إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب 28للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما رأى كفار قريش انتشار الإسلام في بيوتاتهم، وتزايد عدد الداخلين في هذا الدين، تنادوا للاجتماع والاتفاق على اعتزال كل من يؤيد النبي صلى الله عليه وسلم من بيوت مكة، فحوصر النبي ومن معه من أفراد بني هاشم ومن كان معهم في شعب أبي طالب، واستمر حصارهم فيه ثلاث سنوات، وأثناء هذا الحصار رزئ النبي بوفاة عمه أبي طالب ثم وفاة خديجة رضي الله عنها، فكان عاماً حزيناً في حياة النبي والمؤمنين.

    1.   

    تابع نتائج وعبر من مقطوعة (في شعب أبي طالب)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة مؤلمة محزنة وهي قول المصنف: [اشتداد حلوكة الليالي والأيام على الحبيب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام] ولكن قبل هذا نذكّر بنتائج وعبر المقطوعة السابقة: في شعب أبي طالب:

    قال: [أولاً: بيان ما وصلت إليه قريش في الظلم والتعسف والجور، وذلك باتخاذها قرار المقاطعة الجائر الهادم لكل خلق وقيمة إنسانية] لما انهزمت بعثتها عند الملك أصحمة الحبشي وانتصر المهاجرون اشتد حنق المشركين، واشتد ظلمهم، فاتخذوا قراراً من أفظع القرارات -وقد اتخذته الأمم المتحدة في هذه الأيام على دولة عربية- هذا القرار هو حصار النبي صلى الله عليه وسلم وأقربائه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يباع لهم ولا يبتاع منهم، واتخذوا لهذا القرار ورقة كتبوها وعلقوها في الكعبة، حتى اضطر المؤمنون إلى أكل ورق الشجر وتقرحت شفاهم من أكله.

    وهذا ابتلاء وامتحان، ومن صبر ظفر، فبعد ثلاث سنوات فرجت الأزمة، بعد أن تجلت حقيقة الصبر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان ذلك بأن انبرى خمسة من رجال المشركين من ذوي المروءات وشنعوا على قريش جريمتها ونددوا بها في شجاعة، ثم أقدموا على الصحيفة فمزقوها، وقد عرفتم أن الأرضة أكلتها، ولم تبق منها إلا كلمة واحدة وهي: (باسمك اللهم). وهذه آية من آيات الله.

    [ثانياً: بيان ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من أذى واضطهاد من كفار قريش

    ثالثاً: بيان صبر المؤمنين وجلدهم وذلك في ذات الله عز وجل.

    رابعاً: بيان أن أهل المروءة والكرم لا يخلو منهم زمان ولا مكان، والحمد لله] هؤلاء الخمسة الرجال الفحول هم الذين عزموا على نقض هذه الاتفاقية وبالفعل نقضوها.

    [خامساً: تجلي آية النبوة المحمدية في أكل الأرضة الصحيفة الجائرة إلا اسم الله تعالى، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك] قبل أن تمزق الورقة [فكان الأمر كما أخبر] فداه أبي وأمي والعالم أجمع [إذ نزعت الصحيفة فلم يجدوا فيها إلا جملة: (باسمك اللهم)، وما عدا ذلك أكلته الأرضة.

    فهذه خلاصة المقطوعة التي سبقت، والآن مع مقطوعة أخرى، والله أسأل أن يحملنا على الصبر حتى لا نبكي، فإن بكينا انقطع الدرس، وهي والله مبكية محزنة للمؤمنين الصادقين.

    1.   

    اشتداد حلوكة الليالي والأيام على الحبيب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام

    قال: [اشتداد حلوكة الليالي والأيام] أي: ظلمتها [على الحبيب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: إنه ما إن انفرجت تلك الأزمة الخانقة بالحصار في شعب أبي طالب -التي دامت ثلاث سنوات تقريباً- حتى رُزئ صلى الله عليه وسلم بأعظم رزء، إنه وفاة أبي طالب العم الكافل والطود الأشم المانع، والأسد الحامي، والحصن الواقي، ووفاة خديجة ، ومن هي خديجة ؟ إنها الملاذ بعد الله، والأنيس بعد ذكره، إنها كانت تؤمنه إذا خاف، وتؤنسه إذا استوحش، تريحه بعذوبة حديثها إذا تعب، وتسدده بصائب رأيها إذا قلق أو اضطرب] فرضي الله عن خديجة وأرضاها.

