إسلام ويب

إن ربك لبالمرصادللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله الإنسان لعبادته، وجعل عليه رقابات كثيرة لإحصاء أقواله وأفعاله، فيجازى عليها يوم القيامة؛ فأولها رقابة الله ثم الملائكة والأنبياء والمؤمنين، ورقابته على نفسه، ومع كل هذا يتعرض الإنسان للغفلة عما هو قادم إليه من موت وقبر وحشر وعرض على الله، وهذا كله فيه دعوة للتوبة والمراجعة قبل فوات الأوان.

    1.   

    الحكمة من خلق الإنسان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى خلقنا وهو غني عنا، وقد بين أنه خلقنا لحكمتين عظيمتين؛ إحداهما مختصة بهذا الجنس البشري والأخرى مشتركة بين الإنس والجن.

    أما التي نختص بها فهي الاستخلاف في هذه الأرض؛ فقد قال الله لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، والاستخلاف يقتضي العدالة فيها والسعي لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه والتمكين لهذا الدين في الأرض.

    والمهمة الثانية المشتركة بين الإنس والجن هي تحقيق عبادة الله، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58]، وكل جهاز عرفت حكمة خلقه وصنعته فقيمته تابعة لذلك؛ فجهاز التسجيل صنع من أجل التسجيل، فإذا فقدت منه هذه الحكمة لم يشتره أحد ولم يكن له ثمن، والساعة صنعت من أجل معرفة الوقت، فإذا فقدت منها هذه الحكمة لم يكن لها قيمة ولم يشترها أحد، والإنسان إذاً خلق لهذه المهمة فإذا لم يؤدها لم تكن له قيمة، بل كان كالبهائم والأنعام، بل هو شر منها؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ فالإنسان بين نوعين من أنواع الخلائق:

    نوع أسمى منه وأشرف وهو الملائكة، محضهم الله لطاعته وعبادته، فهم: عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20].

    والصنف الثاني أدنى منه وهو الحيوان؛ فقد سلط الله عليه الشهوات ولم يمتحنه بالتكاليف، والملائكة كلفهم الله بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين؛ فهو مكلف بتكاليف ممتحن بالشهوات؛ فإذا أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإذا ضيع التكاليف فاتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو البهائم، بل يكون أدنى منها لقول الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44]، وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ[الأعراف:175-177]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ[الجمعة:5]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، شر البرية أي: هم شر ما خلق الله؛ فهم شر من الكلاب الذين ضرب بهم المثل أولاً، ومن الحمير الذين ضرب بهم المثل ثانياً، بل هم شر الخلائق جميعاً.

    1.   

    رقابات الإنسان المتعلقة به

    ومن هنا كان لزاماً على الإنسان أن يعرف أنه لم يترك سدى ولم يخلق عبثاً، وأن هناك رقابات عظيمة لا يفوتها شيء من أمره:

    رقابة الله جل جلاله

    الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله؛ فهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؛ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7]، لا تحجب عنه السماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره ولا بحر ما في قعره، وهو مطلع على ما في نفوسنا وعلى تفكيرنا وتدبيرنا وكل شئوننا، وهو الشاهد الذي لا يغيب، جل جلاله، وهو أسرع الحاسبين، لا يشغله شأن عن شأن، اطلاعه على اجتماعنا الآن هنا في هذا المكان لا يحجبه عما فيه الملأ الأعلى يختصمون، ولا يحجبه عن شأن أهل الأرض جميعاً؛ فهو يسمع أصواتهم ويرى أمكنتهم ويقسم أرزاقهم ويقبل أعمال المقبولين منهم ويرد أعمال المردودين، واطلاعه على أحوال الأحياء مثل اطلاعه على أحوال الأموات تماماً، لا فرق، ويعلم ما تأكل الأرض من أجسامنا ويعلم ما يطرأ في خلقتنا مع مرور الزمن، كلما تقدم العمر بكل إنسان منا تغيرت خلقته ونحن لا نشعر بذلك، وفي كل يوم من أيام الدنيا يطرأ تغير للجسم، وهذا التغير معلوم لدى الله؛ فيعلم ما ينتقص من السمع وما ينتقص من البصر وما ينتقص من العمر، وما ينتقص من كل القوة، ورقابته لا يفوتها شيء.

    رقابة الملائكة الكاتبين

    ثم بعد ذلك رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، وقد جعلهم الله حفظة على أعمالنا وأقوالنا، وقربهم إلينا؛ فجعل مع كل واحد منا واحداً وعشرين من الملائكة، منهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات، وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، وكان بالإمكان أن يكون الكاتب واحداً وهو مصدق عند الله، ولكن شرف الله الحسنات فجعل لها كاتباً مستقلاً يسمعها ويراها؛ فيكتبها، وعظم شأن السيئات فجعل لها كاتباً مستقلاً أيضاً، وهما شاهدان لا يجرحان؛ فالأمر إذا شهد عليه عدلان ثبت؛ ولذلك قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12].

