إسلام ويب

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - التلبية وصفتها ووقتهاللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشرع للحاج والمعتمر إذا بلغ الميقات أن يغتسل ويتطيب ثم يلبس لباس الإحرام، وإن وافق صلاة فريضة صلاها، فإذا ركب دابته واستوت به لبى بحجه أو عمرته، والرجل يرفع بها صوته دون المرأة، ولا تنقطع التلبية حتى يشرع في أعمال الحج والعمرة، ولا يمنع منها حائض ولا نفساء ولا جنب ولا من دونهم من أصحاب الحدث.

    1.   

    مقدمة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    ثم أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

    أما بعد:

    فالذي يريد أداء النسك يجب عليه أن يعقد نية خالصة لله عز وجل؛ لأن الإخلاص سر قبول العمل، كما أن استقامة العمل هي سر قبوله كذلك، فإذا كان العمل صالحاً على نهج النبوة فإنه لا يقبل حتى يكون خالصاً لله عز وجل، وإذا كان خالصاً لله وليس على نهج النبوة فإنه لا يقبل حتى يكون خالصاً وسائراً على منهاج النبوة.

    فالذي يريد أن يؤدي نسكاً لله عز وجل أو أي عبادة لله لابد أن ينوي نية صالحة صادقة خالصة؛ لأن العبادة مصروفة لله عز وجل لا لأحد سواه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يسأل ربه الإخلاص في أقواله وأفعاله، وفي الحج كان يقول: (اللهم إني أسألك حجة لا رياء فيها ولا سمعة).

    وقال عليه الصلاة والسلام: (من راءى راءى الله به -أي: فضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة- ومن سمع سمع الله به)، وهذا في جميع الأعمال التي هي مصروفة لله عز وجل، فإذا صرفها العبد لغير الله حوسب عليها وفضح على رءوس الأشهاد.

    ثم إذا جمع نية صالحة يستحب له أن يخرج من بيته لأداء النسك يوم الخميس، وبذلك جاءت الرواية الصحيحة عند البخاري وغيره: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا سافر خرج يوم الخميس)، والحج سفر؛ بل هو من أعظم السفر.

    وقرر ذلك الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله قال: يستحب السفر للحج يوم الخميس، إذا كان في إمكانه، وإلا ففي أي يوم يجوز أن يخرج للحج.

    ثم لابد أن يعرف الحاج ما يحل له وما يحرم، وما يبطل نسكه وما يفسده، وما لو قصر في واجب وجب عليه الدم، لابد أن يعرف كل ذلك.

    وفي الدروس الماضية علمنا أن الحاج إذا أخلص النية لله ثم بدأ في السفر وبلغ الميقات المكاني وأحرم بالحج أو بالعمرة يحرم عليه الطيب بعد ذلك، سواء كان في ثوبه أو في بدنه كما يحرم عليه الجماع، وأن الجماع يفسد ويبطل هذا النسك، ويحرم عليه لبس المخيط على قدر العضو سواء كان قميصاً أو بنطالاً أو سروالاً، إلا ألا يجد إزاراً فيلبس السروال حتى يتمكن من لبس الإزار، ولا يلبس البرنس ولا العمامة.

    والمرأة إنما تحرم في ثيابها التي تلبسها، غير أنه يحرم عليها أن تنتقب في حال إحرامها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنتقب المرأة المحرمة)، وهذا نهي أفاد التحريم.

    وقول عائشة رضي الله عنها: كنا نكشف وجوهنا حتى إذا مر بنا الركبان من الرجال أسدلنا على وجوهنا، فالذي يباح للمرأة في إحرامها الإسدال لا النقاب، والإسدال: هو أن تطرح المرأة على رأسها شيئاً من قماش، ولا تعصبه عصباً، ولا تربطه كما تربط النقاب، وتكشف وجهها، فإذا أقبل إليها الرجال أو كانت في جمع فيهم رجال فيسن لها أن تطرح هذا القماش على وجهها دون أن تشده أو أن تربطه.

    وتكلمنا عن الميقات، والميقات نوعان: زمني، وهو للعمرة في جميع أيام السنة، وللحج في أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، كما اتفقنا على ذلك وهذا مذهب الجماهير، وبعضهم قال: بل ذو الحجة شهر للحج كله من أوله إلى آخره، وبينا تفصيل ذلك في الدرس الماضي.

    أما المواقيت المكانية: فهي: يلملم لأهل اليمن، وذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام والمغرب، وذات عرق لأهل العراق، وقرن المنازل لأهل نجد، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة، وبينا أنه لا يحل لأحد يريد النسك أن يعبر هذه المواقيت دون أن يحرم، فإذا جاوزها بغير إحرام اختلف أهل العلم في كفارة ذلك: هل يلزمه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، أم يكفيه أن يتوب إلى الله عز وجل ويفدي بدمٍ يعني: يذبح شاة لفقراء الحرم، ويستمر في إحرامه وأداء نسكه؟

    1.   

    باب التلبية وصفتها ووقتها

    والترتيب البديع الذي سار عليه الإمام مسلم ، هو أنه تكلم أولاً فيما يحل وما يحرم للمحرم قبل أن يخرج من بيته، ثم إذا خرج ذهب إلى الميقات، فتكلم عن الميقات بعد أن تكلم عن المحرمات والمنهيات، ثم إذا ذهب المتنسك إلى الميقات وقف عنده حتى يحرم ويلبي؛ لأن الإحرام والتلبية قرينان، ولذلك أعقب الكلام عن المواقيت بكلام عما يلزم الحاج منذ أن يحرم من الميقات، ولذلك قال: باب التلبية وصفتها ووقتها.

    والتلبية تبدأ من الميقات، فلازلنا مع الإمام مسلم وكذا الإمام النووي من الدرس الماضي في الميقات، وما الذي يلزمني -كرجل أراد نسكاً أو امرأة- في الميقات، فقال: التلبية بعد الإحرام: فالتلبية ليست قبل الإحرام وإنما هي بعد الإحرام، والإحرام لا يكون إلا من الميقات، فإذا أحرمت وأنت في الميقات المكاني، فإنما تعقب الإحرام التلبية، ولذلك لم يتكلم هنا عن الإحرام على افتراض أنه أمر بدهي معروف، وأن التلبية لا تكون إلا من بعده.

    شرح حديث ابن عمر في صفة تلبية النبي

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ]، النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه أنه لبى بغير هذه الكلمات، فمن أراد أن يتمسك بهذا فلا شك أنه تمسك بالأصل، وهو قوله المرفوع إليه عليه الصلاة والسلام وفعله كذلك؛ لأنه أمر بذلك.

    قال نافع : [ وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها -أي: يزيد في التلبية- وهي قوله: (لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل) ]، وهذا مسنون وجائز، فإن فعلته فهو جائز مشروع، ولا حرج عليك ألا تفعله، وتتمسك بتلبية النبي عليه الصلاة والسلام، ولا بأس أن تجمع هذه التلبية إلى تلبيته عليه الصلاة والسلام.

    قال: [ حدثنا محمد بن عباد -وهو ابن الزبرقان المكي نزيل بغداد- قال: حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل المدني أبو إسماعيل وأصله من الكوفة- عن موسى بن عقبة -وهو الإمام الكبير الفقيه بالمغازي صاحب السير، وهو أسدي مولى آل الزبير- عن سالم بن عبد الله بن عمر -وهو سالم المدني، ابن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- ونافع مولى عبد الله بن عمر وحمزة بن عبد الله ] أي: حمزة بن عبد الله بن عمر.

    إذاً: سالم وأخوه حمزة والمولى نافع جميعاً يروون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

    قال: [ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة) ]، يعني: قامت ونهضت من بروكها، وذلك عند مسجد ذي الحليفة، ميقات أهل المدينة، فهذا يدلنا على أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يحرم ولا يلبي إلا بعد أن تقوم به راحلته وتستوي تماماً، حينئذٍ يقول: (لبيك اللهم حجة، لبيك اللهم عمرة، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)؛ وهذا يعمل به كثير من الناس، وبه قال أهل العلم، لكن الراجح ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يحرم بالنسك إلا بعد أن يدخل المسجد فيصلي فيه ثم ينطلق فيركب الراحلة من أمام المسجد ثم يحرم ويلبي بعد ذلك.

    كثير من الناس يدخلون مسجد ذي الحليفة أو في أي مسجد من مساجد المواقيت فيغتسلون ثم يصلون ركعتين، أو يصلون الفرض إذا وافق فرضاً، ثم بعد التسليم مباشرة يهلون ويحرمون فيقولون: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجة، وهذا وإن كان جائزاً لكنه خلاف الأولى، والأولى هو فعله عليه الصلاة والسلام، حيث كان يصلي ثم يخرج من المسجد ويركب الراحلة ثم يأمرها بالقيام فتقوم، حتى إذا استوت قال: لبيك اللهم عمرة أو حجة، أو يجمع بينهما؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع مرات، وحج مرة واحدة، وكان حجه قراناً يعني: قرن بين العمرة والحج، وساق الهدي من ميقات ذي الحليفة وأدخله معه منى.

    قال: [ (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل -يعني: بعد أن تستوي تماماً يحرم- فقال: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).

