بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فمع الدرس التاسع من دروس المجموعة التي أطلقنا عليها اسم: كن صحابياً.
حديثنا إن شاء الله تعالى عن الصحابة رضوان الله عليهم وكيف كان اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنته، وكيف كان تعاملهم مع هذه السنة المطهرة.
إن نظرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى السنة كانت نظرة فريدة حقاً، فقد كانوا يعظمونها إلى درجة لا يتخيلها إلا من درس حياتهم بعمق، فدرس كل نقطة من نقاط حياتهم رضوان الله عليهم أجمعين.
ثم مع مرور الزمن تفاوتت نظرة الناس الذين جاءوا من بعد الصحابة، فاختلفت نظرتهم للسنة، فمنهم من عظمها ولكن كشيء نظري، فيأخذ ويترك منها ما شاء.
ومن الناس من اعتقد أنها شيء من الكماليات لا من الضروريات.
ومن الناس من اعتقد أن السنة أشياء وأمور خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست لعموم الأمة، فإذا قلت لأحدهم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل كذا، أو يقول كذا، أو كان يتعامل بالطريقة الفلانية في هذا الأمر، يقول لك: هذا الرسول، أما أنا فلست برسول!!
ومن الناس من تطاول على السنة، فطعن فيها وألقى بالشبهات، واتبع المتشابه منها وأعرض عن المحكم.
فهذا تفاوت كبير في تعظيم السنة في الأجيال التي لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا فنحن نريد أن نرى نظرة الصحابة للسنة النبوية، وكيف كان تعاملهم معها.
إن ارتباط الصحابة بالسنة كان سبباً مباشراً لوصولهم إلى رضا الله عز وجل، وإلى حب الله عز وجل، فالله عز وجل لن يحب عبداً حتى يتبع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى مصرحاً بذلك: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت التفسير العملي للقرآن الكريم، والتطبيق الواقعي لما أراده الله عز وجل من العباد، فكل صغيرة وكبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لهدف مقصود ومتابعة بالوحي، ولذا تستطيع أن تقول بمنتهى الاطمئنان: إن كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كانت متابعة بالوحي الكريم من الله عز وجل، فإما أن الله سبحانه وتعالى يقول له: اعمل كذا وكذا، وإما أنه صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً ونزل الوحي بالتأكيد أو بتعديله إلى شيء آخر.
فإذاً: كل شأن من شئون حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت متابعة بالوحي، وليس هذا إلا للرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء فقط، وهذا يعني: أنه لا يجوز تقليد إنسان تقليداً مطلقاً، وإنما ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل إنسان غير النبي صلى الله عليه وسلم قد يصيب ويخطئ، وكل إنسان يؤخذ من كلامه وأفعاله ويرد، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أن أي شخص عمل شيئاً حسناً وقلدته الناس في ذلك، فإنه يأخذ مثل أجورهم، مع عدم نقصان أجورهم، ونفس الأمر إذا عمل الرجل شيئاً سيئاً.
ولذلك فإنه من الخير العظيم أن المسلم عندما يقلد النبي صلى الله عليه وسلم فيقلده أناس آخرون، فإن ذلك يضاف إلى حسناته، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
إذاً عندما نقول: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. فإننا نقصد بذلك: طريقته ومنهجه وأسلوبه في الحياة، لا نقصد السنة التي بمعنى النوافل، والتي تعد أحد الأحكام التكليفية الخمسة عند الفقهاء: الواجب، والحرام، والسنة، والمكروه، والمباح، وإنما نقصد السنة عند علماء أصول الفقه، وأصول التشريع، وأصول الحديث، إذ إنهم عرّفوا السنة بقولهم: هي كل ما نقل عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. فأي شيء نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو سنة، سواء كان فرضاً أو نفلاً، لا فرق في ذلك.
فقولهم: (من قول) أي: أي كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).. وغيرهما من الأحاديث التي ينطبق عليها أنها من قوله صلى الله عليه وسلم.
