إسلام ويب

سلسلة كيف تصبح عالماً [5]للشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حين عرف الصحابة ومن بعدهم قيمة العلم ركبوا الصعب والذلول من أجل تحصيله، ومن يقرأ في قصصهم مع العلم يرى العجب العجاب من الصبر والجد والمثابرة من أجل تحصيله، حتى صاروا منارات يهتدى بهم، ويستضاء بنورهم.

    1.   

    ضرورة الاهتمام بالعلم والحذر من اليأس

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

    إخواني مازلنا نتدارس سوياً في القضية الهامة التي أثرناها حول العلم: وهي أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، تحدثنا في محاضرة أولى عن قيمة العلم في الميزان الإسلامي.

    وتحدثنا في محاضرة ثانية عن أن هذا العلم ليس مقصوداً به العلم الشرعي فقط، ولكن المقصود به العلم الشرعي والعلم الحياتي جميعاً كلاهما.

    ثم ذكرنا في المحاضرة الثالثة والرابعة، الإسلام وعلوم الحياة، وذكرنا الأدلة على أن من مارس واجتهد وكد وتعب في علم حياتي، فإنه بإذن الله إن أخلص النية يكون عمله عملاً من أعمال الآخرة، ويتقرب به إلى الله عز وجل، ونرجو أن يكون ذلك في ميزان حسناته.

    بعد هذه التطوافة في أهمية العلوم بصفة عامة سواء كانت العلوم الشرعية أو العلوم الحياتية، وبعد الإحصائيات والأرقام التي ذكرناها والتي أبرزت الهوة الواسعة والفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين وبين ما ينبغي أن يكونوا عليه، وبين واقع المسلمين وبين الدول الأخرى التي تعاصرنا في هذا الزمان وظروفها قد تتشابه كثيراً مع ظروفنا، بعد هذا الأمر لا بد من وقفة، إن شاء الله في هذا الدرس سنحاول أن نكون عمليين إلى أقصى درجة، في هذا الدرس نريد أن نجيب عن سؤال في غاية الأهمية ألا وهو: كيف نصبح علماء؟ ذكرنا قبل هذا أنه إذا كان طموحك فقط أن تبقى طويلب علم فأكثر ما يمكن أنك ستصير طالب علم، لكن لو كان طموحك أن تكون طالب علم وأكثر فهذا يحتاج إلى إعداد خاص، يحتاج إلى نفسية خاصة وخطة خاصة وحياة خاصة ومنهج مختلف تتناول فيه كل أمور حياتك، ستأكل بطريقة مختلفة، ستنام بطريقة مختلفة، ستمشي بطريقة مختلفة، ستتكلم بطريقة مختلفة، ستقرأ بطريقة مختلفة، أصحابك سيكونون مختلفين، حياتك كلها ستتغير من أجل أن تبقى عالماً من علماء المسلمين في التخصص الذي أنت فيه، ليس بالضرورة أن تكون عالماً في الفقه أو التفسير أو الحديث وإن كنا نحتاج إلى هذه الفروع أشد الاحتياج، ولكن في مجال تخصصك، سواء في علوم شرعية أو علوم حياتية، وفصلنا في أهمية هذا وذاك كثيراً.

    إذاً: كيف نصبح علماء؟ القضية خطيرة.

    وذكرنا قبل ذلك أيضاً إحصائية تقول: إن عدد الباحثين في العالم العربي (136) لكل مليون إنسان، بينما عدد الباحثين في إسرائيل (1335) لكل مليون إنسان، وعدد الباحثين في أمريكا أكثر (4000) لكل مليون إنسان، وفي اليابان (5000)، نعم ليس المطلوب أن يكون كل الحضور علماء، لكن المطلوب أن نخرج (5000) باحث لكل مليون إنسان، وليس هذا على الله عز وجل بعزيز عندما تكون النوايا صادقة والطريق سليماً، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] ، ولا نريد في هذا المضمار أن نسمع دعاوى الإحباط واليأس، فقد ذكرت في الدروس السابقة بعض الأمثلة الإيجابية، فهناك إخوة سمعوا الحديث عن العلم والتعلم وأهمية السبق في هذا المجال فبدئوا يفكرون كيف يتقدمون بالعلم، وهذا طيب وجميل، لكن هناك على الجانب الآخر من أصيب بالإحباط واليأس نتيجة رؤية الفجوة الكبيرة بيننا وبين غيرنا، فأرسل رسائل لا يستقيم أن تأتي من مسلم فاهم واع، فمثلاً يقول أحدهم: ذكرت أن نسبة الأمية في كوبا صفر في المائة في الشباب، وعلى مستوى الدولة كلها الكبار والصغار والرجال والنساء (0،2 %)، وهذه نسبة هائلة فعلاً، فماذا فعلت كوبا، فهي لم تصنع كالصين ولا ككوريا؟ يعني: ما الفائدة من العلم؟

    هذا كلام غريب جداً، أنا أتعجب كيف كتبه! كان عليه أن يفكر قبل أن يكتبها، من هذا الذي يقول: إن العلم ليس له فائدة، وليس بالضرورة إذا تقدمت كوبا في الأمية ومحت الأمية من بلادها أن تصنع ككوريا والصين الآن، لكن انظر إلى المستقبل، وكوبا في السنوات الأخيرة تحقق درجة من أعلى درجات التنمية على مستوى العالم، فهي تسبق بلاداً كثيرة جداً في مستوى التنمية، والتنمية مربوطة ربطاً وثيقاً بالعلم، كلما زاد العلم زادت التنمية في البلد، وكلما زادت موارد الدولة زادت إمكانياتها الاقتصادية والتصنيعية، ولا مانع من أن تزيد ببطء، المهم أنها تزيد، لكن أن يقول إنسان: كيف بدولة متعلمة ولم تصنع مثل هذه أو تلك؟ نقول: نحن لا نريد أن نقفز مرة واحدة إلى مستوى أعلى الدول في يوم أو يومين، هذا مخالف لسنن التدرج، لكن المهم أن تسير في الطريق السليم.

    وشخص آخر أيضاً بعث لي (إيميل) يقول لي: إن أحد المراكز للبحوث في مصر يقوم بعمل البحوث العلمية ثم يقوم بتصديرها إلى أوروبا أو أمريكا؛ لأنه لا توجد عندنا إمكانيات التطبيق. يعني: باحثنا يكتشف النتيجة وأوروبا وأمريكا يستفيدون منها، ويقول: ومن ثم لا يوجد داع للبحث ما دام أعداؤنا هم الذين يستفيدون منه؟ انظر إلى التفكير العجيب، يعني: حين لا توجد عندنا إمكانيات فلا داعي إلى عمل أبحاث؛ لأن أعداءنا يستفيدون منها، نقول: يا سبحان الله! أول الغيث قطرة، ثم ينهمر، في البداية أنت تعمل بحثاً ضعيفاً نسبياً معتمداً على أفكار غيرك، ثم بعد هذا تتطور فيه قليلاً قليلاً، ثم بعد ذلك تأتيك القدرة على تنفيذ جزء من أبحاثك، وبعد هذا تأتيك القدرة على تنفيذ كل أبحاثك، وبعد هذا تجذب الباحثين من العالم، وهذا طريق طويل وسلم متصاعد لا بد أن تسير فيه بتدرج، لكن أول الأمر أن تعرف قيمة البحث وتهتم به.

    إذاً: نحن نريد أن نأخذ جوانب عملية، كيف نصبح علماء؟ كيف تصبح هذه المجموعة الحريصة على العلم من علماء الأمة؟ لا يستصغر الإنسان نفسه ولا يقلل من إمكانياته في أي مجال، حتى لو كنت في مجال ليس جامعياً أصلاً، يعني: في المجال الحرفي أو المهني أو الفني، فهذه الأمور من الممكن أن تطور فيها نفسك، وكما ذكرنا قبل ذلك أن مخترع أول محرك سيارة كان فنياً ولم يكن مهندساً.

