إسلام ويب

منهج أولي العزمللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع سنة أولي العزم من الرسل في الصبر، وهم كل من تحمل الأذى وصبر عليه، وخاصته الخمسة الذين ذكروا في سورتي الأحزاب والشورى، وقد كان منهجهم في الدعوة يرتكز على ركيزتين هما: إقامة الدين، وعدم التفرق فيه، وهذا ما شرعه الله لنا في كتابه، ووصى به أولي العزم من رسله

    1.   

    أمر الله لنبيه بلزوم سنة أولي العزم من الرسل

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله ب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم سنة أولي العزم من الرسل في الصبر، فقال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وهذا تدريب من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى لزوم المنهج الذي سلكه الأنبياء من قبله.

    وقد اختلف أهل العلم في المقصود بأولي العزم، فقالت طائفة منهم: كل الرسل من أولي العزم، فالأنبياء جميعاً هم أولو العزم، فتكون (من) هنا بيانيةً، معنى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ [الأحقاف:35]، الذين هم الرسل.

    وقالت طائفة أخرى: بل (من) تبعيضية، وعلى هذا فالمقصود بعض الأنبياء دون بعض، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر باتباع يونس في استعجاله على قومه، فقد قال تعالى: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم:48-49]، فالله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأمره ألا يكون كيونس عليه السلام في هذه القضية بعينها.

    وكذلك فإنه تعالى قال في قصة آدم عليه السلام: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، فقيل: المقصود لم نجد له قوةً وجلداً كما كان لدى الملائكة في الطاعة، فالبشر ليسوا كالملائكة، وقيل المقصود: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، أي: على المعصية، وإنما حصل منه ذلك بقدر الله سبحانه وتعالى وتقديره.

    1.   

    المقصود بأولي العزم من الرسل

    وعلى هذا القول الأخير فقد اختلف في المقصود بأولي العزم من الرسل:

    الذين صبروا على البلاء والأذى من الرسل

    قالت طائفة: المقصود بهم الذين صبروا على البلاء والأذى في سبيل الله، فمن هؤلاء نوح عليه السلام، فقد صبر على أذى قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهم يسخرون منه ومن المؤمنين معه ويقولون: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27].

    ومنهم إبراهيم عليه السلام الذي صبر على أذى الأقربين، حتى رموا به في النار، ولكنه هجرهم هجراً جميلاً، وصبر على أذاهم حتى عوضه الله خيراً منه، ومنهم الذبيح الذي عندما صارحه إبراهيم بأنه يرى في المنام أنه يذبحه، فاستعد لذلك وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].

    ومنهم كذلك أيوب عليه السلام، فقد صبر على البلاء ثماني عشرة سنة، وفي كل يوم من الأيام يزداد بلاؤه، وهو صابر على بلائه، حتى إنه يستحيي من الله أن يدعوه لرفع الضر عنه، وأن يذكر له حاله تعريضاً لا تصريحاً، ولم يفعل ذلك حتى افتقر أهل بيته جميعاً، حتى إن امرأته خرجت إلى أهل بيت أغنياء من بني إسرائيل فعرضت على ابنة لهم أن تقص لها ضفيرة من شعرها، مقابل غذاء تغذي به أيوب عليه السلام، فقصت لها ضفيرة من ضفائرها، ثم في اليوم الثاني كذلك قصت لها ضفيرة أخرى، حتى ذهب شعرها بذلك، فلما رآها أيوب أدرك أن البلاء قد أدرك أهل بيته، فنادى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وقال ذلك وامرأته غائبة عن مكانه، وهو ملقىً على طرف قمامة لبني إسرائيل فجاءت فوجدت حاله قد تغير، وقد رفع الله عنه البلاء، وألبسه حلة من حلل الجنة، وقال له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فركض برجله فنبع الماء من تحت رجله، فاغتسل فذهب ما كان به من الضر، ولبس اللباس الجديد، فلما رأته لم تعرفه؛ لحسن صورته، وحسن ثيابه، فسألته فقالت: أين رجل مبتلى كان هنا؟ لعله اختطفته الكلاب، فقال: أنا أيوب ، فما صدقته، حتى عرفت الحق منه.

    وقد بين الله سبحانه وتعالى الذكرى التي في قصة أيوب عليه السلام، وبين أنها ذكرى للعابدين، وقال أهل العلم كما في تفسير ابن كثير وغيره. المقصود بذلك: أن الله سبحانه وتعالى لما ابتلى أيوب بهذا البلاء فصبر عليه، جعل ذلك ذكرى للعابدين، أي: لئلا يتصور المؤمنون المبتلون في ذات الله هوانهم على الله، فقد ابتلي من هو خير منهم.

    وكذلك من هؤلاء الذين صبروا من الأنبياء على البلاء الذين يعدهم كثير من أهل التفسير من أولي العزم من الرسل: يعقوب عليه السلام، الذي صبر على فقد أولاده، والأذى الذي لحقه بذلك، حين ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، ولم يلجأ إلى مخلوق أبداً، بل قال: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، فحقق الله له رجاءه وجمع له شمله.

    الذين ذكروا في سورتي الأحزاب والشورى

    وقال بعض أهل التفسير المقصود بأولي العزم: الذين ذكروا في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى، وهم خمسة، فقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، وقال في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وهذا القول هو أشهر الأقوال، وأكثرها انتشاراً لدى أهل التفسير أن المقصود بأولي العزم من الرسل هؤلاء الخمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، و نوح ، و إبراهيم ، و موسى ، و عيسى عليهم أجمعين السلام، وهؤلاء قد جاءوا بشرائع مجددة ناسخة لما سبقها، وكثير ممن سواهم من الرسل يأتون مجددين لشرائع سابقة، فهؤلاء يأتون بشرع جديد، كما قال الله تعالى في سورة العقود: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

    وقد أخرج البخاري في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قول الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، قال: سبيلاً وسنة، فالسنة تفسير للشرعة، والسبيل تفسير للمنهاج، فالشرعة هنا المقصود بها السنة، أي: الملة التي يسلكها النبي في خاصة نفسه، وما يكون عليه في معاملاته لقومه، وفي أسلوبه الدعوي، في خطابه للناس، وفي نمط حياته سواء كان قروياً، أو حضرياً، فالجميع من أهل القرى، كل الرسل كانوا من أهل القرى، ليس فيهم أحد من أهل البادية، لكن منهم من كان من أهل الأمصار الكبار، ومنهم من كان من القرى الصغار، وأما السبيل: فهو شريعتهم التي شرعت لهم وبينت، وهذه الشريعة ما يختص بكل نبي من الأنبياء من الأحكام التي يعلم الله سبحانه وتعالى أنها لا تصلح إلا لمدة معينة، فإذا ذهبت تلك المدة نسخت تلك الشريعة بشريعة أخرى، مغيرة لها تماماً.

    فالشريعة التي أنزلت على موسى حق، وهي صالحة للبشر في وقتها، وصالحة للتطبيق في ذلك الوقت، لكن الله علم أنها لا تصلح للتطبيق الأبدي المستمر، فنسخها بشريعة عيسى ، وشريعة عيسى التي أنزلت إليه هي الحق من عند الله، صالحة للتطبيق في ذلك الزمان، ومصلحة البشر فيه، لكن علم الله أنها لا تصلح للاستمرار، فلذلك نسخها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الدين هو الدين عند الله، أي: هو الدين الذي كان كل الأديان إعداداً، فما سواه من الدين مؤقت، فالشرائع المنزلة من عند الله السابقة كلها مؤقتة إلا شريعة الإسلام فهي لكل من بلغ، تقوم به الحجة على كل من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تغطي حاجيات الناس في كل زمان ومكان، ولا ترد عنه واردة ولا شاردة؛ لأنها تجمع بين المرونة والإحالة إلى الاجتهاد، والسلاسة في التطبيق، وقد تضمنها هذا القرآن، وهذه السنة، وهما وحي منزل من عند الله، لا يأتيهما الباطل من أي وجه من الوجوه، فلذلك ضمن لها البقاء والاستمرار.

    والرسل الآخرون كانوا يأتون تابعين ومجددين لرسل قد سبقوهم، فيجددون مللهم وما كانوا عليه، ويعملون بكتبهم، ويطبقونها، و عيسى بن مريم جمع الله له بين الخاصتين، ففي فترته الأولى فوق الأرض جاء بشريعة جديدة هي الملة النصرانية، وفي حياته على الأرض بعد نزوله من السماء في آخر الزمان يكون مجدداً لملة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يأتي بشرع جديد، وإنما يحكم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جمع الله بين الخاصتين، وهذا مختص بعيسى وحده من بين الأنبياء، أما من سواه من الأنبياء فإنهم إما أن يكونوا عاملين بشرائع السابقين مجددين لها، وإما أن يأتوا بشرع جديد مستقل.

    وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولكن المقصود بملته هنا: طريقة الدعوية، ولا يقصد بذلك تفاصيل شريعته، فقد جاء البون شاسعاً بين ما كان متعبداً به في أيام إبراهيم وما كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء من تفريعات الإسلام وتشريعاته، فالصلاة ما شرع منها لهذه الأمة هو خيرها، وقد كان في ملة إبراهيم صلاتان، ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، وهذه الأمة شرع لها خمس صلوات في اليوم والليلة، وجعل ذلك على أجر خمسين صلاة في اليوم والليلة.

    وكذلك فإن اتباع ملة إبراهيم الذي أمر الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه استثنى الله منه مسألة واحدة وهي استغفار إبراهيم لأبيه، فلم يستثنِ من اتباعه فيما يتعلق بالدعوة والأسلوب إلا أمراً واحداً وهو استغفاره لأبيه، فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]، ولذلك لما ذكر الله الاتساء بملة إبراهيم في سورة الممتحنة قال فيها: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4]، فهذا الأمر الوحيد الذي استثني من اتباع ملة إبراهيم .

    1.   

    منهج أولي العزم من الرسل في المجال الدعوي

    وسنأخذ بالقول المشهور في تفسير أولي العزم، وأنهم هؤلاء الخمسة الذين ذكروا في سورة الشورى، وفي سورة الأحزاب، ففي المجال الدعوي جمع هؤلاء منهج واحد انتظمت به دعوتهم، وهذا المنهج يقوم على ركيزتين عظيمتين بينهما الله في كتابه بقوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].

    1.   

    إقامة الدين في المجال الدعوي ومقتضياته

    فالركيزة الأولى: هي إقامة الدين، والمقصود بذلك إقامة التوحيد لله سبحانه وتعالى بالاعتماد عليه وحده والاتكال عليه وحده، وعبادته بما شرع وبين، ولزوم الاتصال به في كل الأوقات، وهذا دأب الأنبياء جميعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد أبناء علات )، فقوله: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد) أي: اعتقادانا واحد، (أبناء علات): أي شرائعنا مختلفة، فأبناء العلات هم الإخوة لأب الذين أمهاتهم متعددات، فالأنبياء عقيدتهم واحدة، أما شريعتهم بالتفاصيل والواجبات فهي مختلفة.

    أداء الرسالة التي كلف الإنسان بها قبل فوات الأوان

    وإقامة الدين تقتضي الدعوة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وإقامة القسط في الأرض، وذلك أن الإنسان مهما كان فإنه مكلف برسالة لا بد من أدائها قبل فوات الأوان، وهذه الرسالة تحملها الجنس البشري كله عندما أهبط آدم و حواء إلى الأرض، فنحن في هذه الأرض غرباء، لسنا من أهلها، ونرجو أن نعود إلى المكان الذي قدمنا منه وهو الجنة.

    وحي على جنات عدن فإنها مراتعك الأولى وفيها المخيم

    فالجنة منها أهبطنا، وإليها نعود إن شاء الله تعالى، وقد أهبطنا هنا لمهمة لا بد من أدائها، وهي إقامة الدين في هذه الأرض لله سبحانه وتعالى، ومدة تأشيرتنا في الأرض مجهولة متفاوتة، فأنتم تعرفون مدة تأشير الزيارات، قد تكون خمسة عشر يوماً، وقد تكون خمسة عشر يوماً، وقد تكون عشرين، وقد تكون شهراً، وقد تكون ستة أشهر، فكذلك أعمار بني آدم ، منهم من يمضي فوق هذه الأرض عشرين سنة، أو عشر سنوات، ومنهم من يمضي ثلاثين، ومنهم يمضي أربعين، ومنهم من يمضي خمسين ..إلخ، فهذا التفاوت بيننا في البقاء فوق الأرض هو التفاوت في أمداد التآشر التي يمددها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء امتحاناً وابتلاء، ويقدرها على من يشاء امتحاناً وابتلاء، فلذلك لا بد أن ندرك أن مهمتنا تقتضي منا الاستعجال، وأن نقوم بوظيفتنا قبل أن تنتهي تآشرنا.

    فالتاجر إذا خرج بتأشيرة إلى بانكوك أو هونغ كونغ لمدة خمسة عشر يوماً يريد شراء البضاعة وشحنها، ولكنه ذهب فاستأجر غرفةً في فندق، وأغلق عليه الباب، واستمر في الفندق حتى انتهت الأيام الخمسة عشر، ثم رجع من حيث جاء، هل تعتبرونه رشيداً؟ هو غير رشيد، لم يقم بما خرج من أجله، ولم يؤدِ المهمة التي من أجلها خرج، فكذلك الإنسان إذا أهبط إلى هذه الأرض ومكث فيها ما مكث، ثم انتهت تأشيرته، فناداه منادِ الله، فلبى نداءه لا يستطيع أن يتأخر ساعة ولا أن يتقدم، فخرج إلى الدار الآخرة ولم يؤدِ شيئاً مما أمر به، أليس سفيهاً؟ إنه مفرط غاية التفريط.

    فلذلك لا بد أن نحرص على أن نؤدي مهمتنا، وأن نعرفها، وهي إقامة الدين، وأن نعلم أن تفاوتنا في هذه الحياة الدنيا في الأرزاق وفي الأعمار وفي الخلقة وفي المكانة الاجتماعية وغير ذلك، كله بمثابة تفاوت الراكبين في السيارة، بعضهم في مقدمها، وبعضهم في مؤخرها، في مدة السفر، فإذا وصلوا ونزلوا لم يبقَ على من كان في مقدم السيارة علامة أنه كان في مقدمها، ولا على الآخر علامة أنه كان في مؤخرها، يداركون جميعاً، فكذلك من تفاوت منا رزقه أو شكله، أو مكانته الاجتماعية في هذه الحياة، سيداركون جميعاً بالآخرة، ألا ترون القبور إذا مررتم عليها، فهل تميزون بين قبر الغني والفقير، والشريف والوضيع، والكبير، والصغير؟ كلهم سواء، انقطعت أخبارهم جميعاً، فلنصبر إذاً على التفاوت اليسير في المدة اليسيرة، ونحن نعلم أن النتيجة سنستوي فيها، إنما الفضل فيها بحسب النجاح في المهمة التي من أجلها ابتعثنا.

    لذلك علينا أن نعلم أن التمايز بين الناس في الحياة الدنيا من الغنى والفقر، والحسن والقبح، والطول والقصر، والحرية والرق وغير ذلك من الأمور هو تفاوت في مدة السفر فقط، بمجرد النزول من السيارة فإنهم يستوون جميعاً، فمن كان مهضوماً مضطهداً في مدة من هذه الحياة الدنيا فلا عار عليه، فالخطب يسير، والمدة قليلة يصبر على ذلك كما يصبر الذي يجلس في مكانٍ غير مناسب في السيارة حتى يصل إلى نهاية سفره، ونحن نعلم أن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي سفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مالي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل )، فعلى هذا علينا ألا نركز كثيراً على الفوارق الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية بيننا، بل ننظر إلى ما يجمعنا، وننظر إلى التكليف الذي علينا جميعاً، وهو أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13]، فهذا منهج أولي العزم من الرسل، فما هي إقامة الدين؟

    إقامة الإنسان للدين في خاصة نفسه

    إقامة الدين: تقتضي من الإنسان أن يقيمه أولاً في خاصة نفسه، فيحسن علاقاته بالله، أن يتعلم ما يريد الله منه، وأن يبادر إلى العمل بما تعلمه، وأن يبادر إلى الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به، وأن يكون إنساناً صالحاً، حتى يكون لبنة من لبنات بناء المجتمع الصالح، فالإنسان الذي يغتر بدار الغرور، أو يتبع الهوى ليس إنساناً صالحاً، بل سيكون بهيمةً من البهائم، كما قال الله تعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ [محمد:12]، وقال في وصف الكفار: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فكثير من الناس لا يفكر في كرامته على الله، ولا في وظيفته على الأرض، فيجعل نفسه بهيمة من البهائم، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ [محمد:12]، لكن الذي يدرك مهمته في هذه الأرض ويسعى لتنفيذها فلا بد أن يدرك شرفه ومكانته عند الله سبحانه وتعالى، وأنه موظف في وظيفة عظيمة، يريد أن يقوم بها على أحسن الوجوه، وهذه الوظيفة هي الاستخلاف في الأرض، وهي تقتضي أمرين:

    الأمر الأول: تعبيد الناس لرب الناس، أن يكون الناس جميعاً عباداً لله عز وجل، وهذا يقتضي منهم محبته سبحانه وتعالى حباً شديداً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، ويقتضي الخوف منه وحده، أن يعلم الإنسان أن الإنسان وغيره من الخلائق لا يملكون له نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]، وبذلك يتخلص من العبودية للمخلوقين، ومن الضغوط التي تمارس عليه، فيكون حراً في قراراته، وفي مواقفه لأن الذي يضام في قراراته وفي مواقفه، يوشك أن يقدم على الله سبحانه وتعالى، فتعرض عليه صحائفه وقد عاش سبعين سنة، أو خمسين سنة، أو ستين سنة، وكل سنة منها ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، فلا يجد فيه يوماً من الأيام موقفاً مشرفاً قام فيه بإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، فانظروا إلى هذا الحشد الكبير من الأيام والليالي، إذا قدم الإنسان بها على الله، وكل يوم وليلة له صحيفة، فلا يجد فيها موقفاً مشرفاً أراد به إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، والتمكين له في هذه الأرض، وتعبيد الناس له، أليس هذا موقفاً مخزياً؟

    إن الإنسان سيؤمر بقراءة كتابه على رءوس الأشهاد بأعلى صوته، يقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، فيقرؤه بأعلى صوته يقول: فعلت كذا يوم كذا، وفعلت كذا ليلة كذا، وتركت كذا يوم كذا، وتركت كذا ليلة كذا، بحضرة الملك الديان، والملائكة والأنبياء والخلائق جميعاً يشهدهم على نفسه بذلك، فإذا مر بموقف مشرف ابيض وجهه وغشيه السرور، وإذا مر بموقف مخزي اسود وجهه وغشيته الكآبة، بإقراره على نفسه بذلك.

    المهمة الثانية من مهمات الاستخلاف: هي تسخير ما في الأرض من الخيرات والمنافع لمصلحة الجنس البشري، فالجنس البشري مسخر لعبادة الله، وما في الأرض من الدواب والبهائم والأنعام والأرزاق والخلائق الأخرى مسخر لمصلحة بني آدم: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، فلا بد من السعي لذلك، ولا يكون ذلك إلا بالعدالة الاجتماعية، وهذه العدالة التي هي منهج الله سبحانه وتعالى، وبالعدل قامت السموات والأرض، وقد وصف الله به نفسه، وأمرنا به في كل الظروف، يقتضي من الإنسان أن يسعى لأن يكون مع العدل دائماً، ومع القسط دائماً، فلا تجرمنه الضغوط والمصالح والخوف على أن يكون مع الباطل؛ لأنه يعلم أن جميع ما معه من النعم هي من عند الله، لا من عند الناس، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ [النحل:53]، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].

    فما أنت فيه يا أخي! من وظيفة أو مال، أو جاهٍ، أو أهل، أو أولاد أو غير ذلك كله من نعمة الله عليك، ليس لأحد فيه دخل، ولا يستطيع أحد أن يعطيك ما منعك الله، ولا يستطيع أحد أن يمنعك ما أعطاك الله، ونحن جميعاً نقول في الرفع من الركوع في الصلاة: ( لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، ونقرأ في قرآننا قول الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، ونقرأ فيه قول الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، ونقرأ فيه قول الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، ونقرأ فيه قوله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].

    فحين تدرك يا أخي! أن الله هو الذي خلقك وهو الذي أنعم عليك بأنواع النعم، وما أنت فيه من الأرزاق وغيرها من العافية كله من عنده، وهو القادر على سحبه ونزعه متى شاء، ولا يملك لك أحد دون الله تأثيراً، ولا يستطيع أن ينتزع منك منصباً ولا جاهاً ولا مالاً، ولا يستطيع أن ينقص رزقك ولا أن يزيد فيه، ولا أن ينقص أجلك بلحظة واحدة ولا أن يزيد فيه، فإنك حينئذٍ ستتحرر من الأغيار، وستكون مواقفك مواقف لله سبحانه تعالى، وإذا حصل ذلك فكنت صادقاً فإنك قد حققت هذا الجانب من منهج أولي العزم من الرسل، فإنهم هم المتوكلون على الله، فنوح عليه السلام يقول لقومه: إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71]، فإنه هنا حقق التوكل على الله سبحانه وتعالى، والاعتراف له بالنعمة، وعرف أن المخلوق لا يستطيع أن يوصل إليه نفعاً، ولا أن يرفع عنه ضراً ولا أن يوصله إليه بالكلية، لذلك قال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ [يونس:71]، فهل يستطيعون تغيير شيءٍ من قدر الله؟ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

    الوقوف مع الحق ومناصرته

    كذلك فإن من القيام بالدين القسط في الأرض أن يكون الإنسان دائماً مع الحق، أي: مناصراً لله سبحانه وتعالى في أمره كله، فإذا عرض موقف أياً كان، نظر في الجانب الرباني فيه، ما هو موقف الشرع فيقدمه على مواقف الخلائق جميعاً، وهذا إذا حصل للإنسان واقتنع به فإنه هو الاتصال بالله سبحانه وتعالى، ويكون الإنسان صادقاً إذا قرأ قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163]، إما إذا كان إذا عرض أي موقف ينظر إلى مواقف العباد وإلى مصالحهم وما يتعلق بذلك فهو كاذب عندما يقرأ هذه الآية، والآية تلعنه على لسانه، حين يقر على نفسه بشيء ثم يخالفه، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163].

    نصرة المظلوم والوقوف معه

    كذلك من القيام بالدين القسط: نصرة المظلوم، فالإنسان إذا تذكر نعمة الله عليه، وعرف أنه أنزل هنا للقيام بالقسط في الأرض، فليعلم أن من العدل الذي يجب عليه أن يقوم به: أن ينصر المظلوم أياً كان ذلك الظلم، فهذه النصرة حق وواجب على كل مسلم، كل مسلم يجب عليه أن يكون من أنصار المظلومين، ولذلك فهذا من آثار نعمة الله تعالى، فـموسى عليه السلام -وهو من أولي العزم من الرسل- حين تذكر نعمة الله عليه وما آتاه من القوة قال: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، فقوله: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [القصص:17]، أي: في مقابل نعمتك علي، فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، أي: لا يمكن أن أنصر ظالماً، ولا أن أعينه، ولا أن أكون ظهيراً له بوجه من الوجوه، وهذا ما أمر الله به أفضل أولي العزم من الرسل وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول له: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، ويقول له: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107].

    فعلى السالك لطريق أولي العزم من الرسل والمتبع لسبيلهم أن يعلم أن هذه هي مواقف مثبتة في كتاب الله عز وجل لا يرتاب فيها إلا مشرك، فهي صريحة في القرآن، فعليه أن يتخذ ذلك منهجاً في حياته، فليقل كل واحد منا فيما بينه وبين الله، وليجعل ذلك منهجاً له في حياته: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، وليجعل ذلك برهاناً عليه في كل أوقاته.

    الولاء لأولياء الله والبراء من أعدائه

    ثم مما يدخل في هذا المنهج كذلك، وفي إقامة الدين: ما يتعلق بالولاء والبراء، فإن الله سبحانه وتعالى بين ذلك من منهج أولي العزم من الرسل، فذكر ذلك عن إبراهيم عليه السلام فقال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28]، فهذه الكلمة الباقية في عقب إبراهيم هي الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من أعداء الله مطلقاً، وهي المقاطعة الحقيقية لأعداء الله سبحانه وتعالى، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:26-28]، فلا بد للمؤمن السالك لطريق أولي العزم من الرسل أن يحقق الولاء لله، فالإنسان الذي لا يهتم أصلاً بأمر الدين، ولا يهتم بنصرته، هل حقق الولاء لله؟ أبداً، والذي يهتم به ولكنه دائماً في الطرف السلبي المقابل، هل هو موالٍ لله ولرسوله وللمؤمنين؟ أبداً، والذي يهتم به، ويكون معه في بعض الأوقات، وببعض جهده دون بعض، لا شك أنه أيضاً ناقص الولاء، وناقص القيام بالحق الذي عليه، فلا بد أن يكون الإنسان باذلاً لكل ما يستطيعه في نصرة الله ورسوله، وأن يعلم أن ذلك خير له على كل حال فهو الرابح، فالله سبحانه وتعالى غني عنا، وغني عما في أيدينا، وقد قال في كتابه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51].

    السعي في النفع العام للناس

    ثم من هذا المنهج كذلك فيما يتعلق بإقامة الدين: أن يسعى الإنسان للنفع العام في الأرض، أي: أن يكون نافعاً للناس، فـ ( الناس عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله )، فيسعى لتحقيق النفع العام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، فكل من استطاع أن ينفع أخاه المسلم بأي نفع كان فليفعل، فهو مأمور بذلك شرعاً، وهذا من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به، فقد قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ [المائدة:2]، وهذا واضح في منهج أولي العزم من الرسل، فهذا موسى عليه السلام يقول الله عنه: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23]، فلم يذهب إلى الأمة الذين يسقون، وإنما ذهب إلى هاتين الضعيفتين: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:23-24]، فانظروا إلى حال أولي العزم من الرسل، يذهبون إلى المستضعفين، يؤدون الحق فيساعدونهم بما يستطيعون، فهو لا يستطيع إلا أن يسقي لهما ففعل، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].

    وهكذا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أن سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد كان من أولاد الملوك في فارس، ولكن الله ألقى في قلبه محبة الدين الجديد، وقد درس الديانات السابقة، فتمسك باليهودية ردحاً من الزمن، ثم عرف أنها قد نسخت بملة النصرانية فلزمها ردحاً من الزمن، ثم علم أنها تنسخ برسالة الأميين في آخر الزمان، وأن تلك الرسالة قد أطل زمانها، فتطلبها في كل مكان، وسار في الأرض في تطلبها، حتى أرق وهو من أبناء الملوك، فاسترقه أقوام بالشام فباعوه إلى المدينة، فجلبوه إلى تلك الأرض، ففرح بذلك فرحاً شديداً؛ لأنه رأى وصفها في الكتب السابقة، وأنها مهاجر النبي الأمي، فكان عبداً لدى أسرة من اليهود يخدمهم في زراعة النخل، والعمل الشاق، وهو كبير السن، ( فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً جاء سلمان إليه، ولديه علامات واضحة جداً للنبي الذي سيبعث في آخر الزمان، منها خاتم النبوة بين كتفيه مائلاً إلى كتفه الأيسر كبيضة الحجلة، فجاء يلتمسه، فمر خلف ظهره، فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم رداءه حتى رأى سلمان خاتم النبوة، فأكب عليه يقبله، ثم ذهب فعمل من كسب يده، حتى أحرز طبقاً من الرطب، فجاء يحمله، فقال: هذا صدقة، فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدمه للفقراء، فرجع سلمان فعمل حتى أحرز من كسب يده طبقاً آخر من الرطب، فجاء يحمله فقال: هذه هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم )، فتحققت العلامات الثلاث التي كان سلمان يتوقعها، فرأى خاتم النبوة، وعلم أنه لا يأكل الصدقة، وأنه يأكل الهدية، وأكل الهدية هنا عبارة عن التواضع وأنه مع الناس فيما هم فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت )، وقد أجاب دعوة يهودي إلى إهالة سنخة، أي: متغيرة اللون، والإهالة: الجبنة، أو الزبدة.

    كذلك أراد سلمان أن يتحرر لعبادة الله، وأن يكون من أنصار هذا الدين الجديد، وأن يكون من قادته، والفاتحين في سبيل الله، فجاء إلى ملاكه من اليهود فعرض عليهم أن يكاتبهم، فأغلوا عليه في ذلك وشرطوا عليه حفر بئر شاقة، حفر في الحجارة، وزراعة عدد كبير من النخل، فقبل ذلك فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن يساعدوا أخاهم، فجمعوا له ما كان عليه من الذهب، كل إنسان يأتي بما معه حتى إن النساء يأتين بأقراطهن، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون معه والأنصار، يباشرون زراعة النخل بأيديهم، ويحفرون البئر بأيديهم، وبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم معول يضرب به، حتى تخلص سلمان من رقه، وكان سيداً من سادة المسلمين، ولما كان الناس إذ ذاك ينتسبون إلى القبائل، ولم يكن لـسلمان قبيلة في جزيرة العرب، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا أهل البيت )، فكانت قبيلته قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فقد كانت بقية عمر سلمان جهاداً في سبيل الله ودعوة إليه، وقياماً بالقسط، والعدل في الأرض، حتى إنه كان قائداً للجيش الذي فتح الله عليه مدائن كسرى، فالمدائن التي كان يملكها أجداده وملوك الفرس، فتحها الله على يديه، فولاه عليها عمر بن الخطاب ، فكان أميراً عليها، لكنه مع ذلك لم يكن يأخذ راتباً من بيت المال، وإنما كان يعيش من كسب يده؛ لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده، وما أكل امرؤ من كسب أطهر من عمل يده )، فكان سلمان وهو والٍ على المدائن، يأكل من كسب يده، ويسكن تحت ظل شجرة، تقللاً وتزهداً في هذه الحياة الدنيا. أين سلمان إذاً من الذين ينتهبون المال العام؟ والذين يقدمون مصالحهم الدنيوية على مصالح الناس؟ فشتان وهيهات، والبون شاسع بين الذين عرفوا فلزموا، والذين أخلدوا إلى الحياة الدنيا، فكانوا كالكلاب أو أشر من الكلاب.

    لذلك فهذا المنهج في مساعدة الضعفاء والعمل معهم هو من منهج أولي العزم من الرسل، وهو واضح في قصة سلمان ، وفي قصة ورود موسى على ماء مدين.

    البذل من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه

    كذلك فإن من منهجهم في إقامة الدين في الأرض: بذل كل ما يستطيعونه من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عمرو بن سالم الخزاعي يشكو إليه غدر قريش، فقال:

    يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا

    قد كنتم ولداً وكنا والدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

    فانصر هداك الله نصراً أيدا وادع عباد الله يأتوا مددا

    فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل السيف يسمو صعدا

    إن قرشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا

    وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا

    هم بيوتنا بالوتير هجدا وقتلونا ركعاً وسجدا

    قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا نصرت إن لم أنصرك، ورأى غمامة فقال: إن تلك الغمامة لتستهل لنصرة بني كعب )، فكان فتح مكة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر جهداً عن نصرة الدين، يبذل كل الأسباب المتاحة، ولذلك فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وهرقل والنجاشي، وملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام )، وفي صحيح مسلم من حديث أنس أيضاً ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر، وإلى كل جبار يدعوهم الإسلام )، فهؤلاء الجبابرة كتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام؛ لأن ذلك وسيلة دعوية مؤثرة، وكذلك فقد أخرج البعوث والسرايا، والكمندوزات السرية، كالكمندوز الذي أرسله لاغتيال كعب بن الأشرف عندما تعدى شرره وازداد ضرره، والكمندوز الذي أرسله لاغتيال أم قرفة كذلك، والكمندوز الذي أرسله لاغتيال أبي رافع بن أبي الحقيق ، وكذلك الكمندوز الذي أرسله لاغتيال أبي عفك ، والكمندوز الذي أرسله لاغتيال خالد بن سفيان ، وهذا الكمندوز عبارة عن رجل واحد، وهو عبد الله بن أنيس ، وقد حدثنا هو عن قصته فقال: ( بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خالد بن سفيان يجمع الجموع ببطن عرنة ليغزو المدينة، فدعاني فأمرني بقتله، فخرجت إليه فأتيته بعد العصر، وما صليت العصر، فأمسك بيدي فقال: ممن الرجل؟ فقلت: رجل من العرب، سمع أنك تجمع لهذا الرجل، فأتيت لأشهد معك، فإن غنمت رضخت لي من غنيمتك، قال: هو على ما سمعت، فجعل يدور بي بين الجموع حتى كادت الشمس تغرب، وما صليت العصر، فصليتها إلى غير قبلة أومئ إيماء ).

    تقديم الأولويات والقضايا المهمة

    ومن منهج أولي العزم من الرسل، وهو تقديم الأولويات والقضايا الملحة المهمة على غيرها، فحماية بيضة الإسلام مقدمة حتى على بعض جزئيات الإسلام وتطبيقاته، وهذا ترونه في عدد من النصوص الصحيحة، كحديث أنس رضي الله عنه في صحيح مسلم ، قال: ( رأيت فاطمة و عائشة و أم سليم يوم أحد مشمرات عن أسواقهن، يحملن القرب ويصببن الماء في أفواه الجرحى )، عندما هددت بيضة الإسلام خرج النساء مشمرات عن أسواقهن يحملن القرب، (ويصببن الماء في أفواه الجرحى)؛ لأن بيضة الإسلام مهددة، فهذا مقدم على ما يتعلق بالتستر، والصيانة في وقت آخر، ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في ديار بني قريظة )، فإن عدداً من الصحابة لم يصلوا العصر إلا بعد وقت العشاء في ديار بني قريظة، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فإذا هددت بيضة الإسلام فلا بد من التجاوز عن بعض الجزئيات؛ لأن الأمر أعظم منها، والوقت أضيق، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:101-103]، وهذا محل الاستشهاد، فالأحكام السابقة كلها من أحكام الطوارئ والظروف المتغيرة، عندما تهدد بيضة الإسلام ويخاف على كيانه، ثم قال: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، فزال الخوف، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فإذا حصل الخوف فلا بد من التجاوز عن بعض الأمور استعداداً للقيام بهذه المهمة، ولذلك فـ ( إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج غازياً إلى مكة في عام الفتح وهو صائم، والصحابة معه صائمون، حتى إذا بلغ كراع الغميم أمرهم أن يفطروا، فقال: أفطروا تقووا لأعدائكم )، فبين أن إفطارهم هو تقوٍ على أعدائهم.

    فهنا تشهدون أن الظروف الطارئة يناسبها تساهل في أمور، وتشدد في ذلك الظرف وما يتعلق به، خشيةً من اجتثاث بيضة الإسلام، وهذا منهج واضح في منهج أولي العزم من الرسل جميعاً، ومن هنا فإن عبد الله بن أنيس يقول: فصليتها وأنا أمشي إلى غير القبلة أومئ إيماء، حتى اختلط الظلام فخلوت به، فأطرت رأٍسه بالسيف، وقلت:

    أقول له والسيف يعجم رأسه أنا ابن أنيس فارساً غير قعدد

    إذا حارب المختار أي منافق سبقت إليه باللسان وباليدِ

    استيراد حضارة الأمم الأخرى والاستفادة منها إذا لم تكن محرمة

    كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعمل الأسباب التي لم تكن معروفة في جزيرة العرب، ولا من حضارتهم، فالأسباب المستوردة لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم غضاضة في استعمالها عند الحاجة إليها لنصرة الإسلام، فالخاتم هو من حضارة الروم، وإنما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم حين قيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، ثم كان من سنته أن يختم جميع كتبه، فهذا حضارة مستوردة من الروم عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها من أسباب التمكين والنصر، وليس فيها مخالفة للشرع وإنما هي أمر دنوي تنظيمي يحتاج الناس إليه في حياتهم الإدارية، وكذلك المنبر فهو من حضارة الحبشة، والذي عمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام حبشي لامرأة من الأنصار، عمله من طرفاء الغابة، وهي شجر بأرض في الشمال الغربي من المدينة على ثمانية أميال منها.

    فيها أرض الزبير بن العوام التي كانت أسماء تحمل منها النوى على رأسها لتعلف به فرس الزبير ونواضحه، وما زالت الطرفاء إلى الآن في هذا المكان الذي منه عمل المنبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، وأرض الزبير معروفة الآن فيها مسجد الزبير بن العوام ، فهنا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بفكرة المنبر وهي من حضارة الحبشة؛ لما فيها من إعلاء كلمة الله، وإظهار الإسلام، وإسماع كلمة الحق، وكان هذا المنبر وسيلة الإعلام إذ ذاك، فلو كان لهم وسائل إعلام أخرى لا تنافي أصلاً شرعياً وتؤدي ما يؤديه المنبر لأعملها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن وسيلة الإعلام إذ ذاك هي المنبر، وقد اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم فكان يعلن عليه إعلاناته من الحرب والسلم والصلح والأوامر والأقضية والأحكام، ويعلم الناس فيه أيضاً ما أنزل إليه من ربه، ويعظهم ويذكرهم عليه، حتى هيئة الصلاة يعلمهم إياها على المنبر، بالإضافة إلى إعلان الأحكام، وإعلان الحرب، وإعلان السلم، كل ذلك على المنبر، فهو وسيلة الإعلام إذ ذاك، وقد اتبع فيها النبي صلى الله عليه وسلم حضارة الحبشة.

    وكذلك الخندق، وهو وسيلة حربية، فهو من حضارة فارس، أعملها النبي صلى الله عليه وسلم لما خشي من مكاثرة الأحزاب لأهل المدينة، وهذه الوسيلة الحربية لم تكن معروفة لدى العرب، حتى إن قريشاً لما وقفوا على الخندق رعبوا منه وقالوا: والله إنها لمكيدة ما عرفتها العرب قبل اليوم، وقذف الله في قلوبهم الرعب حين رأوا حفر الخندق، فهذا عبارة عن أمرٍ مستورد من حضارة أخرى، لكنه معزٌ للإسلام ونافع لحماية بيضته، وللدفاع عنه، ومن هنا يعلم أن هذا المنهج منهج أولي العزم من الرسل يقتضي الاستفادة من حضارات الأمم الأخرى ما كان منها غير مخالفٍ للشرع، وكان فيه نفع.

    فلذلك إعمال وسائل الإعلان، والعمل النقابي، والعمل السياسي، والعمل الإعلامي، ونحو ذلك من الأعمال التي فيها نصرة للإسلام والمسلمين وإعلاء لكلمة الدين كله داخل في الأفكار المستوردة وجنسها، دليله هذه الأمور الثلاثة التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من حضارات الأمم الأخرى.

    1.   

    الاعتصام بالدين وعدم التفرق فيه ومقتضياته

    الركن الثاني من هذا المنهج هو: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].

    اجتماع القلوب على الحق

    هذا الركن يقتضي اجتماع قلوب أهل الإيمان على الحق، وذلك لا يتم إلا بمرجعية لهم يرجعون إليها، وهذه المرجعية محسومة سلفاً، فلدى المسلمين مرجعية واحدة وهي الوحي المعصوم، فهذا الوحي هو الوحيد المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما آراء الرجال فلا يمكن أن تكون حكماً بين الناس والقوانين الوضعية التي يسنها الناس، لا يمكن أن تكون حكماً بين الناس؛ لأن بعض الناس يقبلها وبعضهم يرفضها؛ ولأنها عبارة عن عقول رجال ومستواهم الديني ومستواهم العلمي ومستواهم الثقافي يؤثر فيها، أما الوحي فهو من عند الله لا من عند الناس، ولذلك لا بد أن يكون حكماً بين الجميع، وأن يرضى الجميع به، وهذا يدخل فيه كل ما يتعلق بالجانب الرباني، فقد أخرج ابن ماجه في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف له بالله فليرضَ )، وهذا فيما يتعلق من معاملات بين الناس، إذا اتهمت أخاك بشيء أو غضبت عليه في أمر فحلف لك بالله فلا بد أن ترضى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف له بالله فليرضَ )، فهذه مرجعية اليمين بالله كمرجعية الوحي في الرجوع إليه بالأمور، فأنت المأمور بالرضا حينئذٍ إذا حلف لك بالله، وذلك أخذ بسبب شرعي، فالأسباب تنقسم إلى قسمين: أسباب كونية، وأسباب شرعية.

    فالأسباب الكونية: ما يعتاده الناس، وما يأخذونه من التجارب.

    والأسباب الشرعية: ما جاء فيه الوحي أنه يترتب عليه أمر آخر، فهذا اليمين في حال الغضب يترتب عليه الرضا، ( من حلف له بالله فليرضَ ).

    ومثل ذلك: الرجوع إلى الوحي في الأمر كله، كما قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وكما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، فما حسمه الوحي لا مجال للخلاف فيه؛ لأن الله قد حسمه، ومنع الاختلاف فيه، وما بقي على الاجتهاد فلا بد من عدد من الأمور فيه والضوابط الراجعة إلى هذا المنهج، فمنها:

    التماس العذر عند الاختلاف في الأمور الاجتهادية

    المعذرة: أن يعذر بعض الناس بعضاً في الأمور الاجتهادية، والتماس العذر في ذلك لا بد منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم عذر عدداً من الصحابة في بعض التصرفات، فعذر حاطباً في كتابته إلى قريش، مع أن ما فعله مخالف، لكنه عذره لسابقته في الإسلام ولصدقه وعدم نفاقه؛ ولأنه بايع تحت الشجرة، وشهد بدراً، وقد سبق رضا الله عليه ذنبه، فذنبه لم يقع إلا مغفوراً، سبقته المغفرة، وعذر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الذين اجتهدوا في بعض الآراء، فعذر أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة رضي الله عنه يوم بدر لما رأى أباه يجر إلى القليب، وقد ( سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: من لقي منكم العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، قال: ألأنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل؟ والله لئن لقيته لألزمنه السيف )، لكن أبا حذيفة هنا معذور؛ لأنه رأى أباه الذي كان يعلم أنه من أعقل قريش وأذكاهم، وكان يظن أن عقله سيمنعه من ميتة السوء، فلم يقع ذلك، ففقد صوابه، حتى قال هذه الكلمة، ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن قتل العباس ؛ لأنه قريب له، بل نهى عن قتله؛ لأنه مؤمن مكلف بمهمة سرية وهي البقاء في مكة لجمع الأخبار عن قريش، حتى تختم به الهجرة، فـالعباس لم يعصم دمه أنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنما عصم دمه إسلامه، فقد شهد العقبة، وهو إذ ذاك مؤمن، بل إنه مؤمن عند موت أبي طالب ، كما في الصحيح أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! والله لقد قالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعتها )، فـالعباس كان مؤمناً، ولذلك قال ابن عباس و أبو رافع رضي الله عنهما: وكنا أهل بيت قد دخلنا الإسلام يومئذ، أي: يوم بدر، فأهل بيت العباس قد دخلهم الإسلام إذ ذاك، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله؛ لأن الإسلام هو الذي حقن دمه، وهو الذي عصم دمه.

    التراضي والتنازل إلى الرأي الذي يأخذ به الأكثر

    كذلك فإن هذا العذر يقتضي من الناس إذا حصل الاختلاف في أمر من الأمور الاجتهادية ولم يستطع أحد أن يقنع أخاه أن يتراضوا جميعاً على الرأي الأول، أو الرأي الذي يأخذ به الأكثر، أو نحو ذلك، فحسم هذا الخلاف مهم، وله مراجع متعددة:

    منها: رأي الأكثر، كما ( عدل النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي أكثر الصحابة يوم أحد في الخروج لقتال قريش خارج المدينة، ولم يكن يرى هو ذلك، ولا كبار الصحابة معه، لكنه لما رأى أكثر الناس يرون ذلك الرأي دخل فاغتسل ولبس لأمة الحرب، فقال بعضهم لبعض: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي لم يكن يراه، فلما خرج إليهم قالوا: لعلنا استكرهناك يا رسول الله! فقال: أجل، فقالوا: نتوب إلى الله، فقال: ما كان لنبي إذا لبس لأمة الحرب أن يخلعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه )، فتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه الاجتهادي، لرأي الجمهور والأغلبية الساحقة من أصحابه.

    وهذا الحال كان حال أصحابه من بعده، فقد تركه منهجاً في أيديهم يرجعون إليه، فـعبد الرحمن بن عوف في الاختيار بين علي و عثمان حين صفت البيعة لهما، فإن عمر أوصى بأن هذا الأمر شورى في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فتنازل ثلاثة لثلاثة، تنازل الزبير بن العوام لعلي بن أبي طالب ، و سعد بن أبي وقاص لـعبد الرحمن بن عوف ، و طلحة بن عبيد الله لـعثمان بن عفان ، فتنازل أيضاً عبد الرحمن للاثنين الآخرين لعلي و عثمان بشرط أن يختار السابق منهما أن يكون الاختيار إليه، لكنه ذهب يستشير الناس حتى كان يدخل على العذراء في خدرها يسألها، لم يترك أحداً إلا استشاره من أهل الرأي والبصيرة، فأخذ بهذا الرأي فبايع عثمان رضي الله عنه على أن يكون الأمر من بعده لعلي رضي الله عنه، فإذاً: كان الصحابة يراعون الكثرة الكاثرة فيما يتعلق بفض النزاعات ونفي الاختلاف.

    التشجيع على المبادرات الجميلة المحمودة

    وكذلك فإن من القيم المأخوذ بها، إذا قام صاحب مبادرة فجاء بأمر محمود، أن يشجع على مبادرته، وألا ترد عليه، فهذا تميم الداري رضي الله عنه جاء بمبادرة جديدةٍ من الشام حين ( خرج في تجارة، فاشترى قناديل من الشام، فأمر غلمانه أن يجعلوها في المسجد في المساء، فجعلوها فلما أظلم الليل أمرهم بإيقادها، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضوء خارجاً من أبواب المسجد فقال: من فعل هذا؟ غفر الله له )، فدعا له بالمغفرة، وقد أتى بأمر جديد، ولم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم ترون أن بعض المتحجرين ينكرون استعمال مكبر الصوت اليوم، وبعضهم يظن أنه هو بوق اليهود الذي كانوا يدعون به لصلواتهم، والبوقة هي آلة من آلات اللهو ينفخ فيها ويزمر، وتحرك فيها الأصابع على فتحات فيها، فليس لها علاقة بمكبر الصوت، وإن كان بعض العوام باللهجة الموريتانية هنا يسمي مكبر الصوت: بوقاً، فهذا من تسمية الشيء بغير اسمه، والنبي صلى الله عليه سلم ذكر الذين يستحلون الخمر في آخر الزمان أنهم ( يسمونها بغير اسمها )، فلم يغير ذلك حكمها.

    فإذاً: لا بد أن ندرك أن المبادرات الإيجابية التي فعلها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم عليها هي من منهج أولي العزم من الرسل، إقرار الناس على ذلك، وهذه من القيم التي كانت معروفة حتى لدى أهل الجاهلية، ولذلك قال زهير بن أبي سلمى :

    وإن قام منهم قائم قال قاعد أصبت فلا غرم عليك ولا خذل

    (وإن قام منهم قائم) تولى أمراً يجمعهم جميعاً، (قال قاعد) أي غير مشارك، (أصبت فلا غرم عليك ولا خذل) لأن المنهج يقتضي ألا تتفرقوا في الدين، فلذلك إذا كان كل صاحب مبادرة إنما يتحملها وحده، ولا يقوم الآخرون بها معه، فهذا مخالف لهذا المنهج؛ لأنه يقتضي تفتت الأمة، وعدم قيام أهلها بالواجب؛ لأن كل إنسان له مبادراته ورأيه المختص به، فلذلك قال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وقد سبق ما جاء في ذم التفرق، وما ورد فيه في القرآن، فإن الله تعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، ويقول تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105]، وقد جعل الله التفرقة ضرباً من ضروب العذاب، فقال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، وجعلها كذلك منافية للرحمة فقال: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]، وجعلها مظهراً من مظاهر الشرك، فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32].

    تغليب اجتماع الكلمة على الرأي الاجتهادي

    فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان أنه مخاطب بالعدول عن رأيه الاجتهادي إذا خالفه رأي اجتهادي آخر فأخذ به، وليجعل نصب عينيه ميزاناً في إحدى كفتيه رأيه هو وما يترتب عليه، وفي الكفة الأخرى اجتماع الكلمة، أليس اجتماع الكلمة أرجح من رأيك أنت وما يترتب عليه؟ بلى، فالمصلحة التي تترتب على رأيك أنت مصلحة آنية وقتية، واجتماع الكلمة مصلحة استراتيجية مستمرة، فالبون شاسع بين الأمرين، ولهذا فإن المؤمنين ما دامت كلمتهم واحدة، ورأيهم واحد في الأمر، ستكون هيبتهم وافرة ومقامهم مهيب، أما إذا حصل الاختلاف بينهم في الرأي، وكان كل إنسان منهم يأخذ مرجعيته في الأمور الاجتهادية من رأي نفسه، ولا يرجع إلى الآخرين بحال من الأحوال، فهذا سبب للفرقة والنزاع، ولإزالة الهيبة بالكلية، وأنتم تعلمون أن أعظم تكاليف الإنسان الصلاة، ومع ذلك أباح الله للإنسان فيها أن يقلد المؤذن والإمام في دخول الوقت، الصلاة أعظم شيء في عبادتك، وأنت يحرم عليك أن تصلي قبل دخول الوقت، صلاتك باطلة إذا شككت في الوقت، هل دخل أم لا؟ لكن يجوز لك التقليد في مثل هذا، ومثلها الصيام أيضاً:

    وجاز في الصيام والصلاة تقليد عدل عارف الأوقات

    فإذا كنت في الصلاة والصوم يجوز لك التقليد وهو منجٍ لك بين يدي الله، فكذلك الأمور الاجتهادية التي هي دون هذا، ولا تساوي الصلاة والصيام في أمور الدين، فيمكن أن تقلد فيها حتى لو لم تقتنع أنت بجزئية من الجزئيات في مصلحة عامة للمسلمين تقتضي اجتماع كلمتهم، أو في موقف لهم يتفقون عليه، فبالإمكان أن تقلد في تلك الجزئية وينجيك ذلك بين يدي الله سبحانه وتعالى.

    وقد تشوف الشارع لاتحاد كلمة المسلمين، وبالأخص فيما فيه عزة للإسلام، وإعلاء له، ورفع للظلم ونحو ذلك، فهذا منهج أولي العزم من الرسل، فيه جمع الكلمة واتفاقها، ومن المعلوم أن الناس لا يمكن أن يؤخذ رأيهم في مثل هذه الأمور جماعة، ولا أن يستشاروا في كل الجزيئات، إذاً احتيج إلى أن يقلد بعضهم بعضاً، فإذا قام بعضهم من المأمومين الذين يعرف أنهم لا يقصدون شيء لأنفسهم، وإنما يريدون مصلحة للدين، ومصلحة للعامة، فعلى البقية التقليد في مثل هذا النوع لما في ذلك من جمع الكلمة والاتفاق على الرأي الذي يجمع الجميع.

    فهذه إذاً بعض جوانب هذا المنهج في دعوة أولي العزم من الرسل، وقد سمعتم الوقائع الشاهدة عليها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقصص الثابتة بالأسانيد الصحيحة، فيه منهجكم عباد الله، وعليكم أن تأخذوا بها في الأمر كله، وأن تحققوا هاتين الركيزتين: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وأن يكون موقفكم في كل الأمور المستجدة أو غيرها موقفاً واحداً، وألا يجد الشيطان مدخلاً يدخل فيه بينكم، وأن تكونوا يداً واحدة على من سواكم، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً كما أمركم الله بذلك.

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756226607