إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [7]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تنقسم البدع باعتبار الذات والمتعلق إلى قسمين: بدعة حقيقية وبدعة إضافية، ولكل منهما تعريف يخصها، ويقع الإشكال في البدعة الإضافية بين مفرط ومشدد؛ لصعوبة إدراكها والتباسها، وقد ذم الله عز وجل المبتدعة في كتابه، فقال: (ورهبانية ابتدعوها ...)، والرهبانية لها عدة أنواع: منها: العزلة والانقطاع، وتحريم ما أحل الله، والتشديد في سلوك طريق الآخرة.

    1.   

    البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

    فهذا هو المجلس السابع من المجالس العلمية في التعليق على كتاب (الاعتصام) لـأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله، وهذا هو اليوم الأول من الشهر السادس من سنة سبع وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وينعقد هذا المجلس في جامع الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بمكة المكرمة.

    كنا أتينا على الأبواب الأربعة من تبويبات المصنف، وبين يدينا اليوم الباب الخامس من كتاب الشاطبي رحمه الله.

    قال رحمه الله: [الباب الخامس: في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما]، أراد الشاطبي في جملة هذا الباب أن يبين بحسب استقرائه ونظره في مسألة البدعة ومعناها: أن البدعة تنقسم إلى بدعة حقيقية، وإلى بدعة إضافية، وقد جرت العادة في التراتيب العلمية على أن التقاسيم التي يتخذها العلماء ويقولون بها أو ينقلونها عن غيرهم من أهل العلم الأصل فيها هو الإقرار، إذا كان المقصود بها الضبط والتقريب للمعاني، وما إلى ذلك من المعاني أو المقاصد المناسبة، وإنما يؤخذ على التقسيم إذا كانت ألفاظه وكلماته فيها إشكال، أو كان هناك إشكال من جهة معانيه، فالأصل أنه لا مشاحة في هذه التقاسيم والاصطلاحات، وإن كنت أنبه طالب العلم إلى أنه لا ينبغي أن يفترض معنى يقع في الذهن، وهو أن التقاسيم تدل على التحقيق، فالبعض يقع عنده شيء من الانطباع بأن ذكر التقاسيم في بعض الكتب يدل على أن ثمة انضباطاً علمياً عند هذا الكاتب، أو هذا المؤلف، أو هذا المخرج لهذا المعنى، ليس بالضرورة أن يكون هذا هو المقصود هنا، لكن كمفهوم عام ذكر التقسيم للمعاني، والتفريق بينها، وما إلى ذلك ليس بالضرورة أنه رمز يرمز إلى التحقيق، بل ربما كان هذا فيه شيء كثير من التكلف ليس إلا، وربما كان من التفريق اللفظي، وربما كان تفريقاً ليس مطرداً، ونحو ذلك، فليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك؛ ونقول هذا لأن بعض طلبة العلم عنده شغف بهذه التقاسيم، ويرى أن هذا نمط التحقيق في العلم، والترتيب له، والضبط لأصوله، فمثلاً: هذا الشيء ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهذا إلى كذا، وهذا إلى كذا، والفرق من هذه الأوجه، وهلم جرا، فهذا معنى لا ينبغي التكلف في تركه، كما لا ينبغي التكلف أيضاً بفرضه، ولا سيما إذا جرت الأمور على ما هو معروف في النظر بالسبر والتقسيم، فصارت الأمور تسبر وتقسم، ثم تعطى أحكاماً لكل قسم من هذه الأقسام؛ فهذا الأسلوب -كما أسلفت- ليس آمناً بالضرورة؛ لأن من أقل ما قد يعرض في هذا السبر والتقسيم أن التقسيم قد يكون غير جامع للمعاني المفروضة، فربما أن هذا المعنى بعد سبره قسم بأربعة أمور، ويكون الصواب أن هناك أمراً خامساً لم يذكر في هذه الأمور الأربعة أصلاً، وربما كان الصواب في وجه منها باعتبار وفي وجه آخر باعتبار، فأحياناً التقاسيم تعطي الإنسان دافعاً للالتزام بقسم واحد في العلم، فتجد أنه يلتزم واحداً من هذه الأقسام، والأمر ليس بالضرورة أنه يكون كذلك.

    تعريف البدعة الحقيقية

    قال المصنف رحمه الله: [ البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية ] أراد أن يعرف البدعة الحقيقية بقوله: [ إن البدعة الحقيقية هي التي لم يدل عليها دليل شرعي، لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل؛ ولذلك سميت بدعة ]، أراد المؤلف بالبدعة الحقيقية أنها التي لا وجه من الدليل عليها، لا نصاً ولا ظاهراً، لا من جهة النصوص ولا من جهة القياس، أو ما هو من أوجه الاستدلال المعتبرة عند أهل العلم، لا من جهة إجمالها، ولا من جهة تفصيلها، فهذه سماها الشاطبي البدعة الحقيقية.

    تعريف البدعة الإضافية

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما البدعة الإضافية فهي التي لها شائبتان:

    إحداهما: لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة.

    والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية ]، بمعنى أن متعلقها شبهة ساقطة، وليست حجة قائمة.

    قال: [ فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية، وهي البدعة الإضافية ]، إذاً: نتيجة هذا الكلام أن البدعة الحقيقية هي ما لا أصل لها لا من جهة النصوص ولا من جهة القياس أو غيره من الدلائل المعتبرة ولا من جهة مجمله ولا من جهة تفصيله.

    وأما الإضافية عند الشاطبي فهي التي لها جهتان، فهي باعتبار النظر في أصلها تقول: إن هذا المعنى ثابت بدليل شرعي، ولكن يدخلها جهة أخرى، إما من جهة الزمان أو غيره، فيقال: هي من الجهة الثانية لا أصل لها، فمن هنا سماها بدعة إضافية، فهي التي أصلها ثابت- يعني: الأصل الذي هو المعنى العام للعمل - ولكن يقترن بها إما تقييد بزمان أو ما إلى ذلك، فيكون التقييد من هذه الجهة لا أصل له، فيكون هذا العمل بمجموعه له جهتان، جهة تعتبر هذا الأصل، وجهة لا تعتبر هذا الأصل، ومن هنا لم يسمها الشاطبي بالبدعة الحقيقية، إنما سماها البدعة الإضافية، وكلمة (الحقيقية) من الكلمات التي دخلها الاصطلاح، وصارت الحقيقة يقابلها المجاز، فكأن التسمية الأشهر عند النظار أن تسمى بالبدعة الذاتية، لأن الثانية لا يقال: إنها ليست بدعة في حقيقتها، فهي بدعة ولكنها بدعة إضافية، فالأُولى تعلقت البدعة بذاتها، أي: أن ذات العمل ليس له أصل، وليس مشروعاً، بخلاف الثانية فذات العمل من حيث هو مجرد له أصل، وإنما كان وجهاً من الابتداع باعتبار الجهة الثانية كالجهة الزمانية مثلاً.

    مثال للبدعة الإضافية

    فعلى هذا المعنى الذي يذكره الشاطبي : من قصد صوم يوم بعينه، فالصوم من حيث هو مشروع، والشارع ما نهى عن صيام هذا اليوم، ولكن من قصده بالتخصيص، فهذا التخصيص من هذه الجهة يكون بدعة، فهذا يكون داخلاً في هذا الاعتبار، أي: أن من قيد مطلقاً من الشريعة بزمن محدود، فيكون هذا القصد بالتقييد وجهاً من الابتداع.

    إذاً: البدعة الأولى الابتداع فيها يرجع إلى ذات الفعل؛ لأنه لا أصل له لا من جهة مجمله ولا مفصله؛ ولهذا كأن الأولى بحسب لغة النظار أن يسمى القسم الأول البدعة الذاتية؛ لأن الابتداع تعلق بذات العمل إذ هو ليس بمشروع أصلاً، وأما الثاني فالعمل من حيث هو مجرد كالصوم من حيث هو عمل مشروع، قيدته الشريعة بزمان، كرمضان وغيره من الصيام المشروع بزمان معين، وما عدا هذه من الأزمنة فالشريعة جعلته مطلقاً إلا ما عينت النهي عنه كيوم العيد.

    فعلى هذا البدعة الثانية تسميتها بالإضافية مناسب؛ لأن هذا من باب الإضافات، وأما الأولى فكأن الأنسب أن تسمى البدعة الذاتية، وصارت الحقيقة يقابلها المجاز، والمجاز يمكن نفيه، وما إلى ذلك.

    وعلى كل حال هذا من باب التعبير الأدق أو الأولى ليس إلا.

    فإذاً: هذا التقسيم من الشاطبي وهو أن ثمة فرقاً بين الأولى والثانية تقسيم حسن؛ ولهذا الذي يقع فيه الاشتباه كثيراً ويلتبس أمره هو النوع الثاني، لكن هنا الأولى لا أصل لها مطلقاً؛ ولهذا لا يقع فيها إلا الجاهل، أو الذي ألف الابتداع واعتاده، وصار له أسباب عنده تخصه.

    ما يقع في البدعة الإضافية من الاشتباه

    لكن الذي يقع فيه الاشتباه عند كثير من العابدين والسالكين وبعض أصحاب العلم والشيوخ هو الثاني؛ لأنه له جهتان، وقد سماهما الشاطبي شائبتين، يعني: باعتبار التعبير القريب نقول له: جهتان: الجهة الأولى تقتضي المشروعية.

    والجهة الثانية تقتضي الكف عنه لكونه بدعة، وهو الذي يقع فيه الاشتباه، السؤال هنا: يقع الاشتباه عند من؟ أو بأي اعتبار؟

    الحقيقة أن الاشتباه فيه يقع باعتبارين: الاعتبار الأول: تحت مؤثر الإفراط، والاعتبار الثاني: تحت مؤثر التفريط، فلا شك أن ثمة من يقصد إلى أعمال أصلها العام أو المطلق ثابت في الشرع، فيقصد إلى زمان معين، أو مكان معين، أو هيئة معينة، فيخصص هذا بها، وربما التزمه، فيكون عنده إفراط في الاستحباب، وإذا روجع في هذه الأعمال، قال: إن أصلها مشروع. ولم يلتفت أن الأصل في الأزمنة والأمكنة عدم التخصيص بتعظيم إلا بدليل شرعي، والله جل وعلا خص مكاناً بالتعظيم كالمسجد الحرام والمساجد ومكة والمدينة وما إلى ذلك، فهذه أماكن خصها الشارع بالتعظيم، والأزمنة خص منها بالتعظيم كالأشهر الحرم وكشهر رمضان، وبعض الشهور التي خصت بأوجه من العبادات كصيام المحرم، ونحو ذلك، فالأصل أن الأزمنة والأمكنة باقية على أصل الحكم الشرعي الأول، لا تُخص بتعظيم معين إلا بدليل شرعي، فهذا الإفراط في إنزال بعض الأعمال اسم السنن وهي في حقيقتها فيها وجه من الابتداع في الدين، حينما يغلو من يغلو في فرض أعمال والتزامها والتقيد بها وتخصيصها بأزمنة ما خصها الشارع بها وما إلى ذلك، ولكن نحن نعرف أن الإفراط مؤثر، نقول: بالمقابل يقع عند بعض طلبة العلم وبعض العوام الذين يأخذون هذا المعنى وجه من التفريط، ولك أن تسميه الإفراط، ولكنه بمعنى الإفراط المقابل، والمقصود به ليس بالضرورة الكلمة أو الحرف، لكن المعنى المقصود هنا أن بعض طلبة العلم يبالغ في الحكم على بعض الأعمال بأنها بدعة من باب أنه يقول: هذه بدعة إضافية.

    أضرب لذلك مثلاً: من يصوم العشر من ذي الحجة، طبعاً إذا قيل: العشر فالمقصود بها الأيام التسع؛ لأن صوم يوم العيد كما هو معروف مما نهى الشارع عنه، لكن هذا الصيام يقولون كما قالت عائشة : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر )، وجاءت أحاديث عن أم سلمة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم صامها، ولكن متكلم في صحتها، وليس الشاهد هنا هل ثبت أو لم يثبت، لكن يأتي بعض طلبة العلم، فيقول: إن الاشتغال بصوم هذه الأيام بدعة؛ يقول: لأنه تخصيص لزمان معين بعبادة، الشارع خص يوم العاشر من المحرم، وخص يوم عرفة بالمشروعية، أما بقية هذه الأيام فإن الشارع ما خصها، والنبي صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة : (ما رأيته صائماً لها). فربما قال بعضهم: إن هذا من باب البدعة الإضافية. وهذا فيما أرى أنه ليس من الاعتدال في الحكم، ولأنه ليس من باب البدعة الإضافية؛ فالشارع وهو النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر )، فإذاً الشارع خصها بالعمل الصالح، لكنه ما خصها بعمل صالح معين، ولكن خصها بقصد العمل الصالح فيها أكثر من قصد العمل الصالح في غيرها، وإلا فالأيام كلها مقصودة بالعمل الصالح، فلما دعانا الشارع إلى العناية بالأعمال الصالحة فيها دل ذلك على أنه أراد من المتبعين أن يتسابقوا في الأعمال الصالحة، وما نهانا الشارع عن عمل بعينه، فمن اشتغل بقراءة القرآن فيها، أو بالصدقة، أو بالصيام، أو بالذكر، أو بالصلاة، أو ما إلى ذلك، فقد قصد إلى عمل صالح، وإلا لو قلنا: إن الاشتغال بصومها يكون بدعة، كما قد يقوله بعضهم للزم من ذلك حتى من يشتغل بقراءة القرآن فيها يقال له: ما الدليل؟ ومن يذكر الله يقال له: ما الدليل؟ ومن يتصدق يقال له: ما الدليل؟ أعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام ما حفظت عنه أعمال مفصلة فيها، ولكنه ندبنا إليها، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام كما أنها تثبت بفعله، تثبت أيضاً بقوله، بل جمهور أهل الأصول يقولون: إن دلالة القول أقوى من دلالة الفعل.

    فإذاً: أرى أن مثل هذا من التكلف في فرض البدعة على مثل هذا، فإذاً: البدعة الإضافية شأنها يشكل؛ لأن البعض قد يغلو في الجهة الأولى وهي الأصل، ومن الناس من يغلو في اعتبار الجهة الثانية فيها، فيبدِّع ما ليس في الشريعة ببدعة.

    فإذاً: هذا أمر لا بد من العناية بفقهه، البدعة الإضافية لا ينبغي أن يقول فيها إلا فقيه في الشريعة؛ لأنه قد يعتبر الجهة الأولى أو يغلبها فيقع في شيء من البدع، وربما اعتبر الجهة الثانية وغلبها، فحكم على ما هو مشروع بأنه بدعة، والحكمة هي في الوسط والاعتدال؛ لأن الله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فقصد الوسطية في هذا مطلوب؛ لأنك لا تستطيع أن تقول عن كل أمر ما قيده الشارع: إن كل تقييد فيه يكون بدعة. فإن السؤال يرد: ما هو التقييد الذي يراد هنا؟ فلا بد من التماس فقه الشريعة. مثله ما يتعلق بصلاة الليل في رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة : ( ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ) ، فإذا جاء بعضهم وقال: من زاد بعشرين وإحدى وعشرين، هذا بدعة. نقول: هذا ليس ببدعة لا إضافية ولا ذاتية؛ لأن الله جل وعلا ندب إلى قيام الليل ندباً مطلقاً في كتابه العزيز، والشريعة كما هو معروف الأصل فيها العمل بمجملها، والعمل بمطلقها، والعمل بعامها، إلا إذا دخله تقييد أو تخصيص، ورأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قيد هذا المطلق أو خص هذا العام، أما أنه هو عليه الصلاة والسلام ما صلى إلا بإحدى عشرة ركعة؛ فهذا إذا تحقق مع أنه هو الذي قالته عائشة ، وما يقوله واحد من الصحابة حتى ولو كان ملازماً للرسول عليه الصلاة والسلام ليس بالضرورة أنه هو الذي تحقق في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فربما وقع منه صفة أخرى لم تنقلها عائشة رضي الله عنها، لكن على كل حال حتى لو قيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام ما زاد على ذلك، فيقال: القصد إلى هذا العدد -وهو أن يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة-؛ لأنه من باب القصد والتأسي بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن من زاد على ذلك وصلى ما شاء الله له كإحدى وعشرين وما إلى ذلك، فهذا عمل حسن مشروع أيضاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر المتفق عليه لما سأله الرجل عن صلاة الليل وهو في باب الجواب، ما قال له: إحدى عشرة ركعة، وإنما قال له: ( مثنى مثنى )، أي: ركعتين ركعتين، ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة ) ، فجعل الغاية الزمان الذي هو خروج الفجر، مع أن الإنسان ما دام أنه أطلق له ذلك، فإنه بإمكانه أن يصلي في هذا الزمان إحدى عشرة، وبإمكانه أن يصلي إحدى وعشرين، أو أكثر من هذا أو ما دون هذا، مع أنه يقال: إن من أراد أن يتأسى بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يعتبر صفة الصلاة التي كان يصليها من جهة طول قيامها وركوعها وسجودها إلى آخره، فهذه حال كانت تناسبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يصلي وحده؛ ولهذا لما صلى ابن مسعود معه قال: فهممت بأمر سوء، هممت أن أجلس وأذر النبي صلى الله عليه وسلم. يعني: هم أن يقعد، وما قصد رضي الله عنه أن يقطع الصلاة.

    إذاً: الحال التي كان يصلي فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي حال كانت تناسبه بخصوصه؛ ولهذا إذا اجتمع المسلمون في مساجدهم في صلاة رمضان فالأولى أن يصلى بهم بحسب ما يناسب الحال؛ لأن هذا جميعه يقال: إنه مشروع.

    إذاً: هذا من تفريق المصنف، وهو تفريق حسن، ولكن أنبه إلى أنه ينبغي العناية بفقه الفرق بين الوجهين من البدعة.

    1.   

    معنى الرهبانية وصورها المبتدعة

    بعد ذلك ينتقل المصنف إلى ذكر معان في هذا التقسيم، فذكر ما يتعلق بالرهبانية التي ذكرها الله في كتابه عن أهل الكتاب، وهي قوله جل وعلا: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ورهبانية ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] فقال: منهم من فسرها بالابتداع في الدين الذي هو إحداث أوجه من التعبد لا أصل لها، قال: ومن أهل العلم من فسر هذه الرهبانية بترك الأمر الذي هو المعصية، ولا شك أن المعنى الصحيح في تفسيرها هو المعنى الأول، أي: أنه دخل في دينهم، أو أدخلوا في دينهم ما ليس منه، كما قال الله تعالى عنهم.

    الالتزام بالتطوعات

    بعد ذلك يذكر الشاطبي ثلاث صور لهذه الرهبانية، يقول: الصورة الأولى: جعل منها الالتزام بالتطوعات غير اللازمة، وأن هذا يقع من بعضهم فيكون بدعة، الراتبة يقع على وجهين، يعني: الأعمال الصالحة منها ما هو سنة راتبة، إما من الصلاة كالسنن الرواتب قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، وبعد العشاء، أو من السنن الراتبة في الصيام كالصيام الذي شرع التزامه بعينه، هذا يسمى سنة راتبة من العبادة. القسم الثاني من الصالحات غير الواجبات: ما هو مشروع ولكنه ليس واجباً وليس سنة راتبة، فعلى هذا الذي هو مشروع وليس سنة راتبة يقول الشاطبي : إنه يفعل على أحد وجهين: الوجه الأول: أن يؤخذ على أصله، فيفعله الإنسان عند استطاعته له، وقصده إليه، بمعنى: لا يلتزم الفعل له، يقول: فهذا لا إشكال فيه، كالركعتين قبل العصر، أو الأربع قبل العصر، فيقول: إنه يفعلها بحسب نشاطه، كما عبر، أو بحسب عادته، وما إلى ذلك، لكنه لا يلتزمها، يقول: الوجه الثاني أن يلتزم ذلك، أي: يلتزم المشروع المطلق، فيجعله بمثابة السنة الراتبة، فما حكم ذلك؟ يقول: هذا يقع على وجهين: الوجه الأول: أن يكون من باب النذر، كمن نذر عملاً صالحاً أن يفعله في كل يوم، فأصل هذا العمل الصالح مشروع، ولكنه بالنذر تقدم من مطلق المشروعية إلى وجه محكم في المشروعية وهو الإلزام بالنذر، فيقول الشاطبي رحمه الله: وهذا إذا نذره فالنذر من حيث الابتداء مكروه، وهذا لا إشكال فيه.

    الشاطبي يريد أن يصل إلى آخر تفصيل في هذا الترتيب عنده، يقول: والقسم الثاني: أن يكون على غير جهة النذر، فهذا كما يعبر رحمه الله: [ كأنه نوع من الوعد، والوفاء بالوعد مطلوب، فكأنه أوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشرع، فهو تشديد أيضاً ].

    ثم بدأ يتكلم عن هذا، وأنه يقع على وجهين أيضاً: أن تكون النفس تحرج به فهذا من الرهبانية، أو أن تكون النفس لا تحرج به إلا على الدوام. وهلم جرا.

    النتيجة التي وصل إليها الشاطبي كتلخيص، أنه يقول: إن العمل الصالح الذي ليس سنة راتبة ولا واجباً، وإنما هو مندوب إليه ندباً عاماً، من أداه بحسب العادة والنشاط، فيأخذه مرة ويتركه أخرى، فهذا لا إشكال فيه.

    قال: النوع الثاني: أن يلتزمه، أو يلتزم واحداً منه، فإن كان سبب التزامه هو النذر، فنقول: النذر في ابتدائه مكروه، والوفاء به واجب، وأما إذا كان ليس نذراً، وإنما أراد أن يلتزم ذلك، فـالشاطبي ينتهي إلى أن هذا وجه من الابتداع، أو أنه على أقل الأحوال يقاربه من بعض أوجه البدعة الإضافية، وذكر عللاً تجدها في مفصل كلامه، وذكر أدلة يحتج بها من يلتزم، وأجاب عنها، وأرى أنه تكلف رحمه الله في هذا الأمر وفي فرضه، وهي صورة من قصد إلى عمل صالح فأحبه، وناسب حاله، فصار يقوم به، والشريعة ما نهته عنه، ولكنه ألف هذا العمل، ويسره الله له، فأقام عليه، وهو عمل مشروع، كما لو أقام على صلاة معينة، أو على قراءة شيء من القرآن، والتزم ذلك، أو أقام على ذكر من ذكر الله بصفته وهيئته الشرعية والتزم ذلك، فيقول: إن هذا مما يكره عنده، وقد يصل إلى وجه من البدعة، مع أن هذا فيما يظهر ليس من باب الابتداع، إلا إذا دخلنا إلى النظر في مسألة المقاصد، فهذا معنى آخر.

    يعني: إذا كان هذا العامل والناسك يقصد في قلبه أن هذا الالتزام بذاته يكون مشروعاً، فهذا يقال: إنه وجه من الإشكال على مقاصد الشارع، لكن ما دام أنه لا يريد بذلك أن يجعله بمنزلة الذي عينته الشريعة بالندب إليه والتزامه، وإنما من باب أنه ناسب حاله؛ فهذا لا يجوز أن يقال: إنه مشروع؛ لأنه يلزم على ذلك صور من العبادات كثيرة، وهي عبادات أطلقها الشارع، ومع ذلك لا يقال: إن القصد إليها والإكثار منها قد يدخل في باب الابتداع.

    إذاً: العمل الصالح الذي ليس سنة راتبة من أكثر منه أو أقام على شيء منه فإقامته عليه مشروعة، ما دام أنه ما زاد على الهيئة الشرعية، ولا زاد على الإرادة الشرعية، مثلاً: إنسان يقرأ من القرآن في كل يوم خمسة أجزاء، هل نقول: إن الالتزام بقراءة القرآن في كل يوم خمسة أجزاء يكون بدعة؟ لا، أو إنسان أراد مثلاً في السنة أن يعتمر خمس مرات، وعوَّد نفسه أنه يلتزم في كل شهرين عمرة، هل يقال: إن هذا بدعة؟ لا. ليس بدعة، إلا إذا قصد أن الشريعة ندبت إلى أن في كل شهرين عمرة؛ فهذا هو الذي يقال فيه: إن هذا المفهوم وهذه الإرادة والتصور لا أصل له في الشرع، لكن من يقول: إن هذا عمل يتيسر له، وعمل صالح يتقرب به إلى الله، وهو من باب العمل المطلق، ومن باب العمل المشروع، وما دخلت عليه إرادة ما أرادها الشارع، ولا دخلت عليه هيئة ما فعلها الشارع أو جوزها، فهنا يقال: إن هذا من العمل الصالح المطلق.

    تحريم ما أحل الله من الطيبات

    ثم بعد ذلك يذكر المصنف رحمه الله تعالى فصلاً آخر، وأطال في هذه المسألة التي أشرت إليها، ثم يذكر فيقول: الصورة الثانية من صور الرهبانية: تحريم ما أحل الله من الطيبات، ثم يقول: والتحريم يقع على صور: أن يكون بمعنى التشريع، وهذا ليس مقصوداً عندنا، يعني: مع أن هذا لا شك أنه من أكبر المخالفات الشرعية، لكنه ليس مقصوداً في كلامه، ثم يقول: وهو أن يترك المباح من المآكل والمشارب تركاً مجرداً لا لغرض، بل إما لأن نفسه لا تشتهيه، وإما لنحو ذلك من الأسباب العادية، فيقول: إن هذا أيضاً لا إشكال فيه، الثالث يقول: وهو أن يكون التحريم للنذر، كمن ينذر ألا يأكل طعاماً معيناً، والرابع قال: أن يحلف ألا يأكل طعاماً معيناً.

    فالثالث والرابع داخل في معنى الآية، وكلامه هنا كلام محقق، يقول: في المآكل مثلاً من ترك هذا المأكل، إما أن يتركه تحريماً له؛ لأنه يعتقد تحريم هذا المأكل، والشريعة أباحته، فيقول: هذا وجه بالغ الإشكال، لكننا لا نتكلم عنه هنا، يقول: وإما أن يتركه تركاً عادياً؛ لأن نفسه لا تشتهيه فهذا لا حرج فيه؛ لأن الناس لهم أذواقهم، يقول: لكن الذي فيه وجه من الابتداع في الدين أن ينذر لوجه الله سبحانه وتعالى أن يترك أكلاً معيناً من المباح الذي تشتهيه نفسه، أو يحلف على سبيل التقرب أن يترك وجهاً أو مأكلاً من المباح الذي تشتهيه نفسه.

    فإذاً: هذا لا شك أنه وجه من الابتداع في الدين، فمن أراد أن ينذر نذراً يتقرب به إلى الله بترك مطعوم أباحه الله فلا شك أن هذا من الرهبانية المبتدعة.

    العزلة والانقطاع

    ثم يقول: الصورة الثالثة من صور الرهبانية: العزلة، وهذه العزلة لها حالتان: الحالة الأولى: أن يلتزم صاحبها الاختصاص والانقطاع، ويحرم على نفسه ما أحل الله له من المآكل والمجامعات للناس، وما إلى ذلك، يقول: فمن تعبد الله باعتزاله ويرى أن جلوسه مع الناس ينافي مقام عبوديته لله، فهي الرهبانية التي وقعت في قوم من أهل الكتاب، وأما إذا كان السبب فيها البعد عن الفتن والبعد عن بعض الشر، وما إلى ذلك فإن هذا أمر أصله مقر، مع أنه يقال عند التحقيق: إن هذا مقر باعتبار أحوال خاصة، وإلا فالشريعة ليس فيها ندب إلى العزلة في سائر مواردها، وإنما قد يرى العالم أو الفقيه أو العابد أن يعتزل بعض مجالس الناس أو بعض مخالطات الناس، وأما أن العزلة تقوده إلى ترك القيام بصلة الأرحام، أو القيام بأداء الجمعة والجماعات، أو القيام بكسبه، أو بحق أولاده أو بنفقتهم، أو ما إلى ذلك من المعاني التي أمرت بها الشريعة، فلا شك أن العزلة بهذا المفهوم هي من المنهي عنه، وهي من البدع التي لا أصل لها، لكن أن تحصل بعض الأحوال، مثلما حصل من سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه كما في الصحيحين في زمن الفتنة واقتتال الصحابة، اعتزل سعد بعد مقتل عمر فخرج في إبله حتى كان يكره أن يقدم إليه أحد، ولما جاء ابنه إليه، وأقبل وهو راكب، قال سعد : أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فجاءه ابنه، وكلمه في شأن الخلاف، ولكن سعداً أبى الدخول في هذا الأمر، لما رأى أنه وصل إلى مقدمات السيوف، وربما يدخل في السيوف، وحصل ما خشي منه رضي الله عنه؛ بسبب أهل الفتنة ممن أسلم في فتوحات عمر رضي الله عنه؛ ولهذا امتدح علي رضي الله عنه المقام الذي قامه سعد، وكان يقول علي : نعم المقام مقاماً قامه سعد بن مالك ، إن كان براً -يعني: إن كان فعله براً باعتزاله هذه الفتنة- إن أجره لعظيم، وإن كانت الثانية -أي: وإن كان الأفضل أن يدخل- فيقول: إن أمره ليسير، يعني: ما فاته أمر من البر كثير، فكان علي رضي الله عنه -وهو ممن ابتلي في هذا الشأن- يمتدح المقام الذي قامه سعد بن أبي وقاص .

    والشاهد من هذا أن الاعتزال في مثل هذه الحالة العارضة التي حصلت لـسعد ترجع إلى اجتهاد صاحب العلم والفقه في الدين، لكن كون الشريعة تندب للاعتزال والتزام مكان معين أو الانقطاع عن الجمعة وعن الحقوق، وما إلى ذلك، فلا شك أن هذا كما هو معروف لا أصل له في الشريعة، بل هو من سنن أهل الكتاب من النصارى.

    التشديد في سلوك طريق الآخرة

    ثم يقول رحمه الله بعد ذلك: التشديد في سلوك طريق الآخرة، وهذه أمثلة عنده للرهبانية، فيقول: وهذا له صور كالذي يجد للطهارة ماءين: ساخناً وبارداً، فيتحرى البارد؛ لكونه أشق، وكالذي يجد مأكولاً خشناً ومأكولاً حسناً، فيقصد إلى الخشن؛ لأنه من باب التزهد في ذلك. لا شك أن مثل هذه المعاني، وهي التشديد في سلوك طريق الآخرة ليست هدياً نبوياً، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلف شيئاً من العمل، فكلام الشاطبي هنا لا إشكال في أمره، وهو من حسن فقهه رحمه الله.

    1.   

    صور أخرى للبدع الإضافية

    سد الذرائع وعلاقته بالبدع

    ثم بعد ذلك يعقد المصنف رحمه الله فصلاً آخر ويذكر من صور البدع الإضافية أنه [ قد يكون أصل العمل مشروعاً، ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب سد الذرائع ]، فهذا يجعله من باب البدع الإضافية، مثل ترك بعض المستحب حتى لا يختلط بالواجب، كما جاء عن الإمام مالك في هذا، مع أن هذا عند التحقيق يرجع إلى المعنى الذي سبق الإشارة إليه، وهو الالتزام بعمل هو مشروع، ولكن الشريعة ما ندبت إلى هذا الالتزام، فيقال: هذا الأصل فيه أنه سائغ، إلا إذا جاء ما يشكل، يعني: إذا خشي الإنسان أن يفهم أنه واجب؛ فهنا يكون التخفيف منه بحسب ما يراه صاحب العلم والفقه.

    الأعمال المشتبهة بين البدعة والسنة

    بعد ذلك انتقل الشاطبي إلى معنى آخر، وتكلم عن صورة أخرى من صور البدع الإضافية، فقال: [ كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه، أم غير بدعة فيعمل به ]، فيكون عنده من باب البدعة الإضافية، يقول: [ فإذاً الفعل الدائر بين كونه بدعة أو سنة ] من المنهيات التي ندبنا إلى تركها، مع أن هذا التقرير ليس على إطلاقه، بل ثمة مقدمة لا بد أن تتبين قبل ذلك، فيقال: الأمر أو الفعل الذي اشتبه أسنة هو أم بدعة هذا الاشتباه: من أين تحصل؟ وما معنى هذا الاشتباه؟ هل إذا اختلف اثنان من أهل الاجتهاد فقال أحدهما: إن هذا سنة، وقال الآخر: إن هذا بدعة، فتكون عندنا قاعدة للفصل بين القولين أننا نقول: إنه بدعة؟ مثلاً بعض أهل العلم قال: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة، مع أن هذا ليس مناسباً، بل مخالف لقول الجماهير من السلف والخلف، وإن كان هذا صاحبه مجتهداً مأجوراً إن شاء الله، فمن قال بهذا القول هل نقول: إن هذه الزيادة اختلف فيها العلماء، فمنهم من سماها بدعة ومنهم من سماها سنة، أو جائزة، أو حسنة، فتكون عندنا قاعدة يذكرها الشاطبي : أن كل أمر دائر بين كونه سنة أو بدعة، فحصل فيه اشتباه، فنغلب الجانب الثاني، هذا ليس على إطلاقه؛ لأن الصواب هنا أن ترد المسألة إلى معاقد الاستدلال الأولى، ما هي البدعة في الشرع؟ فينظر فيها من هذه الجهة، وأما أن نقول: إننا أمام قاعدة إذا اجتهد اثنان، فقال أحدهما عن هذا الفعل: إنه سنة، وقال الآخر: إنه بدعة، فنغلب دائماً قول من يقول بأنه بدعة، أو نندب إلى تركه، كلا؛ لأن الشريعة لم تندبنا إلى ترك هذا، بل ندبتنا إلى أن نرد هذا المختلف فيه إلى الله ورسوله فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]؛ لأنك لو التزمت القاعدة، وقلت: سيكون بدعة، أو يندب إلى تركه، فستقع كثيراً في ترك أمر مشروع.

    فإذاً: هذه القاعدة لا شك أنها غير منضبطة ولا صحيحة: أن كل أمر دار بين كونه سنة أو بدعة - أي في نظر المجتهدين - فإننا ندبنا إلى تركه. لا ما ندبنا إلى تركه، و الشاطبي يعتمد على الأحاديث التي جاءت بترك المشتبهات وما إلى ذلك، لكن هذه مناطات أخرى، وإنما الاعتبار هنا برد الأمر إلى مفاصل الاستدلال ومقاطعه التي يتبين فيها، وإلا لو فتح هذا الباب فإن بعض الناس غلا في فرض السنة بأوجه من البدعة، ولكن هناك قوم غلوا في فرض الابتداع حتى سموا كثيراً من الأفعال بأنها بدعة، وحقيقتها أنها مشروعة.