    أذكر الناس بحديث رسولنا صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلَكهم) أو: (فهو أهلُكهم) والروايتان صحيحتان. يعني: إذا قال الرجل: هلك الناس، أو قال: لا توجد فائدة فالبلد ضايع والمسلمون متأخرون ولا أمل في التغيير، إذا قال هذا الكلام فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (فهو أهلُكهم) يعني: هو أكثر الناس هلكة فيهم، أو: (فهو أهلَكهم) يعني: هو السبب في هلاكهم، هو الذي أهلكهم بهذه المعنويات المنخفضة وبهذا الإحباط واليأس، فإياك أن تقول: هلك الناس، إياك أن تقول: لا توجد فائدة، ولو كنت تشعر بهذا الشعور يا أخي فاكتمه في قلبك لا داعي إلى أن تخرجه، لا تكسر مجاديف الناس التي تعمل وتبذل.

    1.   

    معرفة قيمة العلم

    أول شي من أجل أن تصبح عالماً: أن تعرف قيمة الأمر الذي تجاهد من أجله، على قدر قيمة الأمر في ذهنك، على قدر العمل، وعلى قدر الوقت، وعلى قدر الجهد الذي تبذله في هذا الأمر، وقد ذكرنا أحاديث كثرة جداً في قيمة العلم وفضله، أنت تريد أن تكون عالماً؟ كلنا نريد أن نكون علماء، أذكركم بحديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن تعرفوا ماذا تعني كلمة عالم؟ وما هو مطمحنا الذي نبحث عنه؟ كلما كبر طموحك في قضية من القضايا فرغت لها جزءاً من عمرك، هناك ناس تقاتل وتجاهد من أجل الدنيا، تراه ساهراً (24) ساعة يتصارع مع هذا ومع ذاك، ممكن يختلف ويتشاجر حتى مع إخوانه، ممكن يدلس، ممكن يسرق، وحتى في الحلال قد يبذل المرء كل الوقت وكل الجهد وكل الفكر، ويقرأ ويبحث ويسافر ويسهر ويكدح من أجل أن يجمع مالاً، فلا بد أن تبذل الجهد والوقت في قضية العلم إن كنت تعرف قيمته، أما إذا كنت.

    لا تعرف قيمته فقد تعطيه جزءاً يسيراً من جهدك ووقتك، ستذاكر ربع ساعة، ثلث ساعة، قبل الامتحان أياماً قليلة، حسب قيمة العلم في ذهنك، هناك ناس تقاتل من أجل السلطة وترون إلى أي درجة تكون التصارعات على السلطة، والدماء التي تسيل والأشلاء التي تقطع هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها، تقاتل الناس من أجل السلطة حين أحست بما أحس بقيمة السلطة، وأنت على قدر قيمة العلم عندك اعمل واجتهد، وانظر إلى قيمة العلم وقيمة العالم في نظر حبيبنا صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، تكلمنا عن الحديث من قبل، وبفضل الله كل هؤلاء الحضور فتحوا لهم طريقاً إلى الجنة، نسأل الله القبول منا أجمعين، وكلما بعدت المسافات وجاء من مكان بعيد كان الطريق أوسع وأرحب وأعظم إلى الجنة.

    ثم من الكلمات الجميلة جداً يقول صلى الله عليه وسلم: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم؛ رضاً بما يصنع)، يعني: عندما تأتي لطلب العلم تقابلك الملائكة في الطريق -وأنت لا تراها لكن هي تراك- فتضع أجنحتها لك؛ تواضعاً لك، وتعظيماً لك، وتكريماً وتبجيلاً لك، تقف لك الملائكة في الطريق هكذا؛ لأنك تذهب إلى مجلس علم تلتمس علماً، انظر إلى عظم الأمر، تغيرات كونية هائلة، تنزل الملائكة وتضع أجنحتها لا تحرسك فقط، بل تتواضع لك، وتبجلك وتعظمك.

    وجاء في الترمذي وأبي داود وابن ماجه -وهو حديث صحيح- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض) عندما تجعل هدفك في حياتك أنك تصبح عالماً في مجال من مجالات العلوم النافعة للمسلمين تصبح في هذه الدرجة العجيبة، يستغفر لك من في السماوات ومن في الأرض، قد يخطر على بالنا أن من في السماوات الملائكة، ومن في الأرض البشر فقط، نقول: لا، بل هناك أشياء أخرى تستغفر لك غريبة جداً يقول: (حتى الحيتان في الماء)، يعني: حتى السمك في الماء يستغفر لك، وكذلك الحيوانات، وكذلك النباتات، وكذلك كل خلق من خلق الله عز وجل؛ لأنه لما قال: (حتى الحيتان) يعني: أن كل شيء في الكون يستغفر لك حتى الحيتان في الماء، وهي أصلاً لا تراك بعيدة عنك ومع ذلك تستغفر لإنسان يطلب العلم، أليست هذه درجة نطمح جميعاً أن نكون فيها؟!

    ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) فائدة القمر عظيمة مقارنة بغيره من الكواكب.

    وقوله: (فضل العالم على العابد) يعني: لو قال: فضل العالم على الجاهل لفهمنا المعنى، ولو قال: فضل العالم على الفاسق لكان واضحاً، لكن قال على العابد، يعني: العالم أفضل من إنسان عابد لربه سبحانه وتعالى؛ لأن العابد ليس على علم، فالفرق بين العابد وبين العالم كالفرق بين القمر ليلة البدر وسائر الكواكب.

    ثم يقول: (وإن العلماء ورثة الأنبياء) يعني: إن كنت تريد أن ترث حبيبك صلى الله عليه وسلم فهو لم يترك مالاً صلى الله عليه وسلم وإنما ترك العلم، فهذا هو ميراث الحبيب صلى الله عليه وسلم وميراث الأنبياء جميعاً: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) يعني: أنت تنافس العالم وترجو أن تكون في مقامه، وتتمنى أن تكون في موضعه، لكن أحياناً طموحنا نريد أن نكون مثل فلان في ثروته، مثل فلان في سلطته، مثل فلان في وضعه الاجتماعي، مثل فلان في شكله، وهذه الأمور كلها لا تساوي شيئاً، الذي يساوي حقيقة هو ميراث الأنبياء العلم، (فمن أخذه أخذ بحظ وافر) يعني: أخذ بفضل كبير جداً.

    والعلم هو ما أعطاه ربنا سبحانه وتعالى لأخص أهله من أهل الأرض الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    في الحديث السابق يقارن الرسول عليه الصلاة والسلام بين العالم والعابد، ويجعل المقارنة بينهما القمر ليلة البدر وسائر الكواكب.

    وفي حديث آخر تجد المقارنة فيه أعجب، والحديث أيضاً صحيح في الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).

    يعني: لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقارن نفسه مع أعلم علماء الأمة الإسلامية وليس نبياً، فالبون بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أعظم رجال الأمة شاسع، وهو أعظم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يقارن نفسه بعظيم من عظماء المسلمين، ولا بعالم من علماء المسلمين، ولكن يقارن نفسه بأدنى المسلمين، فالفجوة التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أدنى المسلمين هي الفجوة بين العالم والعابد، ليس بين العالم وبين الفاسق أو الجاهل، بل بين العالم والعابد.

    إذًا: فنحن بحاجة إلى أن نفرغ أوقاتاً كثيرة جداً لهذه القضية، قضية العلم.