    قال: [ قالوا -أي: حمزة ونافع وسالم - وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

    يعني: هذه الكلمات الماضية أو السالفة هي التي لبى بها النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال: [ قال نافع : وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد مع هذه الكلمات: لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.

    وحدثنا محمد بن المثنى وهو العنزي أبو موسى البصري المعروف بـالزمن، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وهو الأنصاري عن عبيد الله وهو العمري أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تلقفت ] -يعني: أخذت الشيء بسرعة-. التلقف بخلاف الأخذ، التلقف فيه شيء من الخطف والسرعة.

    قال: [ تلقفت التلبية من في رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أخذتها أخذاً سريعاً- فذكر بمثل حديثهم.

    وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري قال: أخبرنا ابن وهب وهو عبد الله أخبرني يونس وهو ابن يزيد الأيلي عن ابن شهاب الزهري قال: فإن سالم بن عبد الله بن عمر أخبرني عن أبيه رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) ]، يعني: يحرم وشعره مجموع بعضه إلى بعض، الشعر الملبد: هو الذي ضم بعضه إلى بعض بمادة تلصق الشعر إلى بعضه، مثل الفازلين مثلاً، وكانوا يستعملون في زمن النبوة الخطمي أو الصمغ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن دخل المسجد وصلى دهن شعره قبل أن يركب راحلته؛ ثم ركب وشعره ملبد.

    ولذلك قال النووي: (فيه استحباب تلبيد الرأس قبل الإحرام، أما بعد الإحرام فلا يجوز للمحرم أن يلبد شعره، وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا، وهو موافق للحديث الآخر في الذي خر عن بعيره: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبداً)، وفي رواية: (يبعث ملبياً)، فقيل: إن الروايتين سواء -يعني: كلاهما صحيحتان- وقيل: إن ملبداً تصحيف ملبياً.

    قال العلماء: التلبيد هو ظفر شعر الرأس)، يعني: مسح شعر الرأس بمادة الصمغ أو بمادة الخطمي وما يشبههما، والصمغ ليس هو الذي نلصق به الكتب ونلصق به الأشياء، الصمغ مادة كالفازلين.

    قال: (مما يضم الشعر ويلزق بعضه ببعض ويمنعه التمعط والقمل فيستحب؛ لكونه أرفق به).

    قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لا يزيد على هؤلاء الكلمات). يعني: هذه كانت تلبيته لا يزيد عليها عليه الصلاة والسلام.

    وإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات).

    كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين، فإما أن تكون هاتان الركعتان سنة الوضوء أو تحية المسجد أو عموم النافلة، والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه صلى ركعتي الصبح ثم أحرم بعدها، ولذلك أهل العلم قالوا: الصلاة التي تسبق الإحرام والإهلال، إما أن يدرك من أراد النسك الناس في مسجد الميقات يصلون الفرض فيصلي معهم صلاة الفرض سواء كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ويهل من بعدها، ولا يصلي بعد الفرض شيئاً إذا كان مسافراً، أما المقيم فله أن يتنفل، ويأتي بالإحرام بعد ذلك، وإذا لم يدرك الفرض معهم وصلى فرضاً قد فاته فيحرم من بعده كما لو صلى مع الإمام، وإذا دخل ولم يدرك الفريضة مع الإمام وقد صلاها في مكان آخر أو في مسجد آخر من مساجد المواقيت فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد ما لم يكن وقت كراهة، ويُحرِم من بعدهما، وإذا دخل مسجد الميقات في وقت الكراهة فقد اختلف أهل العلم في ذلك.

    فقال بعضهم: لا يصلي ويحرم من الميقات، وقال البعض الآخر: بل يصلي، لأن هذه الصلاة ذات سبب، وسببها: إما أن تكون هاتان الركعتان تحية المسجد، وإما سنة الوضوء، وقال بعضهم: هي كذلك سنة الإحرام، لكن الصحيح: أن الإحرام لا سنة له ولا صلاة له.

    وهنا وقفتان: قوله: (ثم إذا استوت به الناقة قائمة)، يعني: لا يهل حتى يركب ناقته، يعني: لا تحرم بالنسك إلا إذا دخلت المسجد وصليت فيه ركعتين، أو صليت فيه الفرض مع الإمام، ثم انطلقت وركبت دابتك أو السيارة أو الباص أو غير ذلك، فحينئذٍ إذا استوت بك هذه المواصلة أو هذه الدابة تهل من فوقها أو تهل منها، هذا لمن كان يركب البحر أو البر، أما من كان يركب الجو فإنه يكفيه أن يلبس ملابس الإحرام من مطار الإقلاع فعندما يقترب من الميقات أو قبله بشيء يسير ينبه المسئول عن ذلك على متن الطائرة فيقول مثلاً: بعد أربع دقائق.. عشر دقائق.. بعد ربع ساعة سندخل الميقات، ثم لا ينبه بعد ذلك، وانتبه إلى هذا؛ لأن كثيراً من الإخوة يفاجأ بأن الطائرة نزلت مطار جدة، والرجل منذ نصف ساعة قال: بعد ربع ساعة تماماً سنكون فوق رابغ ميقات أهل الشام، هو لا ينبه بعد ذلك أنه بمحاذاة الميقات، لا ينبه مرة أخرى، إنما يفعل ذلك مرة واحدة، يقول: بعد ربع ساعة.. عشر دقائق.. خمس دقائق سنكون بمحاذاة الميقات، فأنت تعد ذلك على ساعتك فقبلها بدقيقة واحدة أو دقيقتين تهل وتحرم، أي: تذكر النسك: لبيك اللهم عمرة، ثم تبدأ التلبية من هذا المكان.

    أما أن تنتظر أنه ينبه عليك مرة ثانية أو ثالثة فإنه سيكون قد تجاوز الميقات وتدخل في الخلاف الذي ذكرناه آنفاً.

    قال: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة)، ومن ذهب إلى مسجد ذي الحليفة يعلم أن هناك أرض صحراء جرداء كبيرة جداً وعظيمة جداً قبل المسجد بيسير، وعلى عادة أهل البدع في كل زمان ومكان أنهم يلبسون على الناس أمر دينهم، فأفتى أهل البدع: بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يهل من هذه البيداء.

    والصواب: أن النبي عليه الصلاة والسلام ما أهل قط إلا من عند باب مسجد ذي الحليفة لا من الأرض التي بجوار المسجد، ولذلك يسن لمن ذهب إلى هناك أن يوقف دابته إذا كان ذلك في إمكانه أمام باب المسجد حتى إذا فرغ من الصلاة وانطلق من المسجد ركبها أمام باب المسجد وأهل من هناك، وهكذا في كل المواقيت، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يهل إلا من ذي الحليفة.

    حكم الزيادة في التلبية التي أثبتها ابن عمر عن أبيه

    وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.

    إذاً: هذه الزيادة التي زيدت في التلبية، إنما هي من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر هذا من الخلفاء الراشدين، بل هو أعظم رجل في الدولة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فهو الرجل الثالث في الأمة، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين، فـعمر لم يكن قد ابتدع في دين الله عز وجل، فإن العبادات توقيفية، وهذا وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر ممن أمرنا بالاستنان بسنته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).

    أهل العلم يقولون: الاستنان بسنة الخلفاء الراشدين جميعاً لازمة كلزوم الكتاب والسنة، بمعنى: لو أجمع الخلفاء الأربعة على أمر لصار أمراً لازماً واجباً في حق الأمة كأي نص في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا في حال اجتماع الخلفاء الراشدين على أمر، أما إذا انفرد أحدهم بأمر يتعلق بدين الله عز وجل فإن لم يعلم له مخالف ولم ينكر عليه أحد من الصحابة سواء كان من الخلفاء أو من غيرهم لكان كالإجماع، ولم نجد من الصحابة من خالف عمر بن الخطاب أو أنكر عليه في هذه الزيادة، بل وجدنا من يوافقه على ذلك وهو ولده عبد الله، وعبد الله من صغار الصحابة رضي الله عنه، لكنه من أشد الصحابة التزاماً واتباعاً للسنة، ولولا علمه بجواز هذه الزيادة وأنها مستحبة؛ لأنها صادرة من خليفة من الخلفاء الراشدين المهديين المرضيين عند ربهم المبشرين بالجنة، ولا مخالف له من كبار الصحابة فكان كالإجماع.

    فلما علم عبد الله بن عمر أن هذا دين الله عز وجل التزمه وزاد فيه، ولو وقع في قلب عبد الله بن عمر أدنى شك أن هذه الزيادة لا تجوز، وأنها ليست من قول النبي عليه الصلاة والسلام ما قالها، حتى ولو كان القائل بها أباه.

    و عمر بن الخطاب كان يهل بإهلال الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يزيد هذه الزيادة ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك لبيك والرغباء إليك والعمل.

    شرح حديث ابن عباس في تلبية المشركين في الجاهلية

    قال: [ وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا النضر بن محمد اليمامي وهو أبو محمد مولى بني أمية حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا أبو زميل وهو سماك بن الوليد الحنفي اليمامي ثم الكوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يحجون ويعتمرون ]، لكن على نظام الوثنية، فكانوا يقولون في طوافهم: لبيك لا شريك لك، ولكنهم كانوا بعد ذلك يشركون في تلبيتهم فيقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يسمع تلبيتهم، فكان إذا سمع قولهم: لبيك لا شريك لك، كان يستوقفهم ويقول: (ويلكم قد قد)، يعني: حسبكم هذا، ولا تزيدوا عليه، كان يأمرهم بأن يقفوا عند التوحيد، وينهاهم عما دون التوحيد وهو الشرك؛ لأنهم يقولون: لبيك لا شريك لك، وهذا كلام جميل وعظيم ويتفقون معنا فيه، أما زيادتهم الشركية فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، يعني: لبيك يا رب ومن اتخذناهم شركاء ومن اتخذناهم آلهة، لأن هذه الآلهة شركاء لك وأنت تملكهم وما يملكون، لكنه في عمومه شرك؛ لأن التلبية من أعظم أعمال الحج، فلابد من صرفها لله عز وجل فحسب، وإذا صرفت لغيره من المخلوقات فهو من أعظم الشرك.

    ولذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعهم يقولون: لبيك لا شريك لك، يقول: ويلكم قد قد)، يعني: حسبكم ويكفيكم هذا ولا تزيدوا عليه من قولكم الشركي: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.

    مفهوم تثنية (لبيك) في التلبية

    قال القاضي : قال المازري: التلبية مثناة للتكثير والمبالغة، يعني: لبيك اللهم لبيك، وثنى لبيك للتكثير والمبالغة في الاستجابة والطاعة والانقياد والذل والخضوع لله عز وجل، فلبيك الثانية ليست تأكيداً للأولى؛ لأنه أتى منقاداً ومذعناً خاضعاً ذليلاً لله عز وجل فلا يحتاج إلى تأكيد، وإنما التكرار هنا والتثنية لأجل التكثير والمبالغة.

    ومعناه: إجابة بعد إجابة، وأول من لبى أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، لما أمره الله عز وجل بقوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، قال: لبيك اللهم لبيك، فهو أول من لبى لما بنى قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل؛ حيث أمر بعد هذا البناء بأن ينادي في الناس ويعلمهم في هذه الأرض الصحراء الجرداء، ومع هذا فإن الله تبارك وتعالى بلغ صوته ونداءه وأذانه للعالمين جميعاً في ذلك الزمن.

    قال: إجابة بعد إجابة، وهذا يوافق ما ذكرناه عن إبراهيم لما أمر بالأذان أطاع وقال: لبيك، ولذلك يستحب لمن نودي عليه أن يقول: لبيك فلان، وليس في هذا نوع تحرج، فإذا نادى عليك منادٍ لا بأس أن تقول: لبيك فلان، وهو أحسن من قولك: نعم، وأحسن من قولك: أجبتك، وإن كان كل هذا جائز.

    خطأ النووي في تأويله لليد في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)

    قال: معنى لبيك: إجابة بعد إجابة ولزوم لطاعتك، فتثنى للتوكيد لا تثنية حقيقية، بمنزلة قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64].

    قال الإمام النووي : أي: نعمتاه، وأنتم تعلمون في أثناء دروسنا لكتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي أن اليد الثابتة لله عز وجل لا يجوز صرفها عن ظاهرها، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، لا يجوز صرف صفات الله عز وجل عن حقيقتها المرادة لله عز وجل اللائقة بعظمته وجلاله، فإذا قال سبحانه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، إذاً: اليد هنا محمولة على حقيقتها ولا يجوز صرفها إلى غيرها من المعاني.

    فاليد تأتي في لغة العرب أحياناً بمعنى: النعمة، تقول: فلان له يد على فلان، يعني: له فضل ومنة ونعمة.. وغير ذلك، لكن السياق هو الذي يحكم القضية، هذا فيما يتعلق بالخلق.

    أما إذا كان الأمر متعلقاً بالخالق تبارك وتعالى فإن الصفات الواردة في الكتاب والسنة لابد من حملها على حقيقتها على المعنى اللائق بالله عز وجل.

    ولذلك أخطأ النووي رحمه الله في تأويل هذه الآية، قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، أي: نعمتاه، مع أن الله تبارك وتعالى نعمه كثيرة لا يمكن أن نحصرها، قال الله تعالى عنها: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ولم يقل نعمَ الله؛ لأنها اسم جنس لجميع النعم.

    فأراد الله عز وجل بهذه الآية بيان كثرة نعمه على الخلق، وأن المحصي لها والعاد لها إذا أراد أن يعدها فإنه لا يقدر على ذلك، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يحصيها مهما بلغ عقله وذكاؤه.

    قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ، على تأويل اليد بالنعمة هنا، ونعم الله تعالى لا تحصى.

    وقال يونس بن حبيب البصري : لبيك اسم مفرد لا مثنى، قال: وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدي، وعلى مذهب سيبويه : أنه مثنى بدليل قلبها ياء مع المظهر، وأكثر الناس على ما قاله سيبويه.

    معنى التلبية

    واختلف أهل العلم في معنى (لبيك) فقيل معناها: اتجاهي وقصدي إليك، يعني: أنا يا رب أقصدك بهذا النسك، أي: أتيت إليك قاصداً موجهاً ومولياً وجهي إليك.

    (لبيك اللهم لبيك) أي: قصدتك يا رب بهذا النسك، مأخوذ من قولهم: داري تَلُبُّ دارك أي: تواجهها.

    وقيل معناها: محبتي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه.

    وقيل معنى (لبيك اللهم) أي: إخلاصي إليك يا رب، مأخوذ من قولهم: حب لباب إذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لب الطعام ولبابه، أي: قلبه وإخلاصه، ومحل الإخلاص هو القلب.

    وقيل معناها: أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان وألب إذا أقام فيه.

    فهذا الرجل الذي أراد النسك قائم من أول الإحرام حتى يتحلل على طاعة الله عز وجل، ولذلك ينهى المحرم عن التلبس بالمعاصي؛ لأنه القائل: لبيك اللهم لبيك، يعني: أنا مقيم على طاعتك، فالذي يقيم على الطاعة كيف تأتي منه المعصية وكيف يتلبس بالمعصية؟ وهو الذي وعد ربه بأنه قائم على طاعته، يعني: لا يأتي إلا طاعة ولا يفعل إلا معروفاً، فكيف تأتي منه المعصية في حال تلبيته وإحرامه؟ وهذا يبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من حجه كيوم ولدته أمه)، والرفث والفسوق، إنما هما خروج عن حد التلبية، وخروج عن معنى التلبية.

    والله تعالى يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، الرفث: هو كل ما يتعلق بالكلام بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بالجماع أو الفراش أو التلويح والتلميح بالخطبة.. وغير ذلك.

    وَلا فُسُوقَ ، يشمل المعاصي كبيرها وصغيرها.

    وَلا جِدَالَ ، أي: لا جدال في الباطل وبالباطل، أما الجدال بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة وبيان الحق إلى الخلق فكل هذا مباح في الحج، والذي نهينا عنه إنما هو الجدال بالباطل، أن يكون الإنسان مخاصماً لحوحاً مجادلاً بعلم وبغير علم، فهذا بلا شك ليس أمراً ممدوحاً ولا محموداً عموماً، وهو أكثر ذماً في الحج وفي حال التلبس بالإحرام، ولذلك فإن جهلاء مكة يستغلون هذا النص فيؤجرون بيوتهم ومنازلهم ومساكنهم للحجاج والمعتمرين وهم وفد الله عز وجل، فيقول المؤجر: إن هذه الغرفة لمدة عشرة أيام بخمسين ألف ريال أو بثلاثين ألف ريال، يعني الليلة بثلاثة آلاف ريال، مع أن أهل العلم لهم كلام في غاية الجودة والنفاسة، لكن من ذا الذي يستطيع أن يجهر به فضلاً أن يطالب به، فأهل العلم لهم كلام أن بيوت مكة لا تؤجر للحجيج، والحجيج إنما يدخلون هذه البيوت ويسكنونها بغير أجر، لكن من ذا الذي يصنع هذا الآن؟! فالقصور تبنى حول الحرم وتظل طيلة العام فارغة لا أحد يدخلها، وإنما يكتفون بتأجيرها لشهرين في العام؛ شهر رمضان وشهر ذي الحجة، وهذه البيوت إنما تحصل ثمنها على مدار عامين أو ثلاثة فقط، والباقي بعد ذلك ربح فاحش وعظيم، تصور أن الواحد يشقى في أداء النسك عدة مرات، يشقى في الحصول على تأشيرة، ثم يشقى في دفع ثمن التأشيرة مع أنها مجاناً، لكنها أحياناً تصل إلى بضعة آلاف وهي تصرف مجاناً، ويطبع في جواز السفر هذه التأشيرة منحت مجاناً، وهو كذب، إنما الذي أخذ منك الجواز حتى رجع إليك، ما وقع هذا الجواز في يد أحد إلا وأخذ مالاً، ابتداءً من صاحب المكتب وانتهاءً بالقنصل، هذه لم تمنح مجاناً، وإنما منحت بالرشاوي في الأغلب الأعم، إلا أن يكون هناك إنسان له وجاهة أو عنده مصلحة.. أو غير ذلك، فإنها تمنح له على مضض وبشق الأنفس مجاناً.

    ثم تشقى مرة ثانية في السفر، وتشقى بالشيكات المزعومة، وهي كضرائب الحدود والمكوس، ثم تشقى بعد ذلك هناك بأنك تفاجأ أن كل ما مضى شيء وأنك توفر لك مسكناً أقل من المتواضع شيء آخر، وإن كان هذا كل ما يملك من الدنيا، على اعتبار أنه وصل بيت الله الحرام، ويتفاجأ بأن الليل لو دخل عليه هو يريد النوم والاستراحة فلا يستطيعه من الضجيج والزحام القاتل الذي في الحرم بحيث لا يجد الشخص له مكاناً ليقف فيه، الواحد لا يجد له ثلاثين سنتيمتر في ثلاثين سنتيمتر يقف فيه، ولابد من النوم، وإذا كنت لا تستطيع أن تقف في الحرم فكيف ستنام؟! لابد من مكان تنام فيه، وإلا ستنام في الشارع، الواحد عندما يذهب إلى الحج يصرف دم قلبه، فيصرف ثلاثين أو أربعين ألف جنيه لكي يحج، وهذا من العسر الشديد والعراقيل التي وضعت أمام من أراد أن يؤدي منسك الحج لله عز وجل، فكلها رحلة فيها شقاء وعذاب وضنك وصعوبات متعاقبة ومتلاحقة، ولذلك هذا يشعرنا بعظمة قوله عليه الصلاة والسلام: (رجع من حجه كيوم ولدته أمه) لأن هذه هي الهدية الكبرى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فهلموا نستأنف العمل)، إذا كان قيمة الحج في أنك ترجع كيوم ولدتك أمك، فالإنسان بعد أداء هذا النسك يراجع نفسه، ويقف مع نفسه موقفاً جاداً في أقواله وأفعاله وحركاته ونياته وكل شيء يمكن أن يصدر منه مع نفسه.. مع ربه.. مع الآخرين، فيبدأ يحدث نفسه أولاً بأول، ويعتبر أن الذي فات ربنا تبارك وتعالى غفره بسبب هذه الفريضة.

    ولا يضمن أن يمكن من أداء فريضة أخرى، فإنما يحاسب نفسه على النقير والقطمير بعد أداء هذه الفريضة خشية ألا يتمكن من الحج مرة أخرى، وأن يأتي بعد حجه ما يستوجب دخوله النار.

    فالحج الأول إنما نفعه لما مضى، ولكن هذه الذنوب التي ارتكبها بعد الحج لا يكفرها له عمل صالح، أو أن عمله الصالح لا يرقى لمغفرة هذا الذنب فيكون قد أتى ما يستوجب دخوله النار.

    ومعنى لبيك: أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان وألب إذا أقام فيه، وبهذا قال الخليل .

    وقال القاضي : قيل هي الإجابة؛ لقوله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27].

    وقال إبراهيم الحربي وهو قرين الإمام أحمد بن حنبل: قرباً منك وطاعة؛ لأن المرء يقترب من ربه ويبتعد حسب طاعته ومعصيته، فالعاصي بعيد عن الله عز وجل، أما الله عز وجل فإنه أقرب إليك من حبل الوريد الذي هو شريان الحياة فيك، والله تبارك وتعالى لا يوصف بالقرب والبعد من عباده إلا على قدر طاعتهم وإخلاصهم.

    أما العبد فإنما يقترب من ربه كلما أطاعه، ويبتعد عن ربه كلما عصاه، وهذا هو نهج أهل السنة والجماعة في الطاعات والمعاصي، أن الطاعات مقربة لله عز وجل، والمعاصي مبعدة عن الله عز وجل.

    ولذلك قالوا: الإيمان يزيد وينقص.. يزيد بالطاعة، وإذا كنت على طاعة شعرت بأنك قريب من الله عز وجل، وإذا كنت في معصية متلبساً بها أيقنت أنك بعيد كل البعد عن الله عز وجل، مع أن الله تعالى معك، وأنت في حال عصيانك، ومعك وأنت في حال طاعتك، ولا يغيب عنه شيء من فعالك، سواء كانت هذه الفعال طاعات أم معاصي.

    قال: والإلباب هو القرب، وقال أبو نصر : معناه: أنا ملبٍ بين يديك، أي: خاضع ذليل خاشع بين يديك.

    قوله: (لبيك إن الحمد والنعمة لك)، فالحمد لا يجوز صرفه لغير الله عز وجل، بخلاف الشكر فيجوز صرفه لله ولغير الله، والحمد أخص من الشكر، ولذلك كل حمد شكر، وليس كل شكر حمداً، فالحمد لا يجوز صرفه إلا لله عز وجل، والحمد من أعظم القربات والعبادات.

    (والنعمة لك) أي: والنعم منك، يعني: لا يُحمد إلا أنت، سواء كان الحمد في السراء أو الضراء، والنعم كلها منك وأنت مستحق للحمد على نعمائك التي لا تحصى ولا تعد، ومن هذه النعم أن مكنت عبدك فلاناً من طاعتك ومن أداء منسك الحج، فهذا إقرار واعتراف بين يدي الله عز وجل في حال التلبس بالنعمة وهي التمكن من أداء النسك، الإقرار بين يدي الله عز وجل أن هذا الذي أنا فيه من خير وطاعة إنما هو منك وبقدرتك ومشيئتك.

    (لا شريك) لك أي: لا نشرك أحداً معك في هذه النعم، ولا نصرف الحمد إلا لك؛ لأنه لا يجوز صرفه لغيرك.

    قال: إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك.

    أما قوله: (وسعديك)، قال القاضي : إعرابها وتثنيتها كما سبق في لبيك، ومعناها: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة.

    أي: يطلب العبد من ربه الثبات على الطاعة، وأن الله يعينه ويثبته عليها، ويساعده على إتمامها وأدائها.

    (والخير بيديك) أي: أنت مصدر كل خير، والخير كل الخير في يديك وبيديك، ليس بيد أحد من البشر.

    قال: (والرغباء إليك والعمل)، فمعنى الرغباء: الطلب والمسألة إلى من بيده الخير، وهو المقصود بالعمل المستحق للعبادة.

    يعني: هذا العبد ما خرج من بيته إلا رغبة فيما عند الله عز وجل، وهذا النسك عمل لا يجوز صرفه إلا لك، ولذلك هو لك خالص لا شريك لك، والرغباء إليك والعمل، فالعمل لا يعمله العامل إلا ابتغاء مرضاة الله عز وجل، لأن العمل الذي يلزم صرفه لله إذا صرف لغير الله صار شركاً أو رياءً وهو ضرب من ضروب الشرك.

    قول عبد الله بن عمر : (أهل فقال: لبيك اللهم لبيك) قال العلماء: الإهلال: هو رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الإحرام، يعني: بعد أن يحرم العبد يلبس ملابس الإحرام وينوي النسك، ويستوي على الدابة، يقول: لبيك اللهم عمرة، أو حجاً، أو عمرة وحجاً.

    ولذلك فإن المهل بالنسك يرفع صوته بالتلبية إذا استوت به راحلته، وأصل الإهلال في اللغة هو رفع الصوت، ومنه استهل المولود أي: صاح، لنغز الشيطان له.

    قال: ومنه قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، أي: رفع الصوت عند ذبحه بغير ذكر الله تعالى، وسمي الهلال هلالاً لرفعهم الصوت عند رؤيته فرحاً بظهور هذا الهلال.

    حكم التلبية

    أما حكم التلبية فقد أجمع المسلمون على أنها مشروعة، والمشروع في الأصول يشمل الواجب والمندوب، أو المستحب، فالإجماع على أن التلبية مشروعة، لكن وقع الخلاف: هل هي مستحبة أو واجبة؟ فقال الشافعي وآخرون: هي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا واجبة، يعني: لا هي شرط في صحة الحج، ولا هي واجبة يلزم من تركها الدم.

    فهي عند الشافعي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا بواجبة وهو الراجح؛ لأنها لو كانت واجبة وشرطاً في صحة الحج لبطل الحج بتركها، ولو كانت واجبة فقط وليست شرطاً في صحة الحج فإن المتخلف عنها والتارك لها يلزمه الدم مع الإثم إن ترك ذلك متعمداً.

    قال: (فلو تركها صح حجه ولا دم عليه، لكن فاتته فضيلة عظيمة جداً)، فتصور أنك ستظل مثلاً من ذي الحليفة إلى أن تدخل مكة أربع أو خمس أو ست ساعات وأنت في حال إذعان وخضوع وخشية وذل واستكانة لله عز وجل بقولك بين يديه: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وتستحضر معاني هذه الكلمات التي كلها توحيد وذل وخضوع لله عز وجل أربع.. خمس.. ست.. سبع.. ثمان.. عشر ساعات وأنت على هذه العبادة، أو تبدأ من رابغ إلى أن تدخل مكة، أو من قرن المنازل إلى مكة، أو من يلملم إلى مكة، وأنت متلبس بهذه الطاعة، وهذا الذل والانقياد لله عز وجل، مظهراً التوحيد والإخلاص والذل والخضوع لله، يعني: عبادات قلبية وعبادات جوارح تجمع بين جميع أنواع العبادات في هذه التلبية.

    ولا يغرنك الحكم بأنها سنة أن تتركها؛ لأنك لو تركتها لتركت شيئاً عظيماً وفضلاً لو فاتك فقد فاتك الخير كله.

    ثم اختلفوا في إيجابها: قال الشافعي وآخرون: هي سنة، وقال بعض الشافعية: هي واجبة تجبر بالدم، يعني: لو تركها يذبح شاة لفقراء الحرم، ويصح الحج بدونها؛ لأنها ليست واجبة، وقال بعض الشافعية وهو الرأي الثالث عند الشافعية: هي شرط لصحة الإحرام، ولا يصح الإحرام ولا الحج إلا بها.

    إذاً: التلبية فيها عدة آراء: سنة من تركها فقد فوت فضيلة عظيمة، واجب يجبر بالدم ويصح حجه، شرط في صحة الإحرام والحج.

    يعني: لو ذبحت مائة دم يظل حجك باطلاً؛ لأنك فوت ركناً، وهذا شرط في صحة الحج، لا يصح الحج إلا به.

    أنا أريد أن أسأل سؤالاً: خلاف أهل العلم في هذه المسألة لا يجعلني آخذ بالعزيمة من باب الاحتياط، تجد الأخ في الطائرة مثلاً وخاصة أن هذه البلاد حارة، والحر يورث الخمول، كما أن جو مكة نفسه يورث الخمول، وهذا الكلام ذكره الإمام النووي.

    وكنت أتعجب منذ أوائل الثمانينات وكانت أول سفرة لي إلى بلاد الحجاز كنت أتعجب جداً، وصار أمراً ملحوظاً؛ كلما دخلت مكة أخذني الخمول والوخم وأقبلت على النوم وتركت العبادة، وما قدرت على مراجعة جزء أو جزأين كل يوم، وأنعس والمصحف يقع من يدي ولا أستطيع الإمساك به، حتى قرأت للإمام النووي أن هذه الحالة انتابته مرات حين دخوله مكة، فسأل الأطباء هناك فقالوا: جو مكة يورث هذه المظاهر إلا من أقام بها مدة.

    فلما أقمت بها مدة في سنة تسعين كنت في غاية النشاط، كنت أسكن بجوار الحرم بيني وبين الحرم قدر محطتين لا يزيد على ذلك، وكنت أركب مواصلة في كل مرة لأداء الصلوات الخمس، والإخوة الذين كنت أسكن معهم من أهل مكة يتعجبون جداً يقولون: يا شيخ ألا تستطيع أن تمشي هذه المسافة القصيرة؟ أقول لهم: والله العظيم أنني لا أستطيع أن أرفع قدمي، فلما أقمت بها سنة تسعين كان بيني وبين الحرم لا يقل عن خمسة كيلو، ولا أذكر أنني فوت فرضاً واحداً على مدار الثلاثة أشهر إلا في الحرم، وكنت أمشي على قدمي ولا أركب؛ لأن إلف جو مكة بعد ذلك أورث الشخص نشاطاً عظيماً جداً أيام الشباب.

    قال: (والصحيح من مذهبنا ما قدمناه عن الشافعي: أن التلبية سنة.

    وقال مالك : ليست بواجبة، ولكن لو تركها لزمه دم وصح حجه)، إذا كانت ليست بواجبة تكون سنة، والذي يترك السنة لا يلزم بالفداء، ولكن مالكاً لم يقو على القول بالوجوب موافقة للشافعي في ذلك، وقول الشافعي وافق قول مالكاً على اعتبار أن مالكاً أسبق، لكن الإمام مالكاً قال بالدم من باب الاحتياط.

    قال الشافعي ومالك : ينعقد الحج بالنية بالقلب من غير لفظ كما ينعقد الصوم بالنية، يعني: قاس الحج على الصوم؛ لأنك في الصوم لا تقول: نويت أصوم غداً، أو نويت أصوم الشهر كله، بل إنك تعقد النية في قلبك، وكذلك لا تقل: نويت أصلي العشاء أربع ركعات في مسجد الرحمة (305) شارع الهرم خلف الإمام الفلاني في الساعة الفلانية.. وإنما يكفيك أن تنوي خلف الإمام؛ لأن نيتك وأنت قادم إلى المسجد بعد أن سمعت الأذان وتوضأت وتهيأت في بيتك وخرجت منه إلى المسجد.. كل هذا أليس كافياً في إثبات النية؟

    والراجح جواز -بل استحباب- التلفظ بالنية في أداء نسك الحج أو العمرة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام صرح في حجه بالحج والعمرة، قال: (لبيك اللهم حجاً وعمرة)، وفي رواية وهو الراجح: (لبيك اللهم عمرة وحجة)، فقد صرح بالنسك هنا، لكن الإمام الشافعي ومالك إنما أثارا مسألة أخرى وهي: من ترك التلفظ ونوى النسك بقلبه صح ذلك منه، وهو مخالف للأولى، وهو ذكر النسك باللسان لفعله عليه الصلاة والسلام.

    وقال أبو حنيفة : لا ينعقد النسك إلا بانضمام التلبية إلى النية، أو سوق الهدي إلى النية، يعني: شخص عقد النية أنه ذاهب إلى هذا الحج قارناً، لكنه لما ذهب إلى الميقات لم يذكر هذا، وإنما أخذ الهدي من الميقات -كما هو الواجب في حق القارن- وأدخله معه وسحبه إلى مكة، هذا كله فعل يدل على أنه قارن، وأنه عقد النية على ذلك، أما النية وحدها بغير التلفظ أو القرينة من سوق هدي أو انضمام تلبية ففيه الحرج كل الحرج.

    وقال أبو حنيفة : ويجزئ عن التلبية ما في معناها، يعني: ليس بلازم أن يقول: لبيك اللهم لبيك، وإنما لو سبح أو هلل أو كبر أو ذكر الله تعالى بأي ذكر فإنه يجزئه عن التلبية، وهذا بلا شك إنما يثار لمن ترك التلبية أو ترك ذكر النسك هل يجزئه ذلك أو لا يجزئه؟ والجميع متفقون أن خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام.

    قال الشافعية: ويستحب رفع الصوت بالتلبية لمن لا يشق عليه ذلك.

    تصور أنك في الطريق ستظل تلبي وبصوت مرتفع سبع.. ثمان ساعات فمن الذي يقوى على هذا؟ فهذا أمر فيه مشقة، لكن أصحاب العزائم يصرون عليها منذ الإحرام إلى أن يروا بيوت مكة أو الحرم أو يدخلوا إلى الكعبة نفسها.

    عبد الله بن عمر كان يرفع صوته بالتلبية حتى بح صوته، والواحد فينا عندما يرى أحدهم ينظر إليه وهو يلبي يستحي ويخجل ويترك التلبية، أو أنه يلبي مرتين أو ثلاث مرات على استحياء شديد جداً وفي السر، يعني: إذا كان يركب السيارة فإنه يتوجه بوجهه إلى ناحية النافذة ويلبي مرة.. مرتين أو ثلاث مرات وينتهي، ولكي تحث الناس وتحضهم على التلبية تجد الناس وأنت تعظهم في السيارة منهم الذي هو نائم ومنهم الذي يلتفت إلى الوراء والذي يأكل.

    فضلاً عن كلام أهل العلم في بدعية التلبية الجماعية؛ لأنها من عموم الذكر، والذكر لا يكون إلا بالمفرد.

    وقت التلبية للحاج

    والتلبية تبدأ من صبيحة التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة، وتظل اليوم الثامن والتاسع والعاشر إلى أن ترمي جمرة العقبة الكبرى، يعني: ثلاثة أيام بلياليها أنت مطالب بالتلبية، وقل أن تجد من يلبي حتى في أفواج طلاب العلم، تدخل عليهم وهم منشغلون بالعلم والمحاضرات والدروس والنقاش وغير ذلك، ولا تجد ملبياً مع أنهم مطالبون في هذا التوقيت بالتلبية وليس بدروس العلم، كما أن المرء لا يطالب بدروس العلم في رمضان، وإنما يطالب بقراءة القرآن، تجد الناس في رمضان منشغلين بدروس العلم، إذا كان الصائم من الصبح إلى الظهر في العمل، ومن الظهر إلى العصر نائم، ومن العصر إلى المغرب في الدرس العلمي، فأين القرآن؟! تجد شهر رمضان مر عليك ولم تختم حتى عشرة أجزاء، فقد جوز بعض أهل العلم قراءة القرآن والزيادة في رمضان أكثر منه في غيره، وجوزوا قراءته في أقل من ثلاثة أيام في رمضان خاصة، نحن لا نوافق على هذا القول وإن كان يدل على اهتمام أهل العلم، الإمام مالك كان إذا دخل رمضان طوى صحف العلم وأقبل على القرآن، لم يتكلم في مسألة علمية إلا ما يتعلق بعبادة القوم من صلاة أو صيام أو اعتكاف.. أو غير ذلك، أما أنه يؤدي حلقته التي كان يؤديها فلم يكن هذا من فعل السلف.

    من آداب التلبية

    ورفع الصوت بالتلبية خاص بالرجال، أما المرأة فإنها تلبي بقدر ما يسمع من بجوارها أو تسمع نفسها، أما أن تلبي بصوت مرتفع فإن هذا فيه فتنة عظيمة جداً للرجال، ولذلك لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية.

    هؤلاء الذين تجمعهم على الدرس اجمعهم على كتاب الله عز وجل، فلو جمعتهم على الدرس فإنه أمر لا بأس به وهو جائز، لكن مخالف للأولى.

    ويستحب الإكثار من التلبية لاسيما عند تغير الأحوال كإقبال الليل، أو إقبال النهار، يعني: عند وقت السحر ووقت الغروب.

    وعند الصعود والهبوط: تصعد جبلاً أو تنزل من جبل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه إذا صعد شرفاً، يعني: إذا صعد إلى مكان مرتفع قال: الله أكبر، وإذا نزل قال: سبحان ربي الأعلى، فالعلماء استحبوا ذكر الله تعالى بالتلبية عند الصعود إلى الشرف أي: المكان المرتفع والنزول منه، واجتماع الرفاق.

    فقول النووي هنا: (يستحب الإكثار من التلبية عند اجتماع الرفاق) يدل على جواز التلبية جمعاً، والقيام والقعود، والركوب والنزول، وأدبار الصلوات وفي المساجد كلها؛ فإن مذهب جماهير الفقهاء: استحباب التلبية أدبار الصلوات، وإن كان بعض أهل العلم قال: ذلك من البدع، لكنه في الحقيقة ليس من البدع، بل هو من المسائل المختلف فيها خلافاً سائغاً.

    والأصح أن المحرم لا يلبي في الطواف حول البيت ولا في السعي بين الصفا والمروة؛ لأن التلبية منذ الإحرام بالنسك من الميقات المكاني، وللعلماء خلاف في ذلك، حتى أن يرى بيوت مكة قال به قوم، أو أن يرى الحرم قال به قوم، أو أن يدخل الحرم ويرى الكعبة قال به قوم.

    وأبعد الأقوال: أن يرى بيوت مكة، وأدنى الأقوال: أن يدخل البيت الحرام، فإذا دخله انقطعت التلبية، لانشغاله بعبادة أخرى؛ وهي عبادة الذكر والدعاء والطواف حول البيت، ولزومه ذكراً معيناً بين الركنيين اليمانيين، الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود، فهو يقول بين هذين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، فالذي يلبي يقطع التلبية إذا رأى بيت الله الحرام أو إذا دخل فيه؛ لانشغاله بعبادة أخرى، فعند دخوله للمسجد يقدم رجله اليمنى ويقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحمتك، فهذه عبادة تقطع التلبية التي كان عليها، ثم هو سينظر إلى الكعبة وينطلق للبحث عن الركن الذي فيه الحجر الأسود؛ ليبدأ منه الطواف على النحو الذي ذكرناه في الدرس الماضي.

    قال: ويستحب أن يكرر التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر، يعني: هو أحياناً يفتر عن التلبية ويكسل وأحياناً ينشط فيلبي، فإذا لبى لبى ثلاثاً، يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يقول ذلك ثلاث مرات أو خمس مرات أو سبع مرات أو تسع مرات، ويستحب أن يكون وتراً.

    وإذا لبى صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تعالى ما شاء لنفسه ولمن أحبه وللمسلمين، وأفضل سؤال الله عز وجل في هذه الحالة: الرضوان، والجنة، والاستعاذة من النار، يسأله الرضوان أن يرضى الله تعالى عنه، ويسأله الجنة التي هي رحمة الله تعالى لعباده، ويسأله العياذ من النار، أن يجيره من النار، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام بين في حديث أن عبادته كلها إنما هي دندنة حول هذا، لقول الرجل لما نصح أن يقول كذا وكذا فقال: (أنا لا أحسن يا رسول الله! دندنتك ولا دندنة معاذ ، ولكني أسأل الله الجنة وأستعيذه به من النار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن)، يعني: هذا الذي نريد تحفيظه إياك وأنت لا تستطيع أن تحفظه ولا تستطيع أن تقوله من بعدنا، وأنك لا تحسن إلا أن تسأل الله الجنة وتستعيذ به من النار، فهذه الدندنة التي لا تستطيع أن تقولها كلها الغرض منها في النهاية هذا الذي وصلت له، الذي هو سؤال الجنة والاستعاذة من النار.

    فالشاهد أن من سأل الله تعالى الرضوان والجنة والاستعاذة به من النار فهذا أفضل الذكر وأفضل السؤال الذي يوجه لله عز وجل، وإذا رأى شيئاً يعجبه يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة، حتى لا تلهينك الدنيا عن التلبية وذكر الله عز وجل.

    ويصح للمحرم أن يبيع ويشتري وهذا لا يضره ولا يؤثر على إحرامه وإن كان هذا خلاف الأولى؛ لأن المحرم ينشغل بالتلبية والذكر والدعاء.. وغير ذلك، لا ينشغل بالبيع والشراء واللغط ودخول الأسواق التي هي شر البقاع على وجه الأرض.

    ولذلك الإمام النووي يقول: وإذا رأيت شيئاً يعجبك فقل: اللهم إن العيش عيش الآخرة، ولا تزال التلبية مستحبة للحاج حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، أو يطوف طواف الإفاضة إن قدمه عليها، أو الحلق عند من يقول: الحلق نسك، وهو الصحيح.

    وتستحب للعمرة حتى يشرع في الطواف.

    يعني: التلبية تستحب لك حتى تبدأ في الطواف على النحو الذي ذكرناه آنفاً.

    وتستحب التلبية للمحرم مطلقاً، سواء الرجل والمرأة والمحدث والجنب والحائض والنفساء، يعني: التلبية لكل هؤلاء جائزة، بل الذي لا يجوز فقط للمرأة الحائض والنفساء هو الطواف بالبيت؛ لقوله عليه السلام: (افعلي كل شيء إلا الطواف بالبيت)، أو قوله لـعائشة : (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت).

    أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم التلبية جماعياً

    السؤال: ما حكم التلبية جماعياً؟

    الجواب: هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والنزاع الذي بينهم لا يصح أن يقال للمخالف مبتدع وإن كان الأولى أن يلبي كل واحد لوحده، لكن لو حصل أنهم لبوا جماعة أو ذكروا جماعة لا يقال هذا بدعة.

    حكم العمل في شركات السياحة الدينية كالحج والعمرة

    السؤال: ما حكم العمل في شركات السياحة الدينية كالحج والعمرة؟

    الجواب: لا بأس بها.

    حكم جباية الضرائب

    السؤال: ما حكم الضرائب وجبايتها في حالة عدم كفاية الزكاة والصدقات لاحتياجات الرعية؟

    الجواب: وما يدريك أن الزكاة ليست كافية؟ السؤال هذا لا يوجهه إلا الخليفة أو الوالي عنه ليس أنت، لأجل أنك تعمل موظفاً في الضرائب تريد أن تجد لنفسك أي مسوغ، فعملك حرام ومالك حرام، إنما ادعاؤك أن الزكاة ليست كافية، لو أن كل غني أدى زكاة ماله لصار الفقير غنياً، وهذا وعد الله عز وجل لعباده، والزكاة أعظم نظام تكافلي اجتماعي، بحيث لا يبيت الفقير جائعاً قط.

    إذا كان في هذا الزمن لا يكاد يكون هناك فقير، عندما يكون عندك زكاة مال وتريد أن تعطيها بالفعل للمستحق تجد بشق الأنفس شخصاً مستحقاً، الآن تجد الفقير يتقاضى مائتين إلى ستمائة جنيه في الشهر أو أكثر من ذلك ولا يزال يتسول ويشكو الله عز وجل إلى خلقه.

    فالموظفون الذين هم محدودو الدخل هم أهل الزكاة بالدرجة الأولى، ليس الذين يتسولون في المساجد ويتسكعون في الشوارع والطرقات.

    والحكومة عندما تأخذ الضرائب توزعها للفقراء، فالأصل في الزكاة أنها تؤخذ من الغني فتوضع في يد الفقير، وإذا وضعت في يد غير الفقير فإنها لا تجزئه على المذهب الراجح عند أهل العلم، أما الحديث الذي أخرجه الشيخان: (تُصدق الليلة على غني)، فهو في عموم الصدقات، إنما أموال الزكاة فلها مصارفها الثمانية: ومنها الفقير والمسكين، فإذا وضعت الزكاة في يد الفقير والمسكين فقد بلغت من الغني إلى مستحقها، أما إذا وضعت في غير هذه المصارف الثمانية فلا تجزئ صاحبها على المذهب الراجح عند أهل العلم.

    وفي هذه الحالة لو وافقناك جدلاً وهذه الموافقة باطلة، لكني أضرب لك جدلاً أن الضرائب تؤدي مؤدى الزكاة، وأنها تقوم بالمهمة التي تقوم بها الزكاة، وأن الحكومة إنما تأخذها لتنفقها في مصارف الزكاة، فأقول: بين الضرائب والزكاة فروق لا يمكن اجتماعهما، الزكاة حق في مال الغني لصالح الفقير، والضرائب حق الدولة! لا يوجد شيء في الشرع اسمه حق الدولة، بعض الناس يقولون: هذه الأرض للدولة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أصلح أرضاً ميتة فهي له)، فمن أصلح هذه الأرض فإن الحكومة تأخذ منه الضرائب، المتر بألف جنيه، وهذا ظلم ونهب ومكوس، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن تلك المرأة الزانية: (أنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لتاب الله عز وجل عليه)، وصاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس بالباطل.

    والزكاة حق في أموال الغني بالحق، والمكوس والضرائب بالباطل، والأصل في الزكاة الرضا والخضوع لله عز وجل والتعبد، فأنت تدفع هذا المال تعبداً لله تعالى، والضرائب لا تدفعها تعبداً، بحيث أنك تصارح الحكومة وتقول لها: أنتم لم تأتوا إلي من أجل أن تأخذوا الضرائب التي هي الزكاة.

    بينما الزكاة أنت تحمل مالك على يدك وعلى قلبك وتذهب به وتعطيه الفقير من غير سلطان عليك؛ لأن السلطان سلطان القلب، والإيمان هو الذي حركك؛ لأنك تعلم أنك لن تدخل الجنة إلا بهذا، لكن الضرائب فهي نار في نار، فما علاقتها بالجنة؟

    فلا يمكن اعتبار الضرائب زكاة نهائياً.

    علاج ضعف الهمة

    السؤال: أريد علاجاً لضعف الهمة، وما هي الخطوات التي أخطوها كي أكون طالب علم مع ضيق الحال والوقت، فإمكانياتي المادية لا تساعدني على شراء ما أحتاجه من كتب، وظروف عملي تؤثر علي؟

    الجواب: ابق في عملك، فأنت مثل الذي يقول لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ويظل يقول الطلاق حتى ينسى ماذا كان يقول، فيأتي ويقول: يا شيخ أهي مطلقة أم لا؟! أو هل تحل لي مرة أخرى؟ كيف تحل لك؟!

    فهذا جاء ووضعك بين المطرقة والسندان، يقول لك: انتبه، لا يوجد لدي مال، لا أستطيع أن أنتقل وأبحث عن المشايخ، لا أستطيع أن أشتري كتاباً، أو أنني آتي من العمل وأنا متعب جداً، فإن توفر لي حضور مجلس علم فأنا سأنام وسامحني، لأنني أبذل جهداً في العمل رهيباً فلا أستطيع أن أكون في درسك مستيقظاً.. فبعد كل هذا ماذا أعمل لك؟ ابق في عملك، وفي وقت الاستراحة اسمع شريطاً، أو طالع كتاباً، أو اطلع على أي مسألة علمية، وهذا الذي أنت مكلف به، فعند أن تكون عندك مؤهلات الطلب إذاً حينها نستطيع أن ننصحك.

    حكم الأخذ من اللحية

    السؤال: قال لي بعض الإخوة: إن عدم الأخذ من اللحية بدعة، فلما سألت عن الدليل قال لي: إن ابن عمر كان معروفاً بأنه أكثر الصحابة تشبهاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبالتالي فإن لحيته كانت لا تزيد عن القبضة، فلما قلت له: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أطلقوا اللحى)، ولم يقل: حتى القبضة، قال لي: هكذا قال الشيخ الألباني أفيدونا؟ كما هل يجوز الأخذ من عرض اللحية؟

    الجواب: حقيقة أن هذه المسألة محل نزاع بين الجواز وعدم الجواز، الأخذ من اللحية وقع فيه الخلاف قديماً، هل يجوز الأخذ من اللحية أم لا؟ والراجح: جواز الأخذ منها إذا فحشت، يعني: إذا طالت طولاً بالغاً، أو انتفشت انتفاشاً عظيماً، واستدل القائلون بالجواز على فعل عبد الله بن عمر وأنه راوي الحديث: (أطلقوا اللحى وحفوا الشارب ولا تشبهوا بالمجوس)، وكان عبد الله بن عمر يأخذ من لحيته من طولها وعرضها إذا فضل عن القبضة إذا حج أو اعتمر، فكان لا يفعل هذا إلا في النسك، إذا فحشت لحيته وطالت فيقبض على عارضيه وعلى ذقنه فيأخذ ما فضل عن القبضة، فتبقى لحيته طويلة، ويبقى مذهب القائلين بجواز الأخذ منها هو بقاء صورة اللحية كاملة في وجه العبد، وإذا قلنا بالجواز، فهل يصلح إجراء هذا الكلام أو الأخذ من اللحية بما فضل عن القبضة على من صبغ وجهه بقلم جاف وقال: أنا ملتحٍ.

    الذين قالوا بجواز الأخذ من اللحية لم يقصدوا هذه الصورة، إنما يقصدون الأخذ منها إذا فحشت من طولها وعرضها، والجماهير على عدم الأخذ منها، اعتماداً على إطلاق النصوص الواردة: (أطلقوا)، (أعفوا)، (أرخوا)، وكلها ألفاظ تدل على الترك بغير مساس.

    والعجب العجاب أن يقول شيخنا الألباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة بوجوب الأخذ من اللحية، إنما نقول بالجواز بالشرط المتقدم، أما الوجوب فلم يقل به أحد من أهل العلم فيما علمت وفيما اطلع عليه أهل العلم في هذا الزمان فيما نعلم إلا الشيخ الألباني ، ولذلك لا نترك مذاهب العلماء كافة قديماً وحديثاً لقول رجل.

    وبعض العلماء شرط توفر ما كان من عبد الله بن عمر ، من أنه لا يجوز الأخذ منها إلا في الحج والعمرة، لكن يعكر على هذا الرأي ثبوت أخذ أبي هريرة من لحيته في غير الحج والعمرة، وكذا أخذ أبي الدرداء وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة، فكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك على سبيل التعبد.

    تقييم كتاب شرح السنة للإمام البربهاري

    السؤال: ما رأيكم في كتاب شرح السنة للإمام البربهاري ؟

    الجواب: كتاب عظيم جداً، فهو كتاب رائع في أصول الاعتقاد، لا أعلم على كتاب شرح السنة للبربهاري مأخذاً، وليس فيه شيء يخالف العقيدة؛ لأن الإمام البربهاري من أئمة أهل السنة.

    تقييم كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام

    السؤال: ما رأيكم في كتاب الإيمان لـأبي عبيد القاسم بن سلام ؟

    الجواب: كتاب رائع جداً، وهو في سبعة مجلدات، كتاب ممتاز جداً مطبوع في الجامعة الإسلامية.

    تقييم كتاب الروضة الندية لشرح الدرر البهية

    السؤال: ما رأيكم في كتاب الروضة الندية لشرح الدرر البهية؟ وهل هو مناسب لأن يبدأ به طالب العلم؟

    الجواب: كتاب ممتاز، وهو غير مناسب لأن يبدأ به طالب العلم.

    معرفة الأحكام الشرعية من صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما

    السؤال: هل يستطيع الإنسان أن يكتفي بصحيح مسلم والبخاري وغيرهما من كتب السنة وما عليهما من شروح فيما يتعلق بالتفقه في الدين ومعرفة الحكم الشرعي.. وغير ذلك؟

    الجواب: هذا السؤال صعب جداً، لكن يحكمك الوقت والجهد.

    فبلا شك أن دراسة صحيح البخاري وصحيح مسلم ليس هو كل دين الله عز وجل، وأن المسائل التي لم يتناولها الصحيحان أكثر من التي تناولها الصحيحان، فلا أدعي أن الاكتفاء بالصحيحين هو فقه في دين الله عز وجل على التمام والكمال، فلو جمعت إلى هذين الكتابين كتاباً في الفقه على يد شيخ، وكتاباً في اللغة على يد شيخ، وكتاباً في الأصول على يد شيخ، وكتاباً جامعاً شاملاً في الاعتقاد على يد شيخ ستكون بذلك قد جمعت الخير كله.

    دلالة قوله: (وما يعذبان في كبير)

    السؤال: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله أو لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، هل يستدل به على أن النميمة ليست من الكبائر؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعذبان في كبير)؟

    الجواب: الأخ السائل عند أن نقل الحديث نقله بشكل صحيح، وعند أن سأل سأل خطأ، فقوله: (إنهما ليعذبان)، بلام التوكيد، يؤكد أنهما يعذبان، وقوله: (وما يعذبان في كبير)، أي: وما أوردهما هذا العذاب عظيم تكليف وقع عليهما، وإنما هو أمر يسير إتيان وترك، الإتيان متمثل في أن هذا الرجل الذي كان يبول لا يتطهر من بوله، والتطهر من البول أمر يسير، يعني: الأمر الذي هو سبب عذابهما ليس أمراً يشق عليهما، بل هو أمر يسير جداً، وبسبب تفريطهما في هذا اليسير عذبا: (أما أحدهما: فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر: فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، والمطلوب هنا الترك، وترك المعاصي في مقدور كل إنسان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، إذاً: الطاعة على قدر الاستطاعة فلو قال لك رجل: قف في صلاتك، لابد أن تقف، فإذا عجزت عن الوقوف لمرض أو علة صل جالساً أو على جنب أو إيماءً، مع أن القيام في الصلاة من واجبات وفرائض الصلاة، فلا تصح صلاتك الفرض وأنت قادر على القيام إذا صليت جالساً، فالذي يصلي الفرض جالساً مع قدرته على القيام لابد له من إعادة الصلاة؛ لأنها باطلة، بخلاف النافلة إذا صلى جالساً مع قدرته على القيام فلا حرج عليه، ولكنه على قدر النصف من صلاة القائم؛ لأنه جلس بغير علة ولا عذر.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، لم يقل: فاجتنبوا منه ما استطعتم، وهذا يدل على أن جانب الترك والنهي في مقدور كل مكلف، نهاك عن الزنا والخمر واللعب بالنردشير.. وكل هذا في مقدورك، ونهاك عن النميمة، وهي في مقدورك وهو أمر بسيط جداً، أنا ما لي وشأن الناس، يعني: إنك عندما تغلب في الإصلاح بين الناس ليس لك علاقة فيما بينهم، إذا لم يكن عندك طيب الكلام والصلح بين الناس ولو بالكذب المباح فلا أقل من أنك تدع الناس وشأنهم، فترك النميمة أمر في إمكانك وأمر في مقدورك، فلما ولجته مخالفاً لنهيه عليه الصلاة والسلام، مرتكباً لهذه الحرمة استحققت عذاب الله عز وجل، والذين صنفوا في الكبائر أوردوا الغيبة والنميمة في الكبائر، وهو محل إجماع عند أهل العلم: أن الغيبة والنميمة من كبائر الذنوب.

    الحكم على حديث: (نسألك بمعاقد العز من عرشك ومفاتح الرحمة من كتابك)

    السؤال: هل يصح هذا الدعاء: نسألك بمعاقد العز من عرشك ومفاتح الرحمة من كتابك أن تغفر لنا ذنوبنا؟

    الجواب: هذا الدعاء غير صحيح.

    الحكم على حديث: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)

    السؤال: هل هذا الحديث صحيح: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب

    الجواب: هذا حديث ضعيف، والكلام المباح خارج المسجد مباح في داخل المسجد، والكلام المباح لا يأكل الحسنات، إنما الكلام القبيح المنهي عنه هو الذي يأكل الحسنات، سواء قلته في المسجد أو في خارج المسجد.

    حكم من قرأ سورة يس اعتقاداً منه أنها تضر من ظلمه

    السؤال: أحد الناس أخذ مالي، وأنا أريد أن أقرأ عليه سورة يس؛ لأني سمعت أنها تضر الظالم، فما حكم ذلك؟

    الجواب: غير صحيح، بل هي من البدع، ولا يصح في فضل يس حديث واحد.

    الفرق بين أسماء الله المتعدية وغير المتعدية

    السؤال: ذكر فضيلة الشيخ ابن عثيمين في شرحه لكتاب لمعة الاعتقاد لـابن قدامة أربع قواعد هامة في أسماء الله وصفاته، وذكر في القاعدة الثانية في الفرع الرابع: كل اسم من أسماء الله يدل على ذات الله، وعلى الصفة التي يتضمنها، وعلى الأثر المترتب عليه إن كان متعدياً، أرجو من فضيلتكم بيان الفرق بين الأسماء المتعدية وغير المتعدية؟

    الجواب: في الحقيقة لم يتكلم عن اسم متعد، إنما تكلم عن صفة، يقول: كل اسم من أسماء الله يدل على ذات الله، وعلى الصفة التي تضمنها، وعلى الأصل المترتب عليه إن كان متعدياً.

    فالله تبارك وتعالى تسمى بالرحيم، فلا يجوز لأحد أن يتسمى بأسماء الله عز وجل، يعني: يحرم على العبد أن يكون اسمه: الرحيم، الكريم، الغفور.. وغير ذلك من أسماء الله المعرفة بالأف واللام، إلا أن تكون مضافة للعبودية، كـعبد الرحيم، وعبد الغفور، وعبد التواب، وعبد القهار.. وغير ذلك من أسماء الله عز وجل.

    والذي يترجح لدي أن الصفات مشتقة من الأسماء وليس العكس؛ لأن باب الصفات أوسع وأشمل وأعم من باب الأسماء، فلو قلنا: إن الصفات تشتق من الأسماء لقلنا: جميع الأسماء تدل على الصفات، ولو قلنا: إن الأسماء هي التي تشتق من الصفات للزمنا أن نشتق من كل صفة اسماً، فتصبح الأسماء في نهاية الأمر إلى مئات الأسماء؛ لأن باب الصفات أوسع، فلو اشتققنا من كل صفة اسماً لكانت الأسماء أكثر مما هو معلوم في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

    فكل اسم يدل على صفة وليس العكس، وهذا معنى الاشتقاق، فالرحيم اسم يدل على الرحمة، والتواب اسم يدل على قبول التوبة من العبد، والحميد اسم يدل على صفة الحمد.. وغير ذلك من الأسماء، وكل اسم له صفة، وأحياناً الصفة تكون متعدية، وأحياناً تكون لازمة لا تعدي لها.

    كالرحيم يشتق منه الرحمة، وهذه الرحمة متعلقة من جهة الصفة بالله عز وجل، ومن جهة الأثر بالخلق، يعني: الأثر المترتب على هذه الصفة المشتقة من هذا الاسم متعلق بالخلق، وهذا معنى التعدي.

    كما أقول لك: الزكاة نفعها متعد، وليس لازماً فحسب، بل لها نفع لازم ونفع متعد، النفع اللازم هو الذي ينفع المزكي، فعندما تأخذ أموال زكاتك وتتصدق بها وتزكي بها، فأنت منتفع بهذا، والمنفعة ظهرت في قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، فالذي يؤدي الزكاة إنما يطهر بها نفسه وماله، وهذا نفعه اللازم له.

    أما نفعه المتعدي والأثر المترتب على إخراج الزكاة فهو كفاية الفقير، أو غنى الفقير، فهذا نفع قد تعدى إلى الغير، لذلك فالنفع المتعدي هو الذي يشمل الآخرين.

    فصفة الرحمة لله عز وجل هي صفة ذات لله لازمة له ومتعدية إلى الخلق من جهة الأثر، فأثرها متعدٍ في رحمة الخلق، ولذلك في الحديث: (إن لله تبارك وتعالى مائة رحمة، أنزل بين الخلائق رحمة واحدة فبها يتراحم جميع الخلائق، حتى إنك لتجد الدابة العجماء ترفع حافرها عن وليدها مخافة أن تصيبه)، وهذا من جراء تلك الرحمة أو من أثر تلك الرحمة. (واختزن الله عز وجل تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده في عرصات القيامة).

    إذاً: الرحمة هذه متعدية، وقس على هذا المثال بقية الأسماء والصفات.

    أما الحمد، فلا يُحمد أحد غير الله عز وجل، فالحمد لازم غير متعد.

    حكم أكل المحرم من صيد غيره

    السؤال: قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:96]، إن كان محرماً ورأى جماعة يصطادون فدعوه للطعام، فهل يأكل أم لا؟

    الجواب: لا يأكل؛ لأنه يحرم عليه مادام محرماً صيد البر بنفسه أو بالإشارة أو بالدلالة أو بالمساعدة أو بالفعل نهائياً، فلا يجوز له أن يأكل من صيد البر، ولذلك ميز الله تبارك وتعالى بين صيد البحر وصيد البر، فقال في صيد البحر: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، وهم الجماعة الذين يمشون تدعوهم ليأكلوا، إنما صيد البر فلا.

    تطبيق مناسك الحج والعمرة

    السؤال: لو درسنا مناسك الحج والعمرة عملياً لكان أقرب للفهم وجزاك الله عنا خيراً؟

    الجواب: نذهب إلى مكة، وأنا سأشرح لك مناسك الحج، لأن مناسك الحج لا يمكن أن تفهم إلا هناك، كما لو أن شخصاً لا يستطيع أن يصلي ولا يسمع عن الصلاة، فتعلمه نظرياً، فلا يستطيع أن يصلي إلا إذا صليت أمامه، وعلمته ذلك عملياً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدد فترة تعليم الطفل للصلاة بثلاث سنوات، قال: (علموهم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)؛ لأن الطفل مرة يصلي وعشر مرات لا يصلي، ومرة يحضر معك الصلاة من أولها وبعد ذلك يتركك في الصف ويخرج يلعب ثم يحضر معك التسليم على اعتبار أنك توبخه وتؤنبه إذا لم يصل مع الإمام وأتم الصلاة وغير ذلك.

    إلى أن تمر ثلاث سنوات يكون الطفل قد تعلم الصلاة بأركانها وأحكامها وواجباتها، ما يزيد فيها وما لا يزيد.. وغير ذلك، وبعد ذلك يعاقب من سن العاشرة؛ لأن هذه مسائل عملية لا تدرك إلا بالعمل.

    وهناك حدود بين عرفة وبين المزدلفة، فقد عملوا لوحة مكتوب عليها من هذه الناحية أول عرفة، تصور لو أنك وقفت تحت هذه اللوحة فأنت واقف في مزدلفة، ولو خطوت خطوة واحدة وراء اللوحة تكون أنت واقفاً في عرفة، ومن وقف في غير عرفة فإن وقوفه لا يصح، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عرفة كلها موقف)، ولذلك أتى في مرة من المرات رجل يسأل الشيخ ابن عثيمين ونحن في الحج يقول له: يا شيخ! أنا لم أستطع أن أقف على جبل الرحمة، ولم يقولوا لي إلا بعدما رحل الناس، فماذا أعمل الآن وما صحة حجي؟ فالشيخ ضحك وقال له: يا بني! ومن ألزمك بصعود جبل الرحمة؟ بل إن صعوده كاد أن يكون من البدع، وبعض المصريين يظنون أن الحج والوقوف بعرفة لابد أن يكون على أعلى قمة في الجبل، ويتشاجرون، ويتصورون أن الحج لا يصح إلا بالوقوف في هذا الموضع.

    فالوقوف على جبل الرحمة ليس واجباً ولا سنة، بل كاد أن يكون بدعة، وحرصكم عليه يؤكد بدعيته.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756196538