إسلام ويب

اغتنام الحياةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يدور عمر الإنسان في مراحل يتنقل بينها، بعد أن فطره الله على الفطرة السليمة في عالم الذر، فكل إنسان يولد على الفطرة، وتفسد فطرته مفسدات كالتكبر والعناد، والتقليد. وأقصر أعمار الإنسان هو عمره فوق الأرض، وهو وقت الامتحان والابتلاء، وفي هذا العمر فرص للنجاة، ثم بعد ذلك عمره في البرزخ وما فيه، ثم العمر السرمدي بعد الوقوف إما في جنة أو نار.

    1.   

    ترجمة الشيخ محمد بن الحسن الددو

    المقدم: بسم الله اللطيف الرءوف المنان، الغني القوي السلطان، الحليم الكريم الرحيم الرحمن، الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أرسى الأرض بالجبال في نواحيها، وأرسل السحاب الثقال بماء يحييها، ثم قضى بالفناء على جميع ساكنيها، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى[النجم:31]، أحمده تعالى وأشكره، ومن مساوي عملي أستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى صحابته وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فشيخنا غني عن التعريف، ولكن حبذا أن نعرفه قليلاً؛ حتى يتأكد لنا قدر هذا الشيخ، وما ذلك إلا ترغيباً في العلم الذي عنده، والفقه الذي يحمله، وهذا مما لا بد من معرفته، ومن جميل ما وقفت عليه في سورة سبأ قول الله سبحانه وتعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ[سبأ:6]، وهذا ما خص الله سبحانه وتعالى أهل العلم، والذين أوتوا العلم، أن الله عز وجل يريهم الحق من الوحي الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة، فإن السر في هداية هذه الأمة في الوحي الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال ربنا عز وجل: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي[سبأ:50].

    فالشيخ محمد بن الحسن الددو ، ولد نهاية شهر أكتوبر سنة 1963م في البادية التابعة لمقاطعة أبي تلميت، بدأ بدراسة القرآن الكريم في السنة الخامسة، وأكمله بعد تجاوز السنة السابعة، ودرس مبادئ العلوم الشرعية، وصحب جده الشيخ محمد عالي ولد عبد الودود رحمه الله تعالى، ودرس عليه ولازمه حتى وفاته، تبحر في مختلف العلوم الشرعية على جده وعلى خاليه محمد يحيى و محمد سالم ابني عدود ، وشارك بعد ذلك في الدراسة، وحصل على البكالوريوس سنة 1986م، وكان من المتفوقين على المستوى الوطني، وأعطي منحة إلى تونس، واعتذر عنها ثم سجل في جامعة نواكشط كلية الحقوق، وشارك في مسابقة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، فحصل على المرتبة الأولى فيها، كما حصل عليها في مسابقة القسم الجامعي لجامعة الإمام محمد بن سعود في نواكشوط ليلتحق به، وإثر مقابلته مع مدير الجامعة أثناء زيارة له في نواكشط، اتخذ هذا الأخير قراراً بنقل محمد بن الحسن إلى الرياض مباشرة إثر تحديد مستواه، وسجلته الجامعة في الرياض في المستوى الثالث، ليكمل الدراسة فيها، حصل على الماجستير بامتياز، في نفس الجامعة، وكانت رسالته عن مخاطبات القضاة، ويعد رسالة للدكتوراه أيضاً في ذات الجامعة، يشهد له العلماء بالتبحر في العلوم الشرعية المختلفة، قرآناً وسنة، وفقهاً وأصولاً، فضلاً عن معرفة واسعة بلغة العرب وتاريخهم، وبالعلوم الأكاديمية الكلامية والمنطقية، وله معرفة عميقة بعلماء موريتانيا وإنتاجهم، وله اطلاع جيد على العصر وعلومه ومستجداته.

    متزوج وله أبناء وبنات، شارك في عدد كبير من المؤتمرات الدولية، ودرس وحاضر في أوروبا وأفريقيا والعالم العربي وآسيا وأمريكا، فله رسائل مطبوعة، كما طُبعت رسالته للماجستير، وله عدد كبير من الفتاوى والأشرطة التي هي موجودة في موسوعة باسمه.

    اعتقل عدة مرات وما نقموا عليه إلا صدعه بالحق، وإفتاءه بما يعلم ويفقه، واعتقل عدة مرات في مايو سنة 2003 إلى أكتوبر 2004م، وأيضاً في نوفمبر2004 إلى إبريل 2005م.

    ونسأل الله سبحانه وتعالى الذي بيده ملكوت كل شيء أن يمتعنا بعلم شيخنا، وأن يبارك في حياته، وأن يحفظه من بين يديه ومن خلفه، وأن يجعل سره خير من علانيته، وباطنه خيراً من ظاهره، وما شهدنا إلا بما علمنا.

    1.   

    قصر العمر ووجوب استغلاله

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أحمد الله تعالى، وأسأله سبحانه أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه، والمتجالسين فيه المتزاورين فيه، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

    وأخرج مالك في الموطأ و مسلم في الصحيح من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي).

    وأخرج مسلم في الصحيح كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتجاورين فيّ، والمتباذلين فيّ). جعلنا الله وإياكم منهم.