    قال: [مرض أبو طالب مرضه الذي توفي فيه، وعلم به كفار قريش، فجاءوا يطلبون منه أن يفاوض لهم ابن أخيه علهم يظفرون بصلح معه قبل وفاة عمه] شعروا بخطورة مرض أبي طالب ، فحاولوا أن يتوسط لهم في صلح بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم [فبعث أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحضر] بعث إليه رسولاً أن احضر فامتثل أمره النبي وحضر [فقال له: يا ابن أخي!] أبو طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم، يا ابن أخي! وحقاً هو ابن أخيه، فـعبد الله أخو أبي طالب ، وكلاهما ابنا عبد المطلب ، ولكنها آداب رفيعة [هؤلاء أشراف قومك] أي علاتهم وساداتهم، من الشرف الذي هو العلو [قد اجتمعوا لك؛ ليعطوك وليأخذوا منك] أين درس أبو طالب ؟ كيف تحصل على هذه السياسة؟ في كلية السياسة في لندن؟ والله لا يساوون أبا طالب خريجو تلك الكليات.

    وقد عرفتم تلك اللطيفة التي منّ الله بها علينا، وهي أن البشرية بدأت بكمالاتها العجب، ولا زالت تنمو المروءات والكرم والشجاعة والطهر والصفاء حتى بلغت سن الكهولة، ثم أخذ عمرها ينزل حتى أصبحت في هذه الأيام في حال الشيخوخة، لا تبالي بالفجور والشر والظلام والفساد، فلا حياء لا مروءة ولا كرم، لقد هبطت؛ وسبب ذلك -فيما أعلم- كبر سنها، فقد أوشكت على النهاية.

    والواقع شاهد، فلا يوسوس لك شيطان، فنحن في آخر الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بعثت والساعة كهاتين )، ويقول الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقد مضى من يوم بعثته صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة سنة فكم بقي؟ فلهذا سوف تظهر العجائب وتقوم الساعة ولا يوجد من يقول: لا إله إلا الله، أو الله. فهذا الهبوط المشاهد في العالم مثله مثل الشيخ إذا كبر أصبح يهذر ويقول ما لا يعلم.

    واسمع كلمات المشركين في صفائها ومكانتها وذوقها، أبو طالب يقول: يا ابن أخي! هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك؛ ليعطوك وليأخذوا منك، لا أنهم يأخذون بدون عطاء، ولكن بالعدل والإنصاف، أي: يعطونك شيئاً ينفعك ويأخذون منك شيئاً ينفعهم.

    قال: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم )] والعالم ما بين عرب وعجم، وأبيض وأسود [فقال أبو جهل : وأبيك وعشر كلمات] (وأبيك) يعني: حلف بأبيه أن يعطيه عشر كلمات ليس كلمة واحدة فقط [فقال صلى الله عليه وسلم: ( تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه )] أي: تبرهنون على أنكم قلتم هذا في صدق لا في نفاق بأن تخلعوا عبادة غيره عنكم. هذه هي الكلمة الواحدة التي تدين بها العرب بها العجم [فصفقوا بأيديهم] فرحين أم ساخطين؟ نحن نصفق إذا فرحنا كالنساء، إذاً هم خير منا في هذا الأمر!

    والآن في المؤتمرات العربية والإسلامية إذا خطب الخطيب ورفع الهمم وقفوا يصفقون وهم قيام، كأنهم مجانين، وشاء الله وانتهت هذه البدعة مع الزعماء والأحزاب، قضى الله عليها، وفي مؤتمر عربي حضرناه ثلاثة من المملكة فقط، وحضره نساء العرب ورجالهم إلا ما كان من المملكة بلا نساء، كنا جالسين فقام الزعيم ليخطب وقاموا يصفقون فقلنا: لهم هذا منكر وهو تقليد للنصارى. فنحن إذا أُعجبنا بشيء سبحنا الله أو كبرناه، لا أننا نصفق كالنساء.

    والمهم: أن المشركين لما سمعوا كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم صفقوا بأيديهم [وقالوا: أتريد يا محمد! أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً] إذاً صفقوا متعجبين من هذه الكلمة، كيف تصدر من عاقل مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: [إن أمرك لعجب] يعني كيف تمحو الآلهة كلها أو تجمعها كلها في إله واحد؟ هذا غير ممكن! وكل إله يعبده قوم [ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل الذي يعطيكم شيئاً مما تريدون] عرفوا صلابته صلى الله عليه وسلم وعرفوا ثبات مبدأه ومنهجه، فقالوا: ما هو بالرجل الذي يعطيكم ما تريدون، يعني ايئسوا منه [فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه] وهذا كلام موحدين؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله ولكنها الشهوات والأهواء والتقليد [ثم تفرقوا وفيهم نزلت الآيات الأولى من سورة (ص_ وهي قول الله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم [ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] إلى قوله: إِنْ هَذَا إِلَّا اختلاقٌ [ص:7]..] والآيات كاملة هي: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:1-2] عزة ظهرت في كلامهم! كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [ص:3-8].

    قال: [واشتد المرض بـأبي طالب فعاده الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده بعض المشركين]يعودونه؛ لأن عيادة المريض من أخلاقهم أيضاً وآدابهم مع كفرهم [فعرض عليه الشهادة] أي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله [فقال] في عرضه لها عليه [( يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أُحاج لك بها عند الله يوم القيامة )] يعني: إذا قلتها ومت عليها أنا بإذن الله تعالى أطالب بنجاتك يوم القيامة بهذه الكلمة [فنظر أبو طالب إلى أشياخ الشرك حوله] الذين جاءوا يعودونه في مرضه [فقالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟] بعد شاهدوا منه ملامح الرغبة في أن يجيب ابن أخيه ويقول الكلمة التي سيحاج له بها عند الله، فلما شاهدوا الحال قالوا هذه الكلمة الساحرة: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ يعني هذه ملة أبيك وجدك، فكيف ترغب عنها بكلمة أخرى؟ [فقال: هو على ملة عبد المطلب ] وختم له بالموت على الشرك [ومات، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم] حزن على موت عمه؛ لِما كان يحصل عليه من نصرته والوقوف إلى جنبه ودعمه في دعوته [فقال -صلى الله عليه وسلم:- ( لأستغفرن لك ما لم أنهَ عن ذلك )] وهذا الذي يملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللام في قوله: (لأستغفرن) لام القسم، يعني: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك، أي: إن نهاني ربي فالأمر له [فأنزل الله تعالى من سورة التوبة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]] وسورة التوبة سورة مدنية، فالآيات كانت تنزل في مكة وبعد سنتين أو ثلاثة أو أربعة توضع في السورة المدنية؛ لأن القرآن نزل آيات وسور، لم ينزل نزل جملة واحدة كالتوراة والإنجيل. نعم هو موجود في اللوح المحفوظ كما هو، قال الله عز وجل: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، لكنه نزل في ثلاث وعشرين سنة، فكان يقول لهم جبريل : ضعوها الآية الفلانية في المكان الفلاني، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلّغ، وكتبة الوحي يضعونها، فالآية السابقة الذكر من سورة التوبة وسورة التوبة مدنية بحتة، ولكن هذه الآية وضعت في هذا المكان منها.

    [وأخبر هو صلى الله عليه وسلم بعد: أن عمه أبا طالب في ضحضاح من نار يصل إلى كعبيه يغلي منه دماغه] بعدما مات ودخل النار، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم بأن أبا طالب في النار، وأنه في ضحضاح منها يغلي منه مخه، ونظير هذا: عندما كان صلى الله عليه وسلم عائداً من مكة إلى المدينة، مر بالأبواء حيث توفيت والدته آمنة هناك في الجاهلية وهو صغير، والأبواء قريباً من رابغ، فوقف على قبرها يبكي طويلاً، فسأله أصحابه: ما أبكاك يا رسول الله؟! قال: ( بكيت؛ لأني استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي )، لأن من مات ونفسه خبيثة بأوضار الشرك والآثام لا تقبل فيه شفاعة ولا يُرفع له صوت، حكم الله بهذا وانتهى، وقد أقسم الجبار بقسم العظيم، قال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، وهي تسعة أو عشرة أيمان من أجل هذا الحكم الخطير، وهو: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    فلهذا كن ابن من شئت، كن ابن موشي ديان -أخبث اليهود- وزك نفسك بالإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عن الشرك وأوضار الآثام، فلا يضرك كون أبيك يهودياً، ولا قيمة له، وكن ابن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وخبث نفسك بأوضار الشرك والفسق والفجور فلا ينفعك النسب أبداً.

