إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. سلسلة شرح صحيح مسلم
  6. كتاب الصيام
  7. شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف الصحابة ومن بعدهم في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) هل هي منسوخة بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)؟ فمنهم من قال بالنسخ، ومنهم من قال بالتخصيص، وأنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الآيتين، ووجه الجمع: أن من شهد رمضان يجب عليه صومه، إلا الذين لا يطيقونه ولا يقوون على صيامه لعجز ومرض وسفر، أو مرضع أو حامل يشق عليها الصوم، فإن زال العذر فعليهم القضاء، أو الإطعام لمن لم يطق الصوم لكبر أو لمرض لا يرجى برؤه.

    1.   

    باب نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) بقوله: ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.

    وبعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    هذا هو الباب الخامس والعشرون من كتاب الصيام، ولم تكن الدراسة بالترتيب؛ لأننا آثرنا أن نتناول الأبواب التي تخص صيام الفريضة، أما صيام النوافل فسنعود إليه إن شاء الله تعالى بعد رمضان.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب بيان نسخ قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].

    حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر - يعني ابن مضر - عن عمرو بن الحارث عن بكير - ابن عبد الله الأشج - عن يزيد مولى سلمة عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها) ] والتي بعدها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، في أول الأمر كان من يجد شيئاً ولو يسيراً من المشقة في الصيام فله أن يفطر ويفتدي عن هذا اليوم بإطعام مسكين، فعلى هذا يترجح لدينا أن قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184] يعني: يقدرون على صيامه، ولكنهم يجدون في الصوم مشقة عظيمة أن يفطروا ويفدوا، وهذا التأويل هو تأويل سلمة بن الأكوع وغيره من الصحابة، والمذهب عند أهل العلم أن من روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وفسره فتفسيره أولى من تفسير غيره، لأن الراوي أدرى وأعلم بمراد النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الحديث، أما معنى الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يطيقون صيام شهر رمضان. فِدْيَةٌ [البقرة:184] فغير مستقيم؛ لأن الذي يفطر هو الذي يفدي لا الذي صام وأطاق الصيام، فإما أن تكون الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يعجزون تماماً عن صيامه، وإما على الذين يطيقونه بمشقة عظيمة جداً، فالله عز وجل شرع لهم الفطر في مقابل الفدية، هذا في أول الأمر، ولكن حكم هذه المسألة نسخ بقول الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].

    وستأتي الروايات معنا في البيان أن الصيام في أول الأمر كان لمن أراد، لكن الذي لا يصوم عليه أن يفدي.

    قال: [ حدثني عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن مولاه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: (كنا في رمضان) ] وقوله: (كنا في رمضان) ليبين أن هذه الآية إنما هي متعلقة بصيام الفرض لا بصيام التطوع.

    قال: [ (كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين) ] يعني: حدث هذا في العهد النبوي، فلو حدث بعد العهد النبوي لقلنا بأن الأمر فيه نزاع أو فيه خلاف، فإذا نسب الأمر الشرعي لزمن النبوة ارتفع الخلاف؛ لأن الحاكم والآمر والناهي فيه هو النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً فلا نزاع معه، فحكمه هو الحكم، وقضاؤه هو القضاء المبرم صلى الله عليه وسلم.

    فقوله: (على عهد النبي عليه الصلاة والسلام) يعني: في عهد النبوة.

    وقوله: (من شاء صام) أي: في رمضان وفي حضرة النبي عليه الصلاة والسلام.

    وقوله: (ومن شاء أفطر فافتدى بإطعام مسكين) يعني: كان الصيام في أول الأمر لمن يريد، والذي لا يريد أن يصوم عليه الفدية، والفدية إطعام مسكين واحد في كل يوم.

    ثم قال: [ (حتى أنزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]) ] يعني: كانت المسألة اختيارية إلى أن نزل قول الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] أي: فمن حضر منكم شهر رمضان ومن أدركه وهو حي مكلف عاقل فليصمه، وهذا أمر، والأمر في الكتاب والسنة يدل على الوجوب.

    إذاً: صيام شهر رمضان حين نزول قول الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] صار أمراً واجباً لا اختيارياً.

    1.   

    ذكر الإمام النووي لأقوال العلماء في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية..)

    قال النووي عليه رحمة الله عند هذا الحديث: (قال القاضي عياض : اختلف السلف في الأولى -أي: في الآية الأولى- هل هي محكمة أو مخصوصة أو منسوخة؟) (هل هي محكمة) بمعنى: أنها لا تحتمل إلا مذهباً واحداً، أو هي مخصوصة من عموم قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، هذا كلام عام لكل الناس إلا المريض والعاجز، وبالتالي فتصير هذه الآية مخصوصة من عموم، أم أنها منسوخة؟ وإذا كانت منسوخة فهل كلها منسوخة أم بعضها منسوخ والبعض الآخر غير منسوخ؟ ونحن نعلم أن المحكم غير المتشابه وغير المخصوص وغير المنسوخ، فالمنسوخ هو حكم سبق في الإسلام عليه العمل، ثم أتى أمر آخر بعد ذلك وأبطل العمل بالدليل الأول، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور).

    فتبين بهذا الحديث أن زيارة القبور إما محرمة أو مكروهة حسب النهي، هل هو للتحريم أو للكراهة؟ ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة) ناسخ لقوله: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور).