    ومنهم ملائكة الجوارح، فكل جارحة من الإنسان عليها ملك، ملك يحفظ العين اليمنى وملك يحفظ العين اليسرى وملك يحفظ الأذن اليمنى وملك يحفظ الأذن اليسرى وملك يحفظ الشفتين واللسان وملك يحفظ الأنف وملك يحفظ الرأس وما حوى.. وهكذا في كل الأطراف.

    ثم المعقبات من الملائكة وهم بين أيدينا ومن خلفنا، كما قال الله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ[الرعد:11].

    ثم بعد ذلك القرين؛ فكل إنسان منا له قرين من الملائكة وقرين من الشياطين، فقرينه من الملائكة يلهمه الصواب والسداد وينصحه بما فيه الصلاح له وهو لا يشعر بذلك؛ لأنه لا تسمعه أذناه ولا تراه عيناه ولكن يسمعه قلبه ويراه، وتارة ينصحه في اليقظة وتارة ينصحه في النوم.

    ومنهم الملائكة الذين يتعاقبون في الناس، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، وهم الذين يرفعون التقارير إلى الله جل جلاله، يأتون فيقول: (كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون).

    وهؤلاء الملائكة الكرام ملائكة الليل غير ملائكة النهار، وهم يتعاقبون دائماً بالتقارير إلى الله جل جلاله وهو أعلم بها.

    رقابة النبي صلى الله عليه وسلم

    ثم بعد ذلك الرقابة الثالثة هي رقابة النبي الشهيد؛ فهذه الأمة شهيدها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو النبي المبعوث فيها، وأنتم تعلمون أنه أفضل الخلق وأزكاهم وأعدلهم وأخشاهم لله وأرضاهم لله؛ فشهادته لا تجرح، هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يشهد على أعمالنا جميعاً، ما كان منها صالحاً يشهد به وما كان طالحاً يشهد به، يعرض عليه عملنا وهو في قبره فيشهد به؛ ولذلك قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا[النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ[النحل:89]؛ فهو يشهد علينا بأعمالنا؛ لأن الشهادة من شرطها العلم، وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]؛ ولهذا يطلع على الأعمال كما قال: ( فإن صلاتكم معروضة علي )، ولا ينافي هذا قوله على الحوض يوم القيامة عندما يقول: ( يا رب! أمتي.. أمتي؛ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )، فالمقصود بقوله: (لا تدري ما أحدثوا بعدك) : استعظام ما أحدثوا، ولا يقصد به أنه لا علم له بذلك، فقد أطلعه الله عليهم للشهادة.

    رقابة المؤمنين

    الرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين؛ فهم شهداء الله في الأرض، يشهد بعضهم على بعض، وشهادتهم مزكاة عنده ولذلك قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( مر عليه بجنازة فأثنى الناس عليها خيراً؛ فقال: وجبت، ثم مر بجنازة أخرى، فأثنى الناس عليها شراً فقال: وجبت، فقال عمر : وما وجبت يا رسول الله؟ قال: أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار )، وألسنة الخلق أقلام الحق، ولا يمكن أن يتواتر الناس جميعاً على شهادة مغلوطة مكذوبة؛ فلذلك شهادة المؤمنين المحققة التي يتفقون عليها هي رقابة وهم يطلعون على الأعمال الظاهرة، وقد قال الحكيم:

    ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفى على الناس تعلم

    رقابة الإنسان على نفسه

    الرقابة الخامسة: رقابة الإنسان على نفسه؛ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[القيامة:14-15]، فإنه تشهد عليه جوارحه يوم القيامة، تشهد عليه جوارحه بما اقترفت، وتشهد على اللسان بما نطق، وما من يوم من الأيام إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان، تقول: (اتق الله فينا؛ فإننا بك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا).

    والله تعالى يوم القيامة يختم على الأفواه فتتكلم الجوارح وتشهد كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ[النور:24-25]، وقال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ* وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[فصلت:21-23]، قال تعالى: نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65]، فمن الغريب، ومما يستغربه الإنسان أن تتكلم رجله وأن تتكلم يده وأن تتكلم أذنه وأن تتكلم عينه وأن يتكلم شعره، فلا تلقى شعرة في بدنه إلا قامت فشهدت عليه، ولا ذرة من ذرات جسمه ولو كانت سقطت كالأظافر التي تقطع وتقلع إلا جاءت فشهدت عليه، هي شهادة عظيمة وهي من أقرب الكائنات عليه.