وقولهم: (أو فعل) أي: ما نقله الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال فعلها، فمثلاً: أداء الصلاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر أربعاً، يقرأ في كل ركعة بالفاتحة، ويركع ويسجد، وعند ركوعه يقول: الله أكبر، وعند الرفع يقول: سمع الله لمن حمده، وهكذا ينتقل من فعل إلى فعل، فهذه الأفعال منها ما هو فرض ومنها ما هو نافلة، لكن كلها تدخل تحت أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقولهم: (أو تقرير) أي: أي شيء أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أن الصحابي إذا عمل عملاً وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وسكت عنه واستحسنه صار ذلك سنة؛ لأنه ليس من الممكن أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن باطل أو يستحسنه.
إذاً: كل كلمة خرجت من فمه صلى الله عليه وسلم، وكل حركة تحركها، وكل سكنة سكنها، وكل ابتسامة ابتسمها، أو غضبة غضبها صلى الله عليه وسلم، وكل أمر حصل أمامه أو علمه وسكت عنه صار سنة يقتدى به، وكل أمر حدث أمامه أو علمه ونهى عنه صار عكس السنة، أي: يكون منهياً عنه؛ ولذا فإن المسلم مطالب بأن يعرف كل حياة الرسول؛ حتى يصير متبعاً له ولسنته عليه الصلاة والسلام.
وهناك أمر لم يحدث في حياة أي إنسان على وجه الأرض إلا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أنه ليس في حياته مطلقاً أي سر، فكل حياته مكشوفة أمامنا، وذلك من أجل أن نتعلم كيف يمكن أن نقتدي به عليه الصلاة والسلام، وكيف يمكن أن نقلده، ولعل هذا هو إحدى الحِكَم التي من أجلها تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بإحدى عشرة زوجة، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع أكثر من تسع في وقت واحد، لكن هذا العدد من الأزواج استطاع أن ينقل لنا كل صغيرة وكبيرة في حياته صلى الله عليه وسلم الشخصية .. وغيرها، فقد كن معه في البيت، ونقلن لنا كل ما كان يعمله في بيته، ولو كانت زوجة واحدة لما استطاعت أن تنقل لنا كل هذا الكم الهائل من المعاملات، وكل أموره الشخصية التي تجري في بيته، لذا شاء الله عز وجل أن تكون حياة نبيه كاملة مكشوفة للأمة؛ لأن كل حركة في حياته ستكون مفيدة في شيء ما، وبذلك لم يعد يوجد أي أمر أو خبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مخفياً عنا، وصدق الله إذ يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
إذاً: فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الحياة بأسرها، فله سنةٌ صلى الله عليه وسلم في كيفية الاعتقاد في الله عز وجل، ولا بد أن نعتقد في الله كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو خرجنا عن طريقه لضللنا.
وله سنة في الشعائر، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وقيام الليل.. وغيرها.
وله سنة في قراءة القرآن لا بد أن تتبع.
وله سنة في طلب العلم ونقله، ولذلك ضوابط وشروط معينة لا بد من السير عليها، وهذه الضوابط منها ما هو نفل ومنها ما هو فرض.
وله سنة في الدعوة، وطريقة في امتلاك قلوب الآخرين، والتأثير عليهم والوصول إليهم بدعوة الله عز وجل.
وله سنة في الطعام والشراب والذبح والصيد، وليس معنى سنته في الطعام أن نقصد فقط طريقته في الأكل، لا، وإنما نجتنب كل ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يأت تحريمه في القرآن الكريم؛ لأن ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم صار حراماً، وليست السنة أمراً اختيارياً، فيأخذ منها المسلم ما يشاء ويدع منها ما يريد.
وله سنة في البيع والتجارة والزراعة والشركة، ولذلك قوانين وتشريعات وأصول، ينبغي للتاجر المسلم أن يعرفها.
وله سنة في القضاء، وفي فض المنازعات والخصومات بين الناس.
وله سنة في الجهاد والقتال والغزو والتعامل مع العدو، متى تحارب؟ ومتى تعاهد؟
وله سنة في التعامل مع زوجاته وأولاده وأصحابه وجيرانه وضيوفه، حتى مع أعدائه، سنة في كل أمر من الأمور التي تقابل الإنسان المسلم في حياته كلها، وعليه نستطيع أن نقول: إن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها مهمة، وليس فيها أمور خاصة وأمور عامة، فكل شيء قاله أو فعله أو أقره فهو سنة من سننه صلى الله عليه وسلم؛ فنحن لا نتكلم عن حياة إنسان أو تاريخ إنسان عادي، لا، وإنما نتكلم ونتحدث عن دين، نتكلم عن شرع، عن قانون متكامل، عن دستور محكم، عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى. وهذا هو المقصود من السنة.