    ولا تعجبوا فالقرآن شاهد، أن أبا إبراهيم ( آزر ) في النار، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بحادثة بأنه ( إذا قامت القيامة ووقف الناس في عرصاتها جاء إبراهيم إلى ربه وقال: أي رب! لقد وعدتني أن لا تخزني يوم القيامة وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي؟! فيقول له الرب تبارك وتعالى: انظر تحت قدميك -لأنه واقف ويسأل- فينظر وإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ذكر ملطخ بالدماء والقيوح والأبوال والأوساخ، فما إن ينظر إليه حتى يصرخ: بعداً بعداً!! سحقاً سحقاً!! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم. فتهدأ نفس إبراهيم وتطيب فلا يفكر في أبيه بعد قط ).

    هذا إبراهيم مع وعد الله تعالى له في قوله: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، ظن أن الله استجاب له.

    وهذا نوح أبو البشرية الثاني عليه السلام، هل شفع في ولده كنعان ؟ لم يشفع، ولمّا سأل متعجباً: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45] قال الله له: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وفي قراءة: (إنه عَمِلَ غير صالح) فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].

    ولكن هبطت الأمة، وأصبح مشايخ الطرق والزوايا يعيشون على صدقاتها وإحسانها، على أن يشفعوا لمريديهم، وكانوا الناس -والله- يتصدقون بالبساتين عندما يضمن لهم الشيخ هذا، وكأنهم لا يقرءون القرآن، وهم يقرءونه ولكن على الموتى لا على الأحياء.

    قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [التوبة:113] أي: نحن منهم ليس النبي وحده أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] يعني أصحاب القرابة مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، وكل من مات على الشرك والكفر من أصحاب الجحيم، أما من مات على التوحيد وكان شارباً للخمر أو قاتلاً للنفس المحرمة فلا نحكم عليه بالنار ولا بالخلود فيها، بل نفوض أمره إلى الله عز وجل.

    قال: [وبعد خمسين يوماً من موت أبي طالب تقريباً، ماتت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وتتابعت المصائب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد الكرب وعظم الحزن. مات العم الذي كان عضداً قوياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حرزاً منيعاً] أي: له صلى الله عليه وسلم [وماتت بعده خديجة المؤنسة ساعة الوحشة، والمؤمنة المطمئنة ساعة القلق والخوف، وخلت الساحة للمشركين] وبدأ الكرب من جديد[فأخذوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا ينالونه من قبل، فقد رموا بالأقذار عليه] عقبة بن أبي معيط عليه لعائن الله جاء بسلا جزور من ساحة المروة أو الصفا ولما سجد صلى الله عليه وسلم وضع ذلك القذر على كتفيه، والمشركون يضحكون حول البيت، وجاءت فاطمة -وهي طفلة صغيرة- فأخذته من على ظهره ونالتهم سباً وشتماً، وهم أهلٌ لذلك، ولكن لمروءتهم أيضاً ما تكلموا عليها؛ لأنها صغيرة، أما لو كانوا من جماعتنا اليوم لألحقوها بأبيها، وغمسوا رأسها في السلا، لكن لهم ميزات رغم كفرهم.

    إذاً: خلت الساحة للمشركين فأخذوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا ينالونه من قبل، أيام وجود عمه كالأسد إلى جنبه.

    قال: [وعلى باب داره، بل وداخل الدار، حتى رموا بالقذر في القدر الذي يطبخ فيه] طعامه صلى الله عليه وسلم. ولكنه صبر، فأين صبرنا نحن؟ لو صبرنا عُشر صبره صلى الله عليه وسلم لارتفعت راية لا إله إلا الله في كل مكان.

    1.   

    نتائج وعبر من مقطوعة (اشتداد حلوكة الليالي والأيام على الحبيب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام)

    قال:[نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها في التالي] والعبر: جمع عبرة، مأخوذة من العبور، والعبّارة في البحر ما يعبر به من الخطر إلى النجاة والسلامة، قال الله عز وجل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، والذين لا أبصار لهم لا يجدون عبّارة، ويبقون دائماً في أحوالهم.

    أولاً: بيان سنة وفاة كل من أبي طالب وخديجة رضي الله عنها

    قال: [أولاً: بيان سنة وفاة كل من أبي طالب وخديجة رضي الله عنها وهي سنة عشرة من البعثة] وهي السنة التي تم فيها الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي نزل فيها جبريل وصلى بالرسول صلى الله عليه وسلم يومين معلماً له أول الوقت وآخره، وفرضت الصلوات الخمس في هذه السنة أيضاً، وبقي الحبيب صلى الله عليه وسلم في مكة بعدها ثلاث سنوات؛ فلهذا لما كان يصلي جاء عقبة بن أبي معيط ورمى على ظهره السلا.

    ثانياً: ذكر آخر عرض عرضه المشركون على الرسول للصلح

    قال: [ثانياً: ذكر آخر عرض عرضه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلح] وما بقي بعد ذلك عرض، فقد كان هذا آخر عرض، توسطوا فيه بـأبي طالب وقالوا: قل لابن أخيك يقبل منا كذا وكذا، ونعطيه كذا وكذا [ولم يفلحوا؛ لأنهم مصرون على الشرك] ما أفلحوا في وسائطهم وعرضهم؛ لأنهم مصرون على الشرك والعياذ بالله، ولو تبرءوا وقالوا: لا إله إلا الله ورموا بالأصنام خارج مكة لكان انتهى نزاعهم وصراعهم.

    ثالثاً: بيان سبب نزول آيات: (ص) و(التوبة) و(القصص)

    قال: [ثالثاً: بيان سبب نزول آيات: (ص_ وقد تقدمت [و(التوبة) أيضاً وهي قوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] وآيات [(القصص) وهي قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، لأنه لما عزم على أن يستغفر لـأبي طالب نزلت آية التوبة، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، فأذهب الله حزنه بقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، أي: أنه ليس لك قدرة على أن تهدي من تريد، ولكن الله يهدي من يشاء، ففوض الأمر إليه. فخفف عن رسول الله ألمه [فالأولى في المصالحة الفاشلة، والثانية والثالثة في أبي طالب ، الثانية في عدم الاستغفار له، والثالثة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحزنه على موته على الشرك].

    يا عبد الله! ايئس من نجاة من مات على الشرك! ولهذا قامت دعوة المصلحين في هذه الديار، تحارب الشرك من أيام شيخ الإسلام إلى اليوم ونفع الله بها، وإلا كان ثلاث أرباع العالم الإسلامي مشرك، كانوا يقرءون القرآن ويشركون بالله، في الدعاء، والاستغاثة، والحلف، والنذر. وعورضت هذه الدعوة بأشد أنواع المعارضة، ومن تكلم بها قالوا: وهابي خامسي!! كانت الأمة هابطة، ولكن شاء الله أن يرحمها، فهيأ الأسباب وقامت هذه الدولة، ويسّر الله الاستقلال للعرب والمسلمين، وانتشرت دعوة الله، وأصبح الذين يعيشون على الشرك عدد قليل لا يساوي شيئاً، كانوا يحلفون بـ: لا ورأسك! والملح الذي أكلنا! وحق سيدي فلان، وينذرون للسيد فلان في النجاح والانتصار في الخصومة، وكان كل ذلك عبادة لغير الله بكل الوضوح.

    فالحمد لله على حالنا الآن، فقد كان إخوانكم وآباؤكم يموتون إلى جهنم، فمن مات على الشرك لا ينفعه صلاة ولا صيام، واقرءوا قول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    رابعاً: تتابع المصائب عليه صلى الله عليه وسلم كان مؤذناً بالفرج القريب

    قال: [رابعاً: تتابع المصائب على الحبيب صلى الله عليه وسلم كان مؤذناً بالفرج القريب] قال الله عز وجل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]، ولن يغلب عسر يسرين أبداً.

