إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. أحمد حطيبة
  5. شرح رياض الصالحين
  6. شرح رياض الصالحين - من (ثناء الناس على الميت) إلى (فضل قراءة القرآن)

شرح رياض الصالحين - من (ثناء الناس على الميت) إلى (فضل قراءة القرآن)للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الناس شهداء الله في الأرض، يقبل الله عز وجل شهادتهم، فإذا شهدوا لإنسان بالخير أوجب الله له الجنة، وإذا شهدوا له بالشر أوجب له النار، فأهل القرآن والعاكفين على تعلمه العاملين به من أول من يثني عليهم الناس، وكذا من عرف بخير ما بين الناس، ومن رضي عنه الله أرضى عنه الناس.

    1.   

    ثناء الناس على الميت

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    وصلنا في أبواب الجنائز إلى قول الإمام النووي رحمه الله: باب ثناء الناس على الميت.

    وهذا من آخر أبواب الجنائز في كتاب رياض الصالحين، وقد ذكر فيها حديثاً عن أنس رضي الله عنه قال: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) والحديث متفق عليه.

    وجاء عن عمر أنه ذكر مثلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله أبو الأسود فقال: هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    والمقصد من ذلك أن الإنسان المؤمن يتعامل مع الخلق جميعهم بحسن خلق، ويطيع الله عز وجل فيهم، فإذا فعل ذلك كانوا شهداء له عند وفاته، فإنه لن يعدم من يشكره، ويثني عليه، ويدعو له بخير، فيكون شهيداً له عند الله عز وجل، ويقبل الله شهادته له.

    فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الأول الذي أثنوا عليه خيراً، (قال وجبت)، وفي روايه: (قال وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، والثاني أثنوا عليه شراً فقال: وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، قالوا: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار).

    فهنا ثناء الناس يكون من غير تعمد لذلك، والإنسان يمكن أن يقول للناس: لما يموت فلان أثنوا عليه خيراً، وقولوا: فلان كان صالحاً وكان كذا؛ حتى توجب له الجنة، فليس هذه هو المقصود.

    وجاء في حديث آخر بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الملائكة تنطق على لسان هذا الإنسان، وكأن الله يبعث ملائكة تجعلك تنطق بذلك فتقول: فلان كان رجلاً صالحاً، وكان فيه كذا، ويذكرك الله عز وجل بإحسان هذا الإنسان إليك وإلى الناس يوماً من الأيام، فتثني عليه خيراً، ويمكن يكون هذا المتوفى قد نسيته وفجأة تذكر أنه في يوم من الأيام أسلفني مالاً، وفعل بي كذا، والذي ذكرك بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لتثني عليه، فيقبل الله عز وجل منك ثناءك عليه وشهادتك له، فيكون لهذا الإنسان الجنة، والله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويستر على العبد ما وقع فيه من آثام، ويغفر له، ويقبل شهادة الناس فيه، ويجعل لهذا الإنسان الجنة.

    والعكس كذلك: فقد أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، والذي تثني عليه شراً ويذكره الناس بسوء يمكن أنه حين توفي لم يكن يخطر بقلبك، فلما أتيت تصلي على هذا الإنسان إذا بك تذكر أن هذا كان رجلاً سيئاً، وكان مؤذياً للناس، فتذكر أنت هذا الإنسان بشيء سيء كان فيه، فالثناء الأصل فيه أنه الذكر بالقلب، ولكنه هنا أن تذكر غيرك سواء بخير أو بشر، وإن كانت العادة أنه يطلق في الخير.

    وهذا إذا كان المتكلم صادقاً، وإذا كان الله عز وجل هو الذي فعل ذلك فجعله ينطق بهذا الذي كان عليه هذا الإنسان، فيستحق أن يكون من أهل النار.

    وفي رواية أخرى للحديث نفسه عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير).

    قوله: (شهد له أربعة) إذاً ليس شرطاً أن يثني عليه بالخير كل الناس، فربما لا يعرفه إلا القليل، ولكن القليلين الذين يعرفونه يعرفون خيرية هذا الإنسان، وأنه بعيد عن المعاصي، وربما أنه كان يخفي عمله فلا يطلع عليه كثير من الناس، فكان من كرم الله سبحانه أن جعل الشهادة التي يدخل بسببها الإنسان الجنة من أربعة أو ثلاثة أو اثنين.

    فلما قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة -طمع الصحابة فقالوا-: وثلاثة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: وثلاثة. قالوا: واثنان؟ قال: واثنان) صلوات الله وسلامه عليه، وأقل الجمع وأقل ما يمكن أن يتعامل معه الإنسان: اثنان، وهذا نادر.