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء -أي: الشريعة- ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك).
قوله: (تركتكم على البيضاء) أي: الملة الواضحة النقية، ليس فيها شيء واضح وشيء مبهم، فكلها نهار ساطع أبيض، ليس فيها ليل أسود.
ثم بعد هذا الكلام يحذر تحذيراً خطيراً جداً ويقول: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) أي: من سيطول به العمر إلى الأزمان اللاحقة كزماننا هذا سيرى اختلافاً كثيراً، فالشرق يقول: كذا، والغرب يقول: كذا، والمسلمون أنفسهم منهم من يقول: كذا أو كذا، فوجدت اختلافات وآراء عديدة، فمنهم من يقول: إن (الباليه) فن راق، وإن العري والإباحية نوع من قمة الإبداع الفني الجميل.
ومنهم من يقول: الرشوة هذه إكرامية أو عمولة أو سمسرة.
ومنهم من يقول: إن كان لك عند الكلب حاجة فقل له: يا سيدي حتى يقضي لك حاجتك.
ومنهم من يقول: هذا ليس من شأننا، فهل نحن سنصلح الكون؟! فاتركني في حالي!
والعجب أن كل واحد من هؤلاء عنده حجة ومنطق لكلامه هذا! وممكن أن يجادلك ساعة وساعتين، بل والعمر كله.
وهنا السؤال: ماذا يمكن أن نعمل عند الاختلاف وكثرة الآراء؟ تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي)، هنا ليس من المعقول أن معنى السنة: النافلة، وإنما معناها: طريقته وحياته ومنهجه عليه الصلاة والسلام في كل أمر من أمور الدنيا.
ثم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، والخلفاء الراشدون هم: سيدنا أبو بكر ، وسيدنا عمر ، وسيدنا عثمان ، وسيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، فأنت تخيل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً مكانك عند الاختلاف وتعدد الآراء، ماذا كان سيعمل؟ يا ترى لو كان هناك حفلة سيئة، هل كان سيحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان من الممكن أن يسلم على الراقصين والراقصات، ويوزع لهم الهدايا والجوائز، ويقول: ما شاء الله على الفن الجميل، والإبداع الراقي، أم سيمنع ذلك ويحرمه؟ فتخيل أنه مكانك وساعتها ستعرف الإجابة، والكلام هذا ليس بالسهل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عضوا عليها بالنواجذ)، أي: تمسكوا بكل ما تملكون من قوة وعزيمة بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، السنة التي أتت في الحديث الشريف الذي رواه الحاكم والبيهقي وابن عبد البر والإمام مالك عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)، (فالسنة في هذا الحديث ليس المقصود بها النافلة، وإنما المقصود بها حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها، ولذا عندما نفهم السنة بهذا المعنى الواسع نستطيع أن نفهم هذا الحديث المخوف الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، فقالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ -أي: من يرفض أن يدخل الجنة؟- قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، فالمسألة في غاية الخطورة، والذي لا يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطر بالجنة، والذي يخاطر بالجنة على خطر كبير وعظيم.
وعليه فإن السنة من هذا المنطلق هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي المصدر الثاني للقانون والدستور في الإسلام، بل هي أصل القانون والدستور في الإسلام، وقبل ذلك القرآن الكريم، فلا ينفع أن يوجد دستور أو قانون في الإسلام من غير قرآن وسنة، فالاثنان لا غنى أبداً عن أحدهما، ومع كل هذا فإن هناك أناساً يعترضون على السنة ويقولون: إن القرآن يكفيهم، فيطعنون في قضايا كثيرة جداً جاءت بها السنة المطهرة، فمنهم من يطعن في الشفاعة، ومنهم من يطعن في الحياة في القبر، ومنهم من يطعن في الهدي الظاهر، ومنهم من يطعن في الحدود، والعجيب أن يتاح لهؤلاء في الإعلام لبث سمومهم هذه، مع أن الرد عليهم ميسور وسهل جداً، ومستحيل أن يوجد مؤمن واحد حريص على دينه يستطيع أن يستغني عن السنة.
