إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمع الدرس الخامس من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ولا أخفي أنني كلما توغلت في سيرة الصديق رضي الله عنه وكلما تشعبت وقرأت ودرست وحللت شعرت أنني أريد أن أعتذر للصديق ؛ لأنني ولسنوات طوال لم أعطه حقه الكافي من التبجيل والتعظيم والتكريم، نعم كنت أعرف فضله ومكانته وقدمه الراسخة في الإسلام، لكن ليس بالصورة التي يستحقها بالفعل، بل لعلي لا أخفي أنني أحياناً كنت أعطي مساحة من التكريم أكبر لغيره من الصحابة مثل: عمر بن الخطاب ومثل: علي بن أبي طالب ومثل: حمزة بن عبد المطلب ومثل: أبي عبيدة بن الجراح .
وهذا لاشك خطأ يستحق الاعتذار وقصور يحتاج إلى تفهيم وتوضيح، ولعل هذا القصور في فهم درجة العظمة التي وصل إليها الصديق رضي الله عنه يرجع إلى قصر مدة خلافته رضي الله عنه، لكن على العكس هذه المدة القصيرة التي حكم فيها الصديق تضاف إلى فضائل الصديق رضي الله عنه؛ فإن الأحداث التي تمت في خلافته قد تحتاج إلى عشرات الأعوام لتتم في عهد غيره.
ولعل قصورنا أيضاً عن وضع الصديق رضي الله عنه في مكانته الحقيقية يرجع إلى طبيعته الهادئة الرقيقة اللينة التي تخفيه كثيراً عن الأنظار.
ولعل قصورنا أيضاً في معرفته يرجع إلى قلة الأحاديث التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يرجع بالطبع إلى أنه مات سريعاً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك وقت كاف يحدث به عنه، وإلا فهو أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل طول صمته وكثرة تفكيره وحياءه من الكلام كان سبباً في قلة أقواله وخطبه مع أنه كان من أبلغ الصحابة وأحكم الناس، لعل واحداً من هذه الأمور أو أكثر كان سبباً في جهلي للصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فكل هذه أعذار لخطأ واضح؛ فحياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليست مخبأة في أماكن سرية أو صفحات مشفرة، بل حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه مبسوطة في مئات بل آلاف من الكتب، وقد يكون الكثير منها في مكتباتنا وفي بيوتنا، ولكننا تركنا التراب يعلو هذه الكتب ولم نفتش عن أمجادنا ولم ننقب عن كنوزنا، فعذراً يا صديق ! وعذراً يا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلم نوفكم معشار حقكم بعد، وعزاؤنا أننا والله! نحبكم في الله، ونسأل الله عز وجل أن يحبنا كما أحببناكم فيه.
في الدروس الأربعة السابقة تحدثنا عن أربع صفات للصديق رضي الله عنه: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب، والسبق، وإنكار الذات.
وفي هذا الدرس نتحدث عن صفة عجيبة هي أصعب من كل ما سبق حتى أنها أصعب من صفة إنكار الذات والتي ذكرنا في الدرس السابق أنها صفة صعبة وعسيرة، والأصعب في الصفة التي سنتحدث عنها أنها لا تكتسب، بل هي منحة ربانية من الله عز وجل لبعض عباده، ولذلك فإننا لم نضعها في الصفات الأصيلة في شخصية الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
فقد ذكرنا أن الصديق تميز بأربع صفات أصيلة فلما تحققت فيه هذه الصفات الأربع منحه الله عز وجل هذه الصفة الخامسة، بمعنى: أن الله عز وجل لما رأى منه حباً جارفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل واتباع دقيق، لما اطلع على قلبه فوجده رقيقاً حانياً عطوفاً ووجد طبعه سهلاً محبباً ليناً، ووجد خلقه حسناً رفيعاً عالياً لما علم منه سبقاً إلى الخيرات ومسارعة إلى الحسنات وحسماً وعزماً في كل أمور حياته، لما رأى منه عطاءً ثم عطاءً ثم عطاءً وإنكاراً لذاته في كل خطواته لما رأى منه كل ذلك وغيره أنعم عليه بنعمة عظيمة وهبة جليلة؛ أنعم عليه بنعمة الثبات.
الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات على الإسلام، والثبات على الإيمان، والثبات على الطاعة وحسن الخلق، والثبات على العطاء، والثبات أمام الفتن كلها صغيرة كانت أم كبيرة دقيقة كانت أم عظيمة خفية كانت أم معلنة.
والثبات شيء صعب وعسير، فالإنسان قد ينشط في فترة من فترات حياته لكنه سرعان ما يفتر، وقد يقوى في زمان لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل شرة -أي: نشاط- ولكل شرة فترة -أي: فتور وكسل- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح -وفي رواية: فقد اهتدى- ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)، وفي رواية: (فقد ضل) لكن العجيب في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن ترى ثباتاً في كل الفضائل وفي كل المواقف منذ أسلم وحتى مات مهما تغيرت الظروف ومهما تغيرت الأحوال.
الثبات فعلاً شيء عسير، والدنيا من طبيعتها التقلب، ومن النادر أن تجد فيها شيئاً ثابتاً، كما قالوا قديماً: دوام الحال من المحال، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]، ويقول: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، هكذا الأيام دائماً في التقلب، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج:5]، هكذا مراحل مختلفة ومتغيرة ومتقلبة وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].
هكذا الإنسان دائماً في تقلب، والأرض كذلك دائماً في تقلب، والقلب أيضاً كذلك كثير التقلب، بل قيل: إن القلب سمي قلباً لأنه سريع التقلب، روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، يقول هذا وهو رسول الله، اللهم إنا نسألك أن تثبت قلوبنا على دينك، يقول أنس بن مالك : (فقلت: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)، وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك).
يزداد الأمر صعوبة على القلب بتغير الظروف من حولك؛ فقلب قد يثبت على حالة من الغنى فإذا افتقر الإنسان فتن، وقلب قد يثبت على حالة من الفقر فإذا اغتنى الإنسان فتن، وقد يثبت في بلد ويفتن وفي آخر، وقد يثبت في عمل ويفتن في آخر، وقد يثبت في سنن ويفتن في سنن آخر، بل قد يثبت في نهار ويفتن في ليل، بل قد يثبت في لحظة ويفتن في لحظة تالية، والإنسان في هذه الدنيا ليس متروكاً لحاله، فالمشكلة ليست مشكلة قلب فقط، فكثير من الأعداء تناوشه وتهاجمه، فالشيطان -مثلاً- لا يهدأ ولا يستكين: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].