    والإنسان ذو الخلق الحسن والإيمان القوي في معاملته مع جميع خلق الله عز وجل أخلاقه حسنة، فإذا تعامل مع التاجر في السوق عامله بحسن خلق، فيحبه التاجر، وإذا تعامل مع الصانع في مكانه عامله بحسن خلق، فيحبه الصانع، وإذا تعامل مع زوجه وأولاده وجيرانه وأصدقائه وإخوانه تعامل بحسن خلق، فهو حسن الخلق مع الجميع، وحَسَنْ الخلق مستحيل ألا يتعامل مع أحد أبداً.

    وفي الحديث أن الاثنين إذا شهدوا له بخير -طالما أنهما صادقان في ذلك- فإن الله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويغفر لهذا العبد، ويجعله من أهل الجنة.

    لذلك فعلى الإنسان المؤمن أن يكثر من إخوانه أهل الخير، وأن يخدم وينفع الناس، فإن أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، والإنسان الذي يبذل المعونة والنفع لكل المسلمين يُحتاج إليه، فهو الذي ينفع الناس، وهو الذي يصلي عليه الناس حين يتوفى، ويدعون له بخير، فيكون له عند الله عز وجل أن يستر ذنوبه، وأن يغفر له، وأن يجعله من أهل الجنة.

    1.   

    فضل من مات له أولاد صغار

    عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم).

    قوله: (لم يبلغ الحنث) يعني: لم يبلغ أن تكتب عليه الذنوب، ويكتب للإنسان الحسنات من ساعة ولادته، ولو أن الأب أخذ ابنه وحج به وهو رضيع صغير يكتب له حجة وأجر، فإذا مات على ذلك فله أجر وليس عليه أي وزر ولا أي ذنب.

    والولد أحب ما يكون إلى أبيه وإلى أمه وهو صغير لم يبلغ أن يؤذيهما أو يعصيهما ويعقهما، فإذا توفي يكون الألم شديداً في قلب الأب وقلب الأم، فالله عز وجل يعوضهما بفضله سبحانه وتعالى الصبر، وينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء.

    والإنسان لا يدري لو نزلت عليه هذه المصيبة هل سيصبر أو لا؟ فقد يقول: سأصبر وأعمل، ولا يقدر على ذلك، ولعله يقول: لا أستطيع أن أصبر على هذا الشيء؛ فهو شاق جداً، نسأل الله العفو والعافية، فإذا به ينزل البلاء وينزل معه الصبر من الله سبحانه وتعالى، فتعجب للإنسان المؤمن حيث يثبته الله عز وجل ويقوي قلبه، ويربط عليه، ويجعله ثابتاً حامداً شاكراً، ويعوضه بالإيمان في الدنيا، ويعوضه بالجنة وبيت الحمد في الآخرة كما ذكرنا في حديث سابق.

    فيرحم الله عز وجل هؤلاء ويرحم الآباء الذين صبروا على ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) أي: برحمة هؤلاء الذين توفوا، فيدخل الله آباءهم الجنة.

    وفي المتفق عليه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم) والقسم هو قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فهذا قضاء لابد وأن يكون، وكل إنسان لابد أن يرد على النار.

    والورود هو المرور فوق الجسر المضروب على جهنم، فكل إنسان لابد وأن يمر عليه، فمن الناس من يمر سريعاً، ومنهم من يبطئ به عمله، ومنهم من يهوي في النار والعياذ بالله.

    والإنسان الذي توفي له ثلاثة من الولد يرحمه الله عز وجل فلا يعاني ولا يقاسي في المرور على الصراط إلا تحلة القسم.

    وتحلة القسم هنا أن يمر على الصراط ولا يدخل النار، بفضل الله سبحانه وتعالى، وهذا إذا صبر على أمر الله سبحانه وتعالى.

    والصابر له الفضل وله الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، والذي لا يرضى بقضاء الله وقدره ليس له حيلة، فلن يدفع قضاء الله عز وجل وقدره، ولذلك فالمؤمن يتصبر، وقالوا: إما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم.

    أي: إما أن يكون الإنسان كريم النفس عفيفها، صابراً لمقادير الله سبحانه وتعالى متجلداً، فسيأتي عليه يوم من الأيام يسليه فيه ربه ويذهب عنه الغم الذي هو فيه.

    وأما أن يتسخط فيرفع صوته، ويلطم ويشق ثيابه، ويشد شعره، ويكون كافراً لربه سبحانه، ولن يحصل له بذلك عودة ميته، ويظل على ذلك إلى أن يذهب صوته، وتتمزق ثيابه، ويمرض ويتعب ويستحق العذاب يوم القيامة، إذاً فهي مصيبة في الدنيا ومصيبة في الآخرة؛ لأنه لم يصبر على قضاء الله وقدره.

    وكان العرب في الجاهلية يضربون المثل برجل كان يسمى حماراً، فيقولون: أكفر من حمار.

    فهذا الرجل مات له أولاد، فتسخط على الله عز وجل، وأظهر الاعتراض على الله عز وجل، بل أظهر أشد ما يكون من الاعتراضات، ولم يزل على ذلك حتى أخذه الله بصاعقة صعقته فقتله سبحانه وتعالى.

    فلما لم يصبر ولم يكسب من الدنيا شيئاً إلا الخزي والعار، وهذا جزاء الإنسان الذي يكفر بربه سبحانه، ويعترض على قضاء الله سبحانه وتعالى فيما حدث لأولاده.

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن فأتاهن النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا حجاباً لها من النار) وهذا كما قال للرجال: (ما من مسلم يقدم...)، (فقالت امرأة: واثنين؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (واثنين) وكأنهن استحيين أن يسألن عن الواحد فلم يسألن، ولكن يغني عن ذلك ما ذكرناه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي عند الترمذي وغيره، وذكر فيه: أن الله عز وجل إذا قبض ابن عبده أرسل ملائكة، فإذا عادوا إليه سألهم وقال: (قبضتم ولد عبدي؟ قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: استرجع وحمد الله، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد).

    فبنى لعبده بيتاً في الجنة؛ لأنه صبر على واحد، فعرفنا أن الصبر على جميع المكاره فيه الأجر العظيم من الله سبحانه، والمؤمن يسأل الله عز وجل العفو والعافية، فإذا نزل البلاء صبر وتصبر كما أمر الله سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    1.   

    باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين

    يقول الإمام النووي : باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم، وإظهار الافتقار إلى الله.

    والمعنى: أن الإنسان المؤمن إذا مر بقبور الظلمة والكفار وبالمشاهد التي يذكرون أنها آثاراً لهم، كآثار الفراعنة، فلا يمر ويفتخر بهؤلاء ويقول: هؤلاء هم آباؤنا وأجدادنا! إن هذا الذي يفتخر بهؤلاء ويقول: نحن الفراعنة، ونحن أصلنا كذا. نقول له: إن هؤلاء كفار آذوا رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا قتله، وأنكروا بعثته ورسالته صلوات الله وسلامه عليه، فلا يفتخر بالكافر إلا من كان مثله، أو من ذهب عقله.

    روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه افتخر رجلان على عهد موسى صلوات الله وسلامه عليه، فأما أحدهما فقال للآخر: أنا فلان ابن فلان ابن فلان فعد تسعة آباء، ثم قال لهذا الآخر من أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، فانتسب للإسلام وليس لهؤلاء الآباء من الكفار، فأوحى الله إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه أن قل لهذين المفتخرين: أنت افتخرت بتسعة آباء من الكفار أنت عاشرهم في النار) حتى ولو لم يكن على دينهم، وهذا الرجل لم يكن كافراً، ولو كان كافراً فلن يسمع كلام موسى عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان ممن تبع موسى عليه الصلاة والسلام وفي قلبه جاهلية وعصبية، قال: (وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة) فقضى الله عز وجل أن الذي يفتخر بالأشرار مثلهم وسيحشر معهم.

    والفراعنة الكفار الذين ملكوا البلاد في يوم من الأيام أين هم الآن؟ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، والعياذ بالله.

    فالذي يفتخر بهؤلاء فإنه يفتخر بأهل النار، وسيكون معهم في النار، فلذلك لا يحل لمسلم أن يقول مفتخراً بالفراعنة الذين بنوا الأهرام حتى يخلدوا ويعيشوا، فليس له أن يفتخر بهؤلاء، فإذا مر بقبورهم نظر واتعظ، فيكون المرور للاتعاظ فقد بنوا هذه الآثار العظيمة فهل نفعتهم من الله سبحانه وتعالى شيئاً؟ وهل منعتهم من الموت؟ لقد زعموا أنهم سيخلدون، وزعموا أنهم الآلهة والأرباب لخلق الله، واستخفوا أقوامهم فأطاعهم أقوامهم، فإذا مر الإنسان بقبورهم وآثارهم اتعظ واعتبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا في حديث ابن عمر المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما مرو بالحجر -والحجر ديار ثمود، وهي على أطراف الحجاز مع الشام- فقال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين).

    فالإنسان إذا دخل على أماكن من أصابهم العذاب تذكر نقمة الله عز وجل، وأن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأن هؤلاء لما كفروا بالله أهلكهم الله وأتلفهم، وهذا حالهم الآن، فيأمرهم النبي بقوله: (لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين)، أي: فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، فلا تدخلوا عليهم وأنتم تضحكون وتلعبون، ولا تتخذوا أماكنهم التي أهلكهم الله فيها للهو واللعب؛ بحيث يأتي إليها الناس وهم يغنون ويرقصون وكأن هذا المكان مكان لهو ولعب، فإذا فعلوا ذلك فكأنهم يسخرون بانتقام الله عز وجل من هؤلاء، ويسخرون من الموت، وإذا كان الأمر كذلك استحقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء، فإن الذي لا يتعظ ولا يعتبر يستحق أن يبتلى.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم) أي: إذا دخلتم فادخلوا وأنتم تعرفون نعمة الله عليكم، وتخافون من بطش الله سبحانه، وإذا لم يكن هذا حالكم فلا تدخلوا حتى لا يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء.

    وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير عليه الصلاة والسلام حتى أجاز الوادي).

    ومن الحكمة وأنت في الحج حين تخرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى أن تمر ببطن محسر مسرعاً؛ لأنه المكان الذي أهلك الله عز وجل فيه أصحاب الفيل، ولما وصله النبي صلى الله عليه وسلم أوضع راحلته، أي: أسرع براحلته حتى جاوز هذا المكان، وصارت سنة النبي صلى الله عليه وسلم المرور في هذا المكان بسرعة؛ لهذا الغرض ولهذه العلة، فإذا مررت تذكرت ذلك، واستحضرت أن هذا المكان مكان نزل فيه العذاب، وليس هناك ما يدعو إلى المكوث في هذا المكان بل نسرع في هذا المكان، فقد كان شؤماً على أصحابه حيث نزل عليهم العذاب في هذا المكان.

    وكتاب الجنائز الذي ذكره الإمام النووي بعده كتاب السفر، وقد شرحناه في الأيام الماضية، وكل الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي ذكرناها في مقدمتنا لكتاب الحج، فلا نعيد تكرار هذا مرة ثانية.

    1.   

    كتاب الفضائل

    يذكر لنا الإمام النووي في هذا الكتاب ما جاء في فضائل الأعمال، وفضائل القرآن، وفضائل الإيمان، وما جاء في الصلاة والزكاة، وفضائل أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وغير ذلك.

    1.   

    فضائل القرآن

    فضل قراءة القرآن

    عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).

    القراءة هنا معناها: احفظوا القرآن، وهذا حث من النبي صلى الله عليه وسلم لنا على أن نحفظ كتاب الله، فإن لم تقدر على الحفظ فاقرأ القرآن قراءة، فتقرأ القرآن وترتل القرآن، ولكن الأصل أن تهتم بالحفظ، والله عز وجل قد يسر القرآن للذكر كما قال سبحانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17]، وفي البداية الحفظ يكون ضعيفاً، والإنسان الذي ظل سنين لا يحفظ شيئاً لن يستطيع أن يحفظ، ولكن بالتمرس شيئاً فشيئاً يستطيع أن يحفظ، ولابد من التنافس في ذلك مع المتنافسين في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولن تعدم أن تجد وقتاً للحفظ ولو في اليوم ساعة أو نصف ساعة، أو أقل أو أكثر.

    وحفظ القرآن يحتاج منك مجهوداً، وإذا عرفت الثواب فإنه يعطيك حافزاً لحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وكم رأينا من أناس حفظوا كتاب الله سبحانه مع كبر السن، فإنسان ذهب يبحث عن الرزق وقال: لا أستطيع أن أحفظ القرآن، وفجأة خلال ثلاث أو أربع سنوات حفظ القرآن كله، وامرأة عجوز لا تقدر على الحفظ، ولا على القراءة، فتعلمت القراءة والكتابة، ولا تستطيع أن تقرأ غير القرآن، فحفظت القرآن كله، ألا يدفعك هذا إلى أن تحاول أن تحفظ القرآن وعندك الوقت وعندك الجهد وأنت ما زلت شاباً صغيراً تقدر على ذلك؟! فتحتاج إلى أن تبذل جهداً.

    فحاول أن تحفظ كتاب الله عز وجل وأحسن نيتك، وأخلص لله تجد الأمر سهلاً؛ لأن الذي وعد بذلك هو الله عز وجل الذي أخبر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17]، وقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

    وإذا حاولت ولم تقدر فإن محاولتك تكفيك ويكون لك الأجر عند الله عز وجل، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

    يقول: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) يعني: يأتي يحامي عن أصحابه حفاظ القرآن، وقد ذكرهم أنهم أهل الله، فقال: (إن لله أهلين من أهل الأرض) فهؤلاء الأهل هم حفاظ القرآن فهم أهل الله سبحانه، فكرمهم الله عز وجل بهذه الإضافة وبهذا التشريف.

    عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به).

    فأهل القرآن هم حفاظ القرآن، ولكنه أتى هنا بشرط فذكر الحافظ لكتاب الله عز وجل الذي كان يعمل به، فلم يحفظه رياء وسمعه، ولم يحفظه نفاقاً، ولم يحفظ القرآن ليجادل به بالباطل، ولا ليقال عنه: حافظ، ولا ليقال عنه: عالم، ولا ليقال عنه: قارئ، وإنما حفظ القرآن طاعة لله وحباً لله سبحانه وتعالى، وحباً في كتاب الله عز وجل، وخدمة لدين الله، فهذا الذي يؤتى به يوم القيامة كما جاء في الحديث: (تقدمه سورة البقرة وآل عمران) فتقدمه هاتان السورتان، وهما أعظم سور القرآن بعد الفاتحة، (تحاجان عن صاحبهما) وهذا الذي تتقدم أمامه سورة البقرة وسورة آل عمران لتدافع عنه يحسده أهل الموقف؛ لأنه يأتي ومعه من يدافع عنه، وغيره يأتي وحده، ألا يدفع هذا المسلمَ إلى أن يحاول أن يحفظ سورة البقرة وسورة آل عمران؛ لأجل هذا الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، فيجد من يحامي ويدافع عنه ومن يظله يوم القيامة.

    يقول عثمان رضي الله عنه فيما رواه عنه البخاري : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

    (خيركم) أي: خير المؤمنين الذي يتعلم القرآن، ويحفظ القرآن، ويتفهم معانيه، ويتدارس القرآن، واشترك في الفضيلة العالم والمتعلم، المدرس والدارس، فكلاهما اشتركا في الفضيلة.

    فضيلة الماهر بالقرآن

    عن عائشة رضي الله عنها -وهذا في الصحيحين- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة).

    والماهر بالقرآن قالوا هو الذي يجيد لفظه على ما ينبغي، يعني: أنه ينطق به نطقاً صحيحاً فصيحاً بما تعلم من أحكام تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، بحيث لا يشتبه عليه ولا يلتبس في قراءته، فهذا الإنسان مع السفرة الكرام البررة.

    والسفرة هم رسل الله الذين بين السماء والأرض، وقد نزلوا إلى رسل الله بما أعطاهم الله عز وجل من هذا القرآن؛ ليحفظه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا مع ملائكة الله الذين وصفهم بأنهم سفرة، وكرام وبررة.

    قال صلى الله عليه وسلم: (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فلن تعدم خيراً في حفظ كتاب الله عز وجل، فإن حفظت بسهولة فلك أجر عظيم، وإن حفظت وتعبت في الحفظ وكان شاقاً عليك وتتعتعت فيه فلك أجران وليس أجر واحد، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى.

    وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها حلو ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو)

    هذا الحديث يقسم الناس مع القرآن إلى أربعة أصناف: إما مؤمن وإما منافق، والمؤمن إما أنه يحفظ من القرآن وإما أنه لا يحفظ، والمنافق إما أنه يحفظ وإما أنه لا يحفظ، فصاروا أربعة: وصفين في وصفين.

    قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن) وضرب لنا مثالاً من الأشياء الموجودة بين أيدينا، فالذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، وهي ثمرة من الثمار أقرب ما يمكن أن نشبهها بالبرتقالة أو الأترنجة، وهذا نوع من أنواع الثمار الموالح.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب) فإذا أخذتها وشممتها لن تجد لها ريحاً خبيثة، ولكن ستجد لها رائحة حلوة طيبة، وتأكلها فإذا هي طيبة، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن كله طيب ظاهره وباطنه، فعبر عن ذلك بثمرة رائحتها جميلة، ولونها أصفر، وقد ذكر الله عز وجل اللون الأصفر، فقال: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69]، فيسرك لونها ويسرك طعمها، فتنتفع بها.

    قالوا: وفيها فوائد في بذرها، وفي لحمها، وفي شحمها، وفي قشرتها، قالوا: وكذلك الإنسان المؤمن إذا كان حافظاً لكتاب الله عز وجل فإن فيه فوائد لا تعد.

    قالوا: والأترجة اشتركت فيها حواس الإنسان الأربع، البصر: فإذا نظرت إليها سرك منظرها، والذوق: فتتذوق طعمها فتفرح به؛ لأنه جميل، والشم: فتشمها طيبة فلا تؤذيك، واللمس: فملمسها ناعم وطيب وجميل. وهو هنا يقرب مثل المؤمن الذي يحفظ كتاب الله عز وجل وليس شرطاً أن يحفظ الكتاب كله، فلو حفظ بعضه فإن ذلك يشمله، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن جميل باطنه وظاهره.

    قال: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو)

    فصفة الإيمان فيه صفة طعم، وصفة الرائحة قد توجد وقد لا توجد، وأما الطعم فباقٍ، لذلك فالإيمان باقٍ فيه، ولو ترك الإيمان لحظة كفر، فهو مؤمن، وإيمانه مستمر كطعم التمرة، وقد يقرأ القرآن أحياناً وقد يتركه أحياناً، وقد يحفظه أحياناً وقد ينساه أحياناً، لكنه إذا قرأ القرآن فهذا مثَله.

    فإذا كان لا يحفظ القرآن فمثله مثله مثل التمرة لا تعدم فيه خير، وإذا بلوته واختبرته وجدت فيه الخير؛ لأنه مؤمن، فإيمانه كهذه التمرة التي لا ريح لها ولكن طعمها حلو.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن) وهنا ينعكس الأمر، فالإنسان المنافق مسمِّع ومرائي بحفظه لكتاب الله، فلم يحفظ لله عز وجل، وإنما حفظ القرآن لكي يجادل به بالباطل، ولكي يظهر نفسه أمام الناس، والمنافق هو الذي طلب بالقرآن الدنيا ولم يطلب به وجه الله سبحانه وتعالى، فمثله كمثل الريحانة: رائحتها جميلة، وأنت قد تستهويك الرائحة الطيبة فإذا طعمت هذا الذي رائحته طيبة وجدته مراً، وهذا إذا سمعت صوته وجدته جميلاً جداً، فإذا تعاملت معه خدعك ونصب عليك، وعمل بخلاف ما يقوله، فهذا الرائحة الطيبة التي فيه هي رائحة القرآن العظيم، وأما هو فطعمه مر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن) أي: المنافق الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن، وقلبه فيه الكفر، وأفعاله الظاهرة تدل على ما في باطنه، وإن كان ينتمي إلى المسلمين ويجلس مع المسلمين لكن حقيقته أنه كافر، مثل عبد الله بن أبي بن سلول، فابنه كان مؤمناً وكان هو كافراً يظهر الإسلام فقط؛ ليحصن نفسه ودمه بدخوله في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الرجل الذي كان كافراً وكان يعادي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلما توفي طلب ابنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في ثوبه، فكفنه بثوبه، ولم يزل يلح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه حتى صلى عليه، فلم تنفعه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80] أي: حتى أنت يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مهما استغفرت لهذا المنافق فلن يغفر الله له، وكلمة (سبعين) ليس المقصود منها نفس العدد سبعين، ولكن المقصود تكثير العدد، كما تقول: مليون مرة، وكان العرب إذا قالوا سبعين يقصدون به العدد الكبير، فجاء القرآن بلغتهم، فسواء استغفرت له أم لم تستغفر فلن يقبل؛ لأنه عاش كافراً ومات كافراً وإن أظهر للناس أنه مسلم، وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التوبة:84] فكانت آخر مرة يصلي فيها رسول الله على رجل منافق وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] لماذا؟ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، فهنا يخبر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المنافق وأمثاله من الذين أظهروا الإسلام وكانوا بين المسلمين، أنهم كانوا أشد بغضاً لدين الله عز وجل وللمسلمين، وإذا أتى وقت الجد تكلموا بكلام قبيح لا تتوقعه، فقد تسمع عن الإنسان أنه مسلم فإذا تكلم شعرت أنه أشد من أعداء الإسلام على الإسلام، بل إن أعداء الإسلام يستحيون أن يقولوا ما يقوله هذا الإنسان، ومثل هذا يقول: أنتم تريدون أن ترجعونا مرة أخرى للتخلف وللماضي، وتريدون أن تعيدونا إلى الكتب الصفراء يقصدون القرآن وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فتعجب من هؤلاء فكلامهم مر، وحين تخبر هذا الإنسان تجد النتن في كلامه، وتجد القذارة والكفر على لسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المنافقين، (لا ريح لها) يعني: مثله مثل الحنظلة (لا ريح لها وطعمها مر) فليس فيه أي خير ولا أي فائدة، وإذا تكلم تكلم بكلام الكفار وليس بكلام المسلمين، فلا ينطق إلا بشر، وإذا تعاملت معه تجده أبعد الناس عن دين الله سبحانه، وأحقد الناس على دين الله سبحانه وتعالى، فيتكلم عن الإسلام بكلام هو الكفر والعياذ بالله، وهو أمرّ من الحنظل كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فهو مثل الحنظلة، فالمؤمن مثله كشجر الفاكهة كالأترجة التي شجرتها عالية، والمنافق مثله كمثل الحنظلة، وهو نبات ينبت على الأرض يسمونه بطيخ، فالمنافق في الحظيظ على الأرض، والمؤمن عالٍ مرتفع.

    عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فهناك أناس حفظوا القرآن وارتفعوا به فكانوا أحب الخلق إلى الله عز وجل، وكانوا أهل الله وخاصة الله، فارتفعوا بالقرآن وسموا به، وأناس آخرون طلبوا القرآن للدنيا فإذا بالله يضعهم، فيأبى الله أن يرفع إلا من أعز دينه، وإلا من والى الله سبحانه وتعالى، وقد تجد إنساناً حافظاً لكتاب الله محبوباً بين الناس، وتجد آخر يحفظه لكن الناس يبغضونه ولا يحبونه، فهذا وضعه الله وذاك رفعه الله سبحانه وتعالى.

    الإكثار من قراءة القرآن نعمة يستحق صاحبها أن يحسد عليها

    عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الله وآناء النهار)، وهذا الحديث تقدم قبل ذلك.

    قوله: (لا حسد) بمعنى لا غبطة، فأنت تنظر إلى هذا الإنسان وتتمنى أن تحفظ مثله، وليس الحسد هنا بمعنى أنك تتمنى زوال نعمته، فلا يجوز ذلك، وهذا الحسد قد أمرنا الله عز وجل أن نتعوذ به عز وجل من أصحابه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2]، إلى قوله: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].

    والمقصود بالحسد في الحديث أن تغبط هذا الإنسان وتحب النعمة التي هو فيها، وتتمنى بقاءها، وتتمنى أن يكون لك مثل هذا الإنسان، ولا تتمنى فقط بل تتمنى وتحاول، وقد تجد إنساناً يقول: ليتني أكون مثل هذا الرجل الذي يحفظ القرآن، لكنه لم يعمل شيئاً، ولم يحاول أن يحفظ القرآن، وقد تجد إنساناً يريد أن يحج، فتسمع آخر يقول: ياليتني أحج، فتسأله يا فلان هل ذهبت للحج من قبل؟ فيقول: لا. فتقول له: هل لديك مال للحج؟ فيقول: نعم. إذاً ما معنى قولك يا ليت؟ فاذهب وحج، وإذا منعت رجوت من الله أن يكتب لك الأجر على ذلك، وأما أن تتمنى الحج مع وجود المال ومع وجود الاستطاعة، ولم تصنع شيئاً فهذا من العجز، بل إن الذي يتمنى الخير عليه أن يعمل حتى يصل إلى أمنيته الصالحة، ولا يتمنى ثم يقعد.

    فإذا قلت: يا ليتني أحفظ القرآن، فحاول أن تفتح المصحف ثم احفظ آية أو آيتين، واحذر من الشره، فإنها إذا أتت الإنسان تجده يقول: أريد أن أحفظ القرآن، فيأخذ المصحف ويريد أن يحفظ ربعين في اليوم، فلا يستطيع ويصعب عليه وينسى، ثم يمل ويترك، ولكن احفظ كما كان يحفظ الصحابة، فقد كانوا يحفظون بعض الآيات، ثم أتقن هذه الآيات، وافهم معانيها، ثم انتقل إلى غيرها، ولو تحفظ القرآن في عشر سنين أو في عشرين سنة، ولو قسمت القرآن على عشرين سنة أو ثلاثين سنة وعلم الله من حالك أنك تريد أن تحفظ القرآن فلعله يحشرك مع من يحفظ القرآن، حتى وإن مت قبل أن تحفظ فالله يعاملك بنيتك، فإذا أحسنت النية أعطاك الله عز وجل أحسن الجزاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد الاثنين: (رجل آتاه الله القرآن فحفظه وعلمه، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار).

    فاحرص على حفظ القرآن، واحرص على أن تحفظ أولادك كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا حفظت شيئاً فشيئاً فستحفظ في يوم من الأيام بفضل الله سبحانه وتعالى القرآن كاملاً.

    وليكن عملك لله عز وجل، فلا تطلب بعملك الدنيا، وكذلك في أبنائك، فلا يكن الأمر أنك تريد من أبنائك أن يحفظوا القرآن لكي تفتخر بذلك فقط، فلعلك بشؤم هذا الكلام والافتخار تنسف كل ما حفظوه، فتعلم القرآن لله عز وجل وليس للتفاخر على الناس، وليس لأجل أنا ولدي أفضل من ولدك، فإن هذا لا يعرف إلا يوم القيامة، ومن أخلص لله كان له الفضل عند الله سبحانه وتعالى، وكم من إنسان حفظ القرآن وهو صغير فلما كبر وصار رجلاً وشاباً إذا به ينسي ما حفظه بسبب الغرور.

    وكم رأينا من أطفال صغار من سنين طويلة يكون عمره ست سنين وقد حفظ القرآن كاملاً، ويكون عمره ثمان سنين وقد صنع حفلة لأجل أنه أكمل القرآن، والآن لما ننظر أين هذا الإنسان تجده قد نسي القرآن وانشغل بالدنيا، ولها ولعب مع اللاعبين، وذهب ما حفظ من القرآن.

    فأنت عندما تحفِّظ ولدك كتاب الله ابتغ الأجر من الله، وحافظ له على ما حفظ من القرآن، وراجع معه، ومره ليل نهار بمراجعة كتاب الله سبحانه وتعالى، واحذر من الفخر حتى لا يضيع ثواب عملك، وحتى لا تجد شؤم هذا الافتخار في النسيان وعدم الاستذكار، فتضيع منك الدنيا والآخرة.

    والولد الذي يحفظ القرآن يأتي يوم القيامة فيكسو الله عز وجل والديه بحلة من عنده سبحانه وتعالى، فيسألان الله عز وجل: بأي شيء هذا؟ فيقول: بحفظ ولدكما للقرآن.

    إذاً فاطلب بعملك دائماً وجه الله سبحانه، واحذر من الدنيا، فإن الدنيا لن تدوم لك ولن تدوم أنت فيها، فلا معنى لأن تتكالب عليها وتطلبها، أو تطلب أن يشير الناس إليك.

    لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون من ذلك، فقد كان أحدهم إذا سار في الطريق يسير معه الواحد والاثنان والثلاثة، فإذا زادوا عن أربعة تركهم وانصرف، فلا يحب أن يكون حوله مجموعة من الناس فينظر إليه بعين أن هذا معه مجموعة من الناس، فما كانوا يحبون إلا الاختفاء بالأعمال، والتقرب إلى الله؛ لأنهم تعلموا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.

    مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل في المسجد قائم يصلي يطول في صلاته ومعه رجل بجواره - والحديث في مسند الإمام أحمد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: (أتراه يرائي؟) يعني: لماذا يطول في الصلاة في المسجد في غير صلاة الفريضة؟ فقال الرجل: كعادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في طيب القلوب وحسن الظن قال: (يا رسول الله! هو من أعبد أهل المدينة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق إلى بيته، فلما وصل قال فنفض يده من يده وقال: إن أحب دينكم إلى الله أيسره)

    فالله لم يطلب من الناس أن يصلوا في المسجد بهذه الصورة، ولكن من أراد أن يطول في صلاته ففي بيته لكن أمام الناس لا؛ فإن الناس سيتنافسون في ذلك، فإذا صلى أحدهم نصف ساعة فإن الآخر يقول: سأصلي ساعة كاملة، والثالث يقول: سأصلي ساعتين، فتصبح الصلاة للتظاهر والتفاخر.

    والفريضة قد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نصليها ونقرأ فيها، فنصلي كما صلى صلوات الله وسلامه عليه، والمطلوب في الفريضة الإظهار، والمطلوب في النافلة الاستتار، وتطلب الأجر من الله سبحانه وتعالى بالفريضة والنافلة.

    نرجع للحديث قال: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)

    (رجل آتاه الله مالاً) من نعم الله عز وجل على العبد أن يعطيه المال ويعطيه البنين، والإنسان طالما أنه يحافظ على النعمة وينفق لله عز وجل فإن الله يبقيها في يده، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل جعل منافع العباد عند أقوام، فأعطاهم نعماً -هذا معنى حديثه صلى الله عليه وسلم- يبقيها فيهم ما كان العباد ينتفعون بهم، فإذا تركوا أخذها الله عز وجل منهم) .

    وإذا آتاك الله مالاً فاعلم أن المال مال الله عز وجل، وأن فيه حقوقاً عليك، فإذا أعطاك ألفاً فعليك زكاة في هذه الألف إذا مر عليها سنة مقدارها خمس وعشرون، فتعطيها للفقراء، فإذا أعطيتها للفقراء أبقى الله النعمة في يدك؛ لأنك عرفت حق الله.

    فإذا كانت أكثر من ذلك أعطيت زكاتها، وتصدقت على من يحتاج بشيء من مالك، وأعطيت بالليل وبالنهار، قليلاً وكثيراً، ومستحيل أن تنفق ولا يعطيك الله وطالما أنك تنفق ونيتك حسنة، فإن الله يعطيك ويبقي النعمة في يدك، إلى أن يضن الإنسان ويشح بماله ويرفض أن يعطي الحق للفقراء، فيأخذ الله عز وجل منه هذه النعمة ويحولها إلى غيره.

    والفقراء والضعفاء يسألون الله عز وجل فيأت الله عز وجل بهذه الأرزاق التي تصل إلينا، والأرزاق لها أسباب، فإما أن تكون سبباً من هذه الأسباب فيعطيك النعمة ويفيض عليك من نهر نعمه سبحانه.

    فإذا أعطاك الله فأعط الفقراء والضعفاء مما أعطاك الله عز وجل، وإذا منعت عنهم منع الله عنك العطاء وأعطاه لغيرك، ولن يحرم الله عز وجل الفقراء من رزقه وفضله وكرمه، ولكن يسبب الأسباب، فإذا أعطاك الله النعمة فأعط لخلق الله عز وجل ما وجب عليك، وأعط أكثر من ذلك مما تقتدي فيه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وبعباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار).

    أي: في أحايين الليل وساعاته، وبالنهار وأوقاته، وفي رواية أخرى قال: (سلطه على هلكته في الحق) فهو يعطي وينفق المال لله، والله عظيم كريم، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755966938