    كان الحكم أولاً في زيارة القبور النهي المطلق للرجال والنساء على السواء، سواء كان النهي للتحريم أو للكراهة، ثم رخص النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في زيارة القبور وبين العلة من ذلك، وأن الزيارة للقبور تذكر الزائر آخرته وتذكره ربه، فهنا الصيام كان أولاً اختيارياً، حتى نزل قول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فقوله فَلْيَصُمْهُ أمر مؤكد بالفاء واللام، يعني: لا خيار له.

    لكن هذه الآية ألا يمكن أن تكون مخصوصة؟ كما هو معلوم أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا استحال الجمع بين الدليلين والعمل بهما معاً، فهل أرد دليلاً بدليل، وأبطل عمل دليل بدليل آخر، أم أتأول للدليلين وأعمل بهما معاً؟ يقول العلماء: الإعمال خير من الإهمال، يعني: أن تعمل بالدليلين معاً خير من أن تعمل بواحد وترد الآخر.

    إذاً: يمكن أن أقول: إن قول الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يجدون مشقة في الصيام. فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] غير منسوخ، أما قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فأقول: هذا كلام عام، والآية الأولى مخصوصة من هذا العموم، يعني: كما تقول أنت لولدك: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه إلا جنيهاً واحداً، فلو أنك توقفت عند تحذيرك الأول قبل الاستثناء: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه لشمل الجنيه الواحد أيضاً من باب أولى، لكن قوله: (إلا جنيهاً) هذا استثناء من المائة، فمعنى ذلك: أنه يجوز لك أن تأخذ جنيهاً ولا يجوز لك أن تأخذ أكثر من ذلك، فهذا استثناء وخصوص من عموم النهي، فلك أن تقول في قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] ليصم جميع من حضر رمضان، إلا الذين لا يطيقونه ولا يقوون عليه إلا بمشقة وبذل الطاقة والجهد المضني فلهم أن يفطروا؛ لأن هذا الجهد المضني إما أن يكون عن عجز وشيخوخة وكبر سن ومرض وسفر، فكل هؤلاء رخص لهم الشارع بأدلة أخرى تخصهم بالفطر، وعليهم الفدية.

    فالله عز وجل رخص لمن كان على سفر أن يفطر، ومن كان مريضاً، ومن كان عاجزاً عن الصيام لكبر سن، لشيخوخة، لمرض، لحمل، لرضاع، لولادة.. لغير ذلك من الأعذار المشروعة أن يفطر، وهذا هو قول عبد الله بن عمر وابن عباس ..وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فهؤلاء قالوا: نحن نخالف سلمة بن الأكوع ، وسلمة بن الأكوع رغم مكانته العظيمة جداً بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه ليس في الفقه كـعبد الله بن عباس وكـعبد الله بن عمر فهما أفقه منه، وكذلك خالفه أبو هريرة رضي الله عنه، مع أن أبا هريرة لم يسلم إلا قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بأربع سنوات فقط، أو ثلاث سنوات وسبعة أشهر، إلا أن أبا هريرة حصل له الحظ العظيم جداً من العلم والفقه، وشاع اسمه وانتشر علمه في الآفاق وفي الأقطار؛ لأن أبا هريرة مكث في المدينة حتى احتاج الناس إلى علمه، وتصدر بأمر الولاة والأمراء في دولة بني أمية للإفتاء والتدريس والتحديث.. وغير ذلك.

    فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخالف سلمة بن الأكوع ، وكذلك عبد الله بن عمر مع جلالته وإمامته يخالف سلمة بن الأكوع ، وناهيك عن مخالفة ابن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالفقه والتأويل، قال: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) أي: وعلمه التفسير.

    إذاً: سلمة بن الأكوع وإن كان صحابياً، وذهب إلى نسخ قول الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] فمذهبه في النسخ قد خالفه غيره من الصحابة، ونحن نعلم أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعلم له مخالف يكون قوله كالإجماع، يعني: قوله يعمل به، وهو أشبه بأن يكون حجة في دين الله عز وجل، لكن هذا الحكم لا ينطبق ويسري على قول الصحابي الذي علم له مخالف من الصحابة؛ لأن الصحابة إذا اختلفوا فيما بينهم فلا بد من بيان الراجح والمرجوح، وبيان المقبول من المردود، وبيان الحق من الباطل؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم يجوز عليهم الوهم، ويجوز عليهم النسيان؛ لأنهم بشر يصيبون ويخطئون، اللهم إلا الأنبياء والمرسلون فإنهم لا يخطئون، وكل كلامهم صواب.

    أما ما دون النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال مالك : كل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام.

    فتصور إما أن يكون الحق واحداً أو متعدداً، فإذا قلنا بأن الكلام خطأ وصواب فلا بد أن يكون في اختلاف الصحابة خطأ وصواب، وإذا قلنا: إن الحق واحد، فلا بد وأن نقول: هذا الحق يعلم من طريق فاضل ويعلم من طريق مفضول، ويعلم من طريق راجح ويعلم من طريق مرجوح، فيكون كلام الصحابة عند الخلاف بينهم إما راجح أو مرجوح، وإما صواب أو خطأ، فأما الذي تكلم منهم بالخطأ فإنه مأجور غير آثم؛ لأنه بذل الوسع والجهد في الوصول إلى الحق فأخطأه، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد) فالله عز وجل يثيب على الخطأ بالأجر، ولكن الله لا يثيب على ذات الخطأ، إنما يثيب المجتهد على قدر اجتهاده وعلى قدر إخلاصه وعلى قدر بلوغه الحق، ولكنه زل؛ لتثبت بشريته عند الناس؛ ولو وجد العالم الذي لا يقع في الخطأ لربما عبده الناس من دون الله.