    ولا شك أن وقت هذه الحياة الدنيا قصير، وأنه يمر بسرعة هائلة، وأن الحجة قائمة لله سبحانه وتعالى على عباده، فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ[الأنعام:149]، وهذا الوقت الذي يمضي بهذه السرعة الهائلة يُسئل عن دقائقه وثوانيه، فالله سبحانه وتعالى يقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37]، ويقول تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:61-62]، فأولى ما نتذكر فيه ما يمكن أن نرجح به كفة حسناتنا، ونصل به إلى رضوان ربنا، ونتقي به سخطه وغضبه، فالله سبحانه وتعالى غني عنا، ولا يزيد في ملكه عبادة العابدين، ولا ينقص في ملكه وسلطانه معصية العاصين.

    ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا)، لذلك لا بد أن يحرص كل واحد منا على نجاته في هذه الدار، وبالأخص إذا تذكر أن عمر هذه الدنيا هو عمر امتحان، وهو أقصر أعمار الإنسان، فالإنسان خلقه الله ولم يشاوره في خلقته، فقد قال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51]، وقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، وأقام عليه الحجة بما أنزل من الوحي وبإرساله للرسل، وقد قفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فقامت به حجة الله على العباد.

    وهذا العمر كما ذكرنا هو أقصر أعمار الإنسان.

    والإنسان له خمسة أعمار:

    1.   

    عمر الإنسان في عالم الذر

    العمر الأول منها: هو عمره في عالم الذر، عندما: ( مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال آدم : أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية، فقال آدم : أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلقهم حتى ما يتميزون، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى )، قالها مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، كلهم أقروا له بالربوبية.

    ثم أخذ عليهم العهد أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئاً، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[يس:60] وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:61]، وهذا العمر الأول دخل فيه الإنسان حيز الوجود؛ لأنه وجه إليه الخطاب وأجاب بالكلام، فما منا أحد إلا وقد قال في ذلك العمر: بلى، وما منا أحد إلا وقد وافق على العهد الذي أخذ عليه وأعطاه، وأقر به لله جل جلاله.

    وبقي من ذلك العمر الأول معنا أمران:

    الأمر الأول منهما التعارف بين الأرواح، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).

    والأمر الثاني: الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الدين القيم عند الله، فالإنسان مفطور على العبودية لله، فلو ولد في جزيرة من جزائر البحر، ولم يلقَ أي معلمٍ ولا مرشد، فإنه من المستحيل أن يقول: أنا ربكم الأعلى، أو أن يستغني عن العبادة، بل لا بد أن يبحث عن شيءٍ يعبده، فإذا هدي إلى عبادة الله عبده، وإلا عبد حجراً أو شجراً أو غير ذلك، لكنه بفطرته عبد، وهو محتاج إلى الدين بفطرته.

    مفسدات الفطرة

    وهذه الفطرة لها مفسدات تفسدها.

    فمنها: التكبر والعناد فهو مفسد للفطرة، وكل متكبر لا بد أن يخالف فطرته، ولذلك فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، إنما أفسد فطرته حتى قال هذا القول المنافي لفطرة الإنسان بسبب التكبر والعناد، ولذلك قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا[النمل:14].

    ومن مفسدات الفطرة كذلك: التقليد، والتقليد ثلاثة أنواع: منه تقليد الإنسان لزملائه وأصدقائه، وكثيرا ما يجر إليه الأخلاق والتصرفات التي هو في غنىً عنها، وإن لم يقتنع بها.

    فكثير من الكلام يتعوده الإنسان من كثرة سماعه له من زملائه وأصدقائه، وكثير من التصرفات تسري إليه من خلال معاملته مع الناس ومخالطته لهم، ولذلك فإن كثيراً من أفعال الإنسان وأخلاقه لو بحث عن نفعها لوجد فيها ضرراً، ولوجدها غير حميدة، ولتعجب من أين أتته؟ فالأصل السلامة منها، ولكنه إذا راجع أصل ذلك وجده من خلطة الأصحاب.

    فالذين يشربون الدخان يعلمون ضرره بأبدانهم، ويعلمون كذلك في غالب الأحوال ضرره بأديانهم، لكن لماذا شربوه؟ فليس هو حلو المذاق، حتى يوافق الفطرة، ولا حسن الرائحة، حتى يوافق الفطرة، ولا فيه مصلحة للبدن، حتى يستعمله الإنسان ولو كرهاً، فهو يستعمله تقليداً للأصحاب، وهكذا في كثير من تصرفات الإنسان.

    النوع الثاني من التقليد: تقليد الإنسان لما أدرك عليه أهله، فالإنسان يتربى في صغره في أحضان أهله، فيراهم يفعلون أفعالاً ويتركون تروكاً، فينساق وراءهم في ذلك الأمر، ولو لم يقتنع به، أو يقنعوه به بدليل، فالأصل أن الإنسان صاحب الفطرة السليمة يقول: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، ويستند إلى الدليل وينطلق منه، لكن إذا فسدت فطرته بالتقليد، قلد في أمور مخالفة للدليل، ولو لم يفقه ذلك.

    ولذلك فإن الإسلام ليس مجرد تقليد، بل هو قرار يتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، فيه استسلام لأمر الله ورضى بحكمه، وانقياد لطاعته، واجتناب لنواهيه.

    وهذا القرار إذا اتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، فإنه حينئذٍ يترتب عليه كل آثاره، وإذا اتخذه لمجرد تقليد، فإنه يوشك أن يقول في قبره إذا سأله الملكان: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت.

    ولذلك فالكثير من الناس في إسلامهم الآن رأوا آباءهم وأمهاتهم يفعلون أفعالاً، فهم يفعلونها تقليداً لهم، ولا يميزون بين ما جاء منها من عند الله، وما كان خرافة أو اجتهاداً أو عادةً. فكانوا وهم صغار يُضربون إذا فعلوا بعض الأفعال، ويُضربون إذا تركوا بعض الأشياء فتعودوا على ذلك، فهذا النوع هو الثاني من أنواع التقليد.

    والنوع الثالث من أنواع التقليد: تقليد الزعماء، فكل زعيم يُعجب به الإنسان، سواء كان إعجابه به لدينه أو لدنياه، أو لأيدلوجية يقلده فيها، فإنه كثيراً ما يقلده في كثير من الأمور المخالفة للفطرة، فينساق وراء أقوال الزعيم وأفعاله، ولذلك تجدون بعض الناس يُحرقون أنفسهم فداءً لزعمائهم، وهذا أشد شيءٍ في منافاة الفطرة، أن يعرض الإنسان نفسه للهلاك، بل النار من أجل زعيمه.

    وهذه الفطرة تقتضي في الأصل نقاءً وصفاءً، يقتضي من الإنسان قبول الحق إذا سمعه، ورد الباطل إذا سمعه، فيكون مستعداً لقبول الحق، لا يتكبر عليه ولا يرفضه إذا سمعه، ويكون كذلك مستعداً للعمل به؛ لأن مجرد قبول الحق وتصديقه إذا لم يصحبه عمل فلا فائدة فيه.

    ولذلك فإن الفطرة مما يعززها الذكرى، والله تعالى يقول: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، فالذكرى نافعة للمؤمنين لتعزيزها الفطرة، وهي تغذية للقلوب.

    أقسام الناس مع الذكرى

    والناس فيها على أربعة أقسام:

    القسم الأول: لا يتحملون سماع الذكرى، بل يفرون منها كما يفرون من الأسد، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51]، وكما قال تعالى: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13]، فهؤلاء يجتنبون الذكرى بالكلية، ويفرون منها هذا الفرار العظيم المشبه بقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:50-51].

    والنوع الثاني من الناس يتحملون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب؛ لأن القلوب قد طبع عليها، فحيل بينها وبين سماع الحق، وهؤلاء هم المنافقون، الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].

    والقسم الثالث: هم الذين يسمعون الذكرى من بعض الناس دون بعض، فهم مستعدون للسماع ممن يعجبهم شكله أو نسبه أو مستواه أو يعرفونه أو هو من فئتهم وجماعتهم أو من مستواهم فهذا يمكن أن يسمعوا منه، وأما من ليس كذلك فليس لديهم استعداد للسماع لهم، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين يفصلون في الذكرى، حالهم حال أهل مكة وأهل الطائف عند نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[الزخرف:31-32].

    والقسم الربع: الذين يسمعون الذكرى من كل أحد، فيقبلون ما فيها من الحق وينتفعون به، ثم يبادرون إلى اتباع ما قبلوه من الحق، ويردون ما ليس حقاً، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله، قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، وبعد هذا العمر بقيت سماتنا وأرواحنا في سماء الدنيا عند آدم، ولذلك ثبت في حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنه لما فتح له باب السماء الدنيا قال: (فإذا آدم عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، وإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه، -والنسمة جنس واحدته نسمة، نسم بنيه- أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم).

    1.   

    عمر الإنسان فوق الأرض

    وبعد ذلك يأتي العمر الثاني: وهو عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا، وهو عمر الامتحان، وهو أقصر أعمار الإنسان، وهذا العمر بدايته بنفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، ونهايته بانتزاع الروح منه عند الموت، قال تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ[الأنعام:61]، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا[النازعات:1-2]، وهذا العمر هو عمر العمل، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل.

    فعلى الإنسان أن يدرك خطره، وأنه ليس من أهل هذه الأرض، حتى يركن إليها ويميل إلى متعها وما فيها، بل هو غريب، مثله مثل المسافر استظل بشجرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، فينتفع من الدنيا فقط بما يعينه على الآخرة.

    الحكمة من تمتع المؤمن في الدنيا

    ولذلك فإن لك أن تسأل: لماذا يتمتع المؤمنون بمتع الحياة الدنيا، ويقتنون ما فيها فيتزوجون ويأكلون المطاعم ويشربون المشارب، ويبنون البيوت، ويلبسون الملابس، ويركبون السيارات الفارهة، وهم يعلمون أن هذه الدنيا متاع، وأنها ضرة الآخرة؟!

    والجواب: أن من كان من أهل الإيمان والصدق إنما يأخذ من ذلك ما يضيق به على الشيطان، فلا يأخذه إلا من حله ليسد به على الشيطان باباً كان بالإمكان أن يدخل منه.

    ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فيأكل الإنسان ما يعينه على كف جوارحه عن المعصية، ويتمتع به فقط في طريقه، ولكنه لا يركن إليه، فلا يحزن على ما فاته منه ولا يفرح بما ناله، وهذا يقتضيه الإيمان بقدر الله، فمن آمن بقدر الله خيره وشره، حلوه ومره، وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، لا يمكن أن يفرح بما نال من الحياة الدنيا، ولا يمكن أن يحزن على ما فاته منها.

    ولذلك قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23]، واللام للتعليل ومعها (كي) كذلك للدلالة على التعليل، لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ[الحديد:23]، معناه: لا تحزنوا على ما فاتكم من متع الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23]، أي: من أمر الدنيا.

    وهذا العمر قصير جداً، وبالأخص في زماننا، فإن بركة الأيام والليالي قد نزعت، وهي في ازدياد النقص دائماً، كلما اقتربت الساعة كلما نزعت البركة من الأعمار، فلو تذكرتم أو قرأتم سير أعلامنا الماضين، وأدركتم كبار السن فسألتموهم عما كانوا يعملونه في اليوم، وما كانوا يقطعونه على أرجلهم أو على دوابهم من المسافات، وما ينجزونه من الأعمال؟ لتعجبتم كيف يوجد هذا في يوم واحد، مقارنة بأيامنا؟، وقد جاء في الحديث: (إن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة)، وما حصل من وسائل الاتصال ووسائل النقل وسرعة تطور العالم هو أيضاً مؤذن بذلك، فهذه السرعة كلها تقتضي هذا الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا العمر الذي هو أقصر أعمارنا وصلنا إليه في تطورٍ في الخلقة، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أطوار، ولذلك جاء في نذارة نوح : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:14]، وفي نذارة النبي صلى الله عليه وسلم: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، وهذا في الفرد والجماعة، أما الفرد فيمر بتسعة أطوار في خلقته، بينها الله تعالى في سورة المؤمنون بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:12-14]، ومعنى (أنشأناه خلقاً آخر): ما يمر به في تناميه من صباه إلى شيخوخته، فيبدأ بضعفٍ ثم يصل إلى قوة، ثم يعود إلى ضعف وشيبة، فذلك قوله: أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:14-16]، ونحن الآن قد قطعنا من هذه الأشواط التسعة سبعة، فأمامنا الموت والبعث، لكن كل الأطوار الأخرى قد خضناها، ومن حددت له مسافة كأن حددت له مسافة تسعة كيلو فقطع منها سبعة كيلو، سيعلم أن النهاية قريبة لا محالة، فلذلك لا بد من الاستعداد للانتقال من هذه الدار.

    وهذا العمر الدنيوي كل يومٍ وليلة منه هي بمثابة عمر بكامله، تطوى صحائفها ويختم عليها، وتعرض على الله يوم القيامة، فإذا استيقظ الإنسان من منامه بعد أن ذهبت روحه، وهو لا يدري أتعود إليه أم لا؟ فليحمد الله على أن رد إليه روحه، وأن عافاه في جسده، وأن أذن له بذكره، ثم ينطلق في العمل من جديد، ويبدأ ذلك بذكر الله، وتجديد العهد معه، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالهن في يومه فمات فيه دخل الجنة، ومن قالهن في ليلته فمات فيها دخل الجنة )، فهذا تجديد لذلك العهد الذي في العمر السابق، (وأنا على عهدك ووعدك)، وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة.

    الحكمة من تعاقب الليل والنهار

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بتعاقب الليل والنهار، وأهمية ذلك للإنسان، فقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62]، فتعاقب الليل والنهار معين على الطاعة والعبادة مذكر للغافلين، منبه للسائرين، وحجة قائمة لله على الخلائق أجمعين، ولذلك قال الماوردي رحمه الله:

    أقبل على صلواتك الخمس كم مصبحٍ وعساه لا يمسي

    واستقبل اليوم الجديد بتوبةٍ تمحو ذنوب صحيفة الأمسِ

    فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام لصورة الشمسِ

    فأنت أتيت إلى هذا العمر الجديد وإلى هذه الدنيا في تأشيرة مدتها محددة في علم الله، مجهولة بالنسبة إليك، ولكنك كل يوم ترى ما يذكرك بالخروج منها، ففي كل يومٍ تسمع: مات فلان، قتل فلان، تحطمت طائرة، تحطم قطار، حصل حادث حصلت كوارث، كل يوم ترى توديع بعثٍ من أهل الدنيا ينطلقون إلى الدار الآخرة، منهم من هو أسن منك، ومن هو أصغر، ومن هو معاصر لك، ومن هو أقوى ومن هو أضعف، ومن هو أعلم ومن هو أجهل، ومن هو أغنى ومن هو أفقر، وأنت ترى ذلك عياناً بياناً بين يديك، وهو تبشير لك بالانتقال، كما قيل: وتسمع ما حييت بهالكٍ حتى تكونه.

    وهذا الانتقال ليس فيه رجعة، والعاقل إذا حجزت له تأشيرة وخرج في مهمة، فإنه لا يجلس حتى تنتهي تأشيرته ثم يعود خائباً لن يؤدّ المهمة التي جاء من أجلها، ونحن هنا تأشيرتنا محددة في علم الله، ونحن لا نطلع على ذلك، قال سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34]، فنحتاج إلى مبادرة العمل الذي أتينا من أجله وإلى إنجازه قبل فوات الأوان.

    فرص النجاة في عمر الدنيا

    ولنا في هذا العمر القصير ثلاث فرص للنجاة:

    الفرصة الأولى: مدة الحياة الدنيا، فهذه الدار وإن كانت مذمومة ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، وهي تسمى الدنيا إما من الدناءة وإما من الدنو، فاسمها إما أن يكون مشتقاً من الدناءة؛ لضعف مستواها فهي دنيئة، وإما لدنوها فهي أقرب لنا من الدار الآخرة، لكن هي دار العمل، فما لا يعمله الإنسان فيها لا يجده: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30].

    والفرصة الثانية: هو عمرك الشخصي، فأنت تنتظر قبض روحك، ولا تدري متى يكون ذلك، لكنك تعلم أن ذلك آتٍ لا محالة:

    من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

    والله تعالى يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42]، فالجميع حتى المتأخر له أجل، فالموت لا بد منه ولو طال العمر.

    ومن هنا فعليك أن تبادر قبل أن يأتيك الموت، وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم من عجائب هذا الموت أموراً عجيبة، فقد ذكر ( أن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال على الآخرة، أتاه ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبةٍ مؤمنة ناداه فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]، فتتهوع إليه روحه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فلا تمكث في كفه طرفة عين، حتى يسلمها إلى ملائكة قد جلسوا مد البصر كأن وجوههم الشموس، فيجعلونها في كفنٍ من أكفان الجنة، ويجعلون عليها من طيب الجنة، ثم يرتفعون بها إلى سماء الدنيا، فيستأذنون فيُقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فتفتح لها أبواب السماء حتى تخر ساجدة تحت العرش، ثم يُقال لها: ارجعي للسؤال وإن كانت نفسه خبيثة ناداه فقال: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين، حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:93-94]، وحينئذٍ يجعلونها في سفط من أسفاط النار، ويجعلون عليها من قطران النار، ثم يرتفعون بها إلى السماء، فيُقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، ارجعي من حيث جئتِ: لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ * لَهمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[الأعراف:40-41] ) نسأل الله السلامة والعافية.

    والنقطة الثالثة: هي ما مكنا الله فيه من أنواع النعم التي لا تحصى، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[النحل:18]، وهذه النعم لها آجال محددة، وهي امتحان الإنسان ومدة بقائه وتمتعه بها قليل، فتمتع الإنسان بأية نعمة هو مثل جلوسه على كرسي الحلاق، ينتظر الحلاقة، ثم يقوم ليترك مكانه لغيره، ولا يمكن أن يشغل أحد وظيفةً أبد الآبدين، ولا أن يستغل نعمةً أبد الآبدين، بل هو يجمع حطام الحياة الدنيا طيلة عمره، فإذا جاء الموت فرق ورثته ما جمع فيما بينهم، ثم يبدأون الجمع، ثم يفرق ورثته ما جمعوا وهكذا، فيتداول الناس ما يجمعونه.

    وبذلك فإن تعب الإنسان في أمرٍ نهايته هي هذه أن يسلبه ويخرج منه، ففي الحديث: ( يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو قدمت لآخرتك )، وفي الآخر: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا من أحدٍ إلا ماله أحب إليه، قال: فإنه ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر )، فما أخره الإنسان ليس بمالٍ له، قد خرج منه، وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94].

    وهذه فرصة، وكثير من الناس لا يستشعرها، وقد حدثني أحد الثقات أن وزيراً للمالية بأحد البلدان العربية حدثه شخص من أقاربه، أنه أعطي فرصاً كثيرة لخدمة الناس، وجُعل تحت يديه تقسيم الأراضي وكثير من الأمور، ولكنه جعل يسوف وينتظر، حتى جاء انقلاب عسكري فأسقط النظام، فخرج هو من وظيفته لم ينجز أي شيء، ولم ينفذ أي شيء، ولم ينفع أي أحد، فندم غاية الندم على ذلك، فلذلك على الإنسان أن يبادر هذه النعم قبل فواتها، وأن يستغلها قبل زوالها.

    1.   

    عمر الإنسان تحت الأرض

    وبعد هذا يأتي العمر الثالث: وهو عمر الإنسان تحت الأرض في البرزخ، بدايته الضجعة التي يبدوا بها للإنسان من الله مالم يكن يحتسب، وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، يظهر للإنسان من المغيبات والأمور ما لم يكن يخطر له على بال بمجرد تلك الضجعة.

    ما يجري على الإنسان في قبره

    ثم بعدها ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، وهي تهيئة لسؤال الملكين، فالإنسان ضعيف عن محاورة الملائكة ومجاوبتهم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم في أول نزول الوحي إليه غطه جبريل ثلاثاً حتى بلغ منه الجهد تقوية لروحه، وتهيئة له لسماع كلام الملائكة والمحاورة معهم، وكذلك ضمة القبر هي مثل تلك الغطة، ضمة شديدة تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل وهي ما خرج من الخصرين عن مدى الظهر.

    ثم بعد هذا سؤال الملكين منكر ونكير، ( يجلسانه إلى ركبتيه في أفظع صورة، فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل الذي بعث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه، فيقولان له: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاهٍ ها لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمطارق معهما بين فوديه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، وفي رواية: ويضربانه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن ).

    ثم بعد ذلك عرض العمل، ففي الحديث: ( إذا كان الإنسان محسناً أتاه عمله في أحسن صورة وأحسن رائحة، فيقول له: أبشر بخير، وهو لا يعرفه لأول مرة يراه، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً أتاه عمله في أقبح صورة وأنتن رائحة، فيقول له: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوءٍ فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء وأنا صاحبك في غربتك )، ثم بعد ذلك نعيم القبر في حق السعداء، وعذابه في حق من سواهم، وهذا النعيم يستمر على الإنسان في قبره إلى البعث، ومن أهمه وأعظمه أنه يُرى مقعده من الجنة، ولكن كل مرحلة تنسيه ما قبلها، فالإنسان الذي حسنت خاتمته ينسى ذلك بسكرات الموت، والإنسان الذي أجاز المسألة وثبت بالقول الثابت عند سؤال الملكين ينسى ذلك بعرض العمل، والإنسان عند عرض العمل والتبشير به ينسى ذلك عند بداية نعيم القبر أو عذابه، وبعد ذلك بالحشر ينسى الإنسان كل ما مر به، فكل مرةٍ ينسى بها الإنسان ما قبلها، ولذلك القبر أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده.

    وقد جاء في حديث: (ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة)، فيتصور الإنسان أنه يتوحش كثيراً إذا بات في السجن في غرفة وحده، أو بات في خلاءٍ من الأرض ليس حوله إلا السباع والهوام، فكيف إذا بات في ظُلمة اللحود؟ وفي مراتع الدود، إنها وحشة عظيمة، ولذلك يقول أحد الشعراء في زوجة له ماتت، وكانت شديدة الفزع في أعراض الدنيا، إذا عرض المطر خافت، وإذا جاءت الرياح خافت، وإذا سمعت أصواتاً مزعجة خافت منها، فقال:

    أنى حملتِ وكنت جد فروقة بلداً يحل به الشجاع فيفزعُ

    ولقد تركتِ صغيرة مرحومة لم تدرِ ما جزع عليكِ فتجزعُ

    فإذا سمعتُ أنينها في ليلها طفقت عليكِ شئون عيني تدمعُ

    1.   

    عمر الوقوف يوم القيامة

    ثم بعد ذلك يأتي العمر الرابع: وهو عمر القيام، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6]، عمر الوقوف فوق الساهرة، بدايته من إذن الله للملك في النفخ في الصور، وقد التقمه الآن وأصغى ليتاً، أي: رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن له بالنفخ، فإذا أذن له نفخ نفخة الفزع فيصعق لها الخلائق أجمعون، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر:68]، وحينئذٍ تبدل الأرض غير الأرض فتبس بساً، ويخرج ما فيها من الكنوز والأموات والأجداث والمعادن؛ لأنها تنفض نفض الجراد، ويزول ما فيها من الأودية والأنهار والبحار، وتكون جبالها: كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ[القارعة:5]، ومن شدة الهول كل ما فيها من البلل يكون يبساً في نفس الدقيقة، ثم بعد ذلك تشقق السماء فهي يومئذٍ واهية، وتطوى طياً صوته في غاية الإفزاع لأهل الأرض.

    فتسمعون الرعد، وهو صوت خفيف، ومع ذلك هو مزعج جداً ومخوف، والبرق كذلك يخافه أهل الأرض خوفاً شديداً، كما قال تعالى: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا[الرعد:12] ، فكيف بتشقق السماء وأصواتها المفظعة المروعة؟!

    ثم بعد ذلك ينطلقون إلى الساهرة، فينادي فيهم المنادي: هلموا إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، يمشون في الهواء، كأنهم جراد منتشر، وهم بمثابة الفراش الذي يجتمع على ضوء السراج كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ[القارعة:4]، فيجتمعون في الساهرة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حالهم فقال: (إنكم ملاقوا الله حفاة عراة غرلاً مشاة: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104])، يأتي الإنسان حافياً عارياً أغرل -معناه غير مختون- ماشياً: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ[الأنبياء:104]، وتدنو الشمس فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل، وليس لأحدٍ منهم ظل إلا صدقته، فالناس يومئذٍ يستظلون بصدقاتهم فمن مستقلٍ أو مستكثر، ويشتد العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يعلو فوقها فمن الناس من يصل إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، ويطول بهم الموقف: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47].

    1.   

    العمر السرمدي في الجنة أو النار

    وبعد هذا العمر: العمر الأبدي السرمدي في جنةٍ أو في نار، فإن كان الإنسان من أهل الجنة، فإن الله تعالى يبسط عليه كنفه ويستر ذنبه، ويعطيه كتابه بيمينه تلقاء وجهه، فتطيب يده اليمنى وينور وجهه، حتى يخترق في النور مسيرة خمسمائة عام، ثم تبسط يمينه على أحسن ما كانت قط، وتطيب بأحسن أنواع الطيب، ثم يؤتى بكتابه تلقاء وجهه فيمسكه بيمينه فيصيح من الفرح: فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة:19-24].

    وإن كان مسيئاً فإنه تربط يده اليمنى إلى عنقه في سلسلة طولها سبعون ذراعا، فتغل يده اليمنى، ثم يثقب صدره من بين ثدييه، حتى يخرج الثقب من بين كتفيه، ثم تدخل شماله من بين ثدييه، حتى تخرج من بين كتفيه، فيعطى كتابه بشماله وراء ظهره، وقد سود الله وجهه في ظلامٍ دامسٍ لا يدري فيه كيف يضع قدمه، فيصيح من الفزع: فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:25-29]، ثم إن كان الإنسان من أهل الإحسان كذلك، فإنه يثقل الله موازين حسناته عندما توزن أعماله بين يديه، حتى لو كان عمله الصالح يسيراً جداً، فإن الله يضاعفه ويثقله ويبارك فيه، فلذلك ثبت في الصحيح: ( أن رجلاً يؤتى به فتُعرض عليه أعماله فإذا هي سجلات مد البصر من السيئات، فيقول الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من عملٍ صالح؟ فيُجاء بورقةٍ على قدر الظفر، كتب فيها: لا إله إلا الله، فيقول: يا رب ما تغني هذه مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم شيئاً، فتوضع السجلات في كفة ولا إله إلا الله في كفة، فطاشت السجلات ورجحت: لا إله إلا الله )، وهذا من مباركة الله في العمل، وتقبله له بأضعاف مضاعفة.

    وكذلك إن كان من الناجين فإن الله ينجيه على الصراط، وهو جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتجاوز الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلّم، ومخدوشٍ مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

    والمخدوش قد يسقط شدقه وقد تسقط عينه، وقد يسقط أذنه، وقد يُبقر بطنه، وقد تسقط يده أو رجله، ثم بعد ذلك يتجاوز من تجاوز الصراط وهم بعث الجنة، وهم قليل فيمن سواهم؛ لأن الله يأمر آدم فيقول: ( أخرج بعث النار، فيقول: يا رب من كم؟ فيقول: من كل مائة تسعةً وتسعين )، وفي رواية: ( من كل ألف تسعمائة وتسعةً وتسعين )، فذلك يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ[الحج:2].

    حال أهل الجنة بعد تجاوز الصراط

    وإذا تجاوز أهل الجنة الصراط، وقد رأوا جهنم يركب بعضها بعضاً وقد نجاهم الله منها، فإنهم يرون شجرةً عظيمة، فإذا وصلوا إليها إذا بها نهران أحدهما داخل والآخر خارج، فيؤمرون فيشربون من النهر الداخل، فيزول ما بداخل أجسامهم من الأضرار والأمراض، وتغلق مسام أجسامهم فلا يخرج منها إلا الرشحُ وهو العرق الذي رائحته كأطيب الطيب، فلا يبولون بعد ذلك ولا يحتاجون إلى إخراج أي شيءٍ من البدن ما عدا الرشح، ثم بعد ذلك يؤمرون فينغمسون في النهر الخارج، فإذا انغمسوا فيه عاد إلى أجسامهم ما كان قد قطع منها على الصراط، وكذلك ما كان فيها من نقصٍ في الدنيا، ويزول عنهم ما كان فيهم من الأمراض، ومن جميع المعايب في أجسامهم، ثم إذا تجاوزا ذلك كُسوا، فيُكسى أهل الجنة، وأول من يُكسى إبراهيم عليه السلام، فيُكسون كلاً بحسب مستواه وعمله، فإذا كُسوا استقبلهم ولدان الجنة، وهم ولدان مخلدون، أي: دائمون في سن لا يتعدونه، يمضي عليهم مليارات السنوات لا يكبرون؛ ليكونوا صالحين للخدمة، ولئلا يستحي الإنسان من استخدامهم دائماً، وقد قيل في التفسير (مخلدون) أي: مزينون بالخلدة وهي أقراط الذهب، فيأتي الولدان إلى كل إنسان من أهل الجنة يستقبلونه ويغنون له ويرحبون به، ثم يرجعون أمامه إلى مقره من الجنة، وكل واحدٍ منهم أبصر بمكانه من الجنة من بيته في الدنيا، فيأتون أهليهم في الجنة، فيقولون: جاء أهل الجنة وفيهم فلان، فيقول نساؤه: أنت رأيته؟ فيقول: نعم، وهو على أثري، فتستقبله إحدى نسائه على باب من أبواب الجنة، فإذا جاء فرآها وقد كُسيت بسبعين حُلة من الديباج، وضع يده بين كتفيها فيرى أصابعه من بين ثدييها، ومع كل هذا الكساء لا يستر ذلك يده، وذلك أن نساء الجنة يُرى مخ ساقها من خارجه، ولو بصقت في البحر لصار عذباً من بصاقها، ولو أسفرت عن وجهها لحظة لأضاء لها ما بين المشرق والمغرب، وأهدابها كجناح النسر، وحاجبها كالهلال في الاستقواس والسعة، ولا يسمع الإنسان منها قولاً يكرهه، فلا يسمع في الجنة أي لفظٍ يكرهه: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا[الواقعة:25-26].

    ثم بعد ذلك يستقبلهم الملائكة بالترحيب، يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر:73]، ثم يناديهم منادي الله: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا، وأن تشبوا فلا تهرموا، وأن تنعموا وتكرموا، فهم في نعيم دائم لا انقطاع فيه، وكل ما فيها من الملذات والشهوات لا ينقطع، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تبقى ويأتي بعدها مليارات اللذات وهي باقية لا تنقطع، بخلاف ملذات الدنيا، فالإنسان لا يستطيع عادة الجمع بين لذتين من لذات الدنيا، تنقطع لذة وتأتي بعدها أخرى، لكن في الجنة لا ينقطع شيء من نعيمها، فنعيم الجنة لا يزول، وأيضاً فملذات الدنيا مملولة، إذا استمر الإنسان عليها ملها، وملذات الجنة لا تُمل: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا[البقرة:25].

    أبلغ نعيم في الجنة

    إخواني أبلغ ما في الجنة من أنواع النعيم هو لذة النظر إلى وجه الله الكريم، بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]، فلا ينظرون إلى شيءٍ مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجه الله الكريم، يزدرون كل ما كانوا فيه من أنواع النعيم المقيم، ثم بعد ذلك يستزيرهم الباري جل جلاله، يدعوهم لزيارته، فيزينون لها، فتهب عليهم الرياح برائحة العطر الذي لم يشموا قط مثله، فيزدادون حسناً وبهاءً وجمالاً، فإذا عادوا إلى أهليهم قالوا: تالله لقد ازددتم حسناً بعدنا، فيقولون: وأنتم أيضاً لقد ازددتم حسناً بعدنا، وهم يرون الله جل جلاله، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة:22-23]، فمنهم من يزوره أول النهار وآخره، ومنهم من يزوره في أوقات الصلوات، ومنهم من يزوره كل يومٍ مرة، ومنهم من يزوره كل جمعةٍ مرة، ومنهم من يزوره كل شهرٍ مرة، ومنهم من يزوره مرةً في السنة، بحسب تفاوتهم، وإن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء.

    حال أهل النار في النار

    أما إن كان في الأخرى نسأل الله السلامة والعافية، فالعمر الخامس في حق من خالف منهج الله عمر لا يتمنى، فهذا العمر يهوي صاحبه في النار من فوق الصراط فيمكث سبعين خريفاً، يهوي حتى يصل إلى قعرها، وفيها من أنواع المذلة والهوان ما لا يتصور ولا يخطر على بال، لو قطرت قطرة واحدة من غسلين أهل النار في الأرض لخبثت كل شيء فيها وبشعته، ولما استطاع أي أحد أن يتنفس بهوائها، ولا يشرب من مائها، ولا يأكل من طعامها لخبث كل ذلك، قطرة واحدة تخبث كل شيء في الأرض، وفيها أنواع من الأودية، ففيها السعير: ذو الحر الشديد، وفيها الزمهرير: البرد الشديد، وهم يحبسون في أماكن منها ضيقة، كما قال الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا[الفرقان:12-14]، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[النساء:56]، تكبر أجسامهم وتقوى، فلمقعد أحدهم في النار كما بين مكة والمدينة، ولضرس أحدهم في النار كجبل أحد، وأقدامهم في السلاسل كالجبال السود المتراكمة، ويقوون وتقوى أسماعهم حتى يحصل بينهم الحوار، يحصل الحوار بين الذين استكبروا والذين استضعفوا، ويسمع أهل الجنة تخاصمهم على بعد المسافة في ما بينهم، يقوي الله أسماعهم وأبصارهم، فأهل الجنة يتحاورون، ومع ذلك يقول أحدهم: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ[الصافات:54]، فيطلعون فوق الجنة فيرى صاحبه الذي كاد يغويه في سواء الجحيم، أي: في وسط النار-نسأل الله السلامة والعافية- ويخاطبه من هذه المسافة التي لا تُتصور، والبعد الذي لا يُتصور، ومع ذلك يقوي الله سمعه حتى يسمعه، ويعلم أن الكلام موجه إليه من بين هذه المليارات من الخلائق المعذبة، لا يصل الكلام إلا إلى صاحبه الذي يعرفه، وكذلك خصامهم فيما بينهم، فهم يأتون أفواجاً، تأتي أمة فإذا دخلت لعنت الأمة التي قبلها؛ لأنها كانت السبب في غوايتها، ثم تأتي الأمة الأخرى فتلعن التي قبلها وهكذا، نسأل الله السلامة والعافية، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا[الأعراف:38].

    أبلغ ما في النار من المذلة والهوان

    وأبلغ ما فيها من أنواع المذلة والهوان أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، يمكثون مدة طويلة وهم ينادون مالكاً يقولون: يا مالك نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فينتظرون جوابه أربعين سنة، فيقول: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]، هذا الجواب، ولا يكلمهم الله كلام رحمة، وإنما يكلمهم كلام عذاب، فيقول الباري لهم جل جلاله: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]، وهم ينادونه فيقولون: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون:99-100]، والله سبحانه وتعالى يجيبهم بهذا الجواب: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]، هذا حظهم من رحمة أرحم الراحمين جل جلاله، فإذا كانوا بهذا الطرد من أرحم الراحمين، فما ظنكم بما سيلقون من الزبانية ومن العذاب الشديد بناره؟

    إخواني إذا عرفنا هذا المصير الحتمي، ونحن طبعاً نؤمن به جميعاً، فعلينا أن ننتهز الفرصة للنجاة قبل الفوات، وأن نعد أنفسنا للرحيل من هذه الدار ونحن نعلم أنها ليست دار قرار، وأن نجتهد في تثقيل موازين حسناتنا والميزان يتأثر بقدر وزن النملة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8].

    1.   

    ما تختم به الأعمار

    علينا أن نختم أعمارنا بأربعة أقسام: جزء نتعلم فيه ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، وجزء نطبق فيه ما تعلمناه، وجزء ندعو فيه إلى ما تعلمناه وعملنا به، وجزء نعود فيه أنفسنا ونجاهدها على الصبر على طريق الحق حتى نلقى الله، فهذه أربع واجبات هي تعلم ما أمر الله به، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر عليه حتى نلقى الله، وهي وصية لقمان لابنه كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان:13]، هذا تعليم، ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ[لقمان:17]، وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ[لقمان:17]، وهذه الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[لقمان:17]، وهذا الصبر على هذا الطريق، وهذه الأربع كذلك تضمنت لها سورة العصر التي قال فيها الإمام الشافعي : لو لم ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:1-3]وهذا تعلم ما أمر الله به، تعلم الإيمان، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[العصر:3]وهذا العمل، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ[العصر:3]وهذه دعوة، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:3]، وهذا الصبر على هذا الطريق.

    بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب عليّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756165099