والدنيا نفسها مجموعة متراكبة من الفتن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5].
ونفس الإنسان تغير كثيراً من قلبه، قال عز وجل: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، وشياطين الأنس أحياناً يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن، وبين كل هذه المقلبات يعيش القلب فكيف لا يتقلب وهو القلب المشهور بالتقلب؟
والقلب إن كان ضعيف الإيمان فتقلبه خطير: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
والنجاة من هذا التقلب عسيرة إلا إذا من الله بها على عبده، والله سبحانه وتعالى لا يمن بالثبات على عبد خامل كسلان، بل لابد أن يقدم شيئاً، قال عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63]، وهي الفتنة التي تقلب القلوب أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
إذاً: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً لصيقاً دقيقاً يقي الإنسان شر الفتن، أو قل: يجعل الإنسان أهلاً أن يمن الله عليه بنعمة الثبات، فجميع الخلق بلا استثناء لا يثبتون بغير تثبيت الله لهم، قال الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، بل حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى كلام الله في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74].
وأكثر المسلمين اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأكثر المسلمين تلقياً لتثبيت الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فحياته رضي الله عنه حياة عجيبة، فكم من الفتن عرضت له، وكم من الثبات قدم رضي الله عنه؟
روى الترمذي -وقال: حديث حسن صحيح- حديثاً يفسر لنا هذه الفتن الكثيرة التي عرضت للصديق في حياته عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة).
ولكون الصديق رضي الله عنه هو الأمثل في الإيمان بعد الأنبياء فإن ابتلاءه كان شديداً ومتنوعاً، وتعالوا نبحث في حياة الصديق رضي الله عنه لنتعرف على طرف من ابتلائه ونتعرف على طرف من ثباته رضي الله عنه:
أولاً: ثباته أمام فتنة المال، وبدأت بها لأنها فتنة عظيمة، فكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى فإذا جاءوا إلى فتنة المال وقعوا فيها، يقول أحد الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر! هكذا يقول الصحابي الجليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، عن كعب بن عياض رضي الله عنه-: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال) وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء فهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وقد شاهدنا كثيراً من المتقين، وشاهدنا كثيراً من الزاهدين في الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة وعن مواقف مشهودة، لكننا لم نسمع من قبل عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله ولا يبقي لنفسه ولا لأهله شيئاً، وليس مرة أو مرتين يفعلها ولكنه اعتاد الثبات على هذا الأمر، وقد تحدثنا من قبل في درس سابق عن إنفاقه رضي الله عنه وأرضاه على الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة مكة أو سواء في فترة المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، لكن نذكر هنا طرفاً سريعاً من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة، فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله يمتلك مقاليد الحكم في المدينة ويضع يده على بيت المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم، فيأتي خراجها، وخراجها كثير، وتأتي زكاتها، ويمتلئ بيت المال، ثم ها هي فارس تفتح وها هي الشام كذلك تفتح وتأتي الغنائم وفيرة والكنوز عظيمة، فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟ ما تغير قدر أنملة، وما تبدل شعرة، وما فتن بالدنيا لحظة.
وليس الصديق بالذي يتبدل؛ لقد أعطى الدنيا حجمها فزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها، لقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً وضح فيه حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، وسمع الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار
لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا ومرشده ومرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعها نصب عينيه، وكأنها خاصة بـأبي بكر الصديق ، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها)، وها هو الصديق قد استخلف فيها الخلافة الكبرى، يقول صلى الله عليه وسلم: (فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء).
أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة وعلى يده أبراد، والبرد: هو الثوب المخطط. يعني: أخذ أثواباً لبيعها في السوق كعادته حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله: أين تريد؟ قال: إلى السوق، قال عمر : تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟
سبحان الله! يده على بيت المال بكامله لكنه يقول: فمن أين أطعم أولادي؟ فأشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يذهب إلى أبي عبيدة أمين بيت المال ليفرض له قوته وقوت أولاده، فذهب إليه ففرض له، فانظر إلى هذه الشفافية في الضمير والأمانة والنقاء في النفس، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه ينزل إلى السوق وهو خليفة لكي يتاجر حتى يطعم أولاده!
فعف الصديق رضي الله عنه وأرضاه فعفت الرعية في زمانه رضي الله عنه.
وانظروا إلى الصديق وهو على فراش الموت بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني انظروا إليه كيف يقول وهو رأس الدولة في ذلك الزمان.. الدولة التي دكت حصون فارس والروم يقول مخاطباً عائشة رضي الله عنها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا -يعني: الطعام البسيط- ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وهذه القطيفة -كساء- فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وابرئي منهن، تقول السيدة عائشة : ففعلت.
فلما وصل الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه بكى عمر بن الخطاب حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، قالها ثلاثاً.
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو في فراش الموت أيضاً كان يقول: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال مبلغاً، وإن حائطي الذي في مكان كذا فيها، أي: في بيت المال، يعني: أن عمر بن الخطاب كان قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال المسلمين، والصديق يرى أنه كان كبيراً مع أنه لم يكن إلا كفافاً، كما ثبت في روايات أخرى.
فما زال الصديق يذكر هذا، وسيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال، فلما توفي الصديق ذكر ذلك لـعمر فقال: رحم الله أبا بكر لقد أحب ألا يدع لأحد بعده مقال.
هذا كان مجرد طرف من ثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه أمام فتنة المال.
وتعالوا نرى ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب، وفتنة الرئاسة فتنة عظيمة جداً، وابتلاء كبير، فكثير من الناس يعيش حياة التواضع فإذا صعد على منبر الحكم تغير وتبدل وتجبر وتكبر؛ إنها فتنة كبيرة، وهنا كلمة حكيمة جداً للحسن البصري رحمه الله يقول: وآخر ما ينزع من قلوب الصالحين حب الرئاسة.
لكن الصديق نزع من قلبه حب الرئاسة من قديم.
