إسلام ويب

الطريق إلى القدسللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله سبحانه وتعالى الصراع بين الحق والباطل سنة أبدية أزلية، وقد يبتلي الله سبحانه وتعالى بالمحن والمنح، وهذا ما حصل لأمة الإسلام حين ابتلاهم الله باستيلاء اليهود على جزء من أرض الشام، وقد عرف عبر التاريخ أن اليهود من شرار الناس والأجناس، لكن الله قيض لهم من يسومهم سوء العذاب، فلا زالت المقاومة تؤرقهم وترعبهم حتى يأذن الله بانتهاء دولتهم إلى الأبد.

    1.   

    الصراع بين الحق والباطل صراع أزلي أبدي

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    نحمد لله تعالى على هذا اللقاء تحت مظلة الندوة العالمية للشباب الإسلامي، والتي رفعت رءوس هذه الأمة وشرفتها بمواقفها وعملها، وبالأخص في الأزمة الأخيرة في غزة وما قبل ذلك من الحصار، نسأل الله تعالى أن يوفق القائمين عليها، وأن يؤيدهم بنصره ولطفه، وأن يحقق رجاءهم ويستجيب دعاءهم، وأن يجعل هذه الوجوه جميعاً من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجه الله الكريم.

    ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الحياة الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، وجعل فيها حزبين متنافسين هما: حزب الله وحزب الشيطان، والصراع بينهما أبدي مستمر، ولا يمكن الحياد بينهما أبداً، فإما أن يكون الإنسان من حزب الله، وإما أن يكون من حزب الشيطان؛ لأنه لا ثالث للحزبين في هذه الحياة الدنيا.

    وهذان الحزبان يتصارعان وليس من سلطة أحدهما ولا من إمكانياته أن يقضي على الآخر بالكلية، بل إستراتيجيتهما تتصل بالدفع، فهي سنة كونية للتدافع بين الحق والباطل بين الله أنها مصلحة الأرض فقال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ[البقرة:251].

    ومعنى ذلك أنه لو تمحض الحق على الأرض فلم يبق للباطل وجود، وانتصر الحق نصراً نهائياً لاستحق أهل الأرض أن ينتقلوا عن دار الأقذار إلى دار القرار؛ لأنهم نجحوا في الامتحان، والدنيا دار امتحان وليست دار جزاء.

    ولو انتصر الباطل على الحق فلم يبق للحق صولة ولا جولة في الأرض وطبقها حزب الشيطان بالكلية، لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته وغضبه المهلك الذي ليس بعده بقاء على وجه الأرض، فلذلك اقتضت حكمة الله بقاء هذا الصراع أبدياً أزلياً، وإذا تخلف أقوام عنه فيأتي الله جل جلاله بقوم يخلفونهم فيؤدون الواجب، وقد هدد الله بذلك في كتابه في أربعة مواضع، فقال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، وقال في سورة الأنعام: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، وقال في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39].

    وقال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

    1.   

    تأييد الله بالنصر لمن بذل السبب ولو كان يسيراً

    وقد جعل الله سبحانه وتعالى النصر لمن بذل الجهد ولو كان جهده يسيراً، ولو كانت إمكانياته ضعيفة؛ لأن المعايير المادية ليست هي التي توصل إلى النتائج المطلوبة، ومن المعلوم أن الله تعالى سير العالم كله بقسمين من كلامه وقسمين من علمه: هما الشرع والقدر، فالشرع علمناه وكلفنا به، والقدر لم يعلمناه ولم يكلفنا به، فبذل الأسباب هو من الشرع ونحن مأمورون به شرعاً، والنتائج هي من القدر ولسنا مكلفين بها، فعلينا أن نبذل الأسباب وليس علينا أن نصل إلى النتائج، وإذا أدرك الإنسان ذلك هانت عليه القوة المعادية ولا يقف في وجهه أحد من الأعداء؛ لأنه لا ينظر إليهم بميزان القوة المادية، بل ينظر إلى أنه مكلف مأمور بأن يفعل هذا الفعل من لدن خالق السموات والأرض الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] وهو الذي كلفه أن يفعل هذا الفعل، وهو الذي يرتب على الأسباب ما يشاء، فقد يبذل الإنسان أسباباً طائلة ولا يتحقق شيء، وقد يبذل سبباً ضعيفاً فيرتب الله عليه فتوحاً كبيرة.

    فيستطيع أن يقول: إن الله كلف مريم ابنة عمران وهي امرأة صغيرة السن ضعيفة الجسم عند وضع حملها، بأن تمسك جذع نخلة ميت في وقت البرد الشديد الذي لا يمكن أن يقع فيه الرطب ولا التمر، فتهز هذا الجذع فيتساقط عليها الرطب، قال تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً [مريم:25]، ففعلت مريم فحقق الله ذلك، مما يدل على أن الله جل جلاله هو الذي يخلق النتائج ويحققها، سواء رتبها على أسباب علمناها أو على أسباب جهلناها، ولذلك قال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126].

    فلا يمكن أن يأتي النصر بفعلنا نحن ولا بتصرفنا ولا بأدواتنا وآلاتنا ولا بعقولنا ووسائلنا، إنما يأتي من عند الله يكتبه لمن يشاء، وانظروا إلى قصص الثابتين، فإن النصر يأتي مع الشدة دائماً، فقد قص الله علينا في سورة القمر الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا نوحاً حين قاطعه أهل الأرض جميعاً وتمالئوا عليه وآذوه أشد الأذى، فقال: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ[القمر:10]، فأمر الله السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفطرت عيوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] فلم يبق لقومه باقية وأنجى الله نوحا ًومن معه في السفينة.

    ثم قص عليه الطريقة التي أهلك الذين كذبوا هوداً حين تمالئوا عليه وأخرجوه وحيداً، وقال لهم كلمته المليئة بالإيمان والروح المعنوية فقال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[هود:56]، فحينئذ سلط الله عليهم الريح العقيم فسخرها عليهم ثمانية أيام حسوماً، فلم تبق منهم باقية إلا ما يبقى من جذوع النخل المنقعر.

    ثم قص علينا الطريقة التي أهلك الذين كذبوا صالحاً حين تألبوا عليه وتمالئوا عليه، ولم يؤمن به إلا قلة منهم واتهموه بأنواع الاتهامات، فسلط الله عليهم الصيحة، فصاح بهم الملك، فشق أشرفة قلوبهم فماتوا ميتة رجل واحد.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطاً حين تمالئوا عليه وعلى أذاه وهددوه بإخراجه من قريتهم، فسلط الله عليهم الحاصب فاقتلع قريتهم من الأرض، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض وجعل عاليها سافلها، وأتبعها بحجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد.

    ثم قص علينا الطريقة التي أهلك بها فرعون ذي الأوتاد الذي قال: أنا ربكم الأعلى، حين أراد هو وملأه أن يتخلصوا من موسى وأن يقتلوه بعد تسلطهم على السحرة الذين قطعوا أيدهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم في جذوع النخل، فأمر الله موسى أن يضرب البحر بعد أن قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[الشعراء:61]، فالبحر من أمامنا والعدو من خلفنا وليس لنا بهم طاقة ولا قدر، فقال موسى : كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء:62]، فضرب البحر بعصاه فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] فمر موسى وقومه يمشون في طريق فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77].

    ثم اتبعه فرعون بجنوده، فلما توسطوا البحر أمره الله بالتحرك فالتطم فعاد كما كان، فذهب ذاك الملك العظيم والجبروت والكبرياء في طرفة عين، ولم تبق له باقية.

    ثم بعد هذا قال الله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43]، الخطاب لكم معاشر المسلمين. (أكفاركم): الكفار الذين ترهبونهم وتخافونهم، أمريكا وغيرها من قوى الاستكبار، هل هم (خير من أولئكم)؟ هل هم خير من عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15]؟ هل هم خير من ثمود الذين يتخذون من الجبال بيوتاً فارهين؟ هل هم خير من فرعون ذي الأوتاد؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43].

    ثم تغير الالتفات في الخطاب، فبعد أن كان الخطاب لنا، التفت في الخطاب إلى الكفار مباشرة فقال: ((أَمْ لَكُمْ)) أيها الكفار بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ[القمر:43] (براءة): أي من عند الله ألا يأخذكم بمثل ما أخذ به السابقون، (في الزبر) أي: الكتب المنزلة من عند الله.

    أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[القمر:44]، إذا كانوا يعتمدون على وسائلهم وحولهم وقوتهم وعلى الدعوة بالإعلام والدعاية، فسيقولون: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[القمر:44] فما سنة الله في هذه؟ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45]، فهذه سنة الله الماضية ولا معقب لحكمه.

    1.   

    ابتلاء الله لهذه الأمة بمحن ومنح عظيمة

    وقد أراد الله جل جلاله أن يمتحن هذه الأمة بمحن عظيمة وبلايا جسيمة، ولكنه ربط تلك المحن بمنح عجيبة أيضا ًهي فيها تعزية وتسلية، فأعظم محنة أصيبت بها هذه الأمة هي موت رسولها صلى الله عليه وسلم، فقد توفي في أوج قوته وتمام حكمته، وقد بلغ ثلاثاً وستين عاماً، ودانت له جزيرة العرب، وخرج إلى الروم في غزوة تبوك والوحي أشد ما يكون تتابعاً، والناس قد تعلقوا به وأحبوه حبه الذي يستحق، في هذا الوقت قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فكانت محنة عظيمة وصفها أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته كالمعزى المطيرة.(كالمعزى) أي الأغنام المطيرة التي أصابها المطر يدخل بعضها في بعض.

    ولذلك أنكر عمر رضي الله عنه عقله فتصرف تصرفاً لا يتصرفه عاقل، جرد سيفه وقال: والله لا يزعم أحد أن محمداً قد مات إلا ضربته بالسيف.

    وأقعد علي بن أبي طالب فكان يصلي جالساً لا يستطيع القيام لهول هذه المصيبة، لكن الله جعل فيها تسلية وتعزية لهذه الأمة ففيها خير كثير لها، فلو عاش النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة أبد الآبدين لما كان في الأمة خلفاء راشدون، ولما كان فيها علماء مهديون، ولما كان فيها مجتهدون، ولما كان إجماعها حجة، كل ذلك بفضل الله على هذه الأمة وهو تفضيل عظيم، ولولا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تحققت الأمور.

    1.   

    الحكمة من ابتلاء الله تعالى للأمة باستيلاء اليهود على بلاد الشام

    إن المصيبة التي نحن بصدد الحديث عنها هي مصيبة من المصائب العظيمة وهي زراعة هذا الكيان الصهيوني الغاصب المعتدي في الأرض المقدسة بلاد الشام، فهي مصيبة عظيمة على هذه الأمة، ولكن لله فيها حكمة بالغة، وللأمة فيها مصالح جسيمة كبيرة.

    تجميع المسلمين بعد تفرقهم بسبب سقوط الخلافة العثمانية

    فمن أعظم هذه المصالح: أن هذا الكيان قام في وقت سقوط الخلافة العثمانية التي كانت تجمع دار الإسلام وذمة المسلمين، ولم يبق للمسلمين رأس يجمعهم جميعاً، فالخلافة أنهيت وأهملت وأزيل أركانها وسميت بالرجل المريض، فالمشارقة والمغاربة والجنوبيون والشماليون والعرب والعجم ما الذي يجمعهم؟ لم يعد لهم ربط سياسي واحد يجمعهم بعد سقوط الخلافة، فشاء الله أن تأتي قضية فلسطين فتكون قضية المسلمين الأولى المركزية في هذا الأوان، فتكون بمثابة الخلافة للمسلمين؛ لأن الخلافة لا يقصد بها مجرد التمويل والتخطيط، فهذا يتقنه كل أحد، إنما يقصد بها الرمز الذي يجمع الكلمة ويوحد الصف، وهذا الرمز الآن يشمل المسلمين من مشرق الغرب إلى مغربه، فما من مسلم الآن في شرق الصين أو في غرب الولايات المتحدة أو في شرق اليابان إلا وهو يهتم بقضية فلسطين ويعتني بها، فإن بها رمزاً لتوحيد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق، وشد انتباههم إلى أمتهم، وشد انتباههم إلى هويتهم، فكان ذلك بلطف الله وفضله.

    تذكير المسلمين بقبلتهم الأولى ومسرى رسول الله

    ومن حكمة الله فيها: أن الله لما أراد زرع هذا السرطان الخبيث في جسم هذه الأمة لم يزرعه في طرف من الأطراف، فلو قامت دولة الصهاينة في موريتانيا أو في إريتيريا أو في إندونيسيا أو في أي طرف من الأطراف لنسيه العالم ولم يتحدث عنه كما نسي المسلمون الأندلس وصقلية وقبرص وغيرها من البلاد التي كانت يوماً من الأيام تمثل حضارة إسلامية راقية، ونسيها المسلمون نهائيا ًاليوم، فأراد الله أن يزرع هذا الكيان في القلب الذي لا ينسى، في قبلة المسلمين الثانية، وفي مهاجر أبيهم إبراهيم عليه السلام، وفي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المهاجر الثاني للمسلمين في آخر الزمان، فقد أخرج أصاحب السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه تكون هجرة بعد هجرة، ويوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام )، فسيهاجر المسلمون في آخر الزمان عندما يضطرون من أطراف الأرض، ويطوي الله الأرض فيقصرها من أطرافها، فيجتمع المسلمون إلى الشام عندما ( ينزل المسيح بن مريم عليه السلام حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقت أذان الفجر يمينه على ملك وشماله على ملك، إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا طأطأه تقاطر كأنما خرج من ديماس -والديماس الحمام- لا يراه أحد إلا قال: نبي الله، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره).

    هذا سلاح الدمار الشامل نفس المسيح بن مريم عليه السلام، (وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره). وهو سلاح جيني؛ لأنه قال: ( لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء )، فيهاجر إليه المسلمون في هذه الأرض.

    إظهار بركة الأرض المقدسة أرض الشام

    وهذه الأرض وصفها الله بالبركة فهي مباركة، مع أنها رقعة صغيرة جداً، ونحن نسمع حديث الناس عن غزة وكأنها قارة؛ لكثرة ما يسمع الناس فيها من الأحداث، وما واجهت من الضرب والإبادة، فيظن من يسمع عنها أنها على قدر مساحة أستراليا أو على قدر مساحة كندا لكن كم مساحتها؟ ثلاثين كيلو متراً طولاً في ستة كيلو مترات عرضاً، هذه القطعة هي غزة.

    وهذه المساحة فيها العديد من المدن: مدينة غزة، ومدينة جباليا، ومدينة بيت لاهية أو مدينة الشجاعية، وصلاح الدين، وخان يونس، وخزاعة، ورفح، ودير البلح، ومدن كثيرة جداً في هذه المساحة الصغيرة جداً، مما يدلنا على هذه البركة التي ذكرها الله جل جلاله، فإنه ذكر أنه بارك حول بيت المقدس، وهذه البركة تشمل البركة في الأرض وفي نباتها وفي خيراتها وفي بشرها أيضاً وأرضها ومدنها.

    اختبار المسلمين في تحمل الأذى من اليهود

    ومن حكم الله في زراعة هذا الكيان: أنه عندما سلط هؤلاء الصهاينة الذين حكمة الله في خلقهم الأذى فلله الحكمة في كل مخلوق، الله لا يخلق شيئاً عبثاً، وكل خلق إنما خلقه لفائدة بني آدم ، ولذلك قال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] قال ابن عباس: إما انتفاعا ًوإما اعتباراً وإما اختباراً.

    فالانتفاع: مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات التي ينتفع بها البشر، والاعتبار: ما ينفع عقولهم بالتفكر، فما نراه الآن من المجرات البعيدة والكواكب الكبيرة التي ليس فيها نفع لنا إلا الاهتداء في الظلام، وما نراه من أنواع المخلوقات غير الضارة، مخلوقات بحرية وغيرها، كلها خلقت للاعتبار، أي: لكي نعتبر بهذا الخلق.

    والاختبار: ما خلقه الله اختباراً للبشر، مثل ما فيه أذىً، كالسموم والأوبئة والميكروبات والجراثيم، وكل ما هو ضار في الأرض يتمحضه الضرر، فحكمة الله في خلقه الاختبار، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].

    واليهود واضح جداً من خلال النصوص أن حكمة الله من خلقهم الاختبار والأذى للبشر، فهم أعداء الله من خلقه، قالوا يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، وقَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، وقالوا: إن الله صرعه إسرائيل وخنقه حتى مد لسانه فشرط عليه ألا يعذب أحداً من ذريته إلا أياماً معدودات، رب يصرع ويخنق وهو بخيل لا يعطي شيئا ًوهو فقير لا يملك شيئاً كيف يعبد؟! من يعبده إلا مجنون.

    وهم أعداء رسل الله فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، قتلوا زكريا وقطعوه نصفين بالمنشار، وقطعوا رأس يحيى بن زكريا وأهدوه إلى بغي من بغاياهم.

    وهم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم فقد حاولوا قتله خمس مرات، مالئوا عليه المشركين، ودعاهم أبو رافع بن أبي الحقيق إلى حصنه في تدبير اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، ومالئوا عليه المنافقين في المدينة ودعاهم كعب بن الأشرف إلى حصنه ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصعدوا له عمرو بن جحاش على دار هو يجلس في ظلها وبيده صخرة كبيرة ليرميها على رأسها، فأتاه جبريل فأخبره فقام من مكانه فوقعت الصخرة في مكانه.

    وسحروه حيث سحره لبيد بن الأعصم ، ووضعوا له السم في الشاة، وكان ذلك سبب شهادته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

    وهم أيضاً أعداء ملائكة الله، فقد جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( يا رسول الله! من يأتيك بالوحي من الملائكة؟ قال: جبريل ، قالوا: ذلك عدونا من الملائكة؛ فأنزل الله في ذلك: مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[البقرة:98] ).

    وهم أعداء كتب الله المنزلة؛ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[النساء:46]، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ[آل عمران:78].

    وهم أعداء الاقتصاد؛ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ[المائدة:42]، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[النساء:161]، فهم أول من أنشأ البنوك، وهم أول من أنشأ دور القمار وهم أول من باع بالأسهم، وكل هذه الثلاثة من تدمير الاقتصاد تدميراً نهائياً، وكذلك هم أعداء البشرية كلها لأن الله يقول: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ[المائدة:64]؛ فلذلك لا يستغرب منهم الاعتداء.

    وقد أقاموا كيانهم على هذه الأرض الطاهرة المقدسة، وتمالأ معهم من تمالأ من ضعاف الإيمان ومن ضعاف العقول ومن ضعاف التدبير من المسلمين على مر العصور؛ فهم دائماً لا يستطيعون الاستقلال، ولا يواجهون إلا معتمدين على حبل من الله وحبل من الناس؛ فهم يبحثون عمن يكونون تحت ظله؛ ولذلك في بروتوكولاتهم أنهم في بداية التأسيس يكونون تحت ظل بريطانيا، ثم بعد ذلك يكونون تحت ظل الولايات المتحدة الأمريكية، ثم إذا تفككت أمريكا يكونون تحت ظل دولة الهند الكبرى، وهذا تخطيطهم الذي اعتمدوا عليه؛ فهم دائماً يبحثون عن حبل من الناس مع ما كتب الله لهم، قد كتب الله لهم دولتين يفسدون فيهما فساداً كبيراً:

    الدولة الأولى كانت عندما جاهد داود عليه السلام ومن معه العمالقة من أهل فلسطين، فانتصروا عليهم فأقام داود وسليمان دولة بني إسرائيل في القدس وما حولها، وهم يعلمون أنهم جاءوا مهاجرين ليسوا من أهل تلك البلاد؛ فبنوا إسرائيل جاءوا من مصر وقبل ذلك من صحراء سيناء؛ فـيعقوب عليه السلام كان يسكن في صحراء سيناء، وفيها رمي يوسف في الجب، ثم هاجر إلى مصر وفيها انتشرت ذريته، ثم جاءوا منها بعد إهلاك فرعون وأمروا بدخول أريحا فامتنعوا من ذلك واعتذروا أقبح ما قيل في الاعتذار؛ فقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ[المائدة:22]، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]، وقد قال أهل التفسير: هذا أقبح ما قيل في الاعتذار! فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا[المائدة:24]، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، ثم بعد ذلك مات الجيل الذي تعود على الخنوع لفرعون وجنوده، ونشأ جيل جديد تربى في الصحاري وفي الشظف والانتقال؛ فاستطاع هؤلاء أن يتخلصوا من الضغوط النفسية واستطاعوا الجهاد، فنصر الله داود ومكن له ولكن لم تدم هذه الدولة على استقامتها كثيراً؛ فبعد أن قبض الله داود وسليمان ومن جاء على آثارهما من المصلحين قام الملوك من بني إسرائيل ففجروا في الأرض وبغوا فيها، وقد كانت سنة الله ماضية في أنه يملك على الناس أقواماً، فإذا أحسنوا استقامت لهم الرعية، وإذا أراد الله إهلاكهم يسلطهم على أنفسهم بمعصية الله والظلم في الأرض وحينئذ ينتقم الله منهم؛ كما قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16].

    وأنتم تلاحظون أن هذه الأفعال عطفت بالفاء التي تقتضي الترتيب والتحقيق؛ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا[الإسراء:16]، وأمرناهم معناه: وليناهم إمارتها، وجعلناهم أمراء فيها، من: أمرّ الرجل.. فهو أمير، أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء:16]، مباشرة بعد تأميرهم وتوليتهم لا يبدءون بالإصلاح بل يبدءون بالفسق والعصيان؛ فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ[الإسراء:16]، مباشرة يحق عليها قول الله ووعده في الأرض، فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء:16]، يأتي التدمير الماحق بعد ذلك.

    ووعد الله لبني إسرائيل بهاتين الدولتين تحقق لهم في الدولة الأولى فبغوا وأفسدوا في الأرض، ولم يرعوا حرمة للبلاد المقدسة فسلط الله عليهم فارس يقودهم بختنصر والرومان البيزنطيون فاقتلعوا دولتهم وأذلوهم وأهانوهم بأنواع الإهانات.

    ثم بعد ذلك تعهد الله لهم بدولة أخرى في آخر الزمان وهي هذه الدولة التي قامت بوعد بلفور، وهذا الوعد هو العطاء الذي أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق! وهذا ما يجهله كثير من الأوروبيين والأمريكان الآن، ومن شأن المسلمين اليوم أن ينبهوهم عليه، فالتصور الموجود الآن لدى الغربيين أن في فلسطين شعبين يتناحران على الأرض، فينظرون إليهما كدولتين متجاورتين بينهما حرب كما ينظرون إلى اليمن الجنوبي واليمن الشمالي قديماً، أو إلى العراق والكويت، فينظرون بهذه النظرة، وينسون أن اليهود ما جاءوا إلا قبل سبعين سنة، وإنما جاء بهم الأوروبيون وأتوا بهم من مشارق الأرض ومغاربها وجمعوهم في هذا المكان، ليس لهم أي وجود، لا منزل واحد ولا مزرعة ولا بيت؛ فلا يمكن أن يقاسوا بسكان البلد الذين ولدوا فيه، وولد فيه آباؤهم وأجدادهم وترعرعوا فيه لمدة طويلة؛ ولذلك فإن امرأة من الإنجليز كانت تقوم بدعوتهم لإقامة دولتين في فلسطين: إحداهما لأهل فلسطين والأخرى للصهاينة، وقد سألها أحد المشايخ فقال: أرأيت لو أن الألمان حين احتلوا فرنسا، استقروا في شمالها وتصدقوا على الشعب الفرنسي بجنوبها، هل يقبل الفرنسيون بهذا؟ قالت: لا؛ لأنهم غزاة ولا بد أن يخرجوا، فقال لها: ولو أن أمريكا لم تتدخل في الحرب العالمية حتى احتلت ألمانيا بريطانيا كاملة فتصدقت على البريطانيين بإسكتلندا مثلاً واحتلت باقي بريطانيا وأقامت عليه دولتها، فهل يرضى البريطانيون بهذا؟ قالت: لا، هؤلاء غزاة ظالمون، لابد أن يرجعوا إلى بلادهم التي أتوا منها، فقال: ما الفرق؟ فانتبهت إلى الخطأ، وتذكرت وعد بلفور وعرفت أن هؤلاء ليس لهم أي مكان في هذه الأرض التي يحتلونها ولا لهم وجود فيها، ولا يمكن أن يقول أحد منهم: أنا أجدادي وآبائي كانوا يملكون هذه الأرض بمقتضى الصك الفلاني، أو اشتروها من فلان أو فتحوها في وقت فلان أبداً.

    والذين يريدون إخراجهم منها وقد أخرجوهم وأجلوهم وشتتوهم في أنحاء العالم من سكان الأرض الأصلية لديهم على الأقل ألف وأربعمائة سنة، وهم من سكان هذه الأرض مستقرين فيها لم يخرجوا منها يميناً ولا شمالاً، وأسلافهم وأجدادهم وعمومتهم متجذرة فيها.

    إظهار قوة وجبروت شعب فلسطين وعدم استسلامهم

    ومن حكمة الله: أن هذا الشعب الذي شاء الله أن يبتليه بزراعة هذا السرطان فيه شعب لا يخنع ولا يذل أبداً، إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ[المائدة:22] والجبار معناه: جذع النخلة القوي كما قال زياد بن حمل :

    وجنة ما يدوم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحل محتزم

    جبارها: هو جذعها القوي.

    فهم شعب جبارون لا يخنعون، وقد سمعتم ورأيتم كلام النساء والأطفال الصغار، وذلك الطفل الذي فقد عينيه بالقنابل الفسفورية، وهو في المستشفى أمام التلفزيون يتحدث بكل هدوء واسترخاء؛ مما يدل على أن هذا الشعب هو الذي يستطيع الوقوف في وجه هذا الطغيان؛ فهو مخلوق لذلك مؤهل له بحكمة الله جل جلاله.

    1.   

    وعد الله تعالى بزوال دولة اليهود وعدم استقرارها

    استقر اليهود في فلسطين وعاثوا في الأرض فساداً في دولتهم الثانية كما وعدهم الله بذلك، لكن لن يدوم هذا أبداً؛ فالدنيا مبنية على التحول والانتقال وهي عرض سيال، وبقاء حال من المحال؛ فلا يمكن أن يستقر فيها حال على ما هو أبداً، وتذكروا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقف على ضجنان، وهو جبل في شمال مكة في نهاية حجه قال: لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للـخطاب على ضجنان فكنت إذا أبطأت ضربني، وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:

    لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

    لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

    ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها ترد

    أين الملوك التي كانت بعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

    حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا

    الدليل من الكتاب على سقوط دولة اليهود

    لا بد أن تسقط هذه الدولة اليهودية، وقد وعد الله بذلك فقال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً [الإسراء:7-8].

    والمفسرون الأوائل ينطلقون من واقعهم في ذلك الزمان فيفسرون الضمائر على خلاف ما نراه نحن في واقعنا اليوم، فنحن نعلم أن اليهود لم تقم لهم دولة بعد تلك الدولة التي أقامها داود وسليمان ، ولم تكن لهم دولة قبل ذلك، فما لهم دولة في التاريخ إلا هذه فهي الثانية قطعاً، وهذا من الأمور المقطوع بها في التاريخ؛ فإذاً هذا هو الوعد الثاني.

    وقول الله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ [الإسراء:7] أي: حق عليها وعد الله بسقوطها، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ[الإسراء:7]، أي: ليسوء به اليهود وجوه المسلمين، وقد فعلوا؛ فقد رأيتم ما حصل في هذه الأيام الثلاثة والعشرين فقد ساءوا وجوه المسلمين حقيقة؛ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ[الإسراء:7] أي: المسجد الأقصى، والأنفاق الآن من تحته والمؤامرة عليه قائمة على أشدها، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا[الإسراء:7]، (ليتبروا) أي: يدمروا ويهلكوا، مَا عَلَوْا[الإسراء:7]، أي: مدة علوهم فتكون (ما) موصولاً حرفياً نائباً عن ظرف الزمان، ويمكن أن تكون موصولاً اسمياً بمعنى (الذي) أي: الذي علوه، ويكون العائد محذوفاً؛ لأنه منصوب بفعل متصرف فيقاس حذفه، ويكون معناه: ليتبروا الذي علوه من الأرض تتبيراً، أي: إهلاكاً، وقد رأيتم الجرافات كيف تعمل في هدم المساجد والمدارس والبيوت، ورأيتم آثار هذا الدمار الذي لا يقارن إلا بالهزات الأرضية المدمرة، مثل زلزال ذمار في اليمن أو زلزال ... في الجزائر أو نحو ذلك، ولا يمكن أن تقارن بأي شيء آخر، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء:7].

    عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8]، (عسى) من الله واجب، وهذا خطاب لهذه الأمة: عسى ربكم يا معشر المسلمين أن يرحمكم؛ وذلك بإزالة هذا الطغيان عنكم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا[الإسراء:8]: أي: إن عدتم إلى الجهاد في سبيل الله عدنا إلى ما عودناكم من النصر والتمكين، وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[الإسراء:8]: أي: حصرناهم فيها حصراً لا يستطيعون الخلاص منه، والحصير معناه الحبس فحصر فلان فلاناً، أي: منعه، فمعناه الحبس الذي لا يستطيع الإنسان خلاصه.

    الدليل من السنة على سقوط دولة اليهود

    وقد جاء في الأحاديث ما يدل على سيناريو نهاية هذه الدولة، فمن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خراب المدينة في آخر الزمان، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتركن المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي، قيل: وما العوافي يا أبا هريرة؟ قال: السباع، حتى يأتي ذئب أبيض فيغذي على المنبر لا يرده أحد، وآخر من يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما ).

    وفي صحيح البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: (وددت لو كنت سألت رسول الله صل الله عليه وسلم ما الذي يخرج أهل المدينة من المدينة؟)، ولكن الله لم يشأ ذلك؛ لأنه لو سأله لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم شيئاً لا تدركه عقولهم ولا تصل إليه، فلم يكونوا يعرفون سلاحاً لا يهدم البيوت ولا الشوارع ولا يقتلع الشجر ولا النبات ولا يغير ألوان المنازل، ومع ذلك يقتل البشر والحيوان، لم يكن هذا السلاح موجوداً في ذلك الوقت، وقد وجد الآن السلاح الذي يفعل هذا الفعل، فالغازات السامة لا تهدم البيوت ولا المنازل ولا تغير ألوانها وما فيها ولا تغير الشوارع ولا تهلك الشجر، ولكنها تقتل البشر والحيوان، فلذلك قال: (لتتركنَّ المدينة على خير ما كانت)، لم يتغير فيها شيء من الشوارع والمباني والـأنفاق والطرق، ( لا يغشاها إلا العوافي ).

    وجاء في حديث آخر: (خراب المدينة فتح بيت المقدس، وفتح بيت المقدس فتح رومية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال )، وهذا الحديث يربط خراب المدينة بفتح بيت المقدس، مما يدل على أن خراب المدينة يكون منقذاً لليهود فهم الذين يسعون لخرابها دائماً، وإذا فعلوا فستقوم الخلافة الراشدة التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان كما في حديث جابر بن سمرة بن جندب عند البخاري وغيره: (لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، فسألت أبي وكان بيني وبينه فقلت: ماذا قال؟ قال: كلهم من قريش).

    وكذلك الأخبار الواردة عن الخلافة آخر الزمان كحديث عبيدة عند أحمد في المسند وغيره: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون ثم أن يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت).

    فهذا الحديث تضمن خمس مراحل من مراحل السياسة في هذا الأمة: قيادة النبوة معصومة، ثم الخلافة التي هي على منهج، ثم الملك العاض الذي يقتضي جمع الدار وجمع الكلمة خلافة على الأقل وإن كان فيه تضييق وشدة على الناس لكن قال: (ملكاً عاضاً) وهذا يشهد دولة بني أمية ودولة بني العباس ودولة بني عثمان والدول الصغيرة التي كانت بين ذلك، ثم قال: ( ثم تكون ملكاً جبرياً )، والملك الجبري لا يمكن أن يكون شامل لجميع أرجاء الأمة، بل لابد أن يتفرق أهلها فيه كالواقع اليوم فكل بلد فيه حكم مستقل لا يجمعه جميعاً حكم واحد.

    (ما شاء الله لها أن تكون ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت)، فهذا سيتحقق لا محالة؛ لأنه وعد الله في القرآن، فقد قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

    1.   

    قيام القضية الفلسطينية مقام الخلافة في توحيد الكلمة

    وهذا إذا تحقق إن شاء الله فسيكون فائدة أخرى من فوائد القضية الفلسطينية على الأمة، فهي الآن تنوب عن الخلافة في توحيد الكلمة، وهي في آخر الزمان تكون سبب إقامة الخلافة الراشدة، (وسينزل المسيح بن مريم وإمامكم منكم- كما في الصحيح- فيقول: يا نبي الله! تقدم فصل، فيقول: ما أقيمت فيّ، تكرمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم).

    وهذه الخلافة من أفرادها قطعاً عيسى بن مريم، وسيكون حكماً عدلاً، وسيجمع المسلمين جميعاً لا يحل لمسلم أن يعدل عن حكمه في وقته، لا يمكن أن يقال: الدولة الفلانية مستقلة والدولة الفلانية مستقلة والمسيح بن مريم على وجه الأرض يمشي، لابد أن يجمع كلمة المسلمين جميعاً ومن قبله من الخلفاء وآخرهم محمد بن المهدي وهو الخليفة الثاني عشر أو الثالث عشر من خلفاء آخر الزمان.

    وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوع حربين في هذه المنطقة:

    فالحرب الأولى: يكون فيها تحرير المسجد الأقصى من اليهود، وجيش المسلمين شرقي نهر الأردن وجيش اليهود غربيه، وقد قال نهيك السكوني وهو راوي هذا الحديث: ( وما أدري ما الأردن يومئذ )، لم يكن يعرف شيئاً اسمه الأردن.

    الحرب الثانية: وهي الحرب التي يقودها المسيح ابن مريم وهي ضد المسيح الدجال وأنصاره الذين عامتهم من اليهود، ( فعلى مقدمته سبعون ألفاً من يهود أصبهان على رءوسهم الطيالسة ) وسيقاتلهم المسلمون ( حتى يتكلم الحجر والشجر فيقول: يا عبد الله يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ).

    1.   

    استمرارية بقاء الجهاد والمقاومة في أرض فلسطين

    لابد أن تبقى تلك الأرض أرضاً للجهاد والرباط والمقاومة، فبنو إسرائيل تعهد الله لهم تعهداً أبدياً مستمراً إلى يوم القيامة أن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب، قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167].

    فلابد أن تستمر المقاومة ويتألب أهل الأرض جميعاً لإسكاتها وإطفاء جذوتها وانتزاع سلاحها، لا يمكن أن يقع ذلك أبداً، فهذا تعهد من الباري جل جلاله وهو لا يخلف الميعاد، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31].

    فإذاً لابد أن تبقى هذه المقاومة مستمرة أبد الآبدين إلى قيام الساعة؛ لأن الله قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167].

    وهذه المقاومة تكون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس كما في الحديث الذي أخرجه البزار وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل: أين أولئك يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ).

    وهؤلاء من الظاهرين وليست الطائفة المنصورة محصورة فيهم، بل الطائفة المنصورة في الأمة كلها في مشارقها ومغاربها، ولذلك ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وهم أهل الغرب).

    وقد فسر ذلك شراح الحديث بثلاثة أوجه: فالغرب يطلق على السلاح والقوة ومنه ضرب السيف، ويطلق على الدلو العظيمة كما في الحديث: ( فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ).

    وتطلق على مغرب الشمس، ففسر الغرب بالثلاث: إما أهل القوة والشوكة، وإما أهل الدلاء العظيمة أي البدو، وإما أهل مغرب الشمس.

    وكذلك جاء الإطلاق في حديث معاوية بن أبي سفيان عند البخاري في الصحيح وغيره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    فلم يحدد لهم مكاناً ولا زماناً، بل أخبر أن استمرارهم هو استمرار هذه الأمة، وأنهم لا يزالون قائمين بالحق لله جل جلاله ناصرين لدينه (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    1.   

    ضرب الحصار على قطاع غزة وتشاؤم اليهود منه

    شهدنا ما حصل في غزة فاقتطع هذا القطاع بعد تطير اليهود به وتشاؤمهم به، وقد قال الهالك رابين : إنه يتمنى أن يصبح يوماً من الأيام وقد ابتلع البحر غزة، فهم يتطيرون ويتشاءمون بها.

    ثم بعد هذا لما اضطروا للانسحاب منها اقتطعوها وأقاموا عليها سياجاً، وجعلوا دونها مناطق ليس فيها عمران، أهلكوا كل من فيها وما فيها، ثم بعد ذلك حاصروها حصاراً شديداً، وهذا الحصار هو الذي ورد التحدث عنه في بعض النصوص، فقد جاء في صحيح مسلم في ذكر حصار العراق: ( يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ودرهم، قيل: من أين؟ قال: من قبل العجم، ويوشك ألا يجبى إلى الشام قفيز ولا درهم، قيل: من أين؟ قال: من قبل الروم ).

    فهذا الحصار سيقع لا محالة، وسيحاصر العراق، وقد حصل ذلك، وسيحاصر الشام، ولا يقتضي الحديث أن يشمل الحصار جميع مناطق الشام بل إذا حصل في أي مكان منه فذلك مصداق لهذا الحديث، وهذا الحصار مع الأسف شارك فيه كثير من هذه الأمة من قادتها، وسكت عنه كثير من ساستها، ورضي به وخنع له كثير من شعوبها، لكن مع ذلك لا تزال الأمة بخير فهي مبشرة بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره).

    وقد شاهدتم بعض العجائز في صعيد مصر وهن يحملن الديكة ما يملكن غيرها يأتين بها يقدمنها تبرعات وهن لا يملكن شئياً، وشاهدتم هذه الهبة التي نشأت في العالم كله من شرقه إلى غربه، وهذا التعاون الكبير بين شعوب المسلمين جميعاً لنصرة إخوانهم، ثم جاء هذا الغزو في وقت مشبوه قد انتهت فيه ولاية الرئيس المنتخب في فلسطين ولم يبق منها إلا أياماً، وفي وقت لم يبق فيه الفلسطينيون على أمر غير معروف، وهذا خلاف ما يشاع ويذاع بين الناس، فكثير من العوام يظنون أن المشكلة كانت بسبب استفزاز قام به أهل غزة، والحقيقة أن أهل غزة لم يفعلوا إلا ما كان يجب عليهم أن يفعلوه، أهل غزة يدافعون عن وطنهم وليسوا دولة مستقلة، هم جزء من فلسطين ولهم الحق في القدس، ولهم الحق في كل أرض فلسطين، ولا يحل لهم إسلامها ولا الانسحاب منها، يجب عليهم الصمود والبقاء وأن يبقوا مرابطين مجاهدين على هذه الأرض في هذا الشهر العظيم من شهور الإسلام، ويجب على المسلمين جميعاً أن يساعدوهم على ذلك، وأن يوفروا لهم كل احتياجاتهم.

    والذي يظن أنه إذا توقفت الحرب وأمن أهل غزة وترك لهم الجو والبر والبحر فإن الحرب ستتوقف فإنه مخطئ في تصوره؛ لأن تحرير غزة ليس تحريراً لكل فلسطين وليس تحريراً للقدس، وغزة إنما هي طريق القدس، فقط.

    1.   

    نماذج من صمود المسلمين في أرض فلسطين

    لقد جاءتني رسالة من أحد المجاهدين المقاومين الذين كانوا في مقدمة الصفوف في هذه الأيام، وقد كتب رسالة إلى بعض من يعرفهم من إخوانهم من العالم يقول فيها: ها أنا أرجع إليكم بعد أربعة وعشرين يوما ًمن الرباط في الثغر كنا في نحور العدو. وهو يذكر في رسالته برسالة عبد الله بن المبارك التي أرسل بها إلى الفضيل بن عياض :

    يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

    من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

    أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

    وهو يقول: إن ما أحرزناه من النصر المبين فإنما هو من توفيق الله وفضله لا حول لنا ولا قوة فيه، وإنه طريق وتشجيع إلى الوصول إلى القدس بإذن الله وتحقيق النصر الكبير الذي ترجونه، ويقول: أبشركم أننا بخير وأننا ما ازدادت عزيمتنا إلا قوة ولم ينقص شيء من قوتنا وسلاحنا وعزيمتنا.

    وهذه البشارة هو صادق فيها، فإنهم رأوا ورأى العالم معهم من الصمود ما يشكل معجزاً مزعجاً لدى أعداء الله، فما كانوا يتصورون أن شعباً من الشعوب يكون تحت هذا الظرف، ويرمى عليه ما وزنه ألف طن من المتفجرات بأنواعها والأسلحة المحرمة، ومع ذلك يصمد، فاليابان القوة العظيمة الكبيرة عندما ألقيت عليها قنبلة ذرية لا يصل وزنها شيئاً من وزن ما ألقي هؤلاء القوم، أعلنت استسلامها مباشرة، فهذا الصمود العجيب كان معجزة من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من الرعب الذي نصر به فقد صح عنه أنه قال: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، وفي مسند أحمد أن ذلك بقية لأمته أي النصر بالرعب مسيرة شهر.

    دور النساء والأطفال والشيوخ في الدفاع عن غزة

    وقد شاهد العالم صمود النساء والأطفال والعجزة والشيوخ في وجه هذه الآلات المرعبة المروعة، ووقوفهم بكل كبرياء في وجهها، وهم يذكروننا بما قال أبو الأعلى المودودي عندما كان يخطب في الجماعة الإسلامية فأطلقت الرصاص في القاعة، فدخل الناس تحت الكراسي وهو قائم يخطب، فقيل له: اجلس اجلس! فقال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟! يتحمل مسئوليته في هذا الوقت.

    ونظير ذلك ما قاله الشاعر الفلسطيني في مرثيته للمجاهد عز الدين القسام رحمة الله عليه في قصيدته المشهورة، يقول فيها:

    إن الزعامة والطريق مخوفة غير الزعامة والطريق أمان

    فرق بين الزعامتين، فإن الزعامة تحت المكيف وفي أمن وأمان غير الزعامة والطريق مخوف.

    ولذلك أثارت هذه الواقعة الأمة كلها وحركتها، فأول من يتحرك عادة هي الشعوب التي ما زالت الدماء تجري في عروقها ولا ترضى بالخضوع والاستسلام، وقد رأت ما يشد من عزيمتها، وقد كان من المجاهدين المقاومين خلاف ما حصل للشاعر الجاهلي الذي قال: (ولكن الرماح جرت)، فالشاعر خذلته رماح قومه فلم يستطع أن يتكلم، ولكننا نحن اليوم لم تخذلنا رماح قومنا، فقد رأينا صواريخ القسام تصل إلى كل مكان حتى ... وهو يلقى كلمته: تقع الصواريخ على عسقلان وسيدروت وغيرها، فلا يمكن أن يقولوا ما قال الشاعر: ولكن الرماح جرت.

    دور الإعلام في تغطية الحرب على غزة

    ثم جاءت أزمة الإعلام والمؤسسات الخيرية، وقد كان لها دور مشكور، وقد رأينا شعار الندوة العالمية للشباب الإسلامي في كل مكان في داخل غزة، وكثير من وسائل الإعلام تتعمد إخفاء هذا الدور وتركز على دور الأمم المتحدة التي إنما تنفذ ما يقع بأموال المسلمين، فالضمان الذي تنفذه الآن الأمم المتحدة في داخل غزة هو من تمويل إسلامي، وليس للأمم المتحدة فيه إلا مجرد شعار أنها ترعاه.

    ثم رأينا كذلك ما قامت به وسائل الإعلام المختلفة، وفي هذا المقام لا ننسى ما قامت به قناة الجزيرة في تغطيتها ومواكبتها لهذا الحدث فيما يستحقه، وكان ذلك فتحاً من الله وتوفيقاً منه.

    دور العلماء في الوقوف في وجه العدو الصهيوني

    ورأينا في هذه الأمة كلها، في كل شريحة من شرائحها ما يذكرنا بسلفنا الصالح، نحن أمة لنا تاريخ، ولنا أمجاد، فإذا تحدثنا عن علمائنا السالفين وذكرنا ابن تيمية و الببلاوي و العز بن عبد السلام ، و أسد بن الفرات و عبد الله بن المبارك وغيرهم من كبار العلماء المجاهدين الذين نصر الله بهم هذا الدين، ووقفوا في وجه العدو، وأشرعوا رماحهم وسيوفهم في وجه العدو، نجد اليوم من علمائنا من ما زال كذلك ونحن فخورون جداً بالشيخ نزار بن عبد القادر بن محمد الريان رحمة الله عليه فهو من كبار العلماء الذين مثلوا العلماء الماضين في هذا الزمان، فهو يذكرنا بأولئك الأخيار، وقف شامخاً شموخ الجبل في وجه العدو وجاهد وصمد، وقد تحدثنا معه قبل أيام قليلة من استشهاده عبر التلفون فقال: نحن صامدون صابرون هنا، ونلتقي في الجنة إن شاء الله.

    دور التجار والشعراء والنساء من قضية فلسطين

    وكذلك رأينا من تجار المسلمين من يذكرنا بأسلافنا الكرماء العظماء من يذكرنا بما كان يبذله عثمان بن عفان عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم).

    ورأينا من كتابنا وشعرائنا من يذكرنا كذلك بما كان عليه حسان بن ثابت عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( اهجهم فلقولك أشد عليهم من وقع الرماح )، عندما قال:

    ألا أبلغ أبا سفيان عني مغلغلة فقد برح الخفاء

    بأن سيوفنا تركتك عبداً وعبد الدار سادتها الإماء

    هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

    أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

    هجوت مباركاً براً حنيفاً أمين الله شيمته الوفاء

    فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

    لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

    أو عندما قال يوم أحد:

    منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغور النجوم

    من حبيب أصاب قلبك منه سقم فهو داخل مكتوم

    لم تفقها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم

    رب حلم أضاعه عدم المال وجهل غطى عليه النعيم

    لا تسب الذي فرحت بسبي إن سبي بين الرجال ذميم

    ما أبالي أنب بالحزن تيس أم لحاني بظهر غيب لئيم

    ولي البأس منكم إذ حضرتم عصبة من بني قصي صميم

    تسعة تحمل اللواء وطارت في رعاع من القنا مخزوم

    لم تطق حمله العواتق منهم إنما يحمل اللواء النجوم

    ورأينا كذلك من نساء هذه الأمة من يذكرنا بتضحيات أم سليم و نسيبة و عائشة و فاطمة ، ففي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ( لقد رأيت عائشة و فاطمة و أم سليم يوم أحد مشمرات عن أسواقهن يحملن القرب ويسكبن الماء في أفواه الجرحى ).

    دور قادة العرب وحكامهم في الدفاع عن فلسطين

    لكن بقيت شريحة واحدة من هذه الأمة لم نر منها بعد من يذكرنا بأسلافها، وهذه الشريحة هي حكام الأمة، ما رأينا بعد من يذكرنا بـالمعتصم بن هارون الرشيد الذي لما جاءه الخبر أن طفلة من أهل عسقلان أخذها الروم وخرجوا بها إلى عمورية فقالت: وامعتصماه! فقال لها العلج: يأتيك على أبلقَ، فانتقلت هذه الكلمة حتى وصلت إلى المعتصم وهو يومئذ في سامراء في العراق، وقد كان بيده كأس ماء يشرب منه، فلما سمع الكلمة انتفض وأمر بختم الكأس حتى يرجع من غزوته، وأمر بتجهيز سبعين ألفا ًكلهم على فرس أبلق، استجابة لتلك المرأة.

    وقد جاء إلى عمورية فحاصرها وكانت تحاصر كل عام فلا تفتح، أي أنها أعيت على الفتح، فلما طال الحصار أمر الجنود بالحفر تحت الحصن، فحفروا فزرع فيه البارود وأوقد فيه النار في تفجير فانفلقت، وقد خلد ذلك العمل الرائع أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في قصيدته البائية المشهورة التي مطلعها.

    السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب

    بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب

    إلى أن يقول في هذه القصيدة:

    إن كان بين ليالي الدهر من رحم موصولة أو ذمام غير منقضب

    فبين أيامك اللائي نصرت بها وبين أيام بدر أقرب النسب

    يا يوم وقعت عمورية انصرفت من كلمنا حبنا المعسولة الحلب

    فالشمس طالعة منا وقد وجبت والشمس واجبة من ذا ولم تجب

    صبح من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب

    رمى بك الله برجيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصب

    وكذلك قد قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش رحمة الله عليه:

    رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم

    لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم

    لكن نرجو ونأمل أن نرى منهم نماذج تذكرنا بالمعتصم بالله و بـصلاح الدين الأيوبي و بـقطز وبغيرهم من قادة هذه الأمة الذين حكموها بجدارة، وأبرزوا ما يدل على أنهم أهل بأن ينوبوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة الأمة.

    وقد كان صمود المجاهدين ووقوفهم سبباً لتحريك الأمة كلها، فقد رأيتم في خلال مدة وجيزة لا تتجاوز عشرة أيام خمس قمم عقدت، وكلها تداولت هذه القضية، ورأيتم أنه يكاد يظهر انقسام هذه الأمة وساستها إلى فسطاطين: فسطاط يريد الاستسلام والانبطاح في أحضان العدو، وفسطاط مقاومة وصمود، وهو وإن كان لا يستطيع تقديم شيء يذكر إلا أنه يشعر بعزته بفعل المقاومين وما قدموا.

    1.   

    أنواع الناس ومواقفهم عند حصول الأزمات

    ومن المعلوم أن مثل هذه الأزمات إذا حصلت كارثة انشقت فيها مواقف الناس إلى أربعة مواقف:

    الموقف الأول: موقف أهل الإيمان والصدق وقد بين الله موقفهم يوم الأحزاب فقال: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:22-24].

    الموقف الثاني: موقف الصرحاء من المنافقين الذين كانوا يكتمون ما يعتقدون، فوجدوا فرصة في انشغال الناس والشماتة بهم، فأبرزوا ما يعتقدونه وصرحوا به وأعلنوه، وقد بين الله موقفهم في موقعة الأحزاب فقال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:12].

    يقولون: يعدكم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته، وقد رأيتم أنه لم تمض السبع السنوات على حادثة الخندق حتى فتحت كنوز كسرى وقيصر، وأوقفت في سبيل الله كما وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم.

    الموقف الثالث: موقف المخذلين وما أكثرهم في زماننا، وقد سطره الله في موقعة الأحزاب فقال: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13]، وفي هذه الآية قراءتان سبعيتان: القراءة الأولى: لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13]، معناه ليس لكم مقام هاهنا، (فارجعوا) أي: انهزموا وانصرفوا، واتركوا الأرض لعدوكم، وقد سمعنا من المفتين من يفتي بهذا ويقول: لا معنى للمقاومة حيث يجرح رجل واحد من اليهود أو امرأة ويقتل مئات من الفلسطينيين فيلزم أن ينصرفوا وأن يذهبوا.

    والقراءة الأخرى: ((لا مَقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا))، أي: ليس فيكم نفع ولا دفع، فليس لكم مقام تدفعون به العدو فارجعوا، وهذا شأن المنافقين دائماً كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].

    فالناس الذين يقولون: هؤلاء جنوا على أنفسهم ولو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فقد سلكوا سبيل من سبقهم من المنافقين المتخاذلين، وقد فضح الله المخذلين فضيحة ما بعدها فضيحة فقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب:18-19].

    وقد شاهدنا على بعض القنوات بعض هؤلاء المتحدثين على قناة العربية، وشاهدنا بعض الكاتبين بأقلامهم الأفاكة على بعض الصحف وبالأخص بعض الصحف الكويتية الذين يتشمتون بالمجاهدين الذين لقوا ربهم، مستهزئين بالفرض الذي افترض عليهم، فأبرزوا الشماتة بالشيخ نزار ريان ، وأبرزوا الشماتة بالمجاهد العظيم سعيد صيام ، ولم يفتخروا بهذه الأمة، ولم يدَّكروا أن التاريخ سيحاسبهم على ما يكتبون، وأنهم أيضاً سيجازون عليه بين يدي الله ديان السموات والأرض.

    قال سبحانه: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب:19-20]، وهذا هو ظن السوء الذي وصف الله به المنافقين والمشركين فقال تعالى في سورة الفتح: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ[الفتح:6]، وقد شرحه الله بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح:12].

    لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاد اليهود يوم خيبر وهو يركب حماراً له ومعه ألف وخمسمائة مقاتل، وهو يعلم أن أمامه سبعة آلاف مقاتل مدجج في داخل حصن خيبر، قال المنافقون: تظنون أن محمداً يعود إليكم، والله لا يعود حتى يعود أمس الدابر يظنون أنه لن يرجع أبداً وأنه سيقتل؛ لذلك قال الله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح:12].

    كثير من الناس كذلك عندما توقفت المعركة بهذا النصر المبين وبرد الله الكافرين على أعقابهم خائفين كما قال الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً[الأحزاب:25]، استرخى وشعر بالراحة، وهذا هو الموقف الرابع وهو موقف الذين يهتمون بمصالحهم الخاصة، ويتركون أمر العامة، وقد سطر الله هذا الموقف في معركة الأحزاب، فقال: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً [الأحزاب:13].

    وهؤلاء قد سلكوا مسلسل التنازلات، فتنازلوا أولاً عن الجهاد، ثم تنازلوا عن شهود الجماعة، ثم تنازلوا بعد ذلك عن الأمر العام وعن شأن الأمة حتى لم يبق لهم إلا دارهم الضيقة، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ [الأحزاب:14]، أي: الردة عن الإسلام، لآتَوْهَا [الأحزاب:14]، فإذا أعطوها من سألهم، وفي القراءة السبعية الأخرى: (لأتوها) أي: دخلوا فيها، وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً [الأحزاب:14-15].

    1.   

    مسلسل التنازل عن أمة الجسد الواحد

    ومسلسل التنازل، يبدأ أولاً بالتنازل عن أمة الجسد الواحد، فنحن نهتم بدولتنا ومحيطنا الإقليمي ومن حولنا، ولا يعنينا أمر الأطراف وأمر شأن هذه الأمة نسأل الله أن يعينهم، وإذا فعلنا شيئاً فنحن نتصدق عليهم ونمن عليهم بما فعلناه؛ لأننا لا نحس بأن هذه القضية قضيتنا.

    ثم بعد ذلك تأتي خطوة أخرى فلا يهتم الإنسان بالأمر الإقليمي وأمر الدين، في البداية يقول: أنا أتنازل عن الجهاد لكن سأعتني بأمر التعليم وأمر اليتامى وأمر حفر الآبار وبناء المساجد، ثم بعد ذلك يتنازل عن هذه كلها، نحن نهتم فقط بما كان داخل هذا البلد، ثم بعد ذلك يتنازل عن البلد أيضاً حتى يصل إلى مدينته وقريته، ثم يتنازل أيضاً فيصل إلى بيته وأسرته، ثم يأتي التنازل عن الدين من أصله.

    وهذا المسلسل قد شاهدناه من بعض أهل فلسطين أنفسهم، فمنهم من تنازل عن القدس وتنازل عن حق اللاجئين في العودة، وتنازل عن أرض فلسطين التي هي أرض رباط المسلمين ووقف للمسلمين جميعاً قاصيهم ودانيهم، وأرادوا أن يقيموا دولة، وأن يكون لهم هيلمان وسلطان في الضفة الغربية، منطقة محصورة لا تساوي 3% من أرض فلسطين، وإذا أضيفت إليها غزة فلا يتجاوزان 7% فقط من أرض فلسطين.

    تنازل عجيب وسروع في هذا التنازل، وهذا المسلسل الذي هو خطوة خطوة يأتي بالتدريج، والمؤسف أن يجد هؤلاء آذاناً صاغية، وقد سمعنا بعض الزعماء يقول: نحن لن نقطع العلاقات مع إسرائيل؛ لأن خيار السلام خيار إستراتيجي اتخذه العرب جميعاً حتى يشير علينا العرب بذلك.

    وقد أجيب هذا فقيل له: عندما اتخذت قرار العلاقة بالصهاينة هل استشرت العرب جميعاً عليه؟ لم تستشيرهم، فلذلك لا داعي لاستشارتهم لقطعه أيضاً، وهكذا فكل هذه الأمور التي نراها هي من المبشرات، وسيأتي الفتح لا محالة، وسيكون الناس على فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق وخنوع، وسترى هذه الشعوب المسلمة من الجهاد في سبيل الله ما يسرها، وتصل إلى القدس فاتحة كما كان، لكن يوم يكون في حكامها مثل: صلاح الدين الأيوبي الذي كان يحدث بالأحاديث المسلسلة، وفيها حديث مسلسل بالابتسامة، فقال الناس له: ابتسم حتى يتسنى لنا رواية هذا الحديث بالتسلسل؟ فقال: إني لأستحيي من الله أن أبتسم وبيت المقدس تحت أقدام الصليبيين.

    فلم يستطع الابتسام حتى حرر بيت المقدس، وعندما دخل القدس دخلها رحمة وأماناً على أهلها حتى من الصليبيين، فأمنهم على أنفسهم وأهليهم، ولم يتعرض لأي أحد منهم بأذى، ولذلك كتب المؤرخون من النصارى في الفرق بين دخول الصليبيين لبيت المقدس وخروجهم منه منهزمين، فقبل يوم دخولهم سالت الطرق بالدماء، ولم يبق أحد من المسلمين إلا أهين وأوذي بأنواع الأذى، وكان النصارى الذي جاءوا من ألمانيا يطئون الأطفال الصغار بخيلهم، ويقتلونهم تحت أقدام الخيل، وينحرونهم بين أضرع أمهاتهم، ويوم خروجهم دخل صلاح الدين وهو متواضع لله جل جلاله وهو يتذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، ملصقاً ذقنه بصدره حياء من الله أن يدخل حرمه بالسلاح، فدخل وبدأ بالمسجد وصلى فيه ركعتين في وقت الضحى، ونادى مناديه للناس: أنتم آمنون، فكل من دخل بيته فهو آمن، وكل من لم يحمل علينا السلاح فهو آمن، فكان أمراً عجيباً من تذكير الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمته وهديه.

    وهذا الذي نرجوه أن يتحقق قريباً إن شاء الله.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر المسجد الأقصى من أيدي اليهود، وأن يرزقنا فيه صلاة قبل الممات، وأن يعين المجاهدين وينصرهم نصرا ًمبيناً، وأن يخذل من خذلهم، وأن ينصر من نصرهم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767375859