    يقول عبد الله بن المعتز: لا تعرف خطأ شيخك حتى تسمع من غيره.

    ويقول آخر: الذي له شيخ واحد كالذي له امرأة واحدة، إن حاضت حاض معها، وإن نفست نفس معها، فلا بد من تعدد الزوجات، ولا بد من تعدد الشيوخ كذلك.

    ثم قال النووي: (قال الجمهور -أي: جمهور أهل العلم- في هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]: هذه الآية منسوخة كقول سلمة، ثم اختلفوا بعد ذلك، هل بقي منها ما لم ينسخ) يعني: هل هذه الآية كلها منسوخة أو بعضها؟

    قال: (فروي عن ابن عمر والجمهور: أن حكم الإطعام باق على من لم يطق الصوم لكبر) انظر إلى عبد الله بن عمر الفقيه ماذا قال؟ يعني: هو فسر قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] على أن في الآية محذوفاً تقديره: (لا) أي: لا يطيقونه، وهذا بسبب كبر السن، فيطعم عن كل يوم مسكيناً.

    قال: (وقال جماعة من السلف ومالك وأبو ثور وداود الظاهري : جميع الإطعام منسوخ) يعني: جميع أنواع الفدية منسوخة وغير معمول بها، والعمل بها باطل إلى يوم القيامة.

    لكن نقول: إن الإجماع منعقد على أن الإطعام جائز لمن استوجب الإطعام إلى يوم القيامة، حتى عامة الناس في شوارعهم وفي بيوتهم يعرفون الآن أن من عجز عن الصيام فعليه إطعام مسكين، فكيف تقولون: إن الإطعام منسوخ، هذا كلام مردود.

    قال: (وليس على الكبير إذا لم يطق الصوم إطعام، واستحبه له مالك) هذا تمام الرأي القائل بنسخ الإطعام عن العاجز عن الصيام.

    قال: (وقال قتادة : كان الرخصة لكبير يقدر على الصوم ثم نسخ فيه وبقي فيمن لا يطيق.

    وقال ابن عباس وغيره: نزلت في الكبير والمريض) يعني: قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184] قال عنها عبد الله بن عمر : نزلت في الكبير فقط، أما ابن عباس فقال: هذه الآية نزلت في الكبير والمريض اللذين لا يقدران على الصوم، فهي عنده آية محكمة غير منسوخة، لكن المريض يقضي إذا برئ، لأن هناك مرضاً يبرأ منه المريض ومرضاً لا يرجى برؤه، يعني: واحد عنده مثلاً مرض الملاريا الخفيفة، وواحد عنده سرطان أو مرض مزمن آخر، فهذا المريض الذي لا يرجى برؤه تجب عليه الفدية فوراً، يعني: لا ينتظر حتى يدخل عليه رمضان القادم، فالإطعام إلى ما قبل رمضان القادم على التراخي، يعني: بإمكانك أن تؤخره شهراً.. شهرين.. ثلاثة.. أربعة.. عشرة.. أحد عشر، مثل من يفطر رمضان كله لعلة، ثم برئ من مرضه وبقي أمامه سبعة أشهر أو ستة أو عشرة عن رمضان القادم فله أن يؤخر القضاء، لكن لا يؤخره حتى يدخل رمضان القادم.

    وهنا مسألة أخرى: وهي أن صيام رمضان لا يتسع لغيره من نفس العبادة؛ لأنه يشملها ويستوعبها كلها، أنت مفروض عليك أن تصوم رمضان من أول يوم إلى آخر يوم، فلا يمكن أن تجمع مع صيام رمضان كفارة صيام أو كفارة نذر؛ لأن رمضان لا يتسع لصيام غيره.

    كذلك لو كنت في الميقات وسمعت شخصاً يقول: لبيك اللهم حج فريضة ونافلة، هذا لا ينفع؛ لأن الحج لا يتسع إلا مرة واحدة، إما فريضة وإما نافلة، بخلاف العمرة فالوقت فيها متسع، لكن الحج لا ينفع أن يقول واحد: أنا سأحج هذه السنة مرتين، الناس يطوفون سبعة وأنا أطوف أربعة عشر، هم يسعون سبعة وأنا أسعى أربعة عشر، هم يرمون الجمرة بسبع وأنا سأرمي الجمرة بأربع عشرة حصاة، هل يصح هذا؟ لا. ولو رمى سبعة آلاف.

    إذاً: الحج لا يتسع في العام الواحد إلا مرة واحدة، وكذلك الصيام.

    ثم قال: (وأكثر العلماء على أنه لا إطعام على المريض) أي: لا إطعام على المريض الذي مرضه يرجى برؤه، فإذا برئ وجب عليه صيام ما فاته من رمضان، أما الإطعام، لا.

    والمرض المبيح للفطر هو المرض الذي يشق على المسلم أن يجمع معه الصوم.

    قال: (وقال زيد بن أسلم والزهري ومالك : هي محكمة، ونزلت في المريض يفطر ثم يبرأ ولا يقضي حتى يدخل رمضان آخر، فيلزمه صومه، ثم يقضي بعده ما أفطر، ويطعم عن كل يوم مداً من حنطة)، والمد هو ملء الكفين.

    1.   

    باب قضاء رمضان في شعبان

    قال: [باب قضاء رمضان في شعبان] يعني: من فاته رمضان أو شيء من رمضان متى يقضيه؟ هل يلزمه القضاء على الفور والتو بمجرد أن ينتهي رمضان، أم على التراخي؟ مذهب الجمهور أن قضاء الأيام التي أفطرها المسلم في رمضان تجب على التراخي؛ بدليل أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي عليه الصلاة والسلام كانت تقضي ما فاتها من رمضان في شعبان.