و الصديق رضي الله عنه وأرضاه وإن كان يعيش قدراً معيناً من التواضع قبل الخلافة فإن هذا القدر تضاعف أضعافاً مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن أعظم خلفاء الأرض تواضعاً بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه، فوالله! لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ومن المؤكد أنه تعلم من صديقه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه وأرضاه قال: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، والصديق جاهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأشد ما يكون الجهد والنصح.
ولذلك فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم بل يسبقهم إليها، وكيف يتكبر الصديق وهو الذي كان حريصاً طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر والخيلاء من شخصيته وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره؟ روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) هذه الكلمات وقعت في قلب أبي بكر وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، فأسرع الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده).
أشعر والله! أنه قال هذه الكلمة وهو يرتجف يخشى من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه ووضح له متى يكون الاسترخاء للإزار منهي عنه فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء)، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: أن الصديق لا يفعل هذا خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له: إنك لست متعمداً للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى حقيقة تواضع الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وتعالوا نتجول في حياة الصديق كخليفة وكرئيس وكحاكم، ذكرنا بعض المواقف في السابق وذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال.
والآن نذكر بعض المواقف الأخرى: موقف عجيب من مواقف الصديق وهو خليفة:
كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، مكان قريب من المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرماً منه وذلك أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يحلب للضعفاء أغنامهم، فسمع جارية بعد مبايعته بالخلافة وبعد أن أصبح خليفة تقول: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا، سمعها الصديق رضي الله عنه فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم، فكان يحلبها وهو خليفة، وربما سأل صاحبتها: يا جارية! أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ يعني: أجعل اللبن فيه رغوة وإلا بدون رغوة؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالته فعل.
وهذا موقف آخر من مواقف الصديق رضي الله عنه أغرب:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض ضواحي المدينة من الليل فيسقي لها ويقوم بأمرها، يعني: أن سيدنا عمر كان يذهب بنفسه ليدبر أمر هذه العجوز العمياء، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة لكي لا يسبق إليها فكل مرة يلقى نفسه قد سبق إليها، فرصد عمر هذا الرجل الذي يأتي العجوز العمياء فإذا هو أبو بكر الذي كان يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر : أنت هو لعمري.
وكان أبو بكر من الممكن أن يكلف رجلاً أن يفعل هذه الخدمة، لكنه يشعر بالمسئولية الفردية نحو كل فرد في الأمة، وأيضاً هو يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء.
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال: إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، يعني: أن صدقات الإبل كانت قد جاءت كثيرة إلى أبي بكر الصديق ، فوضعوها في مكان، وسيدخل في اليوم التالي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ليقسما هذه الصدقات، فسيدنا أبو بكر يحذر الناس، ويقول لهم: لا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام؛ لعل الله يرزقنا جملاً، يعني: أنها تقول له: خذ هذا وادخل على أبي بكر الصديق لعله يعطيك جملاً فاربطه بهذا الحبل، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، وطبعاً هنا الرجل ارتكب مخالفة واضحة، والمخالفة لخليفة البلاد ومعه الوزير الأول عمر بن الخطاب ، ودخل عليه بغير إذن مع كونه قد نبه على ذلك، فالتفت إليه أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه ضربة بالحبل، فلما فرغ أبو بكر من قسمة الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد. أي: اقتص مني -كما ضربتك اضربني- يقول هذا وهو خليفة البلاد، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: والله! لا يستقيد. رفض عمر أن الرجل يضرب أبا بكر فقال: والله! لا يستقيد، لا تجعلها سنة. يعني: كلما أخطأ خليفة في حق واحد من الرعية يقوم يضرب الأمير، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: فمن لي من الله يوم القيامة؟ يعني: ماذا ستعمل لي يا عمر ! يوم القيامة؟ فقال عمر : أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة وخمسة دنانير فأرضاه بها.
فهذا خليفة البلاد في ذلك الزمن وضرب واحداً سوطاً واحداً فقط، لكنه يريد أن يضرب مكان هذا السوط الذي ضربه حتى يقف أمام الله عز وجل يوم القيامة خالصاً ليس لأحد عنده شيء.
واستمع إلى وصيته إلى جيوشه وهي تخرج لحرب الروم في بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، ثم بعد ذلك إلى فتح فارس ثم إلى فتح الشام، فقد كان يوصيها بوصايا عجيبة وكأنه يوصي بأصدقاء وليس بأعداء، كان يوصيهم بالرحمة حتى في حربهم، وكان مما قال لهم: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.
ما هذا؟ أيوصي بأحباب أم يوصي بأعداء؟ والله! ما عرف التاريخ مثل حضارة الإسلام ورقي الإسلام ونور الإسلام، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187] فأين هذا من حروب الشرق والغرب؟ وأين هذا من حروب غير المسلمين؟ فالمسلمون علموا غيرهم الرحمة حتى في حربهم.
نوع آخر من الثبات للصديق رضي الله عنه وأرضاه: ثبات الصديق أما فتنة الأولاد:
الأولاد فتنة كبيرة، والمرء يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة إذا كان الأمر يخصه هو شخصياً، ولكن إذا ارتبط الأمر بأولاده فإنه قد يتردد كثيراً، وغالباً ما يحب الرجل أولاده أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد ورقتهم واعتمادهم على الأبوين يعطي مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، روى الترمذي وقال: حسن صحيح: أن رجلاً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم -يعني: أولادهم؛ لأنهم منعوهم أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، وانظر الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن يقول الله عز وجل فيها: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15].
هكذا بهذا التصريح وهذا التقرير الواضح: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، فأين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هذه الآيات ومن هذه الفتنة؟ القضية كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأوراقه كانت مرتبة تماماً، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة عنده على كل شيء، فـالصديق مع رقة قلبه ومع عاطفته الجياشة ومع تمام رأفته بأولاده كان لا يقدم أحداً منهم مهما تغيرت الظروف على دعوته وعلى جهاده، وما فتن بهم لحظة، بل أعلن الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ودافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغاراً ضعافاً محتاجين في وسط من الكفار المتربصين، فكان يجاهد ويعلم أنه إذا أراد فعلاً الحماية للذرية الضعيفة عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن ينطلق بكلمة الدعوة وكلمة الحق مهما كانت العوائق، قال عز وجل: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9].