    ثم بعد هذه الشهادات كلها يتنكر الإنسان لها ويظن أنه خال بنفسه وأنه يتصرف طواعية كما يريد، والواقع خلاف ذلك؛ فالإنسان كل أعماله قد كتبت في القدر عند الله سبحانه وتعالى، رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وكتب معه وهو جنين في بطن أمه رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فكل أعماله كتبت وهو جنين في بطن أمه، وكتب معها رزقه وأجله وشقي هو أو سعيد، كل ذلك كتب، ورفعت الأقلام وجفت الصحف، وهو محفوظ عند الله سبحانه وتعالى في الصحف التي عنده فوق عرشه، وهي أم الكتاب، لا يعتريها المحو ولا التبديل، يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39].

    1.   

    غفلة الإنسان عما يعرض له

    ثم بعد هذا في شوط الإنسان الطويل في هذه الحياة يعرض له كثير من الغفلة والنسيان؛ فيغفل عن العرض على الله وينسى أنه سيؤتى به حافياً عارياً أغرل كما خلق، فيوقف بين يدي الملك الديان ويعرض عليه، سرائره حينئذ مثل علانيته؛ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة:18] كل ما كان خافياً في الحياة الدنيا يكون كالظاهر؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا[الأنعام:30]؛ فهم يقرون بذلك ويقسمون عليه أنه الحق.

    وكذلك فإن هذا العرض العظيم تبلى فيه السرائر كما قال الله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ[الطارق:9-10]، والسرائر هي ما كان يكتمه من الأمور، فما كان يكتمه من النقص في صلاته وما كان يكتمه من النقص في طهارته وما كان يكتمه مما أخذه من مال غيره أو من عرضه، وما كان يكتمه كذلك من الحقد والغل وما كان يكتمه من أمراض القلوب، كله يبلى فيظهر عياناً وهو يراه، متجسداً متجسماً، وتكون جميع خطاياه وسيئاته متجسدة تصلح للوزن؛ فتوضع في الميزان بين يديه يراها، منها الكبير ومنها الصغير ومنها المتوسط، وهي في أحجام متفاوتة، فمن السيئات من يأتي على شكل الجبال الضخمة العظيمة، ومنها ما هو كالشعر، وهي توضع في كفة الميزان بين يدي الإنسان، كما أنه يرى أعماله الصالحة أيضاً، فيتمنى أن لو كان بينه وبين أعماله السيئة مثل ما بين المشرق والمغرب، ويتمنى لو زادت أعماله الصالحة ولو رد إلى الحياة الدنيا لحظة واحدة حتى يقول: لا إله إلا الله، وقد حيل بينه وبينها، حتى يعمل أي عمل صالح؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً، مشاة؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104] ).

    1.   

    غفلة الإنسان عن مشهد الموت وأهواله

    وغفلة الإنسان عن هذا العرض على الله سبحانه وتعالى هي نظير غفلته عن الموت؛ فالإنسان يغفل عن الموت إذا غلبته شهوته أو لذته أو تمادى على مسرته؛ فإذا استغنى في الحياة الدنيا من العرض الزائل أخذه الطغيان؛ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وإذا قوي جسمه ولم يجد أي مرض، لم يصب بفشل في الكلى ولم يصب بضغط في الدم، ولم يصب بضعف في عضلة القلب ولم يصب بسرطان في الكبد، ولم يصب بعمى في بصره ولم يصب بصمم في سمعه ولم يصب بشلل في أعضائه؛ طغى بهذه القوة التي جعل الله فيه وهو يعلم أنه يمكن أن تسلب منه بين اللحظة والأخرى، بين الكاف والنون، تزول كلها. ‏

    خروج النفس الطيبة

    وهذا الطغيان ينسيه الموت؛ فينسى الإنسان أنه عندما يأتي أجله، سواءً كان ذلك في يقظته أو في منامه أو في شبابه أو في وسط عمره أو هرمه يأتيه ملك الموت إذا حان أجله، فيجلس عند رأسه فإن كانت نفسه مطمئنة موقنة نادها ملك الموت فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]، فتتهوع إليه نفسه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فإذا رأيتم القربة وقد حل فمها يخرج منه الماء وهي مطروحة، يخرج الماء من فمها بكل سهولة وبساطة، هكذا خروج النفس عندما يدعوها ملك الموت؛ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30] تتهوع النفس من الجسم كما تهوع القطرة من في السقاء، (فيمسكها في كفه فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة قد جلسوا مد البصر، كأن وجوههم الشموس فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة ويجعلون عليها من طيب الجنة، ثم يرتفعون بها إلى السماء الدنيا فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة)، فتفتح لها أبواب السماء كما كانت تفتح لذكرها وعبادتها، هذه الأبواب تفتح للعمل في كل يوم وليلة، إذا نام الناس رفع العمل إلى الملك الديان، وفي الأسبوع يومان تفتح فيهما أبواب السماء وهما يوم الخميس ويوم الإثنين، تفتح فيهما أبواب السماء فترفع الأعمال إلى الملك الديان جل جلاله.