ومع ذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه يعيش حياته الطبيعية، فكان يتاجر ويشتغل، وكان صاحب زوجة وأولاد، لكن كان حريصاً كل الحرص على أن يعرف كل شيء عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن عندما نقرأ أو نسمع مثل هذه القصص نظن أن سيدنا عمر كان ليله ونهاره مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتركه أبداً، سواء في الجامع أو غيره، لا، بل كانت حياته سائرة بصورة طبيعية، لكن في نفس الوقت هو حريص على أن يعرف كل شيء عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يروح يوماً والثاني يروح يوماً وهكذا، فلماذا لا نعمل كعملهم هذا؟ وخاصة نحن في زمن لم يعد كل الناس لديها الوقت لأن تقعد فتدرس، فلماذا لا يقرأ أحدنا شيئاً من الشرع ثم ينقلها لجاره؟ وجاره يقرأ شيئاً وينقلها له، وثالث يقرأ شيئاً وينقلها للاثنين وهكذا، وهذا العمل من عمر من باب التعاون على البر والتقوى، مع أن جار عمر هذا ليس صحابياً معروفاً هو ليس كـأبي بكر ، وعثمان.. وغيرهما، ومع ذلك كان سيدنا عمر يستفيد منه، وعمر رضي الله عنه أيضاً كان يفيده، فلماذا لا نتعاون في مثل هذه الأشياء: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وهل هناك أحسن من التعاون على معرفة سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم؟
يقول عبد الله بن عباس : فترك ذلك. أي: أن صاحبه الأنصاري لم يذهب فيسأل الصحابة، قال ابن عباس : وأقبلت أنا على المسألة، وإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه في قيلولته، فأتوسد ردائي على بابه، فتسف الريح التراب على وجهي. فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك. فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث. وبعد مرور فترة من الزمن على طلب العلم يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فبقي الرجل - أي: صاحبه الأنصاري- حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ يسألونني العلم. أي: صار ابن عباس رضي الله عنهما من علماء المسلمين، ورحل الناس إليه لطلب العلم، بينما صاحبه الأنصاري ندم على ذلك، ولذا جاء عنه أنه قال: كان هذا الفتى - أي عبد الله بن عباس - أعقل مني. لكن الندم عند ذلك لا ينفع، والوقت الذي يذهب منك لا يرجع مرة أخرى، والذكي هو الذي لا يضيع وقته، وكل شيء يمكن أن يعوض إلا الأيام والليالي.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160]، في الآيتين تحذير خطير جداً للذي يكتم آيات الله عز وجل، أو يكتم أي علم وصل إليه عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة بسبب هذا التحذير كان يقول كل معلومة عرفها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا سؤال: لماذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يعرف كل هذه الأحاديث وغيره من الصحابة لم يعرف هذا الكم الهائل منها؟ يفسر ذلك أبو هريرة فيقول: إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق -يعني: التجارة-، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني. يعني: كنت أبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم لا أفارقه وأكتفي من الأكل بما يشبعني، وقد كان أبو هريرة من أهل الصفة رضي الله عنهم أجمعين.
لكن قد يقول قائل: هل يمكن أن نترك أشغالنا وتجارتنا وأعمالنا ونقعد نتعلم الأحاديث ونتعلم السنة ونتعلم الشرع؟ أقول له: لا، لأن كل الصحابة لم يكونوا معتكفين على باب الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرفوا منه الأحاديث، لكن كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يسد ثغرة مهمة جداً ألا وهي نقل الأحاديث النبوية لوحده، فقد نقل لنا أكثر من سبعة آلاف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعدته هذه كانت مفيدة جداً للمسلمين، وهناك أناس سدت ثغرات أخرى، وهذا الذي نريده، أناس تسد ثغرات السنة، وأناس تسد ثغرات أخرى، وفي الأخير يتعاون الكل ويستفيد بعضهم من بعض.
ففي البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه الذي كان يسكن في مكة والرسول في المدينة، فتزوج ابنة لـأبي إيهاب بن عزيز رضي الله عنه، فأتته امرأة فقالت له: إني قد أرضعتك وامرأتك. فقال لها عقبة : ما أعلم أنك أرضعتني. أي: أنا لم أكن أعرف أنك أرضعتني قبل هذا، ولم تخبريني بذلك قبل الزواج، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وسأله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (كيف وقد قيل؟ ثم أمره أن يفارقها، ففارقها
الشاهد من ذلك هو حرص الصحابة الشديد على معرفة رأي الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: أنا قد تزوجت وانتهى الأمر، ولم يكتف بسؤال أصحابه في مكة، لا، وإنما رحل من مكة إلى المدينة، وقطع (500) كيلو في الصحراء ذهاباً وإياباً؛ من أجل أن يسأل عن مسألة واحدة؛ وذلك لأن المسألة مهمة وتستحق هذا السفر الطويل، وليس كل شخص يكون حريصاً على معرفة رأي الدين في أي مسألة، فكثير من الناس يأتون إلي ويسألونني عن مسائل في الطلاق أو الزواج، فتعرف منه حكايته وقصته، فمنهم من يسألك وهو قد طلق قبل هذا مرة ومرتين وثلاثاً، وهو لا يزال مع امرأته! فتسأله: كيف؟ فيقول لك: والله أنا سألت أحد معارفي فقال لي: أنت كنت غضبان عند طلاقك لزوجتك؟ فقلت: نعم، فقال لي: إذن لا تحسب طلقة. فيأخذ الموضوع ببساطة، وهناك قضايا وأمور ضخمة جداً في حياة الناس يأخذونها ببساطة، وليس هذا هو الذي نريده، فنحن محتاجون لأن نبذل مجهوداً كبيراً حتى نعرف رأي الدين في كل قضية من القضايا، صغرت هذه القضية في أعيننا أم لا، ولا بد أن نعرف أنه ليس هناك حاجة اسمها صغيرة أو كبيرة، إنما هناك حاجة اسمها حلال وحاجة اسمها حرام، وهذا هو الذي نريد أن نفهمه وندرسه في حياة الصحابة.
فيقول عبد الله بن أنيس : (قلنا: كيف هو وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ -يعني: ليس معنا شيء فكيف سنخلص حقوق بعض- فقال صلى الله عليه وسلم: بالحسنات والسيئات).
وعند هذا انتهى الحديث، فأخذه جابر بن عبد الله ثم رجع إلى المدينة المنورة، وكل هذا من أجل حديث واحد، فيا ترى كم عندنا كتب في المكتبة فيها أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم نقرأها؟ أليس لدينا وقت لذلك؟ ولماذا وجد جابر بن عبد الله وقتاً حتى يقطع المسافات الكبيرة من أجل أن يعرف حديثاً واحداً؟ لاشك أنه أعطى للموضوع أهمية، فلذلك استطاع أن يجد وقتاً، وكذلك ما دام العبد يعطي لموضوع أهمية، فإنه يستطيع أن يجد له وقتاً، كالواحد منا يستطيع أن يجد أسبوعاً كاملاً يذهب فيه إلى عطلة الصيف؛ لأنه عرف قيمة المصيف عنده، وكذلك يستطيع أن يجد ساعتين يتفرج فيها على المباراة؛ لأنه عرف قيمة المباراة عنده، وعليه فعلى قدر أهمية الموضوع عندك ستجد له وقتاً.
واسمع راوي الحديث ماذا يقول: ثم انصرف أبو أيوب بعدما سمع الحديث إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة، فلم يقعد في مصر ولا لحظة واحدة، لم يقعد ليشاهد الأهرامات، ولا ليشاهد نهر النيل، ولا حتى يرى أهل مصر أو يتكلم معهم، بل جاء ليتعلم سنة واحدة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى بلده، فكان الهدف واضحاً جداً عنده، ألا وهو أنه يعرف سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عنده وقت يصرفه في أي شيء آخر.
وأنا بذكر هذه القصص والأحاديث لا أريد أن تصاب بالحزن والكآبة، ولا أريد أن تسافر من بلد إلى بلد آخر لتتعلم السنة، وإن كان هذا أحياناً قد يكون مطلوباً، لكن أنا أريد أن تخرج الكتب التي في بيتك وتقرأها، أو أن تشتري كتباً إن لم يكن عندك في البيت، وأريد أن تحضر درساً في العلم الشرعي في منطقتك أنت، لا المناطق البعيدة، وأريد أن تسأل المشايخ الذين تعرفهم عن القضايا التي تعترضك في حياتك اليومية، وما أكثر هذه القضايا؛ لأن هذه القضايا هي عمرك كله، فكل صغيرة وكبيرة في حياتك للدين فيها رأي، فهذا هو المقصود من سماع مثل هذه الحكايات عن جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
والشاهد: أن عبد الله بن مغفل رأى الرجل مرة أخرى يخذف، بعد أن نبهه كل هذا التنبيه، فقال له عبد الله بن مغفل: (أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف وأنت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا). وفي رواية لـمسلم قال: (لا أكلمك أبداً). ففي بداية الأمر نصحه، لكن لما رآه يعمل شيئاً في نظره كبيرة جداً قرر أن يقاطعه، ولذلك أجاز العلماء مقاطعة الذي يخالف السنة عمداً، حتى وإن كانت المقاطعة أكثر من ثلاثة أيام؛ وهذا بعد النصح والإرشاد له.