    وأرى أنه من الأهمية أن تتركز الأذهان في استيعاب هذا الإشكال: من أين جاء هذا الإشكال؟ جاء الإشكال من أن العبادة إما أن تكون مشروعة فتكون سنة، أو لا تكون مشروعة فتكون بدعة، فيقولون: لا توجد عبادة جائزة؛ لأن المباح أو الجائز هو ما استوى طرفاه، يعني: ما كان مخيراً في فعله أو تركه، والعبادة ندبنا إلى فعلها، فلا يتصور في هذه المقدمة مسألة الجواز في العبادات، فالعبادات لا توصف بأنها جائزة، بل توصف بأنها إما مشروعة أو غير مشروعة، فيأتي إلى الفعل، فإذا لم يجد أن الشريعة ندبت إليه بخصوصه جعله غير مشروع، وهذا فيه تضييق للمفهوم؛ لأن العبادات المشروعة تنقسم إلى قسمين: إما أنه شرع بالخصوص، وإما أنه شرع بالعموم، إما أنه شرع بالإطلاق، وإما أنه شرع بالتقييد، فمثل تخصيص يوم الجمعة بالصيام هذا مما نهت عنه الشريعة، لكن صيام يوم العاشر من المحرم هذا مما ندبت إليه الشريعة، أما صيام يوم الثلاثاء مثلاً فما ندبت إليه الشريعة بخصوصه، وإنما يعتبر مما ندب إليه بالعموم والإطلاق، والصلاة في قيام الليل إحدى وعشرين ركعة بهذا العدد ما ندب إليه لا قولاً ولا فعلاً، لكنه باق على التشريع العام، وتصير البدعة لمن اعتقد أن إحدى وعشرين ركعة هي المشروعة وحدها دون غيرها، أما من زاد ونقص فيقول: إنه خرج عن السنة. فهنا يكون الاعتقاد أو التصور لا أصل له، لكن من يفعلها ويقول: إن الأمر فيها واسع، فمن صلى بإحدى عشرة ركعة فقد وافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن زاد على ذلك فقد وافق فعل قوم من الصحابة، والشارع أطلق ذلك، وقال: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، فهذا لا إشكال فيه، فإذاً: الأمر يرجع إلى القصد كما يرجع إلى الفعل، وليس بالضرورة أن ما لم تندب إليه الشريعة بخصوصه يكون بدعة، البدعة هو ما لم تندب إليه الشريعة من العمل الصالح، لا ندباً عاماً ولا ندباً خاصاً، لا ندباً مطلقاً ولا ندباً مقيداً، أما من عمل بالعام ويبقيه على عمومه ففعله مشروع، ومن عمل بالمطلق ويبقيه على إطلاقه ففعله مشروع ويدخل عليه الإشكال إذا نقل المطلق إلى التقييد في اعتقاده، أو نقل العام إلى التخصيص في اعتقاده، مثل من قال: صوم يوم الثلاثاء مشروع بذاته، مثلما أن الشارع استحب صوم يوم الإثنين والخميس؛ فهذا الذي قيد مطلق الشريعة ليس له في ذلك دليل، ومعروف أن الذي يقيد هو الشارع، والذي يخصص هو الشارع، فجاءه الابتداع من جهة اعتقاده التقييد أو التخصيص، لكن من صام يوم الثلاثاء أو غيره من الأيام المطلقة أو العامة في حكم الشريعة مبقياً لها على إطلاقها وعمومها، فيقر، وهذا هو العمل الصالح.

    فإذاً: هذه قاعد مهمة على طالب العلم أن يفقهها؛ لأن بعض إخواننا طلبة العلم كأنهم فهموا أن السنة ما قيده الشارع أو خصه، فمن أتى إلى بعض المطلقات والتزمها، جعلوا التزامه لها نقلاً لها من الإطلاق إلى التقييد، وهذا ليس بصحيح، إذ هناك فرقٌ بين هذا وبين التقييد وبين التخصيص للعام، فإذاً: كل أمر يتقرب به إلى الله وهو ليس مشروعاً شرعاً عاماً ولا خاصاً، لا مطلقاً ولا مقيداً؛ فهو البدعة، أما ما كان في الشريعة مطلقاً فهو السنة بإطلاقه، فمن قيده فهذا التقييد يكون بدعة، وما كان في الشريعة عاماً فهو السنة بعمومه، مثلاً حديث ( ما من أيام العمل الصالح فيها )، هل الشارع هنا نص على عمل معين؟ لا، قال: (العمل الصالح) فمن صام في هذه العشر، وقيل له: لماذا صمت؟ قال: لأنها من العمل الصالح. فهذا عمل بالعموم، لكن من قال: إن هذه العشر لا يشرع فيها إلا الصيام، أو هي العبادة الوحيدة التي تشرع فيها؛ فهذا خصص عموم كلام الشارع، فيكون تخصيصه هنا بدعة، لكن من صامها؛ لأن الصيام هو الأنسب له، والآخر قرأ القرآن؛ لأنه هو الأنسب لحاله، وهلم جرا، فلا شك أن هذا من العمل الصالح، ومن العمل بالسنن؛ لأننا لا بد أن نكون وسطاً بين التضييق، وبين ترك البدع، وهذه ندبت إليها الشريعة، ولكن بالمقابل لا يجوز أن تهجر أعمال صالحة، أو تنكر أعمال صالحة مضى جمهور العلماء من فقهاء المسلمين على إقرارها واعتبارها بحجة أنها بدعة.

    وسبق أن ذكرت قاعدة مهمة وهي: أن البدعة هي ما خالف السنن البينة، أو ما ليس عليه سنة بينة، وأما إذا لم يكن على سنة بنوع اجتهاد فهذا لا يصح أن يسمى بدعة، وإلا للزم أن المجتهدين يبدع بعضهم بعضاً في أقوالهم كالأئمة الأربعة، وهذا لم يحصل، ولا يصح أن يحصل أصلاً.

    الزيادة والنقصان في العبادات المشروعة

    بعد ذلك انتقل المصنف إلى صورة أخرى من صور البدع الإضافية فذكر من صوره: [ العمل بالعبادة المشروعة على غير صفتها، إما تقييداً لمطلقها، أو إطلاقاً لمقيدها بمجرد الرأي ] وهذا كلام صحيح، أن التقييد لمطلق الشريعة، أو الإطلاق لمقيدها لا شك أنه نقل؛ لأن الأصل أن الشارع هو الذي يطلق ويقيد.

    هذه أهم المسائل المتعلقة بهذا الباب.

    1.   

    الأسئلة

    القول بمخالفة اللغة العربية بعض معاني القرآن

    السؤال: هل يجوز أن نقول: إن كلام العرب قد يخالف بعض معاني القرآن، وكيف نعرف ذلك؟

    الجواب: ما أدري ماذا أراد السائل؟ فإن أراد أن الشريعة تعين معاني شرعية للكلمات مفصلة عما كانت عليه في كلام العرب، مثلما تقول: إن الصلاة في كلام العرب هي الدعاء، فجاءت الصلاة في القرآن على معنى العبادة المخصوصة، ومثله الصوم والزكاة وما إلى ذلك؛ فهذا معروف صحيح، وأما أن الشريعة تخالف كلام العرب، بمعنى تخرج الكلام عن أصل معناه في لغة العرب فهذا ليس كذلك ولا يقع.

    مدى وجود اختلاف في بعض مسائل العقائد بين أهل السنة

    السؤال: هل هناك خلاف بين أهل السنة والجماعة في بعض الصفات مثل خلق الله آدم على صورته؟

    الجواب: في مسائل الأصول والعقائد لا يوجد خلاف بين أهل السنة والجماعة ، ولكن قد يعرض من بعض علماء السنة والجماعة أنه قد يغلط في مسألة، إما غلطاً لفظياً، وإما غلطاً معنوياً، فهذا الغلط الذي يعرض إما لفظياً وإما معنوياً يسمى غلطاً، ولا يحول المسألة إلى كونها مسألة خلافية، لماذا لا يحولها إلى كونها مسألة خلافية؟ لأن هذا الذي غلط برأي متأخر هو محتج عليه بالإجماع الأول، فلما انعقد الإجماع الأول قبل هذه المخالفة اكتسبت المسألة صفة المجمع عليه، وهذه قاعدة أن المسألة إذا أجمع عليها، فجاء بعد ذلك عارض فتكلم آحاد العلماء بما يخالف هذا الإجماع، فكلام المتأخرين لا ينقض الإجماع الأول وكأن الأخ يشير إلى كلام ابن خزيمة في هذا، ومعروف أن هذا مما أُخذ عليه رحمه الله، لكنه خطأ عارض ليس إلا.

    حكم التزام عمل بوقت أو مكان معين

    السؤال: هل التزام الشخص بعمل في وقت أو مكان يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: ( أحب العمل إلى الله أدومه

    الجواب: نعم. إذا كان العمل مشروعاً، وأراد أن يداوم عليه، وأن يقيم على عمل صالح، فيكون ذلك، بشرط ألا يدخل في مقصده وفي تصوره مسألة التقييد لمطلق الشريعة، أو التخصيص لعمومها.

    ما يلزم في حال أطبق الحرام الأرض وكانت حاجة الإنسان تزيد على الضرورة

    السؤال: مسألة ذكرها الشاطبي تتعلق بما إذا أطبق الحرام الأرض، وكانت حاجة الإنسان تزيد على قدر الضرورة، أرجو منكم إيضاح ذلك؟

    الجواب: الشاطبي - حسب ما يذكر الأخ - يذكر مسألة إذا أطبق الحرام، أي: المال الحرام في الأرض، وكانت حاجة الإنسان تزيد على قدر الضرورة، فماذا يأخذ من هذا؟

    أولاً: أنا لست أميل إلى أن طالب العلم ينبغي له أن يعنى بالفرضيات التي تخالف السنن الكونية، وتخالف رحمة الله جل وعلا لعباده؛ لأن الحرام لا يمكن أن يطبق في الأرض، الأصل فيما أنزل الله وفيما خلق الله في هذه الأرض أنه حلال لبني آدم؛ ولهذا جاء في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( كل مال نحلته عبداً حلال ) ، فالأصل فيما يصل إلى أيدي الناس هو رزق الله لهم، إنما يكون التحريم استثناءً، كما إذا كان من المغصوب أو المسروق أو الربا أو ما إلى ذلك، فإذاً لا نتصور ذلك، وما جاءت الأخبار بهذا أن الحرام يطبق في الأرض بمعنى أن الأرزاق تضيق على الناس، فإن سبل الحلال ما تزال متسعة وتتسع يوماً بعد يوم؛ فهذا لا نحتاج إلى فرضه، ثم ما الذي نأخذه إذا أطبق الحرام؟ لأن هذا ما كان ولن يكون بإذن الله جل وعلا؛ لأن الله لا يضيق على الخلق رزقهم؛ ولهذا تجدون أن ما يقع في أيدي العباد من المباح هو من رزق الله، سواء وقع لمسلم أو وقع لغير مسلم، فيسمى رزق الله لهذا العبد.

    ترك السنن خشية الاعتقاد بأنها فرض

    السؤال: ذكر الشاطبي أن السلف تركوا بعض السنن؛ لئلا يعتقد العامة أنها فرض مثل الأضحية؟

    الجواب: هذا ليس على إطلاقه، فمسألة ترك السلف، هذه المسألة يتجوز فيها بعض طلاب العلم حينما يجد أثراً عن واحد من السلف أو عن اثنين من السلف، فيقول: فعل السلف، ترك السلف. ما دام أن الأمر نقل عن واحد أو اثنين، يعني بعض السلف نقل عنه أنه ترك الأضحية، خشي أن الناس يعتقدون أنها واجبة، هل اجتهاده هذا مناسب أو لا؟ هل ما عندنا وسيلة أن نبين للناس أن الأضحية ليست واجبة إلا من خلال تركها؟! هذه أمور إذا تحققت فيها وجدت أنها ليست بالضرورة على إطلاقها، وأقل ما فيها أنك لا تقول: فعل السلف، وقال السلف. وكأن هذا مما استفاض عندهم، أو أطبقوا عليه، إنما هذا اجتهاد اجتهد به بعضهم، وقد سبق الكلام أننا نقول في بعض كلام الرسول عليه الصلاة والسلام: إن هذه القصة واقعة عين لا عموم لها، مع أنها متعلقة بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن باب أولى أن يقال هذا في الأحوال العارضة لبعض السلف، يقال: اجتهاد وواقعة عين لا عموم لها. أما أن يقال: هكذا فعل السلف، وهكذا كان السلف يفعلون. وإذا قلت له: أين ذلك في كلام السلف؟ قال: ذكر فلان أو ذكر الخلال ، وأتى لك بأثر واحد، أو برواية قد تكون صحيحة وقد لا تكون صحيحة؛ فهذا لست أراه إلا من التكلف، وهذه مسألة حري بطلبة العلم أن يعنوا بها وهي أن وصف قول من الأقوال أو فعل من الأفعال بأنه مذهب للسلف لا يقال بمجرد الفهم، ولا يقال بمجرد قول واحد منهم، وإنما يكون القول أو الفعل مضافاً إلى السلف إذا أجمعوا عليه واستفاض عندهم، كما نبه إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه يقول: القول الذي يوصف بأنه مذهب للسلف، أو ما يضاف إلى مذهبهم من الفعل، هو ما أجمعوا عليه، واستفاض في نقل أئمة الإسلام أنه إجماع عندهم، يقول: وأما ما حصله بعضهم بالفهم، أو عارض في بعض كلام السلف؛ فهذا يضاف إلى قائله.

    الآن لو جئنا إلى الفقه، ووجدنا قولاً لـأبي حنيفة و الشافعي هل نقول: قال السلف؟ أو نقول: قال بعض أئمة السلف؟ نقول: قال بعض أئمة السلف، فإذاً: هذا لا تعتقد أنه من باب القواعد، وهنا مشكلة وهي أن كل كلمة قالها فلان أو فلان تكون قاعدة، مع أن القاعدة هي الحكم الذي اعتبر طرده في كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل ( إنما الأعمال بالنيات ) ، ومثل مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فهنا تنزل تحت قاعدة المشقة تجلب التيسير، المعاني الكلية في الشريعة التي نسميها قواعد، وأما آحاد كلام العلماء فهذا يعد من الاجتهاد الذي ينزل بحسب موضعه.

    ذكر قاعدة في تقييد المطلق بأنه بدعة

    السؤال: هل يمكن التوصل إلى قاعدة تقول فيمن قيد المطلق بغير دليل فقد ابتدع؟

    الجواب: هو الذي يكون إما أن يقال: إن الأصل إبقاء المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، والعام على عمومه، إلى آخره، ومن نقل وجهاً إلى الوجه الآخر فلا شك أن هذا النقل إذا كان في باب الإرادات ونحوها يكون بدعة.

    استعمال كلمة الشارع في كلام العلماء

    السؤال: هل يجوز استعمال كلمة الشارع؛ لأننا كثيراً ما نسمعها؟

    الجواب: نعم كلمة الشارع كلمة صحيحة.

    الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) وصلاته في الليل إحدى عشرة ركعة

    السؤال: ألا يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( مثنى مثنى ) بينه بفعله، وهو أنه التزم إحدى عشرة ركعة، أو ليس أن الاقتصار على السنة أفضل؟

    الجواب: الاقتصار على السنة أفضل هذا إذا حقق الفاعل وجه السنة فيه، بمعنى من صلى كصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة طول قيامها، وطول ركوعها وسجودها بإحدى عشرة ركعة؛ فهذا أفضل، ولكن من صلى إحدى عشرة ركعة مختصراً لقيامها وقعودها وركوعها وسجودها، هل يجزم بأنه أفضل ممن صلى إحدى وعشرين؟ فيما أرى أن فيه تردداً، والجزم به صعب؛ لأن من فعل كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قصد إلى هدي النبي قصداً جامعاً، بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر على إحدى عشرة ركعة، لكنه كان يطيل الصلاة، فمن يصلي بصفة صلاة النبي فلا شك أن فعله هو الأفضل، لكن إذا اختصرها في إحدى عشرة ركعة في ثلث ساعة أو في نصف ساعة كل الصلاة، هل يقال: هذا أولى ممن صلى إحدى وعشرين ركعة، وجلس في صلاته ساعة ونصف أو ساعتين؟ هل المقصود أن نقتصر على العدد بأي قدر من القراءة وبأي قدر من الذكر والخشوع والطمأنينة وما إلى ذلك؟ هذا فيما أرى أن فيه قدراً من التكلف، أما من فعلها كفعل الرسول، أو مقارب لفعل الرسول عليه الصلاة والسلام فلا شك أن هذا هو السنة، ولا يقدم هدي أحد على هديه عليه الصلاة والسلام، لكن الذي يقع كثيراً ليس هذا، يأخذون العدد، ويتركون الصفة، فمن أتى بالصفة على وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أن هذا أفضل من غيره، ولماذا تجد أن المذاهب الأربعة الآن كجمهور الفقهاء يرون أنه يشرع في صلاة رمضان أكثر من إحدى عشرة ركعة، لماذا استحب الأئمة ذلك؟ لمثل هذه المعاني؛ لأن الناس لو أخذوا بصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان لثقل عليهم الأمر، مثلما قال ابن مسعود : فهممت بأمر سوء، لكن إذا صلى بهم إحدى وعشرين، أو أكثر من ذلك، وخفف في القراءة عليهم، فيكون الأمر بالنسبة لهم أيسر، ولكن يبقى أن من صلى إحدى عشرة ركعة ولو مخففة ففعله هذا سنة، ولكن الذي نقصده أن لا يعتقد الإنسان المخفف أن الذي عمله مشروع وأن غيره لا يكون مشروعاً.

    فالأخ يقول: أليس قوله عليه الصلاة والسلام: ( مثنى متنى ) يفسر بفعله؟ أرى أن هذا ليس من باب المجمل الذي يفصله المفصل، فعله عليه الصلاة والسلام وجه من العبادة، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يبين أن صلاة الليل ليس لها وجه واحد، بل الأفضل فيها أنها مثنى مثنى، والرسول عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الليل بغير صفة، كما في حديث عائشة في الصحيح ( صلى تسع ركعات، وجلس في الثامنة، قالت: فلما سن رسول الله وأخذه اللحم أوتر بسبع )، أي: صلى سبع ركعات، وجلس في السادسة، فكان من فعله عليه الصلاة والسلام جملة من الصور، صحيح أن الذي غلب على فعله هو أنه يصلي بما ذكرته عائشة مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدة، يصلي عشراً ثم يوتر بواحدة، فهذا هو غالب فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه صلى بغير هذه الكيفية، وسوغ للأمة أن تفعل غير ذلك، فهذا ليس مما ينبغي التكلف فيه.

    ولهذا نؤكد على الإخوة أنه ينبغي الاعتدال والتوسط في مسألة السنن والبدع، فلا تُنكر أمور دل الدليل على اعتبارها بحجة أنها بدعة؛ لأن هذا المجتهد أو الناظر من طلبة العلم ما وصل إلى اجتهاده ونظره أن هذا الأمر مشروع، بل البدعة ما خالف سنناً بينة، وأما إذا اختلف الأئمة الفقهاء فلا ينبغي أن نقول: إن واحداً من اختلافهم يكون بدعة ما دام أنه مبني على دليل معتبر، كاجتهاد الأئمة الأربعة وأمثالهم، وأما ما يعرض من اجتهاد بعض المتأخرين من منحرفة المتعبدة والسالكين فهؤلاء مثلما يقولون: لا يكون هو المعتبر، أو المأخوذ به، هذا ما يتعلق بأكثر هذه الأسئلة.

    الذكر والأعمال الصالحة في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: ما يتعلق بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟

    الجواب: الشاطبي رحمه الله تكلم على ذلك؛ أنه من باب التخصيص ليوم من الأيام بتعبد، والقاعدة عندنا أن الأصل في الأزمنة والأمكنة أنها لا تخص بتعظيم إلا بدليل؛ ولهذا لا تجد أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصوا هذا اليوم بشيء من ذلك.

    ضابط السنن البينة

    السؤال: ما ضابط السنن البينة؟

    الجواب: السنن البينة لك أن تقول: ما حصل الإجماع عليها، أو حصل الاختلاف بين أئمة الاجتهاد الكبار على إرادتها، فإذا كان الأمر أجمع على مشروعيته، أو قال كبار العلماء بمشروعيته، فلا يكون من هذا الوجه بدعة، السنة البينة ما خالفها بمعنى أن التعبد لله بما ليس مشروعاً بوجه من أوجه الاستدلال المعتبر، أما إذا كان الفعل عليه دليل معتبر ولو في نظر بعض المجتهدين من المتقدمين فهذا يدور بين الراجح والمرجوح، والصحيح وخلافه.

    هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755769510