    قال: [ حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير - وهو ابن معاوية بن حديج - حدثني يحيى بن سعيد - وهو الأنصاري - عن أبي سلمة -وهو ابن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم) ] يعني: يمنعني انشغالي وخدمتي، ويعني: تجهيزها نفسها وتعرضها للنبي عليه الصلاة والسلام لعله يريدها أو يرغبها أو يواقعها، فالذي كان يمنعها أن تقضي ما فاتها من رمضان هو انشغالها بخدمة النبي عليه الصلاة والسلام.

    وربما أرادها النبي عليه الصلاة والسلام فقالت له: إني صائمة، فأصابه من ذلك ضيق أو شيء من هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم نافلة وزوجها شاهد إلا بإذنه) يعني: أن المرأة لا تصوم صيام التطوع إلا بعد إذن زوجها.

    انظر عظمة الإسلام، كيف رتب هذا الحق العظيم جداً على المرأة للرجل، وهو ألا تصوم التطوع -والصوم عبادة وهو حق لله عز وجل- إلا إذا استأذنت زوجها وهو عبد من العباد، يعني: هذا الحق لله عز وجل، والله تعالى ونبيه عليه الصلاة والسلام شرعا ألا تصوم المرأة وألا تتعبد إلى الله بهذه العبادة إلا بعد إذن زوجها.

    أي عظمة تبلغ هذا في أي ملة أو في أي دين ألا تصوم المرأة إلا بعد إذنك أنت أيها الزوج؛ لأن حقك ورغبتك في وقاع المرأة وجماعها في النهار أعظم من أن تتقرب هي بهذا الحق وبهذا الصيام إلى الله عز وجل، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لكنه لا سجود لأحد في الإسلام) أي: لا سجود لأحد إلا لله عز وجل، ولكن لو كان هناك سجود لكان أولى الناس بالسجود أن تسجد المرأة لزوجها، ثم يبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لعظم حقه عليها).

    فلا بد أن تعلم كل امرأة أن حق زوجها عليها مقدم على حق أبيها وأمها وجميع محارمها، بل ومقدم على حقوق جميع الخلق إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا تعارض حق الزوج مع حق الرسول عليه الصلاة والسلام، قدم حق الرسول عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: حق الزوج مقدم، فإذا أمر الرجل امرأته بأمر وأمرها أبوها بأمر، فليقدم أمر الزوج، إلا أن تكون المرأة في بيت أبيها قبل العقد أو بعده قبل البناء، فيقدم أمر أبيها على أمر زوجها.

    قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم - وهو المعروف بـابن راهويه المروزي أبو محمد - أخبرنا بشر بن عمر الزهراني حدثني سليمان بن بلال حدثنا يحيى بن سعيد بهذا الإسناد غير أنه قال: (وذلك لمكان رسول الله) ] يعني بدلاً من قولها: (وذلك الشغل برسول الله) قالت: (وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    قال: [ وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق ] وهو ابن همام الصنعاني اليمني إمام اليمن في زمانه، وهو شيخ أحمد بن حنبل وشيخ علي بن المديني ، وهو شيخ المشايخ من أئمة الدين وعلماء الجرح والتعديل.

    وكان أحمد بن حنبل يعرف قدر عبد الرزاق ؛ لأن عبد الرزاق كان علماً، والله عز وجل يبث في هذه الأمة أعلاماً، يبلغون في فنونهم درجة الإمامة دون أن يحصلوا على شهادات، أو يتخرجوا من مدارس تمنحهم هذه الشهادات وهذه الإمامات، فالشيخ الألباني عليه رحمة الله خلف آلاف الطلاب والعلماء، لكن لم يبلغ واحد منهم درجة الإمامة كما بلغ الشيخ الألباني ، يعني: أنت الآن عندما تسمع هذا الحديث صححه فلان وفلان وفلان، وتعد عشرين.. ثلاثين.. خمسين واحداً وكلهم من تلاميذ الشيخ الألباني وعلماء، فهؤلاء كلهم لا يأتون عند (صححه الألباني )؛ لأن الله تعالى غرس في قلبك إمامة هذا الرجل، فهذا في علمه وفنه وبابه إمام، وهذا لا يمنع أن تكون هذه الإمامة موجودة في غيره، ولكن لم تتهيأ قلوب الخلق لتقبل إمامة فلان وإنما تقبلت إمامة رجل آخر، وكذلك الذي يقال في شيخنا الألباني يقال في الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن عثيمين ، والشيخ ابن جبرين .. وغيرهم من أهل العلم، وهم كثير بحمد الله عز وجل، ولن يخلو عصر ولا مصر من هؤلاء العلماء الذين بلغوا درجة الإمامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله - أي: أمر الساعة وقيام الساعة - وهم على ذلك) أي: وهم على هذه الإمامة وعلى هذا الظهور وعلى هذه الدعوة إلى الله عز وجل.

    فإذاً: عبد الرزاق إمام في اليمن، وأحمد بن حنبل إمام في بغداد، وسفيان بن عيينة إمام في مكة، فمن الذي عين هؤلاء الأئمة؟ لا أحد، ربنا تبارك وتعالى أهلهم بهذه المنزلة في قلوب الخلق، فكون الأمة بأسرها تجمع على إمامة شخص، فهذه منزلة من منازل الحب بين العبد وبين الرب تبارك وتعالى، نسأل الله أن يبلغنا إياها.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً أمر جبريل أن يحبه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) وهذا الحب والقبول نتيجة الطاعة، وهذه الطاعة لها آثارها في الدنيا والآخرة؛ ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن للطاعة نوراً في الوجه، وفرحة في القلب، وسروراً بين يدي الرب، وإن للمعصية ظلمة في الوجه، وسواداً في القلب، وحسرة عند الرب.

    يعني: نتيجة المعصية في الدنيا والآخرة تظهر على وجه صاحبها، لا يمكن أبداً أن يكون من يصلي مثل الذي لا يصلي نهائياً، حتى وإن كان الذي يصلي أسود البشرة فلا بد أن يشع النور من هذا الوجه الأسود، ولا بد أن يكون صاحب الوجه الأبيض الذي لا يصلي كالح الوجه غير مقبول، وهذا جزاء المعصية وترك الطاعة، بالرغم من أنه أبيض ومليح، لكن ليس مقبولاً، والناس تتكلم عنه.

    قال: [ أخبرنا ابن جريج حدثني يحيى بن سعيد بهذا الإسناد وقال: (فظننت -أي: فأيقنت- أن ذلك لمكانها من النبي عليه الصلاة والسلام) ].

    قال: [وحدثني محمد بن أبي عمر المكي - وهو من عدن اليمن، ولكنه رحل واستقر بمكة، وتتلمذ على يد سفيان بن عيينة - قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن عبد الله بن الهاد -من غير ياء، وأهل اللغة يثبتون الياء وهو الصواب، ولكن المحدثين لا يثبتون الياء- عن محمد بن إبراهيم - وهو التيمي - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان) ] يعني: كانت الواحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تفطر في رمضان، فما تستطيع أن تقضي هذه الأيام إلا في شعبان المقبل، والمعنى: أن كل واحدة منهن كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك منها، ولا تدري متى يريد ذلك منها النبي عليه الصلاة والسلام، ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن وقد يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه، وهذا من الأدب بين الأزواج والزوجات.

    وقد اتفق العلماء على أن المرأة لا يحل لها أن تصوم تطوعاً وزوجها حاضر إلا بإذنه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح.

    إذاً: كانت الواحدة من نسائه عليه الصلاة والسلام تقضي ما فاتها من رمضان في شعبان المقبل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان، ولا يجوز تأخيره عنه.

    فمثلاً: لو أن واحدة أفطرت سبعة أيام في رمضان، وبقيت حتى دخل شعبان ولم يبق منه إلا سبعة أيام، فهل لها أن تستأذن زوجها في هذا الصيام أم تصوم ولا تستأذنه؟ وإن طلبها في النهار هل لها الحق في ألا تستجيب له أم واجب عليها أن تستجيب؟ لا تستجيب، ولا يجب عليها الإذن؛ لأن الأيام الباقية هذه هي على قدر الأيام التي فاتت، وهذا الصيام صيام واجب، فليس عليها أن تستأذن فيه، وإنما تستأذن في صيام التطوع.

    أقوال العلماء في قضاء الصوم الواجب على الفور أو التراخي

    ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف: أن قضاء رمضان في حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي وتستحب المبادرة به، بخلاف داود قال: تجب المبادرة به في أول يوم من بعد العيد، وهذه الأحاديث ترد عليه.

    والقول بعدم وجوب المبادرة بصوم القضاء؛ لأن الوقت موسع، كما لو أن شخصاً فاتته جماعة الإمام في صلاة المغرب، وبين المغرب والعشاء ساعة ونصف، فهل يلزمه لزوماً شرعياً أكيداً أن يصلي في أول الوقت؟ لا يلزمه؛ لأنه لا زال الوقت موسعاً، لكن لو افترضنا أن صلاة المغرب هذه يستغرق المصلي فيها عشر دقائق، ولم يبق من الوقت إلا عشر دقائق فهنا ضاق الوقت، وفي هذه الحالة تجب عليه صلاة المغرب على الفور؛ لأن الوقت ضيق، وإنما تجب الصلاة عليه على التراخي في أول الوقت، لكن يستحب المبادرة.

    وهذه مسألة أخرى تتعلق بالوقت الموسع والوقت المضيق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: لو قام رجل لصلاة الفجر متأخراً، ولم يبق بينه وبين طلوع الشمس إلا مقدار وقت لا يسمح له إلا بأحد أمرين: أن يغتسل فيخرج الوقت، أو يتيمم ويصلي ويدرك الوقت، ماذا يعمل؟ تعرض العلماء لمسائل في غاية الدقة، وتكلم ابن تيمية في هذه المسألة، يقول: في المسألة مذاهب، ولكل مذهب أدلته، ثم يعدد أربعة مذاهب في المسألة، ويذكر دليل كل مذهب، ثم يقول: والراجح عندي كيت بدليل كيت، يعني: أتى بمذهب خامس في المسألة، وذكر أدلة أخرى خفيت على أصحاب المذاهب الأربعة، وهذا شيء عجيب، كان ابن تيمية أمة وحده، لو أن الله تعالى ما خلق من علماء الأمة غير ابن تيمية وابن القيم لكفى، مع أن ابن تيمية في ميزان أحمد بن حنبل لا شيء، وابن تيمية وابن القيم في ميزان الشافعي لا شيء، لكن أنا أقول لك: لو لم يخلق الله تعالى إلا هذين الاثنين وبهذه المكانة والمنزلة من العلم لكفيا الأمة علماً واجتهاداً وإفتاءً وتدريساً إلى يوم القيامة، فما بالك والأمة غنية وثرية بعلمائها وطلاب علمها إلى يوم القيامة في كل زمان ومكان.

    فـابن تيمية عليه رحمة الله يقول: يتيمم ويصلي حتى لا يخرج الوقت.

    ولكن يبقى نزاع: هل يعيد هذه الصلاة بعد طلوع الشمس أم لا يعيدها بعد الاغتسال؟ فشيخ الإسلام ابن تيمية رجح أنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء؛ لأن الذي منعه من استعمال الماء هو ضيق الوقت، لكن رجح ابن تيمية أيضاً أن يعيد الصلاة بعد الغسل بعد طلوع الشمس، وصلاته بالتيمم كان لإدراك الوقت، والحصول على الأجر.

    لكن لو كان التيمم من أجل صلاة الجماعة فلا تلزم الجماعة حينئذ، بل يلزمه الغسل والصلاة منفرداً.

    إذاً: يستحب المبادرة بقضاء صوم رمضان، فمذهب الجمهور أنه ليس واجباً عليه، لكن يستحب المبادرة به للاحتياط.

    يقول رحمه الله: (فإن أخره - أي: فإن أخر الصوم - فالصحيح عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول: أنه يجب العزم على فعله) يعني: لو فاتتني صلاة المغرب مع الإمام وإن كان الوقت موسعاً معي، لكن يلزمني واجب آخر هو العزم على الصلاة، فيفرقون بين إتيان الصلاة والعزم عليها، فلو أنك حين أذن للمغرب توضأت وانطلقت إلى المسجد لتصلي مع الإمام فهذا إتيان للصلاة وليس عزماً عليها، لكن لو فاتته الجماعة، ففواتها ليس عذراً في عدم العزم عليها، فمن عزم وعقد قلبه على أن يصلي هذا الفرض الذي فاته فأدركه الموت لا يعد من تاركي الصلاة، فعزمك هذا يغني عنك بين يدي الله عز وجل.

    ثم يقول رحمه الله تعالى: (وأجمعوا أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركه عن كل يوم مد من الطعام، فأما من أفطر في رمضان بعذر، ثم اتصل عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات، فلا صوم عليه) يعني: لو مرض شخص ومات قبل شعبان، فهذا الرجل إما أن يكون عازماً على الصيام من بعد رمضان الماضي أو غير عازم، فإن كان عازماً فلا إثم عليه؛ لأن وجوب القضاء عليه على التراخي، والشرع أذن له في أن يصوم على التراخي، يصوم في ربيع، أو في صفر، أو في رجب، أو في شعبان، أذن له الشرع في ذلك، فإذا أذن له الشرع أن يقضي ما عليه على التراخي، وعزم على أن يقضي ما فاته في رمضان في شعبان، لكنه مات قبل شعبان، فهل يعد مفرطاً في فرض من فروض الله عز وجل؟ لا، لا يعد مفرطاً.

    قضاء أيام رمضان لا يشترط فيه التتابع

    والذي عليه صيام رمضان هل يجب أن يقضيه على التتابع، أم أن التفريق يجزئه؟ فمثلاً: فاتتني خمسة أيام من رمضان حيث كنت مسافراً فيها، فهل يلزمني أن أصوم هذه الأيام الخمسة على الفور أم هي على التراخي؟

    هي على التراخي، فإذا كانت على التراخي فهل يلزمني أن أتابع بين هذه الأيام مثلما كنت أصومها في رمضان خمسة أيام مع بعض، أو يمكن تفرقة هذه الأيام؟ نقول صيام القضاء في الفريضة وصيام التطوع لا يلزم منه التتابع، بل التفريق يجزئ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال) هل يلزم صيام الست على التتابع؟ لا يلزم، وهذا مذهب الجمهور، وإن كان بعض أهل العلم يقول بوجوب ذلك على التتابع، والراجح هو مذهب الجمهور.

    حكم إفراد الجمعة والسبت بصيام

    أما مسألة صيام الجمعة وحده فمكروه، وصيام السبت وحده أيضاً مكروه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إفراد الجمعة بصيام، ونهى عن إفراد السبت بصيام، فقال: (لا تصوموا الجمعة إلا أن تصوموا معه يوماً قبله أو يوماً بعده).

    وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم)، والحديث صححه شيخنا الألباني ، وذهب إلى تحريم صيام السبت مطلقاً إلا في رمضان، وهذا المذهب قد خالف فيه شيخنا علماء الأمة، ولذلك لا نقول به، ومذهب الأمة وإجماعها عصمة، ونحن مع الأمة.

    1.   

    باب قضاء الصوم عن الميت

    قال: [ باب قضاء الصوم عن الميت ] يعني: إذا مات ميت هل يصام عنه؟ هذه المسألة محل نزاع بين العلماء، منهم من قال: يصام عنه الواجب ولا يصام عنه الفريضة، يعني: لو مات شخص وعليه صيام نذر، مع أن النذر مكروه في الإسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).

    وقال: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل) يقول: يا رب! لو نجحت ابني فسأذبح شاة، فهذا معناه: أنه إذا لم ينجح ابنه لم يذبح.