و الصديق لما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح؛ لأنه سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر مخلفاً وراءه ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشاً ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث ذلك وضرب أبو جهل عليه لعنة الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما فسال الدم منها، فما رأى الصديق كل ذلك، بل كل ما رآه هو نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطريق إلى الله عز وجل، وليس هذا فقط ولكنه حمل كل أمواله معه، وكل ما تبقى بعد الإنفاق العظيم كان (5000) درهم حملها جميعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا ترك لأهله؟ ترك لهم الله ورسوله.
إنه يقين عجيب وثبات يقرب من ثبات الأنبياء، وأبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه كان طاعناً في السن وقت الهجرة، وكان قد ذهب بصره؛ فدخل على أولاد الصديق وهو على وجل من أن الصديق قد أخذ كل ماله وترك أولاده هكذا، هو يعرف أن الصديق سيأخذ المال، لكن الابنة الواعية الواثقة المطمئنة أسماء بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وضعت يد الشيخ الكبير على كيس مملوء بالأحجار توهمه أنه مال، فسكن الشيخ لذلك، هذا الشيخ الكبير لم يفهم هذه التضحيات، ولن يفهمها أحد إلا من كان على يقين يقارب يقين الصديق رضي الله عنه.
و الصديق في موقف الهجرة يوظف أولاده في عملية خطيرة إنها عملية التمويه على الهجرة وهي عملية قد تودي بحياتهم في وقت شط الغضب بقريش حتى أذهب عقلها، فـعبد الله بن الصديق رضي الله عنهما كان يتحسس الأخبار في مكة نهاراً ثم يذهب ليلاً إلى غار ثور يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأباه بما يحدث في مكة، ويظل حارساً على باب الغار حتى النهار ثم يعود أدراجه إلى مكة، والسيدة أسماء كانت حاملاً في الشهور الأخيرة من حملها ومع ذلك فكان عليها أن تحمل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر الصديق في غار ثور سالكة طريقاً وعراً وصاعدة جبلاً صعباً وذلك حتى إذا رآها أحد لا يتخيل أن المرأة الحامل تحمل زاداً للرسول وصاحبه، إنها مهمة خطيرة، وحياتها في خطر، لكن ما أهون الحياة إن كان الله عز وجل هو المطلب وإن كانت الجنة هي السلعة المشتراه، وقد مر بنا كيف تبرع بكل ماله في غزوة تبوك وما ترك شيئاً لأولاده رضي الله عنه وأرضاه، ولما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله).
ثم انظر إلى العجب! ها هو الصديق يقدم فلذة كبده عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما شهيداً في سبيل الله، علمه حب الجهاد وحب الموت في سبيل الله فأصيب في الطائف بسهم، قالوا: لم يمت في ساعتها بل بقي أياماً أو شهوراً، ويقال: إنه خرج بعد ذلك إلى اليمامة في حرب المرتدين واستشهد هناك، والثابت أنه استشهد في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكأن الله عز وجل أراد أن ينوع عليه الابتلاءات حتى ينقى تماماً من أي خطيئة، بل إنه قال كلمة عجيبة لما رأى قاتل عبد الله ابنه وكان قد أسلم بعد أن قتله قال: الحمد لله الذي أكرمه بيدك، يعني: أكرمه بالشهادة، ولم يهنك بيده أي: لم يمتك على يده كافراً، ثم قال: فإنه أوسع لكما.
ففرح بأن ابنه قد مات شهيداً في سبيل الله، وأيضاً فرح لأن هذا الرجل لم يقتل على يد عبد الله ، فكانت أمامه فرصة للإسلام وفرصة لدخول هذا الدين، فرضي الله عن الصديق وأرضاه.
لكن إن كنا نفهم كل هذه التضحيات فإن له موقفاً مع ولد من أولاده يتجاوز كل حدود التضحيات المعروفة والمألوفة لدى عامة الناس: الصديق رضي الله عنه وأرضاه في غزوة بدر كان في فريق المؤمنين، وابنه البكر عبد الرحمن بن أبي بكر كان في الفريق الآخر فريق المشركين، ولم يكن قد أسلم بعد، وإذا بـالصديق رضي الله عنه وأرضاه يبحث عن فلذة كبده وثمرة فؤاده ليقتله!
فوقف كفر الابن حاجزاً بين الحب الفطري له وبين حب الله عز وجل، فقدم الصديق حب الله عز وجل دون تردد ولا تفكير؛ فالرؤية واضحة عنده إلى هذه الدرجة، لكن بفضل الله لم يوفق الصديق في أن يجد ابنه، ومنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بعد ذلك بالإسلام، فأسلم يوم الحديبية، ولما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدر -أي: رأيتك هدفاً سهلاً، وكان عبد الرحمن بن أبي بكر من أمهر الرماة في فريق المشركين يوم بدر- قال: لقد أهدفت لي يوم بدر فملت عنك ولم أقتلك، يعني: ابتعدت عنك ولم أقتلك، فقال أبو بكر الصديق في ثبات وثقة: ولكنك لو أهدفت لي لم أمل عنك!
وكأن الله أراد أن يشبه أبا بكر بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، فقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم عليه الصلاة والسلام مثلاً للصديق بعد قضية الحكم في أسارى بدر كما ذكرنا من قبل، فأراد الله أن يشبه أبا بكر بالخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي ابتلي البلاء المبين بذبح ابنه فيبتلى الصديق كذلك بالبحث عن ابنه ليذبحه بيده، فأي مثل رائع ضربه الصديق لهذه الأمة؟ وكيف تغلب على هذا المعوق الخطير الذي كثيراً ما خلف أناساً عن السير في طريق الدعوة وعن السير في طريق الجهاد؟
لكن هذا لم يكن من فراغ، ولم يأت فجأة؛ لأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والسير في خطاه سيراً حثيثاً لصيقاً، والسبق إلى الخيرات وإنكار الذات والشعور بأهمية الدعوة، واستقلال حجم الدنيا وتعظيم الآخرة كل ذلك كان وراء هذا اللون العجيب من الثبات، فرضي الله عن الصديق ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وفتنة أخرى من الفتن التي تعرض لها الصديق رضي الله عنه وأرضاه كانت فتنة ترك الديار والأوطان، وترك الوطن فتنة عظيمة، فكم من الذكريات وكم من الأهل وكم من الأصحاب وكم من الأحباب؟ فترك الوطن فعلاً فتنة عظيمة ولاسيما إذا كان الرجل صاحب مكانة وكثير مال كـالصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ فـالصديق كان تاجراً وأوضاعه مستقرة وتجارته رابحة، وها هو يترك الاستقرار والراحة وينطلق مهاجراً إلى أرض مجهولة وأقوام غريبين، ثم أي البلاد يترك؟ إنه يترك مكة المكرمة التي زادها الله تكريماً وتعظيماً وتشريفاً، يترك البلد الحرام ويترك البيت الحرام ويترك أشرف بقعة في الأرض، روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند خروجه من مكة مهاجراً إلى المدينة يقول: (والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت).
نحن نرى كيف أن الواحد يكون صعباً عليه أنه ينتقل من عمله إلى بلد آخر، بل يعده نوعاً من العقاب أن ينقل من المكان الذي يعمل فيه إلى مكان بعيد، كأن ينقل من جنوب البلد الذي هو ساكن فيه إلى شمالها بعيداً عن المكان الذي هو فيه.
و الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع عظم تجارته واستقراره هاجر مرتين من هذه البقعة المشرفة إلى غيرها من بقاع الأرض، الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وقد تحدثنا عنها في موقف سابق، وذكرنا أن ابن الدغنة سيد قبيلة القارة أجاره وأعاده إلى مكة، وقد كان الصديق في هذه الهجرة متجهاً إلى بلاد بعيدة عبر الصحراء والبحار إلى قوم لا يتكلمون العربية وإلى بلد لم يألف العادات المكية.
الهجرة الثانية كانت إلى يثرب والتي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة لأنه نورها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها، وقد تحدثت سابقاً عن فقرات من هذه الهجرة المباركة، وفيها برز الدور العظيم للصديق سواء في الإعداد قبل الهجرة أو أثناء الهجرة، وسواء في المساعدة المادية أو المعنوية وسواء في التضحية بالنفس أو بالمال أو بالجهد أو بالوقت، وقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الهجرة ثاني اثنين، وهذا يكفيه أن يكون ثانياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الديار والأوطان والأملاك والأعمال مهما تعاظمت ما وقفت أبداً أمام إيمان الصديق رضي الله عنه وأرضاه على ثقلها، إنها فتنة عارضة ثبت فيها الصديق ثباته المعهود.
و الصديق أثبت لوناً آخر من الثبات ما عهدناه أمام كثير من الناس، إنه الثبات أمام غلبة أهل الباطل، وكثير من المسلمين ينظرون نظرة إحباط ويأس إلى واقعهم عندما يشاهدون محاور القوة الرئيسية في الأرض في أيدي الكافرين، وعندما يجدون أن الكفار قد ملكوا من المادة والسلاح والعدد والعدة ما يفوق المسلمين أضعافاً مضاعفة، إنها فتنة تحتاج إلى كثير إيمان وكثير فقه وكثير ثبات.
وقد كان الصديق رضي الله عنه هو الرجل المؤمن الفقيه الثابت الذي من الله به على أمة المسلمين وحفظها خير الحفظ ونصح لها خير النصح وجاهد لها خير الجهاد، ففتنة غلبة أهل الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتنة عظيمة هائلة مروعة لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها حقها، لكن في هذه المجموعة فقط أشير إلى ثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه هذا الثبات الذي فاق كل تخيل والله! حتى فاق تخيل الصحابة أنفسهم؛ فالفتنة كانت هائلة؛ إذ ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: مكة والمدينة والطائف وقرية جواثة في منطقة هجر بالبحرين، ولا أقول: كان هناك عشرات الآلاف من المرتدين بل مئات الآلاف، وليس فقط بمنع الزكاة بل منهم من ارتد كلية عن الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى النبوة، وحصلت غلبة عظيمة لأهل الردة وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا للصديق رضي الله عنه: الزم بيتك، وأغلق عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين! إنه يأس كامل في الإصلاح وإحباط يملأ القلوب، وهذا موقف من أصعب مواقف التاريخ قاطبة.
لكن الصديق رضي الله عنه كان أعلم الصحابة وأفقه الصحابة وأثبت الصحابة، فتحول الشيخ الكبير الرحيم المتواضع ضعيف البنية إلى أسد هصور عظيم الثورة شديد البأس عالي الهمة سريع النهضة، فأصر على قتال المرتدين جميعاً وفي وقت متزامن قال في شأن مانعي الزكاة: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عناقاً -العناق: الأنثى من ولد الماعز، وفي رواية: عقالاً، وهو: الحبل الذي يربط به البعير- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.
وقال في شأن بقية المرتدين الذين يبلغون مئات الآلاف: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي، يعني: حتى تقطع عنقي.
فكان هكذا بهذه العزيمة وهذه العقيدة، ولما رأى الصحابة هذا الإصرار من الصديق رضي الله عنه انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا الرجل، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما جاء في صحيح البخاري : فوالله! ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وهكذا أخرج الصديق رضي الله عنه وأرضاه الجيوش تلو الجيوش أخرج (11) جيشاً في ملحمات خالدة وتضحيات عظيمة وتعب وجهد ودم وشهادة ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وحكمت الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن والسنة، وأعز الله الإسلام وأهله وأذل الله الشرك وأهله، كل هذا كان في عام واحد فقط والحمد لله رب العالمين.
وأيضاً رأينا ثباته رضي الله عنه وأرضاه أمام غلبة أهل فارس والروم، وفارس والروم في ذلك الزمان هما أعظم قوتين عسكريتين في الأرض يقتسمان العالم ويهيمنان على معظم مساحة المعمورة، وكانت كل منهما دولة متقدمة صاحبة حضارة ومال وعمران وجنات وأنهار وأعداد لا تحصى من الرجال وسلاح لا مثيل له في زمانهم وأعوان في كل بقاع الأرض وتاريخ في الحروب وخططها وتنظيماتها وطرقها، والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان على الطرف الآخر يحكم دولة أقصى مساحتها جزيرة العرب، ولم تتعود على الحروب النظامية، وكانت فقيرة الموارد ضعيفة السلاح قليلة العدد، ليس هذا فقط ولكنها لم تنفض يدها بعد من حروب أهلية طاحنة أكلت الأخضر واليابس تلك الحروب هي حروب الردة، فيخرج الصديق من هذه الحروب الهائلة بعزيمة أقوى من الجبال ولم تهزه عروش كسرى وقيصر، واتخذ قراراً عجيباً وهو فتح فارس، وذلك بعد أقل من شهر على انتهاء حروب الردة، ثم أتبعه بقرار آخر أعجب بعد خمسة شهور وهو فتح الشام وقتال الروم في وقت متزامن مع قتال الفرس.
وكما ذكرنا من قبل فـالصديق كان على يقين من النصر، ولم يكن يساوره أدنى شك في أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وخاض معاركه كلها بهذه الروح، وكتب الله له النصر بعد جهاد طويل ومعارك هائلة وضع فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه خططاً عبقرية وقال فيها آراءً سديدة وفعل فيها أعمالاً مجيدة، ومن المستحيل أن نحصي هذه الأعمال في هذا الإطار الضيق، وسنفرد -إن شاء الله- بعد هذه المجموعة مجموعات أخرى، ولا أقول: مجموعة واحدة، بل مجموعات؛ ففتح فارس قصة عظيمة تمتلئ بالمواقف المثيرة والأحداث الغريبة والوقائع النادرة والدروس القيمة، وكذلك فتح الشام وقتال الروم، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك.
وفتنة أخرى من الفتن التي ثبت فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي فتنة الفتور عن الطاعة:
ثبت الصديق رضي الله عنه وأرضاه على الطاعة أياماً وشهوراً وسنوات حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وقد يظن ظان أن هذا الأمر بسيط وهين إلى جوار غيره من الفتن التي ذكرناها: فتنة المال والرئاسة والأولاد وترك الديار وغلبة أهل الباطل، فقد يظن ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة سيثبت حتماً في أمر الطاعة والعبادة؛ فهي أمور في يد كل مسلم يستطيع أن يصلي ويصوم ويزكي، وهذه بديهيات عند كثير من الناس، لكن والله إن هذه لمن أعظم الفتن، فقد يسهل على الإنسان أن يفعل شيئاً عظيماً مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثاً في حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل يوم بلا كلل ولا ملل ولا كسل فهذا يحتاج إلى قلب عظيم وإيمان كبير وعقل متيقظ ومنتبه، لا يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال.
وقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه سيد هذا القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)، يعني: أن بعض الناس يكون مكثراً في الصلاة فيدخل الجنة من باب الصلاة، وبعض الناس يكون مكثراً في الجهاد -والبديهي أنه مقل في بقية الأعمال أن هذا العمل أكثر من غيره في حياته- فيدخل من باب الجهاد.. وهكذا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: (ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟) يعني: هل ممكن أن ينادى أحد من كل الأبواب؛ لأنه يكثر من كل الأعمال؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، وأرجو أن تكون منهم)؛ وذلك أن الصديق كان فعلاً مكثراً وبصفة مستديمة من كل أعمال الخير، وقد مر بنا من قبل كيف أنه أصبح صائماً ومتبعاً للجنازة وعائداً لمريض ومتصدقاً على مسكين، هكذا حياته كلها لا قعود ولا فتور، كان رضي الله عنه يتحرز جداً من فوات فريضة أو نافلة، روى أحمد وأبو داود والحاكم وصححه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر : (متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة -أي: العشاء- قال: فأنت يا
و الصديق رضي الله عنه وأرضاه لا يتخيل أن يفوته الوتر، وماذا يحدث لو استيقظ عند صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟ يكون في حقه كارثة؛ لذلك يأخذ نفسه بالحزم فيصليه أول الليل ثم إذا شاء الله له أن يستيقظ قام وصلى من الليل ما شاء أن يصلي ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ ليصلي، إنهما منهجان مختلفان ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ومع حرصه وطاعته ومثابرته وثباته على أمر الدين رضي الله عنه وأرضاه كان شديد التواضع لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، فقد كان يقول: والله! لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد، أي: تقطع.
وروى الحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر حائطاً وإذا بطائر في ظل شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء ثم قال: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر وتستظل بالشجر وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك!
سبحان الله! أبو بكر يقول هذا الكلام؟
وكان يقول إذا مدح: اللهم أنت أعلم مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، فرضي الله عن الصديق وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وفتنة أخرى عظيمة هائلة تعرض لها الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي فتنة ضياع النفس وفتنة الإيذاء للنفس، والنفس غالية إن ذهبت فلا عود لها إلى يوم القيامة، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان واضح الرؤية وثاقب النظر له قواعد ثابتة تحكم حياته، من هذه القواعد:
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51].
ومن هذه القواعد: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس:49].
ومن هذه القواعد: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
ومن هذه القواعد: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78].
إذا نظرت إلى هذه القواعد مجتمعة أدركت جانباً لا بأس به من حياة الصديق ، وتعالوا نستمتع بوقفات مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لنرقب كيف خلصت نفسه من حفظ نفسه.
وقد تكلمنا قبل على ثبات الصديق في مكة ودفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يفقد روحه، وتعالوا نرى بعض أنواع الثبات في حياة الصديق في المدينة المنورة في قضية النفس، ففي بدر مثلاً: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة قافلة أبي سفيان وعزم زعماء مكة على قتاله استشار الصحابة في هذا الموقف الخطير، والصحابة لم يخرجوا من المدينة ليقابلوا جيشاً، بل مجرد قافلة، فليس معهم إلا السيوف، ولم تكن العدة عدة قتال، كما أن هناك أقواماً بالمدينة كانوا يرغبون في اللقاء ولكن لم يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقاتل.
إذاً: من الممكن أن يأتي على ذهن الصحابة أن لو أجلنا القتال لنقوم به في ظروف أفضل وعدد أكبر لكان أفضل؛ ففرصة ضياع الحياة في هذه المعركة كبيرة، والحق أن بعض الصحابة ترددوا، يصورهم ربنا في كتابه الكريم فيقول: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:5-6]، فأين كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه في هذا الموقف؟ كان أول الرجال قياماً يشجع النبي صلى الله عليه وسلم على القتال؛ فقد كان دائماً يسبق الناس حتى لو كان السبق لفقد الحياة.
قام الصديق فقال وأحسن وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام من بعده الرجال الواحد تلو الآخر، لكن سبق بها الصديق ، وقبل القتال أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعملية استطلاعية يستكشف فيها مواقع جيش المشركين وعدتهم، قام بالعملية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه أبو بكر رضي الله عنه الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل المواقف والأحداث، إنها مهمة خطيرة لكن ما أقل الدنيا في عين الصديق ، وتبدأ المعركة ويلتحم الجيشان ويشتد القتال ويتصاعد الغبار وتسيل الدماء أنهاراً وتتناثر الأشلاء في كل مكان فأين كان الصديق رضي الله عنه؟ كان في أخطر الأماكن على الإطلاق؛ كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب الرأس ولاشك في ذلك، وقد يقتل حراسه، لكن أهلاً بالموت إن كان في سبيل الله.
فما اقترب أحد من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حطمه بالسيف، يلتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحيطه من كل جانب؛ يشفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشوكة يشاكها ويستعذب الألم إن كان فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلى الله يستغيث به ويلوذ بحماه ويطلب عونه ويلح في الطلب ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً)، وما زال يجتهد في الدعاء حتى سقط رداؤه على الأرض، فأخذه الصديق رضي الله عنه من الأرض ورده على منكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبه يتفطر عليه ويتقطع من أجله ويقول: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه منجز لك ما وعدك، يقين عجيب ثم خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة يستقبل الوحي ثم انتبه وقد جاءته البشرى بالنصر، فمن أول من يبشر؟ أنه يبشر أقرب الناس إليه وأعظم الناس رغبة في نصر هذا الدين وأكثر الناس تضحية من أجل هذا الدين وهو أبو بكر ، فقال له: (أبشر يا
هذا هو الصديق ، وهذا هو ثباته، وهذه هي مكانته، ومن ذلك ثباته في يوم أحد، فيوم أحد كان يوماً عظيماً، كانت الدولة في بدايته للمؤمنين ثم خالف الرماة وعصوا فداول الله الأيام ونقلها إلى قريش، وأصبحت الغلبة للمشركين، وفر من فر وثبت من ثبت.
ولاشك أن الصديق كان من الثابتين رضي الله عنه، قال الله عز وجل: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، ولاشك أيضاً أن الصديق كان ممن أراد الآخرة، كان الصديق أول من وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع معه حول الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من السابقين: عمر ، وطلحة ، وعلي ، وأبو عبيدة ، والزبير وغيرهم ودار قتال شرس ما لانت فيه قناة للصديق ولا لمن وقف معه، وتم إنقاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وانسحبوا به إلى مكان آمن.
وفي اليوم التالي لأحد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج في أثر المشركين حتى لا يظنوا أن المسلمين قد كسرت شوكتهم، فندب المسلمين إلى أن يخرجوا إلى مكان يعرف بحمراء الأسد، فقام إليه رجال لاشك أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان منهم بل كان أولهم، روى الإمام مسلم عن عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت لـعروة بن الزبير في قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172]، أي: الذين استجابوا في الخروج إلى حمراء الأسد بعد القرح الذي أصابهم في أحد، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172].
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر ، والزبير أبوه وأبو بكر جده لأمه.
وذلك لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في أثرهم؟ فقام منهم 70 رجلاً كان فيهم أبو بكر والزبير رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا ثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الحديبية، فبعد عام واحد من الاجتياح الرهيب للمشركين لأرض المدينة المنورة وحصار المؤمنين في المدينة والموقف العصيب الذي مر به المؤمنون كما وصف ذلك ربنا في كتابه بقوله: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:11].
بعد عام واحد من هذا التهديد المروع يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى العمرة في مكة بـ (1400) من الصحابة، والمشركون كانوا يحاصرون المدينة بعشرة آلاف، وربنا سبحانه وتعالى أنعم على سلمان الفارسي بفكرة حفر الخندق، فحمي المسلمون من هذا الكم الضخم جداً من المشركين، والآن يذهب المؤمنون إلى المشركين في عقر دارهم، ألا يخافون؟ وليس هذا فقط، بل لما علمت قريش بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة جمعت الجموع لتصد المؤمنين عن الكعبة، ووصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس للشورى: نذهب أو لا نذهب، فقام بطلنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال: يا رسول الله! خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد حرباً ولا قتل أحد فتوجه له، فمن صدنا عنه قتلناه، فأي بأس؟ وأي قوة؟ وأي ثبات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امضوا على اسم الله).
وتحرك المؤمنون إلى مكة، ثم كانت المفاوضات كما تعلمون، وانتهى الأمر إلى الصلح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في المفاوضات أمام المشركين ويقف وراءه بسيفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وفي جلسة من جلسات المفاوضات قال عروة بن مسعود الثقفي مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولاً أن يلقي الهزيمة النفسية في قلبه وفي قلوب المؤمنين: يا محمد! أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش معها العود المطافيل -أي: خرجت رجالاً ونساء صغاراً وكباراً- قد لبسوا جلود النمور -أي: لباس الحرب- يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة، وأيم الله! لكأني بهؤلاء -يقصد: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قد انكشفوا عنك.
فهو يحاول أن يضعف العزيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن هؤلاء الصحابة سوف يتركونك عند القتال.
وهنا لم يعط الصديق رضي الله عنه وأرضاه الفرصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم للرد بل انطلق في حمية وجرأة عجيبة يرد على المشرك فسبه سبة منكرة شنيعة، ثم قال له في ثبات واضح: أنحن نفر عنه وندعه؟ وهذا فعلاً هو المستحيل، وسبحان الله صدق الصديق وصدق جميع الصحابة، فقد بايعوا فعلاً على الموت، فأي جيل ثابت كان هذا الجيل العظيم.
ولنرى موقفاً أخيراً من مواقف الثبات في فتنة ضياع النفس للصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ إنه موقفه في حنين، فقد فر المسلمون في حنين وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تجابهه جموع غفيرة من هوازن، والوقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل هذه الآلاف المؤلفة لا يعني إلا شيئاً واحداً فقط وهو الموت.
لكن الصديق كان يستحب الموت في سبيل الله، وكان يستحب الموت إن كان فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكاد والله! أراه رضي الله عنه وأرضاه وهو يصول ويجول تحت فتنة السيوف وكأنه لا يراها ولا يرى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وهو يقاتل عن يمينه تارة وعن يساره تارة أخرى، وأمواج البشر المشركة تتكسر على صخرته رضي الله عنه وأرضاه، فكان الثبات ثم الثبات ثم الثبات، قال عز وجل: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26].
فـالصديق كان ثابتاً في كل مشاهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أيضاً ثابتاً في خلافته في معاركه، وسنفصل ذلك -إن شاء الله- عند الحديث عن حروب الردة.
وفتنة أخرى هائلة مرت بـالصديق رضي الله عنه وأرضاه فتنة الموت، والموت فتنة عظيمة والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة؟ إلا أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان كما عودنا رابط الجأش مطمئن القلب ثابت القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته، فقد مر بنا موقفه من وفاة ابنه عبد الله شهيداً وكيف تلقى الأمر بصبر عظيم وبرضاً واسع، وماتت أيضاً زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان رضي الله عنها وأرضاها والدة السيدة عائشة رضي الله عنها ماتت في سنة (6) من الهجرة في المدينة المنورة بعد رحلة طويلة مع الصديق في طريق الإيمان، فقد أسلمت قديماً وعاصرت كل مواقف الشدة والتعب والإنفاق والإجهاد والهجرة والنصرة والجهاد والنزال، فكانت خير معين لزوجها الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ثم ماتت وفارقت الصديق ، وفراق الأحبة أليم، لكن صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبراً جميلاً وحمد الله واسترجع، ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربوه، مات حمزة ، ومات مصعب ، ومات أسعد بن زرارة ، ومات سعد بن معاذ ، ومات جعفر ، ومات زيد بن حارثة وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فانتظر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صابراً غير مبدل، قال عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].
وجاءت فتنة كبيرة فتنة موته هو شخصياً رضي الله عنه وأرضاه، ونام على فراش لابد من النوم عليه، نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في لحظاته الأخيرة؟ ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟ ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟ هل جزع أو اهتز؟ حاشا لله! إنه الصديق رضي الله عنه، فها هو الصديق رضي الله عنه على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في ثبات وثقة واطمئنان ويقول له: اتق الله يا عمر ! واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، يعني: يحذره من التسويف وتأجيل الأعمال الصالحة، ويحفزه على السبق الذي كان سمتاً دائماً للصديق في حياته، يقول الصديق : وأن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف ألا ألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون مع هؤلاء؛ ليكون العبد راغباً راهباً لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أبغض إليك منه، ولن تعجزه.
فانظر إلى صدق الوصية وحرص الصديق أن يصل بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في قيادة هذه الأمة.
ثم انظر إلى هذا الموقف العجيب وهو أيضاً على فراش الموت: استقبل المثنى بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه يطلب المدد لحرب الفرس، فإذا بـالصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة الموت ولا يصده آلام المرض وإذا بعقله ما زال واعياً متنبهاً وإذا بقلبه ما زال مؤمناً نقياً وإذا بعزيمته وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون فأسرع يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد يأمره وينصحه ويعلمه، قال: اسمع يا عمر ! ما أقول لك ثم اعمل به: إني لأرجو أن أموت من يومي هذا أتوقع أني أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى ، ولا تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت ولم يصب الخلق بمثله، يعني: أنت رأيت وقت المصيبة الكبيرة مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان الثبات سبباً في نجاة الأمة، ومصيبة موته مهما كانت أقل بكثير من مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأوصاه ألا ينشغل بالمصيبة عن أمر الله وعن أمر الدين، ثم قال: وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق؛ لأن سيدنا خالد بن الوليد كان قد انتقل بجيشه من العراق إلى الشام، قال: وإن فتح الله على أمراء الشام فانتصروا فاردد أصحاب خالد إلى العراق؛ فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم.
فانظروا كيف يكون الثبات حتى في اللحظات الأخيرة، ففي آخر لحظات حياته لم ينس رضي الله عنه وأرضاه الجهاد ولم يشغل عن استنفار المسلمين، أرأيتم كيف أنه وحتى اللحظة الأخيرة في حياته ما زال يعلم ويربي ويوجه وينصح؟
هذا هو الصديق الذي عرفناه، ودخلت عليه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهو في آخر اللحظات ونفسه تحشرج في صدره، فآلامها ذلك فتمثلت هذا البيت من الشعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
أي: لا يغني المال عن الإنسان إذا جاءت لحظة الوفاة، فخشي الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن تكون قالت ما قالت ضجراً أو اعتراضاً، قالت عائشة رضي الله عنها: فنظر إلي كالغضبان، ثم قال في لطف: ليس كذلك، ولكن قول الله أصدق: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، هكذا ما زال يربي ويعلم.
ثم جاءوا له بأثواب جديدة لكي يكفن فيها فردها وأمر أن يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال: إن الحي أحوج إلى الجديد؛ ليصون به نفسه، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى، هكذا بهذا الثبات العجيب.
وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، فرضي الله عن الصديق وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غير أنه مع كل ما سبق من فتن مرت بـالصديق في كل حياته إلى لحظة موته فإن كل هذه الفتن تهون وتضعف وتتضاءل أمام الفتنة العظمى والبلية الكبرى والمصيبة القصوى التي لحقت به وبالمسلمين لما مات ثمرة فؤاد الصديق وخير البشر وسيد الأنبياء والمرسلين وحبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم النور المبين الذي أضاء الله بنبوته وعلمه وخلقه ورحمته، فموت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم فتنة مرت بـالصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأعظم فتنة مرت بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من فضل الله على الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن من عليه بثبات يوازي المصيبة، وبوضوح الرؤية يقابل الفتنة، وبنفاذ بصيرة يكشف البلوى وينير الطريق للصديق ولمن معه من المسلمين.
وسنعرض -إن شاء- الله لهذا الثبات أمام هذه الفتنة العظيمة في الدرس القادم، ونسأل الله عز وجل أن يجمعنا معه ومع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في دار الخلد يوم القيامة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر