالدسائس والمخازي، فهم الذين اصطنعوا لهم قضية الإفك الباطلة، وهم الذين أنشئوا فتنة قتل عثمان رضي الله عنه، وهم الذين أنشئوا فتنة الجمل للمطالبة بدم عثمان كذلك، وهم الذين أنشئوا فتنة صفين التي مات فيها ستة عشر ألفاً من المسلمين في أيام الصحابة، ولم يزالوا ساعين للفتنة.

    بل من عجائب ما فعلوه أن رجلاً من اليهود كان يملك نخلاً بالكوفة فجاء إلى علي رضي الله عنه فشكا إليه أن لصاً يأتي نخله فيسرق ثمرته، ثم ذهب إلى محمد بن الحنفية ولد علي فشكا إليه أن اللص يأتي فيسرق ثمرة نخله، وأتى بـعلي من جهة وأتى بـمحمد من جهة، يريد أن يظن علي أن محمداً هو اللص فيقتله، أو يظن محمد أن علياً هو اللص فيقتله، فعرف علي حيلة اليهودي وفهمها فدعاه فسأله بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل أراد هذا، فأقر أنه إنما أراد ذلك.

    صور من دسائس اليهود

    وكذلك فإن دسائسهم فيما بعد اقتضت كثيراً من الخلافات، اختلقوا كتاباً زعموا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الجزية عن جميع اليهود، وأتوا بهذا الكتاب في أيام خلفاء بني العباس، فكان فتنةً على خلفاء بني العباس يقولون: كيف يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب فيظلمكم من سبقنا من الخلفاء، فأراد الخليفة أن يتحقق من الكتاب فعرضه على علماء الحديث، فارتابوا فيه حتى وصل إلى الخطيب البغدادي ، فلما رآه بصق عليه، وقال: إن هذا الكتاب مختلق إنه كتب في رق، وجعل عليه شحم، وسخن على النار حتى صار قديماً، وإنه كذب من أصله، فقال له الخليفة: كيف عرفت ذلك؟ فقال: في شهوده سعد بن معاذ ، و معاوية بن أبي سفيان ، ولم يجتمعا في الإسلام.

    إن سعداً جرح يوم الأحزاب ومات بعد أن حكم في بني قريظة، في العام الخامس من الهجرة، وإن معاوية إنما أسلم في فتح مكة، في رمضان من العام الثامن من الهجرة، فكيف يشهدان على كتابٍ واحد، فبهت الذي كفر.

    وكذلك من دسائسهم اللاحقة أنهم كلما قامت للإسلام دولة حاولوا أن يجعلوا للخليفة أو للوالي بطانة سيئةً تحبب إليه الشهوات والملاهي، لعل ذلك يشغله عن الجهاد في سبيل الله.

    كانت دولة بني أمية قوية منذ اجتمعت الكلمة على عبد الملك بن مروان فخرج عبد الملك إلى العراق؛ لتقويم الأوضاع هنالك، فجاء اليهود بالشام إلى عمرو بن سعيد الأشدق فقالوا له: أنت أولى بهذا الأمر من عبد الملك وقد ولاك على دمشق فمكنك الله من حصن الملك، فإذا جاء فلا تفتح له الحصن ونحن معك، فظن عمرو أن ذلك سيستقيم له، فخرج على عبد الملك ، ولكن الأمر لم يستقم له فقتله عبد الملك قتلته المشهورة.

    وكذلك عندما اشتغل أولاد عبد الملك بالغزو والجهاد في سبيل الله، أتى اليهود بالجواري المغنيات، المبرزات بالغناء، فكانوا يهدون الجواري، أو يبيعونهن إلى الخلفاء ليشغلوهم بذلك عن الغزو والجهاد في سبيل الله.

    أهدى رجل من تجار اليهود جارية لـيزيد بن عبد الملك بن مروان ، وكانت رائعة الجمال متقنة للغناء، فأعجب بها يزيد غاية الإعجاب، ولكنه عندما خلا بها، وأمر أن لا يفتح عنه الباب حتى يأذن، فوجئ بأنها كانت تلعب بتفاحة فابتلعت بعضها فشرقت فماتت، فبقي وجثتها بين يديه ميتةً طيلة يومه، وهو يتعظ بذلك، ولم يتجرأ أحد أن يفتح عليه الباب، وقبل ذلك فإن عبد الملك أهدى إليه رجل منهم جارية وهو في بعض حروبه، فبات يقلب كفها ويقول: قد حيل بيني وبينك، فقالت: لمَ يا أمير المؤمنين؟ فقال: لقول الشاعر:

    قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار

    وكذلك فعلوا مع الخلفاء العباسيين، فهم الذين حاولوا اختراق الدولة، وأتوا بالأمراء الذين اعتدوا على سلطان الخلافة، وقد حاولوا عدة محاولات مع عدد من سلاطين المسلمين، وآخر ذلك محاولتهم مع السلطان عبد الحميد حين حاولوا شراء القدس منه، وقد دون ذلك في مذكراته بيده وهي مطبوعة منتشرة في الأسواق، حاول اليهود شراء بيت المقدس منه ليكون هذا سبةً لدى للمسلمين، فيتخلصوا من خليفتهم ويصل اليهود إلى مبتغاهم في القدس.

    دور الصليبيين في الاختلاف بين المسلمين

    ثم جاء الصليبيون فقاموا بدور اليهود، فقسموا أمة الإسلام بعد سقوط الخلافة العثمانية أقساماً ووزعوها أنواعاً، وأخذوا بتجربة المدجنين في الأندلس، وصقلية، فإن المسلمين في تلك البلاد توزعوا إلى إمارات ضعيفة، وكانت كل إمارة تريد السيطرة على الأخرى، فتستعين بالأعداء عليهم، وكان ذلك سبباً لزوال ملكهم، فملوك الطوائف كان كل واحد منهم يستعين بالنصارى على عدوه من المسلمين، فلذلك ذهبت دولتهم، وزالت شوكتهم حين استعانوا بأعداء الله على المسلمين.

    ترسيم الحدود وزرع بؤر للتوتر والخلاف

    وأخذ الصليبيون بهذه التجربة فقسموا الأمة الإسلامية إلى هذه الدول التي ترون، بل جعلوا في كل دولة قابلية للانقسام، يريدون إثارة النعرات، يجعلون كل دولة مؤلفة من شقين، فيقسمون الشعب الواحد بين حدودين، فيجعلون دولة فيها أكثرية عربية، وأقلية كردية، أو أقلية زنجية، ويريدون بذلك قبول هذه الدولة للانفصام والخلاف، في كل وقت يمكن ذلك فيه.

    يثيرون الحضارات المندرسة كالأمازيغية في الجزائر، والأمازيغية في المغرب، التي بدأت المطالبة بها أيضاً في وقتنا هذا، ولاحظوا أن شعباً واحداً وهو الشعب الكردي المسلم، الذي عرف بتضحياته في سبيل الله، وأخرج القادة المشاهير، من أمثال: صلاح الدين الأيوبي، رأى الصليبيون خطر هذا الشعب فقسموه بين أربع دول، جعلوا أقلية منه في إيران، وأقلية في العراق، وأقلية في تركيا، وأقلية في سوريا، للقضاء على هذا الشعب، وليبقى بؤرة للتوتر والخلاف دائماً.

    كذلك عندما يرسمون الحدود بين البلدان، دائماً يجعلون رسمين متباينين، ويسمون المنطقة التي بينهما منطقة محايدة منزوعة السلاح وتكون دائماً قابلة للانفجار، كحال الحدود السعودية اليمنية، والحدود السعودية والقطرية، والإماراتية، والكويتية، والحدود المشتركة بين الكويت والسعودية، وإيران في حقل الرميلة، والحدود العراقية السورية، والحدود العراقية الأردنية، وحدود العراقية السعودية، وهكذا.

    ومثل ذلك الصحراء الغربية، التي هي شريط لا يمكن في الأصل أن يكون له مقومات دولة بكاملها، لكنه جعل بين المغرب والجزائر وموريتانيا، لئلا يستقر الوضع فيفتح ملفه في الوقت المناسب، وتثار الحرب التي تقضي على الأخضر واليابس، في غير طائل ومن غير فائدة.

    وكذلك ما يتعلق بترسيم الحدود على النهر، ألا ترون أنهم عندما أرادوا منح هذه البلاد استقلالاً زائفاً مزيفاً جعلوا عاصمتها فسين لويس لماذا؟ ليجعلوا الحدود مع السنغال غير منضبطة، ليبقى الأمر قابلاً للانفجار والتأزم في كل وقت.

    وهكذا في ما فعلوه في أزواد عندما اقتطعوه مع مالي وجعلوا الحدود قابلة للتعرج، حتى تبقى المسألة بؤرة قابلة للتأزم والخلاف في أي وقت من الأوقات.

    دقة الحدود بين البلدان الغربية وسلامتها من دواعي النزاع

    إن الحدود بين البلدان الغربية دقيقة جداً، ليس فيها أي اعوجاج، ولا تقبل النزاع والخصام أصلاً، ما سمعنا في أوروبا دولتين مختلفتين على نقطة حدودية، بل إن الرجل ليخرج وقد جربنا هذا جربته بالمشاهدة، يخرج في السيارة من ألمانيا فيدخل حدود عددٍ من الدول دون أن يشعر أنه خرج من البلد الذي كان فيه.

    لكنهم إنما جعلوا هذا في بلاد المسلمين عمداً؛ ولذلك لا يزال التوتر في أيديهم في أي وقت أرادوا تحريكه حركوه، تحت عناوين كثيرة لديهم عنوان: حقوق الإنسان، وعنوان: الأقليات المضطهدة، وعنوان: التنقيب عن النفط والمعادن، عناوين أخرى كثيرة جداً.

    ففي كل وقت يخرجون ملفاً من هذه الملفات، كملف جنوب السودان، وملف حلائف الشمال، وملف كسلا في شرق السودان، والحرب القائمة بين إرتيريا وأثيوبيا الآن، وكذلك حرب الصومال وجيبوتي، وحرب الصومال فيما بينها، وكذلك الجزر التي لا يحسمون الحكم فيها، بل يدعون فيها علمين، كجزيرة حنيش التي جعلوا فيها علماً يمنياً وعلماً إرتيرياً ليبقى الخلاف فيها قائماً وهكذا.

    ومن أبرز الأمثلة في هذا القبيل قضية كشمير التي جعلوا جانباً منها في باكستان، وسموه كشمير الحرة، وجانباً آخر في الهند جعلوا المسلمين فيه أقلية مضطهدة مظلومة، والخلاف الآن يهدد بحرب ذرية نووية، وما تحريكه بيد المسلمين ولا بيد الباكستانيين، ولا بيد المجاهدين في كشمير، وإنما هو بيد الغربيين الذين يفتحون هذا الملف، فيوعزون إلى أوليائهم في الهند بتحريكه، ويبدأ الخلاف.

    فهم أمسكوا بمواضع الاشتعال وزرعوا أصابع المتفجرات، وهم يريدون تفجيرها في أي وقتٍ أرادوا، بإشعال الفتيل وتنطلق هذه الشرارة.

    وتلاحظون ذلك، فكم خسر الشعبان المسلمان في موريتانيا والسنغال في القضية الماضية، كم ذهب من الأرواح البريئة والأموال التي أهلها في أمس الحاجة إليها، وقد ذهبت هدراً، ليس ذلك لصالح أحد، لا الموريتانيون يرضون عما حصل ولا السنغاليون يرضون عنه، ومثل ذلك ما كان في الأيام الماضية من إثارتهم، وتحريكهم لملف الأودية الناضبة.

    ونظير هذا كثير، ولا تظنوا أنه يقف عند حدٍ محدد.

    1.   

    أسباب وحدة المسلمين

    التخلص من أسر الحدود الضيقة

    مادام المسلمون لا يستشعرون أنهم أمة واحدة، وما داموا لا يستطيعون التخلص من أسر هذه الحدود الضيقة، فستبقى القضية قابلة للتأزم في أي وقت، لكن عندما يستشعر المسلمون أنهم أمة واحدة وأن لواءها لواء الإسلام، وأن الله أعزهم بهذا الدين، وأنهم إذا طلبوا العزة بغيره أذلهم الله، وأنه ليس يجمعهم إلا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنه لا فائدة في أي رابطة تربطهم دون ذلك، فلا فائدة في رابطة النسب، فهي كانت السبب في الخلاف بين ابني آدم حتى قتل أحدهما الآخر، هل هذا بسبب تباعد الأنساب، هل هو بسبب القوميات، هما أخوان قتل أحدهما الآخر.

    فلذلك نعلم أن القوميات لا يمكن أن يجتمع الناس على أساسها، ولا يمكن أن تحقق إخاءً.

    فعلى هذا نعلم أن على المسلمين أن يتفطنوا لكيد أعدائهم، وأن يعلموا أن الذي يقف على الحدود لا يجد فرقاً، سواء كان ذلك بين موريتانيا والسنغال، أو بين موريتانيا والجزائر، أو بين الجزائر ومالي، أو بين ليبيا وتشاد، في المنطقة التي فقد فيها الليبيون في فترة وجيزةٍ ستة آلاف مقاتل ذهبوا هدراً من غير مقابل، حتى إن رئيسهم أعلن أنه ما أمرهم بدخول تشاد أصلاً ولا أدخلهم فيها، وما حصل إنما هو مجازفة إعلامية، بعد أن قتل أولاد الشعب ولم تبق أسرة ليبية إلا فقدت بعض من تحب، إما قتيلاً، وأما أسيراً، أو مشرداً، ومع ذلك كأن الأمر ما حصل فيه أي شيء، وما هذا إلا نزغٌ من نزغ أعداء الله سبحانه وتعالى في الأمة.

    والذي يقف على هذه الحدود لا يجد جانب ليبيا من الذهب ولا جانب تشاد من التراب، يجدها تربة واحدة ويجد الشعب الذي فيها من أصل واحد، من أب واحد، وأم واحدة، وينتمي إلى أمةٍ واحدة، وإلى دين واحد، وهم جميعاً إذا حان وقت الظهر ذهبوا إلى المصلى وتوضؤوا وصلوا إلى القبلة أربع ركعات، فلماذا يدخل في كيان الإنسان انتماؤه إلى هذه الحدود التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما لها أي مبرر عقليٍ ولا شرعيٍ، وليس وراءها كذلك موروث من موروث الأمة.

    التخلص من الأعلام المقدسة

    إن الأعلام التي فعلها أعداؤنا وروجوا لها، هي هذه الأعلام التي ترفع، وكل علم يرمز إلى شيءٍ عند الغربيين، نحن لا نفهمه، وأنا أسأل: ماذا تفهمون من رؤية العلم الموريتاني الذي هو رقعة خضراء فيها هلالٌ أصفر، ونجم أصفر؟ هل هذا يرمز إلى كتاب أو سنة أو شيء من تراثكم، أو حتى إلى أمرٍ من أموركم المعروفة لديكم، من الذي اقترح هذا؟ من الذي اقترحه؟ إنما أتى به الفرنسيون، ومثل ذلك العلم السنغالي، ومثل ذلك العلم المالي، ومثل هذا العلم الجزائري، وكل الأعلام جميعاً إنما جاءت من هذا القبيل، ومع هذا أصبحت تؤثر تأثيراً عجيباً في كيان الناس، وأصبح كل إنسان يعدها مؤثرة في كيانه وأنها ترتبط بشخصيته -لا حول ولا قوة إلا بالله-.

    استشعار مرجعية الإسلام للوحدة

    إن على المسلمين أن يستشعروا وحدتهم، ومرجعهم، وأن يعودوا فيما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يرضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وأن يعلموا أن الله إنما شرع لهم الشرائع كلها لحكمة التوحد، فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الأصل العقدي الذي يجمعهم جميعاً، وأداء الصلاة يجمعهم كذلك عندما يسمعون منادِ الله ينادي، يأتون إلى المسجد من كل فج فيقفون في الصف كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم، مريضهم وصحيحهم، يقومون جميعاً في صف واحد يستقبلون بيتاً واحداً، يؤدون شعائر موحدة، خلف إمام واحد.

    وهكذا في الزكاة التي تحقق التكافل الاجتماعي فيما بينهم.

    وهكذا في الصوم الذي يذوق به الأغنياء مرارة الحرمان، فيحنون ويرحمون الفقراء.

    وهكذا في الحج الذي هو مؤتمر عام للمسلمين يجتمعون فيه من مشارق الأرض، ومغاربها، فيستشعر بعضهم مسؤوليته عن بعض.

    وهكذا في الجهاد الذي قال الله فيه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].

    السعي إلى جمع الكلمة

    إن السعي إلى جمع الكلمة أمر مهم تحتاج إليه الأمم في كل الأوقات، لكنه تتفاوت الحاجة إليه في الأحايين المختلفة، وأبلغ ما تكون الحاجة إليه عند اشتداد الأزمات، وحصول النكبات، فهذه الأمة الآن وصلت إلى نكبة الله أعلم ما يأتي بعدها: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ[يوسف:110-111].

    فلذلك ما أحوج أمتنا إلى أن تتناسى الخلافات الجزئية، وإلى أن تعود مجتمعة القلوب، وإلى أن تتعدى هذه الخلافات اليسيرة التي أكثرها خلافات اجتهادية يمكن التغاضي عنها، ولو كان ذلك التغاضي مؤقتاً، حتى نتجاوز المرحلة، استمعوا إلى قول الشاعر الحكيم:

    لما أتاني عن عيينة أنه عانٍ عليه تضاعف الأقيادُ

    بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقادُ

    هل تتوقعون أكثر مما أنتم فيه من الشدائد، إنما تتوقعون الدجال، فـالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر.

    فلذلك أصلحوا ذات بينكم كما أمركم الله بذلك، وارجعوا إلى كتابكم، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، واعلموا أنه لا يجمعكم إلا هذا الدين، الذي شرفكم الله به، فوحدوا صفوفكم، وتغاضوا عن أسباب الخلاف المقيتة، التي ذمها الله في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يصلح ذات بيننا، وأن يهدينا إلى سواء الصراط، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767490906