    كان هناك شخص في بلدنا مرة نذر لله أن لو نجح ابنه فسيذبح شاة، فنجح ابنه، وقال لي: أنا نذرت أن أذبح شاة لو نجح ابني فنجح الولد، قلت له: وجب عليك الوفاء بالنذر، قال لي: لكن الولد لم يأتِ بمجموع كبير، قلت له: أنت لم تشترط على الله، فلو أنه قال: لله علي شاة إذا حصل ابني على (90%)، فإذا حصل ابنه على (89.5%) لا يجب عليه النذر، بل يستحب، فالاشتراط على الله جائز، لأن النبي عليه الصلاة والسلام سألته امرأة في الإهلال، قال: (أهلي واشترطي، قالت: على من؟ قال: اشترطي على ربكِ، قالت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: لبيك اللهم بعمرة، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) يعني: لو منعني أي مانع فسأتحلل من إحرامي ولا شيء علي، فهذا الاشتراط على الرب تبارك وتعالى، لكن لو جئت إلى مطار جدة وعلي ملابس الإحرام وقد أهللت بالحج، وقلت: لبيك اللهم بحجة، لكن لم أقل: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فيجب علي أن أذبح شاة.

    أما لو اشترطت على ربي وحبسني حابس، فإن لي أن أقوم وأخلع ملابس الإحرام وألبس الملابس العادية وأرجع في الطائرة التي جئت فيها، وليس علي شاة في هذه الحالة؛ لأنني قلت: يا رب، إن منعني مانع فائذن لي أن أتحلل في المكان الذي منعني فيه المانع وحبسني فيه الحابس، ولا شيء عليَّ، يعني لا دم علي، لكن إذا لم أشترط فيجب علي دم يذبح لفقراء الحرم، لا تذبحه للسيد البدوي ، ولا عند الحسين ، لا يجزئك، لا بد أن يذبح بمكة ويوزع على فقرائها.

    شرح حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)

    قال: [ وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى قالا: حدثنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ] يعني: الذي يموت وعليه صيام إما صيام رمضان أو صيام نذر واجب فالحق هذا يكلف به الولي، وهذا الولي إما أن يكون وارثاً أو عصبة، فهل يجوز لأجنبي أن يصوم عن الميت؟ يعني: أنت صديقي فمت وعليك خمسة أيام من رمضان، أو خمسة أيام نذر لله عز وجل، ففي هذه الحالة هل ينفع أن أصوم عنك وأبوك وأخوك وعمك وخالك والعصب والورثة كلهم موجودون؟ يجوز بشرط إذن الولي؛ لأن الحق هذا كلف به الولي. (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، فإن استأذنه أحد الأجانب في قضاء هذا الصوم فأذن جاز وإلا فلا.

    شرح حديث المرأة التي أتت رسول الله تسأله عن أمها التي ماتت وعليها صوم شهر

    قال: [ وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش -وهو سليمان بن مهران - عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: أرأيتِ لو كان عليها دين أكنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء) ] وهذا يبين لنا أن الصيام حق لله عز وجل، كما أن هناك حقوقاً مادية بين العباد، فهناك حقوق تترتب في ذمتك للعباد، وهذه لا يغفرها الله عز وجل إلا إذا غفرها العباد، ولذلك من شروط التوبة: أن يتحلل المسلم من ذنبه إذا كان الذنب بينه وبين العباد، بأن يدفع إليهم حقوقهم أو يستسمحهم أو يستعفيهم. أما الذي هو حق لله عز وجل فإن الله تعالى إذا شاء عفا وإذا شاء عذب، أما حقوق العباد فيلزمك أن تستبرئ منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات، ولذلك سئل عليه الصلاة والسلام: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله! من لا درهم له ولا دينار، قال: المفلس هو من أتى بصلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد، ولكنه أتى وقد سب هذا وشتم هذا وسفك دم هذا وهتك عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ هو من سيئاتهم، فطرحت عليه حتى طرح في النار)، هذا هو المفلس حقاً، المفلس في نظر الناس هو الذي ليس لديه فلوس، والمفلس عند الله عز وجل هو الذي أتى بكثير من الطاعات، لكنه قد تعدى على الناس ولم يتحلل منهم، والغني والثري والهنيء والسعيد من أتى بصلاة وصيام وزكاة، وتحلل من حقوق العباد في الدنيا، قبل أن يدفع ما أتى به من طاعة إليهم، في موقف لا يصلح فيه المال ولا البنون.

    شرح حديث الرجل الذي سأل النبي عن أمه التي ماتت وعليها صوم شهر

    قال: [ حدثني أحمد بن عمر الوكيعي حدثنا حسين بن علي عن زائدة -هو ابن قدامة - عن سليمان -وهو سليمان بن مهران الأعمش - عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ] في الحديث الأول جاءت امرأة، وهنا جاء رجل يسأل، يعني: تعدد الحوادث في المسألة الواحدة، وربما يكون الجواب على السؤال الواحد متعدداً حسب حال الشخص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده حكمة عظيمة، فكان يأتي الرجل فيتفرس فيه النبي عليه الصلاة والسلام أنه عاق لوالديه، فيسأله الرجل: (يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ فيقول: بر الوالدين) يعني: لديه قضية تحتاج إلى علاج.

    ثم يأتي آخر ويقول: (يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ فيقول: إيمان بالله)، فالسؤال واحد والجواب متعدد بتعدد حاجات السائلين ومصالح السائلين.

    فهنا رجل يسأل ويقول: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم) ] يعني: لو كان على أمك هذه دين لجارتها أتقضيه عنها أو لا؟ قال: نعم، قال: فتقديم حقوق الله أولى من حقوق العباد، وهذا قياس.

    قال: [ (لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) ].

    شرح حديث المرأة التي قالت: يا رسول الله! (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر)

    ومن حديث ابن عباس أيضاً قال: [ (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر) ] يعني: هذه المرأة نذرت أن تصوم أياماً غير رمضان، ولم تنذر صيام رمضان؛ لأنه فرض، وصوم النذر يقل في الفرضية عن صوم رمضان.