    وأعمال الإنسان ترفع باسمه وعنوانه، والملائكة يتعرفون عليها؛ هذا عمل فلانة بنت فلان، وهذا عمل فلان بن فلان، كأنه أرباح تودع في حساب الإنسان وتوضع له هنالك عند الملك الديان، وهي رصيده من العمل، إذا كان عملاً صالحاً فبها ونعمت وإن كان عملاً سيئاً فسيجده مختوماً عليه؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30] ، فيستفتحون عند باب السماء الدنيا فيفتح لهم فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، حتى تخر ساجدة تحت العرش، كل باب من أبواب السموات السبع يستأذن بها عنده؛ فيؤذن لها حتى تخر ساجدة تحت العرش، فحينئذ يؤذن لها بالرجوع إلى قبرها لإجابة الملكين عند سؤالهما.

    انتزاع النفس الخبيثة

    وإن كانت النفس خبيثة جلس ملك الموت عند رأسه فناداه فقال: (يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة؛ فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول)، فالصوف إذا انتزع منه السفود وهو حديدة فيها التواءات يتقطع الصوف من أجل جذبه؛ فتجذب الروح بهذه الشدة، يجذبها ملك الموت وقد تفرقت في الجسم هرباً من هذا الوعيد والمصير الحتمي، (اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة؛ فيجتذبها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم باسطو أيديهم: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:93-94])، فكل الزعم والأعذار وما كانوا يعولون عليه من النصرة يزول في ذلك الوقت، فيضعونها في سفط من أسفاط النار، ويجعلون عليها من قطران النار، ثم يرتفعون بها إلى سماء الدنيا فيستأذنون فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ * لَهمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[الأعراف:40-41]، فترجع خائبة مردودة إلى الأرض فتحبس في سجين، وهو في الأرض السابعة، في أسفل الأرضين.

    1.   

    مشاهد القبر وما فيه من نعيم وعذاب

    ضجعة الإنسان في قبره

    وتبقى بعد ذلك المشاهد تتوالى؛ فأولها: الضجعة التي يضجع فيها الإنسان في قبره، ولم تخطر له من قبل على بال؛ فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، ويرى كثيراً من الأمور المختفية عنه، نحن نشاهد الموتى الآن ونشاهد القبور فنظن أن الأمر سهلاً، مجرد خروج الروح من البدن وانتهى الأمر، لكن هذا خلاف الواقع تماماً، فهي عوالم كبيرة وفيها من الغيوب والأمور العظيمة المفظعة المروعة ما لا يخطر على بال أحد؛ ولذلك قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا[ق:22]؛ كان الإنسان في غفلة من هذه الأمور، لا يتصورها ولا تخطر له على بال، فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ[ق:22]؛ بمجرد الموت ينكشف هذا الغطاء، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:22]؛ ترى أشياء لم تكن تخطر لك على بال، ولذلك قال الله تعالى: وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، وهذه الضجعة عندما يضجع فيها الإنسان لأول وهلة يتمنى الرجوع، لكن هيهات.. هيهات! هو ينادي ويصيح: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100]، وهذا ينبغي أن نفكر فيه في حياتنا؛ فقد كان الحسن البصري رحمه الله يحفر قبراً في داره؛ فإذا خلا بنفسه اضطجع في هذا القبر ثم يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون:99-100]؛ فيقوم وقد تاب إلى الله وأناب من كل ما فعل، ويبدأ مشواره من جديد، كأنما رجع إلى الدنيا بعد أن فارقها.

    فلذلك هذه الضجعة أمرها عظيم، وقد: ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت في القبر أشار بيده أن كفوا، فنظر ساعة ثم قال: أي إخواني! أعدوا لمثل هذه الضجعة ).

    ضمة القبر وشدتها

    بعدها ضمة القبر وشأنها عظيم جداً، تختلف منها الأضلاع، وتتكسر من شدتها، وتزول منها الحمائل، وهي ما برز من الخصرين وراء الظهر، فإنه يزول بالكلية.

    ثم بعد ذلك سؤال الملكين منكر و نكير ؛ يأتيانه فيجلسانه إلى ركبتيه فيقولان: (ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ وهما على شكل مروع مفظع، وهما منكر ونكير، فأما المؤمن فيقول: ربي الله وديني الإسلام والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد، ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنايُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، ينزل الله عليه الثبات في ذلك الوقت؛ فيثبت على الحق فيقول هذا مع شدة الأمر وما يراه من الهول؛ فصوتهما كالرعد القاصف وبصرهما كالبرق الخاطف، وأمرهما مروع مفظع، لكن الله يثبت أهل الإيمان فيثبتون فيجيبون بهذا الجواب، وحينئذ يقول الملكان: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس.

    وإن كان الإنسان منافقاً أو مرتاباً - أي: شاكاً - فإنهما يسألانه فلا يثبت بالقول الثابت، نعوذ بالله! فيقول: (هاه هاه، لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت! ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها)، أهل منىً جميعاً لو اجتمعوا عليها ما استطاعوا أن يرفعوها عن الأرض، يضربونه بين فوديه - في وسط رأسه - فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن.

    مشهد عرض الأعمال في القبر

    ومن ذلك الوقت يبدأ مشهد جديد وهو عرض الأعمال، إن كان الإنسان محسناً جاءه عمله من جنسه، إذا كان رجلاً جاءه رجل وإذا كان امرأة جاءتها امرأة، فيأتيه في أحسن صورة وأحسن رائحة؛ فيقول: (أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك)، وأحسن صورة يراها الإنسان هي تلك الصورة، صورة العمل الصالح، إن كانت امرأة جاءتها امرأة كأجمل النساء وأحسنها رائحة وأكثرها ملاطفة؛ فتقول: أبشري بخير؛ فتقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فتقول: أنا عملك الصالح، تلك الركعات وتلك الصدقات وتلك الأذكار وتلك القراءات تجسمت في إنسان، صورته صورة إنسان، ويكون مؤنساً له في غربته.

    وإن كان الإنسان مسيئاً فغلبت سيئاته على حسناته جاءه عمله في أقبح صورة وأنتن رائحة، هذا الشكل لو رآه في الدنيا لفر منه، شكل مروع، مفظع، خبيث كريه، فيه الروائح الكريهة مجتمعة، وفيه كل وصف قبيح، كل وصف قبيح في تشقق الجسد، في الأمراض المجتمعة، في التشوه الخلقي، في آثار النار، كل وصف خبيث قبيح يجده في هذه الصورة، فيقول له: (أبشر بسوء؛ فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوء فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء وأنا صاحبك في غربتك)؛ فالعمل هو رفيق الإنسان فعليه أن يطلب رفيقاً جيداً قبل أن يكون رفيقه سيئاً؛ فبداية الطريق سيكون معها الرفيق.

    وعمل المرء رفيقه غداً قبل الطريق اطلب رفيقاً جيدا

    رؤية الإنسان مقعده من الجنة ومن النار

    ثم بعد ذلك يأتي العرض؛ فيعرض على الإنسان مقعده من الجنة ومقعده من النار، فإن كان محسناً قيل له: هذا مقعدك من الجنة، وهذا مقعدك من النار لو أسأت قد حجبك الله عنه وحجبه عنك وعوضك خيراً منه، وإن كان مسيئاً قيل له: هذا مقعدك من الجنة لو أحسنت، وقد حجبته عن نفسك بسيئاتك وإسرافك على نفسك، وهذا مقعدك من النار ينتظرك.

    وكل مرحلة من هذه المراحل تنسي الإنسان ما قبلها؛ فالإنسان الذي يثبت عند الموت - وقت النزع - فيكون آخر كلامه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بمجرد نزع الروح منه ينسى ذلك، ثم في سؤال الملكين إذا ثبت وبشراه ينسى ذلك بما بعده، فكل مرتبة تنسي التي بعدها، والقبر أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده.

    مشهد الليلة الأولى في القبر

    والليلة الأولى التي يبيتها الإنسان بين الأموات ولم يبت معهم قبلها فيها تحول في حياته وتطور عجيب في شأنه، تصوروا لو أن إحداكن اختطفت فرميت في الصين أو في بلد لا تعرف فيه لغة ولا وجهاً ولا طعاماً ولا شراباً وليس لها زاد وليس لها نقود وليس معها أحد، في مكان موحش مظلم أليست ستجد عناءً ومشقة؟ أمور القبور أعظم من ذلك، فالليلة الأولى التي يجد الإنسان بها نفسه بين الأموات في تلك الأرض التي ليس فيها رحم ولا علاقة، وليس له لغة يتفاهم مع الناس بها، وفيها الظلام وفيها الوحشة الشديدة جداً، أمرها عظيم، ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها وليلة صبيحتها يوم القيامة، هي تقارن بالليلة التي صبيحتها يوم القيامة، هذه ليلة عظيمة، وقد قال أحد الشعراء عندما توفيت امرأته وتركت له بنتاً صغيرة؛ فكان يسمع بكاء هذه البنت في الليل إذا نام الناس، فقال يرثي زوجته:

    أنى حللت وكنت جداً فروقة..

    كانت في الدنيا جبانة.

    أنى حللت وكنت جداً فروقة بلداً يحل به الشجاع فيفزع

    الشجاع إذا حل في ذلك المكان فزع فزعاً شديداً، فكيف بمن هو جبان؟! أصلاً لا يتحمل أن يبقى وحده، ولا يتحمل أي روعة، ولا يتحمل أي صوت، صوت الرعد يزعجه، وضوء البرق يزعجه، كل صوت يزعجه.

    أنى حللت وكنت جداً فروقة بلداً يحل به الشجاع فيفزع

    ولقد تركتي صغيرة مرحومة لم تدر ما جزع عليك فتجزع

    فإذا سمعت أنينها في ليلها طفقت عليك شئون عيني تدمع

    1.   

    مشاهد يوم القيامة والغفلة عنها

    مشهد النفخ في الصور

    ثم بعد ذلك يغفل الإنسان أيضاً عن الحشر؛ فإن أمامنا أمراً مروعاً، وإسرافيل ملك النفخ في القرن قد التقم القرن الآن وأصغى ليتاً، أي: رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن له بالنفخ، فإذا جاءه الأمر فقيل له: انفخ؛ ينفخ النفخة الأولى وهي نفخة الفزع، فيصعق لها الخلائق جميعاً صعقة واحدة؛ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[النمل:87]، معناها: أذلة صاغرين.

    ويمكث أربعين سنة ثم يؤذن له في النفخة الثانية؛ فينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون، بدون مقدمات يقومون جميعاً، ثم ينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم؛ فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وهم يرون هذه الأرض المطمئنة، التي نمشي عليها ونبني عليها البيوت يرونها تنفض كما ينفض الغبار وتبس بساً ويزول كل ما فيها من أشجار وأحجار، الجبال يكون كالعهن المنفوش، تطايره الرياح يميناً وشمالاً، وكل ما فيها من الأودية يستوي، وكل ما فيها من القبور والأجداث ينفض، وكل ما فيها من الكنوز والمعادن ينفض نفضاً؛ فتستوي الأرض تماماً، فتبدل الأرض غير الأرض، ينطلقون إلى الساهرة ويمسك الجبار جل جلاله السموات السبع والأرضين السبع بيمينه فيهزهن ويقول: أنا الملك! أين الجبارون أين المتكبرون؟! وتتشقق السماء فهي يومئذ واهية، هذه السماء قوتها عجيبة؛ سنفها خمسمائة عام للحجر الصلد الهاوي، مجرد السنف، ما بين أعلاها وأسفلها خمسمائة عام للحجر الصلد الهاوي، لكنها تتشقق فتكون واهية، أي: ضعيفة، تتشقق مثل تشقق الثياب الخلقة البالية، وأصوات تشققها مروعة مزعجة. نحن الآن إذا كنا في بيت فسمعنا سقوط السقف أليس أمراً مفظعاً؟ مروعاً؟ وجبة عظيمة سقوط سقف دار، وهو مجرد سقف دار إذا وقعت، فكيف بتشقق السماء؟! تتشقق السماوات السبع في وقت واحد، فتطوى كطي السجل للكتب؛ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104].

    اجتماع الناس في الساهرة

    وحينئذ نأتي فنجتمع في الساهرة كالجراد المنتشر وكالفراش المبثوث، الأجسام صغيرة وخفيفة، وكثيرة جداً فتتهاوى في الساهرة، وهي أرض كالقرشفة البيضاء، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، يجتمع فيها الخلائق من أولهم إلى آخرهم وتدنو الشمس وتكور فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل فيشتد العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يرتفع فوقها، فمن الناس من يصل العرق إلى كعبيه؛ يطول الله جسمه حتى يصل العرق إلى كعبيه فقط، ومنهم من يصل إلى ركبتيه ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، عند الفم.

    رؤية جهنم

    ثم بعد ذلك يؤتى بجهنم عياناً بياناً يراها الناس، يقودها الملائكة بأزمتها، ولها سبعون ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، وهم يجذبونها جذباً، وهم أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة، وهم يجرون جهنم جراً، والناس يرونها فيرون سوادها وظلمتها ودخانها وأصواتها المروعة وغيظها؛ فهي تغتاظ وتتهيج، وتتوعد أهلها؛ إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا[الفرقان:12-14]، فإذا جيء بجهنم وأحاطت بالناس والملائكة صفوف بهذا العدد أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة.

    طول الموقف يوم القيامة

    طال الموقف في الناس، وبقوا ينتظرون؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، لو جلس الأخوات هنا في هذا البيت في راحة تامة وهدوء مدة أربع ساعات خمس ساعات بانتظار مدرس يأتي يدرسهن؛ سيكون هذا الانتظار شاقاً جداً على النفوس، فكيف بالانتظار ألف سنة، وهم قيام؛ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6]، لا جلوس ولا اتكاء ولا راحة، قيام ألف سنة، ليس فيها أي راحة ولا أي طمأنينة، والعرق يصل إلى هذا المستوى، والشمس لا تغرب فوق رءوسهم.

    مشهد العرض على الله

    بعد ذلك يؤذن بالشفاعة فيشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وهم يتمنون الخروج إما إلى جنة وإما إلى نار؛ لأنهم يريدون الخروج من هذا الموقف لشدة الهول ولطوله، فعندما يشفّع الله رسوله صلى الله عليه وسلم الشفاعة الكبرى يقول له: (يا محمد! ارفع رأسك واشفع تشفّع وسل تعطه) فيشفع للناس في الخروج من الموقف فيخرجون منه للعرض على الله تعالى؛ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17]، كأنهم ما رأوا شيئاً قط ولا أحسوا به.

    عندما يعرضون على الجبار جل جلاله كأنهم لم يمر عليهم أي موقف من المواقف السابقة، هذا أعظم شيء وأكبره، والجبار جل جلاله يحاسب كل إنسان منهم وهو أسرع الحاسبين، كل إنسان يأتي يجادل عن نفسه، لا يهمه أحد، لا يتذكر ولداً ولا أباً ولا أماً ولا أخاً ولا أختاً ولا زوجاً ولا قريباً ولا جاراً، إذا رأى أي إنسان يعرفه فر منه؛ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، يخاف أن يكون له عليه حق يخاصمه فيه، فيفر من كل وجه عرفه في الحياة الدنيا خشية أن يخاصمه في حق له عليه؛ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا[النحل:111]، وفي هذا الوقت تتقطع الأنساب؛ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، وفي هذا الوقت تكو علاقات الإنسان جميعاً عرضة للانقطاع؛ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:11-14]، فيريد النجاة بأي ذريعة وبأية وسيلة، ويبسط الله كنفه على المؤمن فيقول: أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا رب! وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنس! وحينئذ يستر الله بستره الجميل على كثير من الناس فلا يفتضحون على رءوس الأشهاد، فما في صحائفهم من الأعمال السيئة يسترها الجبار جل جلاله.

    اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم لا ترفع عنا سترك.

    أخذ الحقوق والمجازاة بالتقصير

    وما يطالبون به من الحقوق يجازي بها الجبار جل جلاله، فيدعو الخصوم فيقول: لك على عبدي أو على أمتي حق، أكل لك غيبة أو أكل لك مالاً أو وشى بك وشاية، له عليك حق؛ فبماذا ترضى؟ أترضى أن أدخلك الجنة؟ أن أكفر عنك ما يقابله من السيئات؟ فيرضيه الله جل جلاله عن ذلك الحق، فيجازي بعض الخصوم عن خصومهم في ذلك الوقت الذي يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.

    ويؤتى بالمقصرين على درجات تقصيرهم؛ من كان تقصيره في الصلاة يؤتى به، من كان تقصيره في الاعتقاد، من كان تقصيره في الزكاة، من كان تقصيره في الصوم، من كان تقصيره في الطهارة، من كان تقصيره في عمل اللسان، من كان تقصيره في حق الجيران، من كان تقصيره في الدعوة، من كان تقصيره في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، كل من له تقصير يؤتى به في جماعة تقصيره؛ فمانع الزكاة يؤتى به، فإذا كان ماله من الحيوانات بطح لها بقاع قرقر -أرض مستوية شديدة، ليس فيها أي لين- فيبطح لها فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها وتنهشه بأسنانها، ليس فيها عقصاء ولا عرجاء، لا يفقد منها صغيرة ولا كبيرة، كل ما مر عليه آخرها أعيد إليه أولها حتى يفصل بين الناس. وإذا كان ماله نقوداً أحمي عليها في نار جهنم حتى تحمر ثم تسود ثم تجدف أشداقه بالمجاديف، فلا يوضع دينار فوق دينار ولا درهم فوق درهم، تأخذ فئة عشر أواقي مكانها، وفئة خمس أواقي مكانها، الخمس لا توضع فوقع العشر ولا العكس، والمئتان والمائة وخمسمائة وألف وألفان، كل واحدة تأخذ مكانها وحدها بعد أن يحمى عليها، تكبر أشداقه فتوضع عليها بحرها الشديد، وكلما خف بردها أعيدت إلى النار ثم أعيدت من جديد؛ حتى يفصل بين الناس.

    وهذا اليوم هو يوم الفصل، وأصحاب المعاذير تضل معاذيرهم جميعاً، هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ[المرسلات:35-39]، ليس لأحد عذر ولا كيد ولا مهرب.

    1.   

    دعوة النفس إلى التوبة والمراجعة

    فإذا كنا نعرف أن أمامنا كل هذه المشاهد فلذلك لا بد أن ننتبه لأنفسنا، وإذا كنا نعلم أننا تحت هذه الرقابات، التي لا تتخلف، ونحن موقنون بها؛ فلا بد أن نحفظ أمانات الله التي ائتمننا عليها، وأن نحفظ أبداننا وأن نحفظ أسماعنا وأبصارنا، وأن نستر ما أوجب الله علينا ستره وأن نتقي النار، وأن نحذر من هذه المواقف؛ فمن المواقف المخزية أن يؤتى بالمرأة التي كانت كاسية في الدنيا مستورة، يؤتى بها مجردة يوم القيامة وقد جاءت تحمل طائرها في عنقها، وفيه أعمالها جميعاً فتفتضح على رءوس الملأ، وكل ما كانت تكتمه تقرؤه بأعلى صوتها؛ فعلت كذا ليلة كذا وتركت كذا ليلة كذا وفعلت كذا يوم كذا وتركت كذا يوم كذا.. والديان جل جلاله يسمع، والملائكة والأنبياء والخلائق جميعاً، كل من كانت تكتم عنه شيئاً سيسمعه وهي تقرؤه بأعلى صوتها؛ فمن كان لا يريد الفضيحة فليتب إلى الله توبة نصوحاً من الآن، وقد أمرنا الله بهذه التوبة فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، والتوبة هي الندم على ما فرطنا فيه في جنب الله، والنية أن لا نعود إلى مخالفة لأمر ربنا في أي أمر من الأمور التي خالفناه فيها من قبل.

    والخروج مما نحن فيه من المخالفات، الآن كثير من الناس يلهج بالاستغفار ويكرره ولكنه على معصية، فهو كاذب مخادع، فلذلك لا بد أن نخرج من سيئاتنا الآن وأن نتوب منها، من كان لديه سيئات في عمل القلوب، كالكبر والعجب ورؤية الفضل على الغير والإعجاب بالرأي والإعجاب بالنفس، فليتب منها الآن قبل فوات الأوان، ومن كان لديه أخطاء في جوارحه فكان لا يستر ما أوجب الله عليه ستره من بدنه أو كان لا يؤدي الحقوق التي عليه؛ فليبادر قبل فوات الأوان، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]، من يضمن لنا أننا سنقوم من مجلسنا هذا أحياءً؟! من يضمن لنا أن لا تطلع الشمس الآن من مغربها؟! من يضمن لنا أن تقبل أعمالنا حتى ولو طال الزمان بنا وطالت بنا الحياة، من يضمن لنا قبول صلاتنا وقبول أعمالنا؟! وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون:60]، فالله تعالى غني عنا، لا يحتاج إلى شيء من أعمالنا، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

    فلذلك لا بد أن نتوب إلى الله توبة نصوحاً وأن نكون صادقين فيها، وأن يجتهد كل إنسان منا فيما ينجيه بين يدي الله، وأن نتعاون على ذلك، فنحن نعلم أن الإنسان يعزم الآن على التوبة ويعزم على الإصلاح والإحسان، ولكنه سرعان ما يعود إلى بيئته وبيته وقرناء السوء والمألوف؛ فتتغير توبته ويتغير حاله، يتعظ الآن وكأنه في مجلس الديان جل جلاله كأنه في حضرة القدس، لكنه سرعان ما ينسى الموعظة؛ فيغفل ويبدأ في معصية الله ومخالفته، لا بد يا أخواتي! أن نتأثر بهذه الشواهد التي أقام الله علينا وهذه الحجج التي أقامها علينا ونحن نقر بها، لا بد أن نعامل أنفسنا معاملة أحسن من معاملتنا لها، فقد أسأنا إلى أنفسنا كثيراً وفرطنا في جنب الله كثيراً، ومع ذلك عاملنا الله باللطف والإحسان؛ فكم من معصية عملناها سترنا الله بها ولم يفضحنا، وكم من عمل صالح تركناه وفرطنا فيه فلم يؤاخذنا الله بذلك وأمهلنا، لكنه يمهل ولا يهمل، فلذلك قد عاملنا ربنا فأحسن معاملتنا وأكرمنا بأنواع الإكرام، وأحسن إلينا بأنواع الإحسان وأمهلنا وأطال في أعمارنا، ومد لنا بالسمع والبصر والجوارح، وكان بالإمكان أن يأخذها، فلا بد أن نستفيد من هذه الفرصة المتاحة، وأن لا نردها على الله سبحانه وتعالى.

    والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756010399