إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب 26للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما استقر المقام بالمؤمنين في أرض الحبشة، واستطاعوا أن يعبدوا ربهم دون خوف من أحد، آمنين على أنفسهم في جوار النجاشي، أزعج ذلك كفار قريش، فبدءوا يخططون للنيل منهم في أرض الحبشة، فأرسلوا وفداً إلى ملك الحبشة محاولين رد المؤمنين إلى مكة ليواصلوا تعذيبهم لثنيهم عن دينهم، وبذلوا في سبيل ذلك الأموال الطائلة من الهدايا لأعوان النجاشي، وما صاغوه من الشبهات للطعن في صحة دين هؤلاء المؤمنين، ولكن الله رد كيدهم، حيث رفض النجاشي طلبهم، وجدد العهد بالأمان للمؤمنين، فبقوا في بلاده آمنين إلى أن أذن الله لهم بالعودة إلى مدينة رسول الله.

    1.   

    تابع أول هجرة في الإسلام

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد ..

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة السبت من يوم الجمعة ندرس السيرة النبوية العطرة من كتاب: هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب.

    والمقطوعة التي درسناها قبل هذا هي (أول هجرة في الإسلام)، وأول هجرة كانت هي هجرة إبراهيم عليه السلام، فأول من هاجر في سبيل الله هو إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم؛ إذ خرج من بابل بعد الحكم الذي صدر عليه بالإعدام -ونجاه الله منه- وهاجر إلى أرض القدس.

    أما بالنسبة إلى أمة الإسلام فأول هجرة فيها هي هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة - عثمان ومن معه عليهم الرضوان-؛ لأنهم اضطهدوا وعذبوا وضغط عليهم وما استطاعوا أن يعبدوا الله، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد فيها ملك صالح وهو أصحمة النجاشي الحبشي.

    وكما علمنا أنهم نزلوا بالحبشة وبعد أيام قيل لهم: إن المشركين قد اصطلحوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وانتهى ما كان بينهم وبينه قريش من الخلاف والشقاق، وسبب هذا -كما علمنا-: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (والنجم)، فقرأ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:21-20]، فإبليس عليه لعائن الله تصيد الموقف، وألقى في روع أصحابه المشركين أن الرسول مدح الآلهة التي يعبدونها، وأنه قال: (تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة سجد المشركون حوله كلهم، حتى إن رجلاً كُبَّاراً يعجز عن السجود رفع التراب وسجد عليه، فأشيع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اصطلح مع قومه، وهذه الشائعة هي التي جعلت المهاجرين يعودون إلى مكة، فوجدوها أشد ظلماً وحلوكاً من أول مرة.

    قال: [وسبب هذه الشائعة الكاذبة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حول الكعبة سورة (والنجم)، فلما بلغ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، ألقى الشيطان في مسامع المشركين قوله: (تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، فخيل للمشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قالها] أي: هذه الكلمة الخبيثة [وأنه بذلك قد امتدحها، فلما سجد صلى الله عليه وسلم في آخر السورة -وهي سجدة من عزائم السجدات- سجد المشركون معه، حتى إن الوليد بن المغيرة -وكان كبير السن- أخذ كفاً من البطحاء وسجد عليه، ثم تفرق الناس، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن سجود المشركين كان من أجل ما ألقى الشيطان في مسامعهم من مدح للات والعزى مُوهماً إياهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي امتدحها، فحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلمه الخبر، فأنزل الله تعالى -تسلية له وتخفيفاً عنه- قوله من سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]] أي: قرأ [ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]] أي: في قراءته [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52].

    فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم] وفرح [وذهب عنه ما وجد في نفسه من الخوف والحزن بما أعلمه به ربه من أنّ هذا الأمر جرى على سنة من سننه تعالى في أنبيائه ورسله لحكم عالية يعلمها تعالى] إذ قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] أي: سُنة عامة فيمن تقدم.

    [ولما قارب المهاجرون دخول مكة تبين لهم أن إسلام أهل مكة باطل] لم يسلموا [وأن المشركين ما زالوا على الشرك والكفر، وأنهم قد ازدادوا قسوة وشدة على المسلمين فلم يدخلوا إلا بجوار] من كان له قريب أو صديق دخل في جواره [أو في استخفاء] دخل سراً بالليل [وأقاموا بمكة بعد عودتهم إليها يتلقون الأذى ويُعذبون ويضطهدون -كما كانوا قبل هجرتهم وعودتهم- فرأوا لذلك أن يعودوا إلى الحبشة مرة ثانية، فعادوا وهاجر معهم خلق كثير بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً، وهي الهجرة الثانية].

    [وبقي الحبيب صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى ربه سراً وجهراً، صابراً موقناً بنصر الله له ولدعوته، وهو يتعرض لأذى قريش كل يوم، ومن أبرز ما سُجل في هذه الفترة من أذى نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدَّث به عمرو بن العاص رضي الله عنه ورواه عنه ابن الأثير وغيره من أصحاب السير وهو قوله:

    حضرت قريشاً يوماً بالحجر] حجر إسماعيل [فذكروا النبي صلى الله عليه وسلم وما نال منهم وصبرهم عليه، وبينما هم كذلك إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم ومشي حتى استلم الركن] ركن الحجر الأسود [ثم مر بهم طائفاً فغمزوه ببعض القول، فعرفتُ ذلك في وجهه] هذا عمرو بن العاص يقول [ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، ثم الثالثة فقال لهم: ( أتسمعون يا معشر قريش! والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ) فلم يتكلموا حتى لكأن على رءوسهم الطير، وإن أشدهم وصاة فيه لَيُرفّؤه بأحسن ما يجد] كان أحسن واحد منهم يحاول أن يقول كلمة يمجد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.

    [وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، وقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه] أي: لما قال تلك الكلمة: (يا معشر قريش والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح) أي: بالقتل والقتال، فلم يتكلموا وأصيبوا بجبن وانهيار، حتى لكأن على رءوسهم الطير، فما استطاع أحد أن يتكلم بكلمة، وكان أشدهم وصاة أو وصية على الرسول يتلفظ بأحسن القول، وانصرف صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر كالعادة، وقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم؟ أي: من الهون أو الذل، حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، يعني يحرضهم لِم لم يأخذوا منه صلى الله عليه وسلم!

    قال: [فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم] كالبدر [فوثبوا إليه وثبة رجل واحد] عملاً بوصية ذلك الحانق الذي لامهم [يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ..] ويضربونه [فيقول: (أنا الذي أقول كذلك)، فأخذ عقبة بن أبي معيط بردائه، وقام أبو بكر الصديق دونه يقول -وهو يبكي- ويلكم!! أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟!] وعقبة بن أبي معيط من شر المشركين وأخبثهم، مات في وقعة بدر بعدما أسر.

    إذاً: لما أخذ عقبة الرسول صلى الله عليه وسلم بردائه قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه، فاحتضن الرسول وهو يبكي ويقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ كمؤمن آل وفرعون.

    قال: [كالتي قالها مؤمن آل فرعون، ثم انصرفوا بعدما نالوا من الصديق ما نالوا رفساً بأرجلهم وضرباً بأيديهم] هذه هي الهجرة الأولى، وإلى نتائجها وعبرها ..

    1.   

    نتائج وعبر من مقطوعة (أول هجرة في الإسلام)

    قال: [نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها فيما يأتي]

    أولاً: مشروعية الهجرة في الإسلام

    قال: [ أولاً: مشروعية الهجرة -وهي الانتقال من بلد الكفر حيث تعذر على العبد أن يعبد الله- إلى دار يتمكن فيها من عبادة الله تعالى بدون تعذيب].

    وهناك مشكلة الآن قائمة في العالم؛ إذ يوجد المسلمون المؤمنون في كل بلاد الكفر من أمريكا غرباً إلى اليابان شرقاً، فهل يحل لهم أن يقيموا في تلك البلاد؟

    الجواب: قلت لهم -عندما اجتمعنا بأكثرهم في أوروبا-: أنصح لكم بأن تعودوا إلى بلادكم؛ إذ لا يحل لكم المقام بين ظهراني الكافرين، مع ما يترتب على بقائكم من فساد بنيكم وبناتكم. فإن قلتم: لا نستطيع، ففي بلادنا اضطُهدنا وعذبنا وأفقرنا، فعليكم باتخاذ ما يلي:

    أولاً: انووا الرباط في سبيل الله، فأنتم في بلاد الكفر والمفروض أن المسلمين غزوها وفتحوها ونشروا فيها الإسلام، ولما لم يكن هذا وقد جاء الله بكم ووجدتم بينهم، فانووا الرباط في سبيل الله، أي: انووا بإقامتكم أنكم تنصرون الإسلام وتحسنوه للناس، وتبينونه لجيرانكم المشركين الكافرين، مع تصحيح عقائدكم، وتهذيب أخلاقكم، واستقامتكم على منهج الحق؛ حتى إذا رآكم الفرنسي أو الإيطالي أو الأسباني يرغب في الإسلام، أما أن تكونوا مثلهم في الخمر والزنا والاختلاط وأكل الحرام فهذه لا تصح من مرابط، فالمرابط ولي الله يُجرى له أجره إلى يوم القيامة.

    فصححوا معتقدكم، وهذبوا أخلاقكم، واعبدوا ربكم بما شرع لكم على علم وأنتم مرابطون، ومن مات منكم يُجرى له أجره -إن شاء الله- إلى يوم القيامة، هذا ما دام مأذوناً لهم أن يعبدوا الله بما شرع لهم، أما البلد الذي يُضطهد فيه المؤمن من أجل عبادة الله، ويحال بينه وبين أن يعبد الله، فهذا البلد لا يحل له المقام فيه أبداً، بل يجب عليه أن يهاجر، وقد هجَّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الحبشة لما لم يستطيعوا أن يعبدوا الله، بل وهجَّرهم أخيراً إلى المدينة، وفرض الله الهجرة لذلك.

    وحسبنا في أن من يبقى في بلد لا يستطيع أن يعبد الله فيه ثم يموت؛ حسبنا الآية التالية من كتاب الله، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97] أي: بترك الهجرة وبعبادة غير الله وترك عبادة الله، قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97] الملائكة تقول لهم -ملك الموت وأعوانه-: (فيم كنتم) أي: لماذا أنفسكم خبيثة مظلمة منتنة؟ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:97-98] هؤلاء معفو عنهم: النساء والأطفال وبعض الرجال العجزة، ومن لا يعرف كيف يسافر أو يقيم.

    فأقول: هذه البلاد الآن قد فتحت للعالم الإسلامي، ولو استغلت هذه الفرصة لاسترحنا فلا نغزو ولا نرسي سفننا في موانئ الكفر، ولو أن المسلمين عرفوا هذه الحقيقة وكوَّنوا لجنة عليا اضطلعت بأعباء هذه الدعوة ونشرها بالصورة التي لا تزعج الشرق ولا الغرب لكنا أدينا واجب الجهاد في سبيل الله.

    إذاً: من نتائج هذه المقطوعة وعبرها: مشروعية الهجرة، وحقيقتها: هي الانتقال من بلد الكفر -حيث يتعذر على العبد أن يعبد الله- إلى دار يتمكن فيها من عبادة الله، سواء كان دار كفر أو دار إيمان.

    ثانياً: بيان أول هجرة وقعت في الإسلام

    قال: [ثانياً: بيان أول هجرة وقعت في الإسلام، وهي الهجرة الأولى إلى الحبشة].

    ثالثاً: بيان فضل أصحاب الهجرة إلى الحبشة

    قال: [ثالثاً: بيان فضل أصحاب الهجرة إلى الحبشة، ومن بينهم عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم] إذاً: بنت الرسول هاجرت من مكة إلى الحبشة.

    رابعاً: بيان خطر الشائعات إذ بها رجع المهاجرون ولاقوا ما لاقوا من العذاب

    قال: [رابعاً: بيان خطر الشائعات إذ بها رجع المهاجرون ولاقوا ما لاقوا من العذاب حتى اضطروا إلى الهجرة مرة ثانية] لِمَا أشيع من أن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطلح أو اتفق أو أن المشركين دخلوا في الإسلام، ولم يقع شيئاً من ذلك، فجاء المؤمنون وظنوا أن الحياة آمنة، وما إن وصلوا حتى رأوا الظلام أكثر مما كان عليه.

    خامساً: تقرير قصة الغرانيق

    قال: [خامساً: تقرير قصة الغرانيق] والغرانيق جمع غرنوق، وهو طائر كبير أبيض جميل [وأن من العجب أن يكذب بها أناس لمجرد الخوف من أن يقال: إذا صحت قصة الغرانيق فمن الجائز أن يكون] الشيطان [قد أدخل في القرآن ما ليس منه] وأكثر الذين نفوا هذه القصة وردوها كان لهذا الخوف، وهو خوف باطل.

    قالوا: إذا سلمنا بهذه وقلنا: نعم. فمن الجائز أن يكون الشيطان قد زاد في القرآن، وهذه تضحكنا كنظرية بعض الفرق الشيعية بأن الوحي ابتداء كان لـعلي إلا أن جبريل خان أمانته وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا جهل كبير! فإذا كان الله يعجز عن تصحيح هذا الخطأ فلا وجود له وكان -أعوذ بالله- لا يساوي شيئاً!! فهذه القضية نظير هذه.

    فهؤلاء قالوا: نخاف إذا قلنا بصحة هذه القصة أن يكون الشيطان قد زاد في القرآن!! إذاً والله أين هو؟ ألا يمحو الباطل؟ ألا ينجي القرآن من كذب الكاذبين؟ كيف يُقال هذا الكلام؟!

    قال: [وهو وَهمٌ بحت شبيه بوهم الروافض القائلين: بأن جبريل] عليه السلام [بَدَلَ أن يأتي علياً بالوحي والرسالة أتى بهما محمداً صلى الله عليه وسلم؛ إذ لازم هذا أن الله تعالى عاجز، ونسبة العجز إلى الله كفر وكذب وباطل؛ إذ لا يمكن أن يقع في الكون غير ما يريد الله سبحانه وتعالى] وكيف يعقل ذلك؟! فلاحظ تشابه قلوب الروافض مع الذين يقولون بأن هذه القصة ليست بصحيحة!

    قال: [ولو فرضنا أن الشيطان ألقى بكلمة أو كلمات في قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم أليس الله قادراً على تبيينها وإبطالها؟ بلى؛ وكيف وقد قال: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشورى:24]، وكيف وقد قال في سياق الآية: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52].

    والذي ينبغي أن يُعلم هنا: هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينطق بكلمة تلك الغرانيق] أبداً [وما بعدها] ووالله ما نطق بها [وإنما الذي نطق بها الشيطان، فأسمع صوته أولياءه] لاستعدادهم لذلك [من المشركين ليبقوا على اعتقادهم الفاسد في آلهتهم من اللات والعزى؛ ولذا لما سجد النبي صلى الله عليه وسلم سجدوا معه كما هو في صحيح البخاري رحمه الله تعالى.

    وأحسن ما قيل في قصة الغرانيق هو قول الحافظ ابن حجر في الفتح، وما ذكرناه هنا لا يختلف معه] مع ما قاله [والله أعلم وأعز وأحكم. وصل الله على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم.

    1.   

    إرسال قريش وفدها إلى النجاشي

    قال: [إرسال قريش وفدها إلى النجاشي] بعدما عرفت قريش أن الصحابة نزلوا عند النجاشي وعادوا كما كانوا اتخذت إجراءً، فلا بد من إجراء تتخذه دولة أبي سفيان ، فماذا فعلوا؟

    قال: [لما علمت قريش باستقرار المهاجرين بالحبشة] استوطنوها في ضيافة هذا الملك الصالح [وإيواء ملكها لهم وإكرامه لهم، خافت عواقب ذلك، فكوَّنت وفداً من عمرو بن العاص -السياسي المشهور-] رضي الله عنه، وهو من أفذاذ الساسة في العالم [و عبد الله بن أبي أمية ] وقد كانا مشركين [وحمّلتهما هدية فاخرة إلى الملك النجاشي وإلى أعيان رجاله] أيضاً، قالوا: وزعوا هذا الذهب -مثلاً- على حاشية الملك؛ حتى يساعدوكم، أي: لا تعطوا الهدية فقط للملك، وإنما له ولرجاله. وكيف عرفوا هذا؟ هل درسوه في كلية من كليات السياسة؟

    عندي كلمة، وهذه من الجائز أن تكون حقيقة، ومن الجائز أن تكون تخيلاً:

    إنه بالتتبع والاستقراء فهمتُ أن البشرية كفرد من أفرادها، ففي بداية أمرها كانت تعترف بالصدق وتمقت الكذب، وتحب العدل وتنفي الظلم، وتحب الطهر وتكره الخبث بالفطرة، ثم أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت أشدها وكمالها، ثم بعد ذلك أخذت تعجز وتعجز حتى وصلت إلى حد الخرف. والآن تحدث أحداثاً في البشرية لو كانت على عهد الأولين ما قبلوها، فتجري أحداث من الظلم والخبث والشر والفساد يقشعر لهولها جلد الإنسان، وهي عامة في العالم، وهذا يدل على أننا في سن الشيخوخة، وأن العقل البشري هبط وأصبح يهرف بما لا يعرف.

    ونضرب لذلك ونقف على مسائل منها: هاجر عليها السلام لما جاءت قبيلة جرهم العربية وأرادوا أن ينزلوا إلى جوارها في مكة استأذنوا منها، وكيف يستأذنون من امرأة لا وجود لأحد معها إلا طفلها؟ قالوا: أتأذنين لنا أن ننزل بجوارك؟ فتقول: على أن لا حق لكم في الماء -ماء زمزم- فيقولون: نعم.

    هل يمكن للبشر الآن أن يقفوا هذا الموقف؟! لو كانوا حتى من صعاليك الناس لطردوها وقالوا لها: اسكتي!!

    وإبراهيم لما كسّر الأصنام وحطمها كيف تحركت البلاد؟ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:60-61]، أي: نسأله ونستنطقه لعل هناك من يشهد على فعلته.

    الآن هذا الموقف هل يقفه العرب والنصارى واليهود بهذا العدل؟ والله لا يعرفونه! ومواقف غيره كثيرة.

    من تتبع التاريخ اكتشف هبوط البشرية، وكيف أنها عجّزت، وفقدت عقلها، ولم يصبح عندها أدب ولا حياء ولا كرم ولا شرف ولا ولا ..، بل الظلم والاعتداء والاحتيال والخيانة، وإن رأيت صالحين فبفضل الله والإسلام، والواقع شاهد؛ لأن الإنسان عندما يكبر ويكون في آخر عمره كيف يكون حاله؟ لا يقوى على شيء من الكمال.

    قال: [لتستميلهم نفسياً فيردوا المهاجرين قصراً إلى مكة؛ لتعذيبهم وتعويقهم من أية حركة إيجابية تنتصر بها دعوة الإسلام.

    ووصل الوفد يحمل الهدايا، وقدمها فعلاً إلى النجاشي وأعيانه رجال الحكم، إلا أن الوفد بدأ في تقديم الهدايا بأعيان رجال النجاشي وأخرُه هو سياسة منه] أي: كانا أعظم سياسة من جماعتهم [ليحصل على دعم الأعيان عند مطالبة الملك برد المهاجرين إلى مكة.

    ولما فرغ الوفد من تقديم الهدايا تكلم عمرو وقال للملك ورجاله: إن ناساً من سفهائنا فارقوا دينهم وجاءوا بدين جديد مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم.

    وما إن فرغ عمرو من كلامه حتى أشار أصحاب النجاشي بتسليم المهاجرين إلى وفد قريش متأثرين بالهدايا، وما وعدوا به الوفد من المساعدة] قالوا: أعطهم يا ملك! أعطهم إخوانهم؛ لأنهم أخذوا الهدايا ووعدوا بأن يساعدوا [وهنا قال النجاشي : لا والله! لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عن ما يقول هذان] رجلا الوفد [فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ما ذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم.

    ثم أرسل النجاشي إلى المهاجرين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحضروا وهم مجمعون على أن يقولوا الحق سواء سره أو أساءه، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه] شهيد مؤتة [فقال لهم النجاشي : ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟] لأنهم لم يدخلوا في النصرانية [فقال جعفر : أيها الملك! كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفته، فدعانا لتوحيد الله، وأن لا نشرك به شيئاً، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمَرنا بالصلاة والصيام -وعدد عليه أمور الإسلام- فآمنا به وصدقناه، وحرمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك عن سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! وهنا نطق الملك وقال: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم. فقرأ عليه قرآناً فبكى النجاشي وبكى أساقفته، وقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، وقال لرجلي الوفد] عمرو بن العاص وعبد الله [انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبداً] هذا هو الملك الصالح.

    [فلما خرجنا قال عمرو : والله لأتينه غداً بما يبيد خضراءهم] حلف أنه يأتيه غداً بكذبة تقضي على جعفر وجماعته [فقال له عبد الله : لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وكان عبد الله أتقى من عمرو .

    فلما كان الغد أتى النجاشي وقال له عمرو : إن هؤلاء يقولون في عيسى قولاً عظيماً] عرف من أين تؤكل الكتف! فقال للملك: إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيم لا يطاق [فأرسل النجاشي إليهم فجاءوا، فسألهم عن قولهم في المسيح؟ فقال جعفر : نقول الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: ما عدا عيسى ما قلتَ هذا العود] ومعنى ما عدا: ما تجاوز، أي: الذي قلته هو الواقع [فنخرت بطارقته فقال لهم: وإن نخرتم؟ وقال لـجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم آمنون، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأنني آذيت رجلاً منكم!!

    ورد هدية قريش، وقال: ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاعَ الناسَ في حتى أطيعهم فيه، وأقام المسلمون بخير دار وأحسن جوار].

    1.   

    نتائج وعبر من مقطوعة (إرسال قريش وفدها إلى النجاشي)

    قال: [نتائج وعبر:

    إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها فيما يلي:

    أولاً: بيان أن ظلم قريش للمسلمين بلغ حداً لم يتجاوزه ظلم عرفه العرب في بلادهم.

    ثانياً: بيان خيبة وفد قريش وفشله في مهمته؛ لأنه يحارب الله في أوليائه، ومن يحارب الله يهزم ويخسر في الدنيا والآخرة.

    ثالثاً: بيان كمال جعفر بن أبي طالب بالعلم والدين فرضي الله عنه وأرضاه.

    رابعاً: بيان كمال أصحمة النجاشي إيماناً وعلماً وكرماً وحسن جوار، فرحمه الله رحمة واسعة.

    خامساً: حرمة الرشوة وسوء أحوال أهلها معطين أو آخذين].

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755971200