إسلام ويب

شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [1]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمرت الشريعة بالرفق والحلم والأناة ورغبت فيها، وحثت على التخلق بها، وقد حث الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على التخلق بهذه الأخلاق العظيمة، وبين صلى الله عليه وسلم محبة الله للمتصفين بها.

    1.   

    فضل الحلم والأناة والرفق

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: الحلم والأناة والرفق.

    قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

    وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

    وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

    وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].

    وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس : (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).

    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله).

    هذا باب من كتاب رياض الصالحين، يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله: الحلم والأناة والرفق.

    1.   

    معنى قوله: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)

    والحلم خلق من الأخلاق التي يجعلها الله عز وجل في قلب من يشاء من خلقه، وهو خلق عظيم من الأخلاق الكريمة التي يحبها الله سبحانه، وهو صفة من صفات رب العالمين، فهو الحليم سبحانه، وقد اجتمع له الكمال والجلال والجمال فيه.

    وقد أمر عباده أن يتصفوا بهذه الصفة ويتخلقوا بها، فجاء في القرآن قول الله سبحانه وتعالى مادحاً المؤمنين الذين هم على هذه الصفات بأنه يحبهم، قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133-134].

    أي: سارعوا إلى الجنة، التي يدخلها من اتصف بهذه الصفات العظيمة، فهذه الجنات أعدت للمتقين، وهم الذين ينفقون. فأهل التقوى يتقون غضب الله، ويتقون عذابه بالإنفاق، فهم مخلصون مؤمنون، فيتصدقون وينفقون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب).

    فمن صفات هؤلاء المتقين: أنهم يدرءون عن أنفسهم ويتقون غضب الله بأخلاقهم الحسنة، وبإنفاقهم في سبيل الله سبحانه. وقد بدأ سبحانه بصفة البذل، فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ [آل عمران:134]، وليس في وقت الرخاء فقط، ولكن في السراء والضراء، فيجازيهم ربنا سبحانه ويعطيهم، فيسرهم بذلك، فيفرحون.

    قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وكظم الغيظ هي: صفة الحلم، فهم أهل حلم، والحلم يأتي من علم الإنسان بربه سبحانه، ومن علمه بنفسه وبمن يحلم عنه.

    فهم كاظمون للغيظ، وكظم غيظه: كتم غيظه على غيظ، أي: وهو مغتاظ، فهو إنسان عنده إحساس وشعور، فيحدث في قلبه غيظ وشيء من الاندفاع، ولكنه سرعان ما يطفئه ويكظمه، ويداري ذلك بحلمه وأدبه. فهم كاظمون لغيظهم، وهم عافون عن الناس.

    قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

    وأما معنى الحلم فقالوا: حد الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغضب.

    فالإنسان بداخله شهوة الغضب وشهوة الانتقام، وكل إنسان بداخله ذلك، والذي لا يغضب ليس إنساناً، فلا يوجد إنسان لا يغضب.

    وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تغضب). وكيف لا يغضب الإنسان؟ وقد كان هو نفسه صلى الله عليه وسلم يغضب؟ فمعنى الحديث: لا تتعاط أسباب الغضب، ولا تضع لنفسك في المواطن التي بسببها تغضب لنفسك، وتتهور على خصمك، وليكن غضبك لله سبحانه وتعالى.

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لله سبحانه، وكان ينتقم ويقيم الحد غضباً لله سبحانه وليس لنفسه. وأما في نفسه فكان يعفو ويصفح، صلوات الله وسلامه عليه.

    قال سبحانه: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]. وقد يكظم الإنسان غيظه في داخله، ولكنه ينتظر أن ينتقم من خصمه، وقد لا ينتقم ويسكت، ولكنه ينتظر الشماتة فيه، فربنا أعقب ذلك بصفة أخرى، وهي العفو، فإذا كظمت غيظك فأكمل ذلك بالعفو عمن ظلمك.

    قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]. فإذا فعلت ذلك فأنت من المحسنين، فقد أحسنت إلى غيرك، قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

    إذاً: فهم المتقون، وهم المحسنون، وهم المحبوبون لرب العالمين سبحانه. فليتذكر الإنسان ذلك، وكل إنسان يحب أن يكون محبوباً لرب العالمين سبحانه، والله يحب المحسنين، فلنحسن، ولننفق في السراء والضراء، ولنكتم غيظنا وغضبنا، ولنعف عن الناس، فالله عفو يحب العفو.

    1.   

    معنى قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف)

    قال سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

    وقد أدب الله النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية العظيمة، وأمره أن يأخذ بالعفو، فكأنه يقول له: ليكن خلقك العفو عن الناس، وليكن هذا دأبك وخلقك، بأن تعفو عمن ظلمك.

    فقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199]، يعني: خذ بأسباب العفو، وليكن ذلك خلقاً لك مع الناس.

    وإذا أمرت فأمر بالمعروف، وبشرع الله سبحانه، ولا تأمر بالهوى، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن هذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة.