    قالت: [ (أفأصوم عنها؟ قال: أرأيتِ لو كان على أمكِ دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك) ] يعني: لو كان على أمكِ دين وقضيتيه عنها هل سيسقط الدين عن أمكِ أو لا يسقط؟ (قالت: نعم، قال: فصومي عن أمكِ).

    إذاً: الصيام تجوز فيه النيابة، لكن النيابة الخاصة بالولي لا العامة، وكذلك الحج يجوز فيه النيابة، لكن الصلاة لا تصح فيها النيابة، فمذهب جماهير أهل العلم أن الصلاة ليس فيها نيابة، فلا ينفع أن تصلي عن غيرك لا عن الحي ولا عن الميت، وهناك كثير من الأبناء يقولون: هذا أبونا كبير وليس قادراً أن يصلي، وأيضاً فقد عقله وبدأ يخرف وليس عنده تركيز، ويتبول على نفسه، فنحن نصلي عن والدنا من باب البر، نقول: لا، لا تصلوا عنه؛ فهو إما أنه مكلف فيصلي على أي هيئة وعلى أي حال بإمكانه، وإما أنه غير مكلف، قد فقد عقله فالله عز وجل قد أسقط عنه الصلاة في هذه الحالة، والصلاة ليس فيها نيابة، إنما النيابة في الحج والصوم، وأنتم تعلمون الحديث الذي قال فيه رجل: (لبيك اللهم حجاً عن شبرمة ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: من شبرمة ؟ قال: جار لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، يا رسول الله) هذا الشخص لم يحج عن نفسه وذهب يحج عن جاره، انظروا إلى الصداقة الصافية الخالصة لله عز وجل، يقدم صاحبه على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك أولاً، ثم حج عن شبرمة بعد ذلك).

    وفي الحديث: (إن أبي لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حج عنه).

    يعني: لا يثبت على الجمل أو الحمار؛ لأنه عجز وكبر.

    والمصريون لا يفكرون في الحج إلا بعد التقاعد بعشرين سنة، فإذا ذهب إلى الحج فيحتاج إلى أربعة أشخاص يحملونه ويطوفون به، وإذا قلت له: لماذا تأخرت؟ يقول: كنت أبني البيت، وكنت أزوج الأبناء والبنات، نقول لهذا وأمثاله: أنت لست مكلفاً بكل هذا، أنت مكلف بما فرضه الله عز وجل عليك أولاً، فما فضل فلأولادك، لا يصلح أن تقدم أولادك على نفسك، فهذه فريضة وأنت قد ملكت مالاً تؤدي به هذه الفريضة، فتكون قد وجبت في حقك وجوباً فورياً، وأخر زواج ابنك وبنتك سنة أو سنتين، كذلك أخر بناء البيت واسكن في أي بيت؛ لأن الفريضة أحق من هذا، ولذلك معظم الحجاج المصريين في السبعين والثمانين والتسعين سنة، كلهم بعكاكيز، والذي ليس بعكاز يستند على اثنين، بخلاف بقية الشعوب ترى الواحد منهم يذهب إلى المنسك هذا، ومن منى إلى عرفات عشرة كيلو يمشيها على رجليه، قد تركب السيارة من منى إلى عرفات، لكن للزحام الشديد جداً لا تتمكن من ركوب السيارة، فأنت حين تمشي في الصباح من منى إلى عرفات ولا زالت الشمس غير قوية، خير لك، كذلك تمشي من عرفات إلى المزدلفة بعد المغرب والجو أهدأ من الظهر، فأنت تأخذ العشرة كيلو على رجليك وأنت منشغل بهذا الجمع، تفكر: كيف لو أنه محشور بين يدي الله عز وجل، ويوم الحج يذكرك بيوم الحشر، وبخروج الناس جميعاً إلى الله عز وجل ليحاسبهم، ثم يلقي بعضهم في النار ولا يبالي، ويلقي بعضهم في الجنة ولا يبالي سبحانه وتعالى.

    ومن حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: [ (بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث) ].

    قولها: (إني تصدقت على أمي بجارية). يعني: أعطت البنت جارية صدقة لأمها، فلما ماتت أمها دخلت الجارية ضمن الميراث، والبنت ترث أمها، فترث الجارية؛ لأنه يجوز أن يرث الواحد من صدقته، فمثلاً: أنت تعطي أمك ملابس وتعطيها ذهباً وغير ذلك، وكذلك تعطي أباك مالاً وإخوتك يعطونه معك، فيتكون عند الوالدين من الملابس والذهب والهدايا وغيرها، فمات الأب والأم، فكل ما لديهم يصبح ميراثاً، ولا يصلح أن يقول أخي: أنا أعطيت أبي وأمي كيت وكيت وكيت وهذا أعطاها كذا فكل واحد يأخذ الذي أعطاهما، لا، ما أعطيت لأمك أو لأبيك خرج من ملكك ودخل في ملكهما، فلما ماتت الأم كان ما خلفته ميراثاً لجميع الأبناء للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك ما خلفه الأب.

    لكن لو أن شخصاً تصدق بصدقة في سبيل الله عز وجل، ليس على أمه ولا على أبيه، تصدق بصدقة في سبيل الله عز وجل، كأن أوقف فرساً للجهاد في سبيل الله، فهل يجوز له أن يأخذه؟ ما يجوز، كذلك هل يجوز له أن يشتريه؟ أيضاً، لا؛ لأن عمر رضي الله عنه تصدق بفرس في سبيل الله، فرأى هذا الفرس يباع في السوق، فاستأذن عمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يشتريه فقال له النبي: (لا، الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756379027