    يبدو أننا عندما نتحمس تحمساً إيمانياً قد نذهب ونصلي ركعتين لله، ونقرأ حزباً من القرآن، ونذكر الله وهذا كله طيب، لكن من منا إذا حدثت له هذه الثورة الإيمانية، وهذا النشاط الإيماني يذهب إلى كتبه ليستذكر؟ قليل من يفعل ذلك؛ لأن الناس لا تعرف هذه القيمة للعلم، والأحاديث في العلم محفوظة، ومعظم الحضور تجدهم قد سمعوها، لكن نريد أن نتدبر في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    ثم يكمل صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث ويقول: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وإن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير) الله أكبر! حتى النملة وحتى الحوت ومن في السماوات ومن في الأرض كل هذه الأشياء تستغفر لمعلمي الناس الخير، تستغفر للعلماء من أبناء هذه الأمة العظيمة.

    إذاً: هذه الأشياء تجعل طموحنا كبيراً جداً، وتجعلني أفرغ جزءاً كبيراً جداً من ذهني ومن حياتي لهذه القضية قضية: العلم، فقضية العلم ليست هامشية في حياة المسلمين.

    1.   

    قيمة العلم عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم وجهودهم في تحصيله

    لقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه من العلماء الأفذاذ في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وقد قال كلمة عجيبة جداً، قال: ليودنّ رجال قتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله يوم القيامة علماء؛ لما يرون من كرامتهم. يعني: من قتل في سبيل الله شهيداً عندما يرى مكانة العالم يوم القيامة يتمنى أنه لو كان عالماً وليس شهيداً، انظر إلى أي حد وصلت قيمة العلم في نظر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وعمل بهذا القول طيلة حياته، فكان من أعظم علماء الأرض رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.

    وكذلك نفهم الكلمة التي قالها الحسن البصري وقد ذكرناها لكم في درس سابق، قال: يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء. فـالحسن رحمه الله أخذها من كلمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كما ذكرنا قبل ذلك أن العابد والمجاهد والمناضل وصاحب القضايا الهامة إذا فعل كل ذلك ليس عن علم فإنه يضل ويضل، وذكرنا فتنة الخوارج، وذكرنا أمثلة أخرى كثيرة.

    وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يقول: العابد الذي يعبد الله على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح من أجل هذا قدم الصالحون العلماء، ورفعوا قدرهم، بصرف النظر عن النسب وعن الشكل وعن السن وعن القبيلة، لا توجد اعتبارات لهذه الأشياء مطلقاً في عرف الفاهمين، العلماء هم أعلى الأمة، لا سلطان ولا صاحب مال ولا أي شيء آخر أعلى من العلماء.

    قصة معاذ بن جبل وزيد بن ثابت مع العلم

    لقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه شاباً صغيراً، ومات في سنة (18هـ)، وكان عمره (35) سنة، أو (36) سنة، أو (38) سنة في أكثر الروايات تقديراً لعمره، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن معاذ بن جبل : (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل) فالقيمة العلم عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم رفعوا قدر معاذ وعظموا أمره، فكانوا لا يرفعون أعينهم في وجهه حياء وإكباراً له رضي الله عنه وأرضاه.

    ودخل أبو مسلم الخولاني مسجد دمشق فوجد شاباً صغيراً جالساً، وحوله شيوخ وهؤلاء الشيوخ الكثير منهم من الصحابة، وكانوا جالسين حول شاب صغير لا يتحركون إلا بأمره ولا يصدرون إلا عن رأيه، وإذا حزبهم أمر لجئوا إليه، فأستغرب أبو مسلم الخولاني وقال: ما هذا؟! ما الذي يحصل؟! من هذا الشاب الصغير الذي التف حوله الكهول من الصحابة؟! فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه.

    نظرتم يا إخواني إلى قيمة العلم، هو لم يولد عالماً، إنما مشى في طريق العلم، هناك جهد بذله، وكان مقدراً لقيمة العلم فقد جعل كل حياته موجهة لتحصيله، فرفع رضي الله عنه بهذا الأمر يقول عمر بن الخطاب رضي لله عنه وأرضاه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يرفع بهذا الكتاب -أي: القرآن- أقواماً ويضع به آخرين) يعني: من عرف القرآن يرفع، ومن لا يعرف عنه أي شيء يوضع.

    وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كان شاباً صغيراً من الأنصار، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يجلونه تمام الإجلال رضي الله عنه، لدرجة أن عبد الله بن عباس وهو حبر الأمة ومن أعظم علماء المسلمين كان إذا ركب زيد بن ثابت دابته أمسك بلجامها ويمشي بها، وزيد بن ثابت كان يرفض ويقول: دع عنك يا ابن عم رسول الله، فيقول عبد الله بن عباس : أمرنا أن نفعل ذلك بعلمائنا، فيقول له زيد بن ثابت : أرني يدك، فيعطيه يده فيقبلها. يعني: زيد بن ثابت العالم يقبل يد عبد الله بن عباس ويقول: وكذلك أمرنا أن نفعل بآل بيت رسولنا صلى الله عليه وسلم.

    انظروا إلى العلاقة الطيبة الجميلة بين علماء الأمة، هذا حبر الأمة عبد الله بن عباس ، وهذا من أعظم علماء الأمة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه.

    ولما دفن زيد بن ثابت قال عبد الله بن عباس : دفن هكذا دفن اليوم علم كثير. أي: علم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه.

    قصة عطاء بن أبي رباح والكسائي مع العلم

    لقد كان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور في الحج، وكان معه اثنان من أولاده في الحج، فاحتاج أن يسأل بعض الأسئلة الفقهية في أمور الحج. الحج ليس من الأمور السهلة عند عموم الناس، فليس كل واحد يحج كل سنة مرة، قد تتباعد السنوات، وقد يكون أول مرة يحج فيها، فيريد أن يسأل أسئلة، فيريد أن يذهب إلى عالم، فـسليمان بن عبد الملك أراد أن يسأل فدلوه على عطاء بن أبي رباح رحمه الله وهو من التابعين وكان عبداً وأعتق، كان عبداً أسود وفي عينه مرض، يقال: إنه كان لا يرى إلا بعين واحدة وكان يعرج وأسود، كل الآفات أو العاهات التي ممكن تعجز الإنسان عن الحركة في حياته، وتهبط من معنوياته، لكنه مع كل هذا كان عالماً من أعظم علماء المسلمين، فاحتاج له سليمان بن عبد الملك وولداه فذهبوا من أجل أن يسألوه، ووقفوا خلفه وهو يصلي فلما أتم صلاته سألوه فما التفت إليهم، انظروا إلى عزة العالم، وقف يصلي في مكانه بجوار الكعبة، وهم واقفون وراءه، فلما أتم صلاته سألوه فرد عليهم ولم يلتفت إليهم، ليست له إليهم حاجة، لم يرد مالاً ولم يرد وضعاً اجتماعياً، ولم يرد منصباً معيناً يأخذه، ولم يرد قضاء ولم يرد أي شيء، إنما يريد العلم لله عز وجل فرفعه الله به، فظل سليمان وولداه واقفين يسألونه في منتهى الذلة لعلمه، وبعد ما أكملوا أسئلتهم قال سليمان بن عبد الملك لولديه الاثنين: يا أولادي لا تنيا في طلب العلم. أي: لا تكسلا في طلب العلم، قال: لا تنيا في طلب العلم؛ فإني والله ما أنسى أبداً ذلنا بين يدي العبد الأسود. يعني: نحن المحتاجين لما عنده من العلم وهو ليس محتاجاً لنا، لن يعدم قوتاً، ولن يحرم أبداً من رزق، فهذا أمر مكفول، أما العلم فقد يحرم منه كثير وكثير، إذاً: الرزق مكفول لك، أما العلم فلا بد أن تسعى لتحصيله.

    وهذا هارون الرشيد كان له ولدان وهما الأمين والمأمون فأتى لهما بعالم من علماء الأمة ليعلمهما وهو الكسائي رحمه الله، فكان الكسائي إذا وصل إلى الباب تسابق كل منهما من أجل أن يفتح للكسائي ، يتسابق الغلامان الأمين والمأمون وهما أولياء عهد للأمة، لحمل نعلي العالم الكسائي رحمه الله، فـهارون الرشيد عندما سمع هذا الكلام دعا الكسائي وقال له: يا كسائي ! قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: من أعز الناس؟ قال: أمير المؤمنين، فقال هارون الرشيد : بل أعز الناس من إذا أتى الباب تسابق أولياء العهد على فتحه له، هذا أعز من أمير المؤمنين، وأعلى درجة من أمير المؤمنين.

    هذه قيمة العلم الحقيقية، وهذه هي الدرجة التي وضع فيها الصالحون علماء الأمة، وهذا ما نريد أن نصل إليه إن شاء الله رب العالمين.

    إذاً: أول شيء أن أعرف أن ما أبحث عنه غال جداً، حتى أضحي من أجله، أما لو كان هذا الشيء هامشياً في حياتي فإني لا أفرغ له وقتاً، قد تقول: هناك أمور كثيرة تشغلنا، ولم نحصل على وقت نذاكر فيه، وقد تقول: الظروف منعتني.. وغير ذلك من الأمور.

    تأثير ظروف الحياة في طلبة العلم والعلماء

    تعالوا نرى الظروف: هل أثرت في حياة العلماء، أم هم الذين أثروا فيها، وأصبحوا في النهاية من أعظم علماء الأمة؟!

    بعد ما عرفت قيمة العلم سأعطيك في هذا اليوم درساً مهم جداً؛ لكي تكون عالماً، هذه كلمة قالها يحيى بن أبي كثير رحمه الله وهو من التابعين وهذه الكلمة موجودة في صحيح مسلم ، وهي ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن من كلمات يحيى بن أبي كثير رحمه الله قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم. يعني: إذا كنت تريد أن تصبح عالماً فلا تركن إلى الراحة والدعة، بل لابد أن تتعب في تحصيل العلم؛ ولهذا سئل الشافعي : كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره.

    كيف يكون حال المرأة التي عندها طفل واحد فضاع عليها؟! فـالشافعي رحمه الله يبحث عن العلم كبحث هذه المرأة عن ولدها الضائع.

    إذاً: عرفتم قيمة العلم عند الشافعي ، بهذا أصبح الشافعي رحمه الله عالماً كبيراً وإماماً عظيماً.

    لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

    هناك ناس تظن أن العلم درس أو درسان أو محاضرة أو محاضرتان، وأن الدكتور سيعطي لنا وصفة هائلة، وسنصبح علماء الأمة، والناس تأتي متحمسة لدرس هذا اليوم، كيف تصبح عالماً؟ والحمد لله سنخرج من المسجد ونحن علماء الأمة، أقول: هذا مستحيل، نحن نحتاج إلى سنين وسنين وإلى عمر طويل ينفق في العلم، من أول ما تعتقد هذا الاعتقاد السليم وإلى آخر نفس يخرج من صدرك، وسنضرب بعض الأمثلة لبعض العلماء الذين يطلبون العلم وهم يحشرجون حشرجة الموت، في آخر لحظة من لحظات الحياة يبحثون ويطلبون على العلم.

    لعلكم سمعتم كلمة أحمد بن حنبل رحمه الله المشهورة: من المحبرة إلى المقبرة. يعني: أنا معي محبرة العلم إلى أن أدخل القبر بها. والإمام أحمد بن حنبل كانت حياته صعبة جداً، من نشر سنة وجمع حديث وتعليم لناس، وتعذيب في السجون حياة صعبة جداً، وسئل: متى تستريح يا إمام؟ قال: عندما أضع قدمي في الجنة.

    الدنيا لا توجد فيها راحة، إذا كنت تريد أن تصبح عالماً فاتفق معنا في هذا الوقت وعاهد ربك أنك لن تستريح حتى تصبح عالماً، وستبقى في طلب العلم حتى الموت؛ لأن ما تطلبه غال جداً: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) (ليس الإيمان بالتمني) .

    يذكر ابن الجوزي رحمه الله عن أحد الفقهاء أنه قال: بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا ألقاها؛ لأن بائع الهريسة يبيعها في وقت الدرس. فهو لا يريد أن يترك الدرس من أجل الهريسة، كانوا أصحاب نفوس عالية، وفي النهاية أصبح عالماً من علماء الأمة، والله سبحانه وتعالى يضرب لنا الأمثال بأعظم الخلق وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    كلنا يعلم قصة موسى عليه السلام مع الخضر ، وموسى عليه السلام ليس نبياً فقط ولكن من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك عندما أعلمه الله عز وجل أن في الأرض من هو أعلم منه وهو الخضر رحمه الله قال موسى كما حكى ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عنه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، يعني: لو جلست سنين وسنين للبحث عن الرجل الذي يملك علماً أكثر مني، حتى لو كنت أنا رقم (2) في العلم في العالم فسأبحث عليه حتى أتعلم العلم الذي عنده، ولما ذهب إليه تواضع له وقال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66].

    الذي يتكلم نبي من أولي العزم من الرسل، وهذه كلمات جاءت في كتابنا تعليماً لنا، انظروا إلى التواضع للعلماء، يتواضع له ويشترط عليه الخضر ويوافق على الشرط ويسير معه، ويعتذر له مرة وثانية وثالثة، لماذا؟ لأن قضية العلم قضية مهمة، حتى موسى عليه السلام يبحث عن العلم بهذه الصورة كما جاء في القرآن، وكما ورد في البخاري .

    قصة ابن عباس والفتى الأنصاري مع العلم

    اجتهد الصحابة في تحصيل العلم بما لا يتسع المجال لذكره، من ذلك: أن حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره أربع عشرة سنة، ما زال صغيراً، فكان معه واحد من الأنصار صاحبه، فقال له: عبد الله بن عباس : تعال نسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير. يعني: في هذا الوقت عندك فرصة لطلب العلم، فقد لا تجد المحاضر، أو المكان، أو نفقد نفسك، هناك عراقيل لا حصر لها، فالحق بسرعة، فـعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: يقول له: تعال بسرعة نسمع من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهم كثير في هذا الوقت عما قريب سيموتون، أو يغادرون المدينة للجهاد وفتح البلدان، فقال له الفتى الأنصاري الصغير: عجباً لك يا ابن عباس ! أتحسب أن الناس تحتاج لك ولعلمك، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون؟!

    يعني: فالصحابة كثير جداً أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وكل واحد منهم أمة، فهؤلاء موجودون في المدينة وأنت ذاهب لتتعلم، ماذا ستعمل؟ ستفتي وعمر بن الخطاب موجود، ستفتي وعثمان موجود رضي الله عنهم أجمعين، لا يوجد داعي لأن تتعب نفسك، واتجه هذا الفتى الأنصاري للعب، وعبد الله بن عباس لم يسمع كلامه.

    فأصدقاء السوء يحذر منهم، قد يقول لك: تعالى نجلس، ويصرفك عن العلم.

    إذاً: نحن نريد أن نأخذ القضايا بنوع من التجرد لله عز وجل، قدم لله عز وجل ما يسرك عند لقائه سبحانه وتعالى يوم القيامة، حتى تكون فخوراً بما قدمت يوم القيامة، فـعبد الله بن عباس ترك الفتى الأنصاري وذهب واتجه للعلم، كان يذهب إلى بيوت علماء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم واحداً تلوى الآخر، يذهب فيجد أحد الصحابة نائماً وقت القيلولة فيتوسد رداءه على باب بيته هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ينام على باب الصحابي الذي عنده علم حتى يخرج ويسأله، وفي رواية: فتسفي علي الريح من التراب ما تسفي. كانت شوارع المدينة المنورة من الرمل، لم تكن الشوارع مرصوفة، كل هذا من أجل العلم.

    وتمر الأيام وينظر الفتى الأنصاري عندما كبر إلى الشاب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو جالس والناس حوله بالمئات يستمعون لكلمته وينظرون إلى فتواه، رضي الله عنه وعن أبيه، فيقول كان هذا الفتى -يعني: عبد الله بن عباس - أعقل مني. يعني: ذهب علي وقت طويل جداً لم أتعلم فيه.

    من أجل هذا أقول لكم: من هذا الوقت نبدأ رحلتنا في العلم، لا من السنة التي ستأتي، أو الأسبوع القادم، لا.

    فهذا شخص قبل الاختبار يريد عمل جدول للمذاكرة فيقول: أنا أريد أعمل الجدول من أول الأسبوع من أجل البداية، ويكون هناك يومان حتى يأتي أول الأسبوع، فيلعب في هذين اليومين؛ لا توجد عزيمة ولا يوجد هدف، وهناك ناس لا تعمل جدول مذاكرة أساساً، يقول: هكذا وربنا يسهل بالبركة، وينتظر الواحد من هؤلاء أن يكون من علماء الأمة، نقول: هذا مستحيل، لابد أن يبذل، لا يستطاع العلم براحة الجسم. احفظ هذه الكلمة الموفقة لـيحيى بن أبي كثير رحمه الله.

    فـعبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يجلس على باب أبي بن كعب رضي الله عنه؛ لأن أبي بن كعب كما يقول عبد الله بن عباس من الراسخين في العلم، فيجلس على بابه ولا يدق عليه حتى يخرج، فإذا خرج مشى معه إلى المسجد ويسأله، فـأبي بن كعب عندما يخرج ويجد ابن عم رسول الله جالساً بالباب يقول له: هلا أخبرتني فآتيك؟ لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس ما يزال صغيراً، فيقول أبي بن كعب : هلا أخبرتني فآتيك؟ فيقول ابن عباس : أنت أحق أن آتيك. يعني: أنت العالم ونحن الذين نأتي لنتعلم عندك.

    يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: عندما فتحت البلاد والأمصار أقبل الناس على الدنيا وأقبلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأستفيد من علمه.

    كثرت الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكثرت الأموال والخيرات والقصور والثمار والظلال الوارفة، فأهل الجزيرة العربية كانوا يعيشون في صحراء قاحلة، فأول ما حصلت هذه الفتوحات ذهبوا من الجزيرة إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر، وابن عباس ذهب إلى عمر بن الخطاب ، أي فوز حققه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؟ لقد أصبح حبر الأمة رضي الله عنهما.

    قصة جابر بن عبد الله وأبي أيوب الأنصاري مع العلم

    بعض الناس تتعب من الذهاب مسافة قصيرة لدرس العلم وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما سافر من المدينة المنورة إلى الشام من أجل حديث واحد يعرفه أحد الصحابة في الشام وهو لا يعرفه، شهر ذاهب وشهر عائد، خرج من المدينة من المدينة إلى عمق الشام وأخذ الحديث ورجع إلى المدينة. فهو لم يذهب في جولة سياحية إلى دمشق، ولا ليتفسح أو يشتري شيئاً من بيروت، لا، بل ذهب من أجل حديث واحد.

    وهذا أبو أيوب الأنصاري خرج من المدينة المنورة إلى مصر إلى الفسطاط من أجل حديث واحد ولم يحل الراحلة. يعني: ترك الجمل واقفاً ونزل فسأل عن الحديث ثم ركب الجمل ورجع إلى المدينة من فوره.

    هذه قيمة العلم عندهم، أتريد أن توزن مع هؤلاء في ميزان واحد؟ لابد من جهد وتعب: لا يستطاع العلم براحة الجسم، سأكرر عليكم هذه الجملة (20) مرة، إلى أن تخرج وأنت عازم النية على عدم الراحة، إلا هناك في الجنة إن شاء الله رب العالمين.

    والعلماء من بعد الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم كان لهم من السعي للعلم ما يعجز القلم أو اللسان عن تصويره. فمثلاً: السهر، هل تسهرون؟ هناك ناس تسهر من أجل مشاهدة التلفاز، وهناك ناس تسهر في المقاهي، وهناك ناس تسهر من أجل شيء، وإنما من أجل السهر، فهو قد يعمل أي شيء من أجل تضييع الوقت إلى أن يأتيه النوم، يجلس يعد من (1-100) أو من (10-1000) إلى أن ينام، هكذا في الكتب الطبية التي تساعدك على النوم، حتى إنهم لم يقولوا: قل: سبحان الله مثلاً إلى أن تنام، لا، بل عد واحداً اثنين ثلاثة أربعة عشرة.

    انظروا كيف تسهر هذه الجماعة من الناس؟!

    قصة الإمام النووي مع العلم

    لقد بقي النووي رحمه الله مدة حياته في طلب العلم ومات وعمره (44) سنة، لكن لم يمت حتى خلف ميراثاً من العلم، وكتب الله لعلمه الانتشار والشيوع في بلاد العالم الإسلامي، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منه وأن يرفع من درجاته، لم يكن ذلك بالسهل، وإنما كما يقول النووي عن نفسه: بقيت سنتين وأنا في طلب العلم ما وضعت جنبي على الأرض ولا على فراش، فكان إذا غلبني النوم اتكأت على بعض كتبي برهة، ثم أستيقظ وأعمل في طلب العلم.

    قد يقول قائل: لقد عذب نفسه، نقول: صحيح أنه تعب وبذل واجتهد وقد مات منذ مئات السنين وذهب ذلك التعب والألم وبقي الأجر إن شاء الله، وإلى وقتنا هذا تقرأ في صحيح مسلم بشرح النووي وتقرأ في (رياض الصالحين) وفي (الأربعين النووية)، جمع أربعين حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دون تفسير.

    إذاً: كل من قرأ حديثاً من هذه الأحاديث أو شرحاً من الشروح أو كتاباً من كتب أصول الفقه التي ألفها أو غيرها من المؤلفات الهائلة فإنه يأخذ حسنات وهو في قبره ويظل ذلك إلى يوم القيامة، فأنت عندما تذهب إلى المغرب أو سوريا أو السعودية أو أمريكا أو أوروبا تجد كتب النووي رحمه الله، هذه بركة عظيمة، إنها بركة العلم، لكن لم يأت بالسهل، بل بقي سنتين لم يهنأ بالنوم.

    وهذا البدر بن جماعة رحمه الله من علماء الأمة يقول: لما دخلت على النووي صعب علي الجلوس، لم أحد مكاناً أجلس فيه من كثرة الكتب الموجودة على الأرض، فنزع بعض الكتب حتى أوجد لي مكاناً أجلس فيه، وأنا جالس معه لا أستطيع أن أكلمه؛ لأنه مشغول بالعلم، كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره، هذا كلام في منتهى الروعة للشافعي رحمه الله، لو أن واحدة ضاع ابنها وجاءت أخرى تتكلم معها، هل ستترك ابنها وتتكلم معها؟ هي محروقة من داخل؛ القضية هامة ستظل تدور وتدور إلى آخر نفس في حياتها .. هكذا طالب العلم.

    يقول الحسن البصري : اثنان لا يشبعان: طالب دنيا، وطالب علم.

    لو أفنيت عمرك كله ما حزت العلم كله، ولما شبعت منه، وكلما أخذت منه شيئاً بقي منه شيء كثير، ولن تستطيع الإحاطة به، قال تعالى في الآية الكريمة: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فدائماً العلم كثير.

    أذاً: لن ينتهي العلم أبداً إلا بالموت، وإذا مت وقد اجتهدت في العلم تجد الأجر والمثوبة على ما قدمت.

    وطالب الدنيا أيضاً لا يشبع، والله لو عنده من الأموال كماء البحر، فهو كأنه يشرب من البحر لا يرتوي أبداً طالب الدنيا.

    قصة ابن عبدوس وعبد الرحمن بن القاسم المصري ومالك والبخاري مع العلم

    لقد كان محمد بن عبدوس رحمه الله من علماء الأمة وقد صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة. يعني: أنه لا ينام؛ لأن النوم ينقض الوضوء، قد تقول: هذا تشدد، نقول: نحن نريد أن نطرح أمثلة عليا، من أجل أن نعمل بنصفها أو ربعها، أنا لا أقول لك: لا بد أن تعمل مثل محمد بن عبدوس ، فـابن عبدوس صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة، (15) سنة دراسة، و(15) سنة عبادة، كان يبقى من بعد صلاة العشاء يذاكر العلم إلى الفجر وهو محافظ على وضوئه، ثم يذهب ويصلي الفجر بوضوء العشاء.

    وهذا عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله أحد تلامذة الإمام مالك رحمه الله، كان يذهب إليه في الليل فيسأله مسائل، ويجد عند الإمام مالك في ذلك الوقت انشراح صدر، فيجلس ليعلمه حديثاً واثنين وثلاثة وعشرة، وفي يوم من الأيام كان يريد أن يسأله عن أحاديث، لكنه جاء إليه في وقت متأخر جداً فاستحى أن يدخل عليه، فنام على باب بيته، فخرج الإمام مالك فرآه نائماً، فأيقظه فلم يستيقظ، فذهب إلى المسجد، فخرجت جارية من الجواري من البيت توقظه وتقول له: قم يا غفلان، الإمام غدا إلى المسجد، تقول الجارية: الإمام مالك له إلى الآن (49) سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، (49) سنة حتى أصبح الإمام مالك من كبار علاء المدينة، وأصبح لا يفتى ومالك في المدينة.

    ومذهب مالك من المذاهب المعتبرة في بقاع العالم الإسلامي المختلفة، وإلى الآن يتعبد إلى الله عز وجل الكثير والكثير من المسلمين على فقهه وعلى مذهبه رحمه الله، هذا يدل على أنه قد قدم الكثير.

    وكان الإمام مالك من أغنى المسلمين، لكن لم يكن يحتفظ بالمال، بل كان يأتي إليه طلبة العلم ليعلمهم، فكان يأتيه طلاب من بلاد بعيدة فيستضيفهم ويطعمهم وينفق عليهم، وفي آخر حياته باع الخشب الذي في سقف بيته من أجل أن ينفق على طلبة العلم، وأنفق كل المال الذي معه على طلبة العلم.

    انظر إلى القيمة العليا للعلم في نظره، لو كان يرى أن هذا المال ينفق على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وما إلى ذلك أفضل لكان أنفقه في هذه الوجوه، لكنه يرى إنفاقه على العلم أفضل، كما قلنا من قبل في درس سابق: المسلمون في هذا الوقت بفضل الله عندهم صحوة إسلامية وحمية وينفقون، لكن نادر جداً الذي ينفق على العلم، ننفق على موائد الرحمن وهذا طيب، وننفق على فلسطين وهذا رائع، وننفق على اليتامى والمساكين وبناء المساجد وهذا رائع جداً، لكن من الذي ينفق على العلم؟ من الذي يعطي العلم هذا القدر من الاهتمام؟ قليل، ولا تقوم الأمة إلا بالعلم، فينبغي لنا أن نهتم بأسباب قيام الأمم.

    وهذا البخاري أيضاً كان يذهب لينام فيذكر مسألة وهو على سريره فيقوم ويكتبها، يخاف أن ينساها، ثم ينام، ويذكر مسألة أخرى فيقوم ويكتبها، وثالثة ورابعة، يقول ابن كثير رحمه الله في التاريخ عندما تحدث عن البخاري قال: فيزيد عدد مرات قيامه في الليلة الواحدة على (20) مرة.

    (20) مرة يقوم في الليلة الواحدة من أجل أن يسجل معلومات تنفع الأمة حتى صار كتابه أصح كتاب في الأرض بعد كتاب الله عز وجل بإجماع علماء المسلمين، هذه هي قيمة البخاري . وهناك أناس تكتب في الجرائد على البخاري وما وصلت إلى ظفر قدمه الأصغر، ويقول أحدهم في كلمة: فليقل البخاري ما يقول. يعني: كأنه يقول من نفسه، وكأنه لم يكن عنده منهج علمي واضح يمشي عليه، وقد حج كل من عارضه، لقد عارض بعض الناس البخاري في بعض الأحاديث وقالت: الصواب كذا وكذا، وليس الصواب كما كتب البخاري فحجها الإمام البخاري كان الصواب في جانبه فأقر الجميع أنه من أعظم علماء الأمة، وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.

    هذا الكتاب لم يأت من فراغ، فـالبخاري كان يحفظ ستمائة ألف حديث.

    من المصلحة أن نفرد حديثاً خاصاً بـالبخاري ؛ من أجل ألا تحرموا الفوائد التي كانت في حياته رحمه الله، وأنا كلما أذكر شيئاً عن البخاري أراه معجزة، لقد كان البخاري بآلاف الرجال ، فالله سبحانه اصطفاه حتى جعل كتابه أعظم كتب السنة مطلقاً، فهذا الرجل قدم كثيراً، لم يكن يكتب حديثاً واحداً في صحيحه إلا بعد أن يقوم يتوضأ ويصلي ركعتين استخارة، ثم يكتب الحديث الواحد، وكتابه فيه (7000) حديث بالمكرر، ومن غير المكرر (2612) هذا جهد ضخم من (600) ألف حديث غربل هذا الكتاب العظيم صحيح البخاري .

    لا يقل أحد: أنت أطلت، لا، نحن نجلس مع العلم، وقلنا: لا توجد راحة جسم ولا نوم في العلم، بل سهر في طلب العلم، ومجلسكم هذا في سبيل الله، لو كنت ستذهب إلى شيء أعظم من العلم فاذهب، أما أن تذهب لتنام قليلاً أو لتشاهد التلفاز فلا، بل اجلس خير لك، ولئن تقبض في بيت الله في مجلس علم أفضل من أي شيء تعمله خارج المسجد؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: مجلس علم أفضل من (100) ركعة نافلة. هو يعرف الميزان ما بين العالم والعابد، فالعالم أعظم وأعظم من العابد، بالمقاييس التي ذكرناها.

    قصة محمد بن الحسن الشيباني وأسد بن الفرات مع العلم

    لقد كان محمد بن الحسن الشيباني لا ينام، هو كإنسان يريد أن ينام، فلا تظنوا هؤلاء الناس لم يكونوا بشراً فـالنووي رحمه الله والبخاري ومحمد بن الحسن الشيباني كان يأتيهم النوم، فالواحد منهم عنده أمور خاصة بأسرته وماله وتجارته! لكن عرف قيمة العلم فبذل الجهد فيه، فـمحمد بن الحسن لم يكن ينام، بل كان يستعين على السهر بالماء البارد، وهو من سكان بغداد وفي الشتاء يكون الجو بارداً جداً، ومع ذلك يأتي بماء بارد ويضعه بجواره، وكلما هجم عليه النوم مسح وجهه بالماء البارد، ويقول: النوم يأتي من الحرارة، والماء البارد يغلبه، فيغسل وجهه كل قليل، يقهر نفسه للجلوس للتعلم.

    ومحمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف هما أعظم تلامذة أبي حنيفة رحمهم الله جميعاً.

    وهذه قصة عجيبة لـأسد بن الفرات رحمه الله عندما ذهب لطلب العلم، وأسد بن الفرات من علماء الأندلس وتونس شمال أفريقيا، أتى من تلك البلاد البعيدة ليتعلم في الشرق، فجاء إلى المدينة المنورة فأخذ علم مالك رحمه الله، ثم رجع إلى بلاده ونشر المذهب المالكي في شمال أفريقيا، وهي الآن تونس والجزائر والمغرب، فكل دول المغرب على المذهب المالكي.

    فـأسد بن الفرات ذهب إلى المدينة المنورة وتعلم علم الإمام مالك كله، ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى العراق من أجل أن يأخذ علم أبي حنيفة عن محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ، فحين دخل المسجد تفاجأ بوجود أعداد هائلة من البشر، ولم يستطع الوصول إلى محمد بن الحسن ، وما زال يأتي مبكراً إلى المسجد حتى إنه في يوم من الأيام استطاع أ، يصل إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس معه بعد ما سمع الدرس وقال له: أنا رجل غريب من بلاد بعيدة قليل النفقة والسماع منك نذر، ولا أستطيع أن أبقى كثيراً في بغداد فماذا أعمل؟ فقال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله: في الصباح تسمع مع أهل العراق الذين يأتون الدرس، والليل اجعله لك أعلمك لوحدك في البيت.

    هذه هي العظمة، وتاريخنا كله عظمة، وقد توجد بعض المواقف السلبية في كل أمة، لكن فتش في كنوز التاريخ الإسلامي، هذا هو تاريخنا، وأنا أذكر فقط بعض الأمثلة لا أذكر كل ما وقعت عليه عيني؛ لأن الوقت لا يتسع لذكرها، فهي تحتاج إلى شهور وشهور، بل سنوات وأعمار حتى نتحدث عن تاريخ علمائنا.

    فـأسد بن الفرات كان يذهب كل ليلة إلى محمد بن الحسن ليعلمه العلم، وكان يسهر مع محمد بن الحسن ، وكما ذكرنا أنه متعود على الماء البارد، فكان كلما هجم عليه النوم غسل وجهه، لكن أسد بن الفرات كان إذا هجم عليه النوم قام محمد بن الحسن ورش في وجهه الماء حتى يستيقظ.

    هذه لحظات نادرة عظيمة، هذه هي الأعمار وهي أغلى ما تملك، فالعمر رأس مالك، فإن ذهب بعض عمرك يوشك أن يذهب الكل.

    وكما تعلمون أن من نام ثمان ساعات في اليوم فإنه لو عاش (60) سنة يكون قد نام 20 سنة من عمره؛ لأن الثمان الساعات هي ثلث (24) فيكون ثلث الـ (60) سنة (20) سنة، بالله عليك خبرني ألا تحزن على هذه السنوات (20) سنة تنامها في (60) سنة، هذا لا ينفع، لكن لا تذهب وتنام غير ساعة واحدة، وإنما بتدرج، وسنتكلم إن شاء الله في دروس قادمة على كيف تستيقظ؟ ليس فقط بالماء البارد، لكن أهم شيء أن تعرف قيمة الشيء الذي استيقظت من أجله، حتى تستيقظ له بجد، فـمحمد بن الحسن كان يرش الماء في وجه أسد بن الفرات حتى يستيقظ فيعلمه، يجرعه العلم تجريعاً، فبقي أسد بن الفرات في العراق حتى حوى علم أبي حنيفة عن طريق تلميذه محمد بن الحسن وعاد إلى تونس وبدأ يعلم الناس هناك، ونشر مذهب الإمام مالك ، وعلم الناس فقه أبي حنيفة رحمه الله، وخرج بعد ذلك مجاهداً ففتح صقلية واستشهد، هذه قمم في الإنسانية، فـأسد بن الفرات رحمه الله صار إلى ذلك بالسهر والسفر لأجل العلم.

    وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين كان يقول: كنت أرحل للحديث الواحد الليالي والأيام، هناك مجموعة كثيرة من الناس عاصرت الصحابة، لكن ليس كل الناس علماء، وليس كل الناس سعيد بن المسيب رحمه الله.

    والإمام البخاري تعلم على يد ألف شيخ سافر إليهم إلى مختلف البلدان في العالم الإسلامي في ذلك الوقت؛ من أجل العلم.

    والرازي رحمه الله كان يقول: سافرت ماشياً على قدمي في طلب العلم ألف فرسخ، يعني: (500) كيلو يقول: ثم بعد ذلك تركت العدد. يعني: أنه لم يمش (5000) كيلو وتوقف، لا، وإنما توقف عن العد، فصار يمشي من غير أن يعد، فهو عد لنفسه (5000) كيلو ماشياً على الرجلين؛ من أجل أن يصل إلى العلم.

    قصة بقي بن مخلد مع العلم

    لقد كان بقي بن مخلد من علماء الأندلس وكان فقيراً ليس عنده مال، لكن عنده علم كثير وعنده همة عالية، فهو عندما علم أن العلم موجود في الشرق، وسمع عن شخص اسمه أحمد بن حنبل رحمه الله وأنه أعظم وأعلم أهل الأرض في زمانه، وإمام أهل السنة والجماعة رحمه الله، وأنه يسكن في بغداد، وبقي بن مخلد في الأندلس، التي هي في هذا الوقت أسبانيا والبرتغال، فهو فقير وليس عنده مال، فماذا عمل؟ قال: اشتغل بجد واجتهاد من أجل أن أحصل على بعض الأموال التي تكفي مئونة بعض الأيام، فأنتقل بها من مدينة إلى مدينة، فإذا وصلت إلى المدينة الثانية عملت فيها حتى أتكسب بعض المال الذي يكفيني إلى المدينة الأخرى .. وهكذا حتى أصل إلى بغداد، خرج سيراً على الأقدام من الأندلس، ثم المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، فلسطين، الأردن، بعد كل هذا العناء والتعب وصل إلى العراق مشياً على رجليه، بقي في الرحلة سنتين يمشي على رجليه، فلما وصل إلى بغداد سأل قال: أليست هذه البلد التي فيها أحمد بن حنبل قالوا: نعم، لكن أحمد بن حنبل محبوس.

    انظروا له سنتان يمشي حتى وصل إلى بغداد فيجد الإمام أحمد محبوساً!!

    ليس هذا فحسب، بل بعد أن خرج الإمام أحمد من السجن منعوه من التدريس، ومنعوه من الخطابة، فجلس في بيته تحت الإقامة الجبرية وعليه رقابة من الأمن، فالإمام أحمد بن حنبل يمنع من التدريس خوفاً على الناس من الفتنة، فـبقي بن مخلد لما رآه ممنوعاً من التدريس بحث عن شيخ آخر يأخذ منه دروساً، فقالوا له: هذا يحيى بن معين من أعظم علماء المسلمين، فهو إمام المسلمين في الجرح والتعديل وفي علم الرجال وأسانيد الأحاديث، فذهب يسأله ويتعلم منه. ويحيى بن معين رحمه الله عندما تسأله وتقول له: فلان من رجال الحديث يقول: نعم هو ثقة، وهذا صدوق، وهذا كذاب، وهذا وضاع.. فهو يجرح ويعدل فذهب بقي يتعلم، فلما دخل على يحيى بن معين المسجد وجد زحاماً، فلم يصل إليه إلا بعد أيام، يقول: كنا نذهب إلى المسجد بعد صلاة العصر من أجل أن أحجز مكاناً لفجر اليوم التالي. كيف كان يتصرف؟ هل كان يضع المفتاح مكانه؟ الله أعلم، المهم أنه كان يجلس في مجلس يحيى بن معين قبل الدرس بنصف يوم؛ من أجل أن يضمن السماع؛ لأنه لم يكن هناك (ميكرفونات) نحن في نعمة، والله لتسألن عن النعيم، سنسأل عن هذا النعيم، في هذا الوقت عندنا أشرطة، وكتب، وسيديهات، وكمبيوتر، وفضائيات، وبرامج، وخطب ومساجد، وحلقات، ومع ذلك كله تزهد الناس في العلم.

    وذكرنا أن جابر بن عبد الله ذهب إلى الشام من أجل حديث واحد، والواحد منا يكسل أن يذهب إلى المكتبة القريبة من أجل أن يأتي بحديث ويكسل أن يبحث عن مسألة، لكن بقي بن مخلد ذهب إلى مجلس يحيى بن معين فبدأ يسأله، جاءت له الفرصة أخيراً بعد أيام تبكير وحجز، فقال له: ماذا تقول في فلان؟ فقال: هذا صدوق، وفلان؟ هذا ثقة، وفلان؟ هذا كذاب، فظل يعدل ويجرح، فقال بقية الطلبة: حسبك، نحن نريد أن نسأل أيضاً، لست وحدك في المسجد، أعطنا فرصة، فقال لهم: أنا لي سنتان أمشي من بلادي حتى وصلت إلى هنا من أجل أسأل، فقام وسأل السؤال الأخير: ما تقول في أحمد بن حنبل ؟ فقال: مثلي يسأل عن أحمد بن حنبل ، هذا إمام المسلمين وخير المسلمين وأفضل المسلمين، فلما سمع هذا الكلام قال: أنا لابد أن أصل إلى أحمد بن حنبل هذا، فماذا عمل حتى يصل إلى الإمام أحمد ؟ قام ولبس لبس متسول، وربط على رأسه خرقة، وأمسك عصاً بيده، ثم ذهب يسأل: أين بيت أحمد بن حنبل ؟ فدل عليه، لكن الرقابة خارج المنزل، فذهب يدق الباب، ففتح له أحمد بن حنبل ، وقال له: أنا سائل. فقال له الإمام أحمد : ادخل أعطك شيئاً، فلما اختلى به قال له: يا إمام أنا قدمت من بلاد بعيدة، قدمت من المغرب من الأندلس، جئت أتعلم فوجدتك في هذه الحالة التي ترى، فهل تأذن لي أن آتيك كل يوم بهذا اللباس وأنا غريب عن البلد ولا يعرفني أحد، فتحدثني الحديث أو الحديثين؟

    انظر إلى أي درجة وصل به الأمر من أجل أن يأخذ حديثاً وحديثين وثلاثة.

    والآن مسند أحمد بن حنبل موجود عندنا في كل المكتبات، اذهب وافتح وتعلم العلم الذي جعل بقي بن مخلد رحمه الله يسافر سنتين سيراً على الأقدام؛ من أجل أن يتعلم في كل يوم حديثاً.

    ومسند أحمد بن حنبل فيه (30000) حديث غير مكرر، وهو مسند ضخم من أعظم المسانيد التي فيها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فـأحمد بن حنبل رحمه الله وافق وأذن له، مع أنه قد يتعرض لخطر عظيم، لكن هذا شخص أتى من الأندلس ليعلمه، فظل كل يوم يدخل عليه في هيئة سائل، وكان يأخذ حديثاً أو اثنين، وأحياناً ثلاثة، حتى لا يطيل فيلفت الأنظار؛ لأن الرقابة في الخارج.

    ومرت الأيام ورفع الله عز وجل المحنة، وتولى خليفة يعظم السنة فأخرج الإمام أحمد بن حنبل وجعل له مكاناً في المسجد يعلم الناس، قال بقي : فكنت أذهب إليه في المسجد، فيأمر الناس أن يوسعوا لي حتى أجلس قريباً منه، وكان يهش لي ويبش وفي يوم من الأيام مرض بقي بن مخلد وكان مستأجراً غرفة في فندق وجلس فيها، فلما افتقده أحمد بن حنبل وقال: أين بقي ؟ قالوا: إنه مريض فقام الإمام أحمد بن حنبل ليزوره بنفسه، فلما مشى سار الناس خلفه، وكل منهم يمسك ورقة وقلماً بحيث إذا تكلم كتبوا لفظه، أي كلمة يقولها يكتبونها، أي فضل هذا؟ هل أناله بمال أو بسلطان أو بنسب أو بعائلة؟ ناله بالعلم فقط، ما يعلو عليهم إلا بالعلم، كان من أفقر المسلمين رحمه الله، سافر إلى كل بلاد المسلمين من أجل أن يتعلم، ذهب إلى الكوفة، والبصرة، ودمشق، والمغرب، وخراسان، والحجاز، واليمن، لما ذهب إلى اليمن يحمل الدقيق للناس بدرهم في اليوم؛ من أجل أن يصرف على نفسه ويتعلم على علماء اليمن، يأخذ أحاديث من علماء اليمن الذين وصلتهم أحاديث ولم تصله، ولما رجع من اليمن تشققت رجلاه؛ لأنه ذهب ماشياً ورجع ماشياً، قد يقول شخص: قد آن الأوان ألا يرتحل، ومرت أيام فيقول أحد المعاصرين للإمام أحمد : فسألت عنه فقيل: إنه ذهب يتعلم على يد شيخ في حمص.

    فالناس يمشون مع أحمد بن حنبل رحمه الله فدخل الفندق بهؤلاء الناس كلهم، فلم يستوعب الفندق هذه الأعداد، يقول بقي : فسمعت جلبة وارتج المكان الذي أنا فيه، فجاء صاحب المكان إليَّ مسرعاً وقال لي: هذا إمام المسلمين أتى بنفسه ليزورك، فدخل الإمام أحمد بن حنبل ومسح على رأسه ودعا له بالشفاء، ثم خرج، يقول بعد ذلك: ما رأيت خدمة أعظم من هذه الخدمة التي خدموني إياها في الفندق، صاروا يقولون: هذا من تلاميذ أحمد بن حنبل فـبقي بن مخلد رحمه الله في بغداد حتى حوى العلم ثم عاد إلى بلاده ومات في الأندلس رحمه الله.

    هذه يا إخواني بعض الأمثلة والأمثلة كثيرة جداً لا أستطيع أن أكملها، وأشعر أنكم يعني قد سهرتم بما فيه الكفاية، ونحن نأخذ الموضوع بالتدرج، والأمثلة الباقية في غاية الروعة، ولذلك سنؤجلها إن شاء الله حتى نستوعبها تمام الاستيعاب، وننتقل بها إلى حيز العمل والحركة، لا نريد كلاماً فقط للاستمتاع، أو أن نقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فقط، فعلماء المسلمين كانوا عظماء فضلاء، فأين السهر في حياتك لطلب العلم؟ أين السفر في حياتك لطلب العلم؟ أين الكد والتعب والكدح لتكون من علماء المسلمين؟ لا تبنى الأمم إلا بالعلم، ولا يستطاع العلم براحة الجسم.

    أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767134575