والشيء العظيم أيضاً في الصحابة أنهم كانوا يتبعون الرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يسألوا عن الحكم، أي: لو لم يروا الحكمة من الفعل فإنهم يقلدون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبعونه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً ينبغي للمسلم أن يعمله، حتى ولو لم يفهم الحكمة من ذلك، وكذلك الأمر إذا منع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أو كرهه، ولذا كانت الحياة سهلة عند الصحابة، ومواطن الحيرة كانت عندهم قليلة جداً، فيصبح كل الهم هو البحث عن فعل الرسول أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا عرفوا رأيه في أي مسألة من المسائل زال الإشكال، وتصير الرؤية واضحة.
مثال آخر: ما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: فما لنا وللرمل؟ فما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، والرمل هو: الإسراع مع تقارب الخطى، وهو من مناسك الحج، وفي رواية يقول: فيم الرمل والكشف عن المناكب، أي: عن الأكتاف، وأول ما كان هذا في عمرة القضاء، في السنة السابعة، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يري الكفار قوة المسلمين، فأمر الصحابة بالكشف عن الأكتاف، والجري الخفيف الذي هو كالجرية العسكرية؛ وذلك حتى يخوف المشركين من قوة المسلمين، لكن بعد ذلك ظن عمر أن الشرك قد انتهى، وأنه لا يوجد مشركون، وكل الجزيرة قد أسلمت، وكل الحجاج مسلمون، وعليه فلا فائدة من الرمل والكشف عن المناكب، فهذا كان ظن عمر في بداية الأمر، ثم رجع لنفسه فقال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه. أي: شيء عمله النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن نعمله، حتى ولو كان العقل يقول غير ذلك، فالمهم أن أعمل ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا قد يظن بعض الناس أن هذا الكلام فيه مبالغة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد شخص يعجبون به، وليس مجرد شخص ينبهرون بأفعاله، وإنما هو رسول رب العالمين، فكل خطوة من خطواته بأمر من الوحي أو مراجعة بالوحي، ونحن عندما نقلده، فإننا نعمل الذي أراده الله منا، وعندما نعمل الذي أراده الله منا، فإننا سنسعد في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى، وسندخل الجنة التي هي منتهى أحلام المؤمنين، لذا كان الصحابة حريصين كل الحرص على أن يقلدوا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل حركة من حركاته والرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً جداً على ترسيخ هذا المعنى في قلوب وعقول الصحابة.
إذاً: فالذي عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحلال، والذي منع منه هو الحرام من غير أي تكلف، فأي شيء عمله في العبادة والطاعة والتقرب إلى الله وأمر به المسلمين ولم يقل: إنه خاص به فعلى المسلمين أن يعملوه ولا يزيدوا عليه شيئاً، فالذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم هو الصحيح من غير زيادة ولا نقصان.
وتأمل موقف الصديق من إنفاذه لبعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً لحرب الروم قبل أن يموت بأيام قليلة، ثم مات صلى الله عليه وسلم وارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية، وخاف الناس على المدينة، بل تخوفوا على الإسلام، وفي هذا الجو المشحون بالفتن والردة والخوف على المدينة أصر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على إنفاذ جيش أسامة بن زيد لمحاربة الروم، ولم يلتفت رضي الله عنه إلى المرتدين وما يشكلونهم من خطر، لأن الذي أنفذ جيش أسامة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاءت الناس تخاطب الصديق رضي الله عنه وأرضاه وتقول له: دع الجيش في المدينة حتى يقوم بحمايتها، فرد عليهم قائلاً: لو تخطفتنا الطير وأكلتنا السباع حول المدينة، وجرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين، ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت لواءً عقده. فانظر كيف أن الصديق لم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ ولذا كان من أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر