إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (102)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان العرب في الجاهلية يشربون الخمر ويقامرون، فلما جاء الإسلام وقامت دولته في المدينة بدأت الأحكام الشرعية تنزل شيئاً فشيئاً، ومن ذلك حكم الخمر حيث تدرج الحكم فيها حتى نزل تحريمها أخيراً، كما نزل الأمر بالإنفاق مطلقاً حتى تساءل الصحابة عن كيفية الإنفاق وأبوابه، فجاء التفصيل في ذلك ببيان النفقات الواجبة على كل مسلم، ثم ما يستحب له من النفقات في وجوه الخير والبر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين:

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:219-220].

    هاتان الآيتان المباركتان اشتملتا على ثلاثة أسئلة والإجابة عنها، فمن السائل ومن المسئول؟ لا بد من المعرفة، فالسائل: المؤمنون، والمسئول: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعلم بسؤالهم المخبر نبيه به: الله جل جلاله وعظم سلطانه.

    تدرج الأحكام التشريعية

    أول سؤال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، هل هما جائزان أو ممنوعان، ما حكم الله فيهما؟ اذكروا: أن الأحكام الشرعية نزلت تدريجياً حكماً بعد حكم، إذ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، في عشر سنين ما شرع شيء سوى الإيمان بالله ورسوله والدار الآخرة، ثم فرضت الصلاة في السنة العاشرة بعد الرحلة إلى السماء والملكوت الأعلى، فصلى المؤمنون ثلاث سنوات، ولم تكن أحكام تنزل، ولما حل صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية أخذ التشريع ينزل يوماً فيوماً، وكلما نزل أمر نهضوا به، وكلما نزل نهي تركوا المنهي وابتعدوا عنه، وأخذوا يكملون ويصعدون في سلم الكمال حتى أصبحوا أفضل من وجد على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين.

    اشتقاق اسم الخمر في اللغة

    ها هم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر، أما الخمر فكل مسكر سمه خمراً ولا تبال، إذ هذا اللفظ مشتق من (خمرت الإناء): غطيته، وفي الحديث الصحيح: ( خمروا الآنية ) أي: غطوها بالليل خشية أن تقع فيها حشرة أو يشرب منها حيوان أو كذا، من عنده إناء فيه لبن أو عسل أو طعام أو ماء فليخمره بالليل، إرشاد الطبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم: ( خمروا الآنية ) يعني إناء فيه ما يطعم ويشرب.

    وسميت الخمر خمراً أيضاً من التغطية؛ لأن المؤمنة يقال لها: خمري وجهك، فالخمار ما هو؟ ما تغطي به رأسها ووجهها، والخمار يعرفه النساء، ما تستر به وتغطي رأسها ووجهها ذلكم الخمار.

    وأصل الخمر: العنب يطبخ ويستخرج منه المادة المسكرة، ثم أصبح يطلق على كل ما يخمر العقل ويستره فيصبح الرجل يهذي ويقول ما لا يعرف، وقد يغشى كبائر المعاصي؛ لأن عقله غطي واستتر، فلهذا كل مسكر خمر وحرام.

    سبب السؤال عن الخمر والميسر

    هذا السؤال في الآية الكريمة ما الدافع إليه؟

    لقد حصل أن حمزة بن عبد المطلب عم الحبيب صلى الله عليه وسلم شرب الخمر فقال كلاماً بذيئاً، ثم شربها غيره في نفر، وحضرت الصلاة فقام أحدهم ليصلي بهم فما أحسن القراءة فخلط، فنزلت الآية من سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43].

    فمن ثم أوقفوا عن شرب الخمر أوقات الصلاة، فلا يشربونها إلا في الوقت الواسع، من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل، أو من بعد صلاة الصبح إلى الظهر، لكن بعد العصر يكون المغرب، وبعد المغرب يكون العشاء، فأخذوا بتعاليم الله، لا يشربونها في الأوقات التي يبقى السكر معهم حتى يدخل وقت الصلاة، فمن هنا أخذت التساؤلات، ومن يسألون؟ رسول الله هو معلمهم وهاديهم، ومرشدهم، والواسطة بينهم وبين ربهم.

    الإثم الكائن في الخمر والميسر

    هنا قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، أجبهم يا رسولنا، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، هذا الجواب الحكيم.

    والميسر ما هو؟ الميسر: يطلق على آلات القمار، سواء بالكعاب أو غيرها، كل ما يعلب به، والآن معروف الورق، وكانوا يلعبون بالكعاب والنردشير، فلم سمي هذا ميسراً؟ لأنه يحصل صاحبه على المال بيسر ولا كلفة، عاكف على رجليه جالس ويلعب، وإذا ظفر وفاز أخذ المال، مأخوذ من اليسر، من يسر ييسر العبد: إذا حصل على منفعة بدون كلفة ولا ضرر.

    قُلْ [البقرة:219] يا رسولنا صلى الله عليه وسلم فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة:219]، ما الإثم هذا؟ الإثم حقيقته: كل ضار مفسد، كل ما يضر بالعقل أو العرض أو المال أو الدين أو النسل فهو إثم؛ لأنه ضار، ومن حيث هو فاسد، فكل ما يضر العبد في عرضه، في ماله، في دينه، في عقله فهو إثم، والعرب كانوا يطلقون في الجاهلية على الخمر اسم: الإثم، يسمونها: الإثم، يقولون: هيا نشرب الإثم، قال شاعرهم:

    شربت الإثم حتى ضل عقلي كذلك الإثم يذهب بالعقول

    يقول: (شربت الإثم حتى ضل عقلي) وتاه، (كذلك الإثم يذهب بالعقول)، عرفوا أنها ضارة وفاسدة، وسموها لذلك الإثم قبل التشريع وبيان الإثم وغيره.

    المنافع المتحصلة من الخمر والميسر

    إذاً: أجابهم الرحمن جل جلاله بهذه الجواب: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، ما هذه المنافع للناس؟

    أولاً: الخمر كانوا يستوردونها من الشام بلاد العنب، وهم تجار، وخاصة أشراف مكة وساداتها، ويبيعونها فيكسبون أموالاً طائلة، إذ كانوا يعتقونها، وكانت لها منزلة، فهؤلاء التجار استفادوا، ربحوا، كذلك شاربها يجد تخفيفاً عن نفسه من الكآبة أو الحزن وينشرح صدره، ويحصل على سرور وفرح وبهجة بسكرته، هذه هي المنافع.

    وأما الميسر ففيه منافع، ما هي؟ كانوا يشترون الجمل وينيخونه عند الصفا ويلعبون، فالذين ينجحون لا شيء عليهم، والذين خابوا وخسروا في اللعبة يسددون قيمة الجمل، ويذبحونه للفقراء والمساكين فقط؛ لأنهم أشراف ما يأكلون هذا اللحم الذي أخذوا بالقمار، فيذبح ويوزع لحمه، هذا معنى: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219].

    معنى قوله تعالى: (وإثمهما أكبر من نفعهما)

    وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، وما دام الإثم أكبر من النفع فمعناه: اتركوهما، لكن لا في صراحة، ومن هنا أخذ عمر يلح على الله: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً.. اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يلح في الدعاء ليلاً ونهاراً؛ لأنه لما نزلت هذه الآية بعضهم كف عن القمار وعن شرب الخمر، وبعضهم قال: ما هناك نص صريح، ما قال: لا تشربوا أو لا تلعبوا، فعمر اضطرب فأخذ يدعو الله ويلح في دعائه، واستجاب الله له، فجاء نص التحريم من سورة المائدة بعد سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، ومن قال: لا فقد كفر، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال عمر : انتهينا ربنا! وهذه واحدة مما استجاب الله فيها لـعمر ، واحدة من أربع استجاب الله لـعمر فيها، من هذه الأربع: مقام إبراهيم، قال: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:125]، فقال: وافقت ربي في كذا، وعدها، وما ذلك إلا لصفاء روحه وطهارتها، إذا صفت روح العبد وزكت وطابت وطهرت؛ فيصبح قريباً من الملائكة، قريباً من الله.

    مراحل تحريم الخمر

    إذاً: فحرم الله الخمر بآية المائدة، وقبل آية النساء والبقرة نزلت آية تعلن جوازها، وامتن الله تعالى على الناس بها في سورة النحل المكية: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، هذه أصل الإباحة: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67].

    ثم لما حدث ما حدث في الصلاة وقال ما قال إمامهم حرم الله شربها عند الصلاة، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقربها وهو يصلي أو يريد الصلاة، فخف شربها واضطربوا، فأخذوا يتساءلون؛ فنزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فكف من كف، وانقطع من انقطع عن شرب الخمر ولعب الميسر، حتى نزلت آية المائدة، بعد أن كان عمر يلح على الله: ربنا بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فلما نزلت: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال عمر : انتهينا ربنا، انتهينا يا ربنا. وأريقت من قلالها في أزقة المدينة حتى جرت كالمطر إذا سال في الأزقة الصغيرة، وما بقي مؤمن يشربها.

    هذا معنى قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فهذه فيها الترغيب في البعد عن الخمر والميسر وفي تركهما، ولكن ليست نصاً في التحريم، وإنما حرمت بآية المائدة، السورة الآتية بعد النساء، حرمت بقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، هذه الصيغة للتهديد، فقالوا: انتهينا يا ربنا، وفي آية المائدة بين الله تعالى مضار الخمر والميسر، فقال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90] أولاً، وسخ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:90-91]، عرفنا أن اللاعبين أحياناً -والله- يتسابون، وأحياناً يتضاربون، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91]، والله! ما بلغنا أن جماعة يلعبون الكيرم وهم يذكرون الله عز وجل، وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91]، يؤذن المؤذن، ويدعو الداعي إلى الصلاة وهم مكبون على اللعبة حتى تنتهي وقد صلى الناس وانتهت الصلاة.

    إذاً: فنعود إلى الخمر، من الله على الناس بأنهم يستخدمونها ويستخرجونها من التمر والعنب، ثم نزلت حرمة شربها عند الصلاة، ثم بين تعالى مضارها، وأن إثمها أكبر من نفعها، ثم نزلت آية المائدة فحرمتها على الإطلاق، وأراقوها عند أبوابهم، والرسول صلى الله عليه وسلم جلد من شربها، وجلد المؤمنون مع رسول الله، ثم قرر علي باستنباطه: أن شاربها يجلد ثمانين جلدة، قياساً على القذف، فالقاذف الذي يقذف مؤمناً بالفاحشة، يقول: يا زاني أو يا كذا؛ إن لم يأت بأربعة شهود على صحة ما رمى به المؤمن فإنه يكشف عن ظهره ويجلد ثمانين جلدة، فـعلي قال: ما دام القاذف يجلد فشارب الخمر السكران يقول أسوأ من القذف، فأجمعت الأمة بعد علي على أن شارب الخمر إذا ثبت شربه يجلد ثمانين جلدة على ظهره. هذا السؤال الأول.

    معنى قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)

    الثاني: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:219]، لما نزل الأمر بالإنفاق: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:195]، قالوا: كيف؟ وكم؟ ومتى؟ وما الذي ننفق؟ بين لنا يا رسول الله، فجاءوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم وتساءلوا فأنزل الله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أنفقوا العفو، أي: الفضل والزائد عن قوتكم وحاجتكم، أنفقوا في سبيل الله للجهاد، للفقراء، للمساكين، لليتامى، ما زاد عن حاجتكم، أما ما أنتم في حاجة إليه فأنتم أولى، هذا العفو الفضل الزائد عن الحاجة، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى )، ما معنى: (غنى)؟ عن كفاية، ما أغناك الله به لتسد حاجتك أنت وأسرتك من الطعام والشراب واللباس، فالزائد هو الذي تنفق منه، أما أن تترك أسرتك جياعاً وتخرج طعامك فلا؛ تريد أن تسد جوعة شخص وفي بيتك جائع، تريد أن تستر عورة شخص ومن معك قد تبدو عوراتهم، فمن رحمة الله وإحسانه لأوليائه أن أجاب عن هذا بقوله: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، قل لهم يا رسولنا: العفو هو الذي تنفقونه، ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ).

    معنى قوله تعالى: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة)

    قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ [البقرة:219]، أي: كما بين لكم هذه الأحكام الشرعية، ما زال القرآن ينزل يبين الآيات الحاوية للتشريع الإلهي من الذرة إلى المجرة، كل الحياة لها قوانينها وشرائعها، وما تتبعه، وما تتركه في هذا الكتاب الكريم، ما مات الرسول صلى الله عليه وسلم وبقي شيء ما عرفوا حكم الله فيه.

    كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ [البقرة:219]، أي: رجاء أنكم تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219]، فتذكروا وتعرفوا ما هو النافع وما هو الضار، ما ينفعكم في دنياكم الفانية، وما ينفعكم في آخرتكم الباقية، بهذا العلم يوماً بعد يوم والآيات تنزل بالأحكام والتشريع، به تصبحون متفكرين عقلاء، واعين، بصراء، فتعرفون ما ينفعكم في دنياكم الفانية، وما تتطلب هذه الدنيا الفانية، وما ينفعكم في الدار الآخرة الباقية، ومعنى هذا: إذا كانت الدنيا فانية والآخرة باقية فليكن عملكم للباقية أعظم وأكثر من عملكم للفانية، وهذا أمر معقول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ...)

    سبب نزول الآية الكريمة

    السؤال الثالث في هاتين الآيتين: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، هذا السؤال سببه قوله تعالى من سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، هذه دوختهم، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ [النساء:10] يوم القيامة أو بعد الموت سَعِيرًا [النساء:10] ملتهباً؛ من أجل أكلهم أموال اليتامى.

    لما نزلت هذه الآية ارتبك المؤمنون، واضطرب الصالحون، وبعضهم على الفور فصل يتيمه عنه، صارت المرأة تطبخ غداء ليتيمها وغداء لزوجها وأولادها، ولا تخلط طعام يتاماها مع طعام أولادها وزوجها، وفيه مشقة، حتى الماء، هذه القربة فيها ماء اليتامى؛ لأن الماء كان يشترى، ويأتي الخادم به من مكان بعيد، والطعام كالشراب، كاللباس، كالنوم، فوقعوا في ورطة عظيمة أتعبتهم، فالمرأة تطبخ مرتين، ومن أين يوجد القدران والثلاثة؟ كيف نفصل هذا؟ فبكوا لقوة إيمانهم وبصيرتهم، ومن هنا بدأت التساؤلات: كيف نفعل يا رسول الله؟

    وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، أجبهم يا رسولنا، قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، بدلاً من أن تفصلوا طعامهم وشرابهم وكل أمورهم عنكم، وفيه مشقة عظيمة، فالعبرة ما هي بالفصل، العبرة بالمنفعة، فخلطهم أنفع لهم من فصلهم، لم؟ إذا كان طعام الأسرة بسبعة ريالات، واليتيم بريال، فإذا طبخنا له وحده ما ينفع الريال، يحتاج إلى أكثر، فالفلفل والملح والخبز على حسابه، لكن إذا كان مع مجموعتنا، معنا يتيمان وأهل البيت عشرة أنفار، فلأن يكون معنا في القدر أخف عليه.

    معنى قوله تعالى: (وإن تخالطوهم فإخوانكم)

    قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، فهم إخوانكم، والأخ لا يفصل عن أخيه ولا يبتعد عنه، ما فيه غرابة ولا عجب.

    إذاً: المهم أن تحافظوا على أموالهم، فلا تأكلوها بالباطل، وهنا لطف الله بهم ورحمهم بهذه الكلمة، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ [البقرة:220] يا رسولنا: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ [البقرة:220] في الطعام والشراب، والكساء والمنزل؛ فهم إخوانكم، والأخ لا يطلب لأخيه إلا ما ينفعه، ويبعده عما يضره، فلا حرج، إذاً: فاخلطوا طعامكم مع طعامهم؛ لأن ذلك أرفق بكم من حيث التعب والمشقة، وأرفق بالمال لليتامى، فإذا كانت تطبخ طعامين: طعاماً لليتامى وآخر لأولادها وزوجها فهذا العمل شاق أو لا؟ ثم لو بقي اليتيم معهم فسيأكل كفايته بالريال إذا كان الثمن سبعة أو ثمانية، لكن إذا طبخ له طعام خاص فسيكلف طعام الأسرة كاملة، أو يقاربه أو يكاد.

    معنى قوله تعالى: (والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم)

    قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، أي: يا أولياء اليتامى! خالطوا يتامكم، والله عز وجل يعلم المصلح منكم لأموال اليتامى والمفسد لها، فاتقوا الله وخافوه واخشوه، فإياكم والإضرار بيتاماكم.

    وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ [البقرة:220] إعناتكم لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، لو شاء الله مشقتكم وإتعابكم لفعل، ولكن خفف عنكم ذلك، إذ لو فرض فصل أموال اليتامى عن أموال الأوصياء لكانت مشقة لا شك فيها، بدل أن نحرث قطعة أرض وهو معنا وله فيها على قدر نحرث له أرضاً خاصة به، فكيف نستطيع؟ نشتري شاة نحلبها لأهل البيت يشربون، إذاً: هو يحتاج إلى شاة أخرى، فدعه يشرب معنا كأسه، والنفقة جزء من سبعة مثلاً.

    وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ [البقرة:220] قوي قادر لا يمانع فيما يريد، حَكِيمٌ [البقرة:220] في شرعه وتدبيره لعباده، فليتق الله وليحذر.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    هذه ثلاثة أسئلة في آيتين، هكذا يعلمهم يوماً بعد يوم، ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والإسلام وقد اكتمل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، ما ترك شيئاً يحتاج إليه المسلمون إلا بينه، في الأموال في الأعراض، في العقيدة في السلوك في التجارة وفي السياسية، في كل شئون الحياة، فإذا أقبل المؤمنون على كتاب الله وهدي رسوله فلن يضلوا أبداً، ومتى أدبروا وأعرضوا والتفتوا إلى غير الكتاب والسنة أكلتهم الطوام كما هو الواقع.

    اسمعوا الآية الأولى وتأملوا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، هذا الجواب، فمتى حرمت الخمر؟ بعد هذا التساؤل، وفيه إشارة إلى تركهما، لم؟ لأن الضر أكبر من النفع، إذاً: فاتركوهما، فتساءلوا فنزلت آية المائدة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91].

    ثم يقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:219]، لما أمرهم الله بالإنفاق فقال: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:195]، فقالوا: ماذا ننفق؟ وكم ننفق؟ ففسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقول الله تعالى له: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أنفقوا العفو أي: الزائد عن حاجتكم، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى )، والغنى ليس معناه: أن تملك الملايين، الغنى: ما أغناك عن سؤال الناس، ما سد حاجتك وحاجة أهل بيتك.

    وقوله تعالى في الآية الثانية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، كيف نتعامل معهم؟ ماذا نصنع؟ وقد هددهم الرحمن بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10]، أي: بغير حق، فما المصير؟ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، اضطربت المدينة وأهلها: ماذا نصنع؟ فنزل قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، أما فصل طعامهم وشرابهم ومنامهم، فكل هذا فيه ضرر من جهتين: من جهة: أنه مشقة كبيرة على المرأة التي تقوم بهذا، ومن جهة أخرى: أننا إذا طبخنا لهم طعاماً خاصاً فإنه يكلفهم أكثر من أن يكونوا مختلطين مع الأسرة بما فيها، لكن راعوا دائماً الصالح لليتامى.

    وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، أي: ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم، أي: أوقعكم في العنت، والعنت: المشقة الضارة القوية.

    إذاً: فسلموا لله قضاءه وحكمه وتدبيره فإنه (عَزِيزٌ) لا يمانع، إذا أراد الشيء كان، فلا تخرجوا عن طاعته، (حَكِيمٌ) يضع كل شيء في موضعه، الذي يتهيأ للصلاح ويطلبه يصلح، والذي يتهيأ للفساد ويريده يتركه وفساده حتى يهلك.

    أعيد تلاوة الآية مرة أخيرة، وسنقرأ شرحها إن شاء الله زيادة في الفهم.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، وهو ما زاد عن الحاجة، كَذَلِكَ [البقرة:219]، أي: كهذا التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219] في أمور دينكم ودنياكم، فتعملوا لدنياكم ولآخرتكم بحسب حالهما، الدنيا فانية والآخرة باقية، فلو أنفقنا نصف ما نملك على الآخرة أفضل من أن ننفق نصفه على الدنيا الفانية.

    وقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، لا فصلهم، القضية قضية الحفاظ على أموالهم وتنميتها لهم، حتى إذا بلغوا رشدهم وامتحنوا ونجحوا يجدون أموالهم وافية محفوظة لهم، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، لا حرج، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]. ‏

    ما يصنعه الوصي العاجز لتنمية مال اليتيم

    وقد يقول قائل: إذا كنت عاجزاً ولا أستطيع أن أنمي مال اليتيم وهو خمسة آلاف ريال، فماذا نصنع؟

    الجواب: تأخذ من تلك الخمسة آلاف على قدر حاجة اليتيم، وإنما إذا كان المال أكثر من خمسة آلاف فهو صالح للعمل، فعمر كان يقول: اتجروا في أموال يتاماكم حتى لا تأكلها الزكاة، فهذه الخمسة الآلاف لا تضعها في بنك ربا تنميها لليتامى فتحرقهم وتحرق نفسك، انظر إلى تاجر صادق أمين كما كنا قبل، وقل: هذه خمسة آلاف اتجر بها وأعطنا ربحها ليتيمنا، وفي كل شهر توفر له شيئاً، وبعد أربع سنين بلغ هذا اليتيم فتعطيه ماله هكذا.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ معنى الآيتين:

    كان العرب في الجاهلية ]، ما معنى: في الجاهلية؟ في عهد الجاهلية، والجاهلية هي ظلمة الكفر والشرك والجهل، [ كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور، ويقامرون ]، يلعبون القمار بأي شكل كان، [ وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر، إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة ]، بم بدأ الإسلام؟ بالإيمان بالله واليوم الآخر، عشر سنين لا عبادة، وفي السنة العاشرة فرض الله الصلوات الخمس.

    قال: [ ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم والعديد من أصحابه ] من مكة إلى المدينة، [ وأصبحت المدينة تمثل مجتمعاً إسلامياً ]؛ لكثرة المسلمين فيها، [ وأخذت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً، فحدث يوماً أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان ]، سكران، عقله ملتبس عليه مغطى، [ فخلط في القراءة ] فيما يقرأه، وقدم وأخر، بل قال كلمة أخرى، [ فنزلت آية النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة، وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فترك الكثير كلاً من شرب الخمر ولعب القمار؛ لهذه الآية الكريمة، وبقي آخرون على ما كانوا عليه، فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ]، أي: لقلوبنا. [ فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] ]، هذه الآية هل فهمها الذين يلعبون الكيرم ويقضون الساعة والساعتين ويقولون: نحن ما بيننا ميسر ولا مال، وإنما للتسلية؟ نحن نقول: وإن كنتم لا تتقاضون شيئاً، بل لو كان هناك من يعطيكم المال لتلعبوا فوالله! لا يحل، لم؟ لقوله تعالى في بيان العلة: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ [المائدة:91] من لعبكم وقماركم وشربكم الخمر، يريد ماذا؟ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:91]، هل يصح أن يتعادى المؤمنون، أو يبغض بعضهم بعضاً؟ الشيطان هنا وجد طريقاً لإيقاعكم في العداوة والبغضاء، وبذلك يفرح، مزق شملكم واجتماعكم، وقال تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91]، فأي عمل يصد المؤمن عن ذكر الله ليقضي الساعة والساعتين لا يذكر الله فهو حرام، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91] أيضاً، وأخيراً: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قالوا: انتهينا ربنا.

    قال: [ فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فترك الكثير كلاً من شرب الخمر ولعب القمار؛ لهذه الآية الكريمة، وبقي آخرون ] أي: يشربون ويعلبون، [ فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، فقال عمر : انتهينا ربنا، وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريماً قطعياً كاملاً، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم حد الخمر وهو الجلد، وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال: ( مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه )، في ثلاثة نفر وهم: العاق لوالديه ] لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه، [ ومسبل إزاره ] للخيلاء والفخر لا يكلمه الله ولا يزكيه، ومدمن شرب الخمر المواصل لها.

    [ وقوله تعالى: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، فهو كما قال تعالى، فقد بين في سورة المائدة منشأ الإثم، وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين، والإعراض عن ذكر الله، وتضييع الصلاة؟ حقاً إن فيهما لإثماً كبيراً، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة، ومنها: الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب، وانتفاع بعض الفقراء، إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.

    أما قوله تعالى في الآية: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:215]، فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:195]، فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله، فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أي: ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم، ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى )، رواه البخاري .

    وقوله: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220]، أي: مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة، فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك. هذا ما تضمنته الآية الأولى.

    أما الآية الثانية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد، وفصل من كان في بيته يتيم يكفله، فصل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة، وتساءلوا عن المخرج، فنزلت هذه الآية، وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه، فقال تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ [البقرة:220] مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح، ودفع الحرج في الخلط فقال تعالى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، والأخ يخالط أخاه في ماله، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له؛ ليكونوا دائماً على حذر، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده، ثم زاد الله في منته عليهم برفع الحرج في المخالطة فقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، أي: أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم.

    وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220]، أي: غالب على ما يريده، حكيم فيما يفعله ويقضي به ].

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755789457