    خامساً: فيما أصاب رسول الله عزاء لكل مؤمن فيما يصيبه في هذه الحياة من بلاء ومصائب

    قال: [خامساً: فيما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصائب عزاء لكل مؤمن فيما يصيبه في هذه الحياة من بلاء ومصائب مهما عظمت] يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب )، فإذا مات ابنك أو أخوك فالرسول أعظم من أخيك وأبيك [إذ رسول صلى الله عليه وسلم أسوة المؤمنين والمؤمنات] لقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].

    1.   

    خروج الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة لدينه

    قال: [خروج الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة لدينه] لا لماله ولا لولده ولا لنفسه، ولكن يطلب النصرة لدينه [وبعد أن فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب -الذي كان عضده القوي وحماه المنيع- خرج إلى الطائف يطلب ناصراً من ثقيف ينصره على قومه، ويعينه على إبلاغ دعوته] هذا هو التفكير الرشيد! فبعد أن أغلقت الأبواب في مكة لا بد وأن يبحث عمن ينصر دعوته في مكان آخر [خرج وهو راجٍ] يعني: آمل طامع، ليس آيس [أن يقبل أهل الطائف منه ما جاءهم به من الله عز وجل، ولما وصل الطائف، قصد ثلاثة أنفار من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافها] الرسول سياسي، عرف من يقصد، فقصد من عندهم الكلمة ولهم القول، وهم ثلاثة من سادات ثقيف وأشرافهم، فإذا لم يكن عند هؤلاء نصر فمن باب أولى العوام وبقية القوم[وهم الإخوة الثلاثة: عبد يا ليل بن عمرو بن عمير ومسعود وحبيب ، وكان عند أحدهم امرأة من قريش، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله] أي: قولوا: لا إله إلا الله [وكلمهم بما جاءهم من نصرته] على الإسلام [والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!!] قال: يمزق ثياب الكعبة المشرفة إذا كان الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذه يمين فظيعة فوق ما يطاق، ولو كنت أنا -والله!- لأغمى علي[وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟!] أعوذ بالله من هؤلاء الرجال [وقال الثالث: والله! لا أكلمك كلمة أبداً] فأغلقت أبواب الطائف نهائياً وسدت، فإذا كان خيارهم وفحولهم وأشرافهم وقفوا هذا الموقف، إذاً: من يقبل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ [لئن كنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك!!] وهذا أبشع من الأولين، فكل كلمة أقبح من التي قبلها، وهؤلاء ساسة -رجالات العرب- والآن لا تجد هذا الكلام عند أحد ولا يقوى عليه، لو تتكلم مع يهودي أو صليبي لا تجد هذا منه، ولا يقوى على هذا المواقف[فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وهو يائس من خير ثقيف، وقد طلب إلى الإخوة الثلاثة ألا يذكروا ما دار بينه وبينهم إلى قريش، فلم يفعلوا] هذه أخرى، أعطوه الذي أعطوه من التخييب، ومع هذا قال لهم: أرجو أن لا تذكروا هذا لقريش. يعني: لا تقولوا جاءنا ابن أخيكم ورددناه ولكن اسكتوا، فلم يفعلوا [وأغروا به سفهاءهم، وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، وألجئوه إلى حائط "بستان" لابني ربيعة : عتبة وشيبة ] وهذا كنا نعرفه أيام فرنسا في الجزائر، فإذا أكل شخص في رمضان في العاصمة الجزائرية يأتي الأطفال وراءه بالحجارة والضرب والصياح والضجيج والبوليس الفرنسي ساكت. لِم؟ لأنه عصى الله عز وجل. وهؤلاء المشركون سلطوا على رسول الله الصبيان والأطفال والعبيد يصيحون وراءه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، واضطروه إلى بستان لابني ربيعة : عتبة وشيبة ، فقد كانا بمكة ولهما بستان عنب في الطائف[وعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة عنب، فجلس تحتها مستظلاً بها] فقد كانوا يرفعون العنب ويجعلون له سقفاً، ولهذا جلس تحته صلى الله عليه وسلم [فلما اطمأن وسكنت نفسه قال: ( اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك )].

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016952