    فقد كان قلبه ممتلئاً حلماً وإيماناً، ولكنه هنا يأمره بما يتخلق المؤمنون بمثله، فقال له ذلك، والمقصود: اسمعوا أيها المؤمنون فقد قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].

    قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199]، أي: بالمعروف وبشرع الله سبحانه.

    قال تعالى: َأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. والناس أصناف، والله عز وجل يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعامل مع كل صنف بما يصلح له، فقال له: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199]، أي: فليكن من خلقك العفو، وكم سيبدر من الناس معك من أخلاق تضايقك، حتى تكتمل الرسالة، وتؤدي للناس ما أمرك الله عز وجل بتبليغه، ولذلك فأمر الناس بالعرف، وإذا عفوت عن الناس فليس المقصود مجرد كظم الغيظ فقط، ولكن اعف عنهم.

    قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: وأمر الناس كلهم بشرع الله سبحانه وتعالى.

    أما أهل الجهل والسخط والبعد عن شرع الله سبحانه فلا تقابلهم بصنيعهم، وإذا تعرض لك إنسان من هؤلاء الجهلة الذين يتعرضون لك فأعرض عنه، قال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. فلا يستحق الجاهل أن تضيع وقتك معه، وأن تنفق جهدك من أجله، ولكن لعله يتعلم من أخلاقك إن صفحت وأعرضت عنه.

    1.   

    معنى قوله: (ادفع بالتي هي أحسن)

    قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34].

    أي: لا تستوي الفعلة الحسنة مع الفعلة السيئة. ولا يستوي الإحسان مع الإساءة. ولا يستوي أن يعطيك الله حسنات مع أن يكتب عليك سيئات. فإذا كنت تريد أن تكون من أهل الجنة فاعمل بالحسنى، وخذ الحسنات؛ لأنه لا تستوي الحسنة مع السيئة.

    قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] ولم يقل: ادفع بالحسنة، وإنما قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]؛ لأن الأفعال منها حسن، ومنها ما هو أحسن من الحسن، فإذا أساء إليك إنسان فأحسن إليه، وليس أي إحسان، وإنما أحسن بأفضل الإحسان إليه؛ لعل الله عز وجل أن يبدل أعماله من سيئات إلى حسنات.

    وكم يستحيي الإنسان من غيره في مثل هذا الصنيع إذا أحسن إليه، ولذلك قال ربنا بعد ذلك: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، فإذا كان إنساناً طيباً وفيه عقل فإنه يؤثر عليه أو يأسره بحسن خلقه الذي يتعامل معه به.

    وكل إنسان قد يبدر منه شيء، والتهور ليس دليلاً على أن هذا الإنسان سيئ، فقد يكون الإنسان جيداً، ولكن يبدر منه شيء من الإساءة ومن التهور، ولو أن كل إنسان قابلت تهوره بتهور مثله فأين الفضل الذي لك عليه؟

    وأنت قد تعرف هذا الإنسان، ولعله يرجع، فربنا تبارك وتعالى يقول لك: تعامل مع هذا الإنسان بالحسنى، وأحسن إليه تأسره بإحسانك له.

    فعلمنا كيف نتعامل مع الإنس ومع الجن:

    أما مع الجن فقال تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، لأنك ليس لك حيلة مع الشيطان إلا أن تتعوذ بالله منه، والله عز وجل هو الذي يحميك ويعصمك منه فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أو: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.

    وأما شياطين الإنسان فقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] وذلك مرة بعد الأخرى، فلعل هذا الإنسان يستحيي ويصبح مؤدباً يوماً من الأيام.

    قال تعالى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وهذا فضل الإحسان.

    أحسن إلى الناس تستجلب مودتهم فطالما استعبد الإحسان إنساناً

    فإنك تستعبد الإنسان بإحسانك إليه. وبإحسانك إليه مرة بعد مرة يصبح في النهاية كأنه ولي، أي: موال ومناصر لك بعدما كان معادياً لك، كما قال تعالى: كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].

    قال سبحانه: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35]، أي: وما يلقى الدرجة العالية، وهي درجة الإحسان، أو ما يلقى هذا الخلق العظيم من الله ويصبر عليه إلا أهل الصبر على الأذى، أو إنسان على خلق عظيم، قال تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    وقال سبحانه: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، أي: من عزائم الأمور وشدائدها الدالة على حسن خلق صاحبها، وقوة إيمانه، فيصبر ويعفو ويتجاوز، ويفوت الشيء بعد الشيء، حتى يستحيي خصمه، ويصير إنساناً محسناً كالذي أحسن إليه.

    1.   

    فضل الأناة

    عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس : (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).

    وقد جاء وفد عبد القيس من ضمن الوفود الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون الإسلام، فقدموا عليه وكان أحدهم أشج، يعني: كان به جرح مفتوح في يوم من الأيام ثم التأم بعد ذلك، وكان قد شج في مشاجرة مع قريب له، فضربه بشيء شج رأسه، فكان مشهوراً بهذا الوصف، أشج عبد القيس ، يعني: المشجوج من بني عبد القيس.

    فلما قدموا ابتدروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل يريد أن يسلم عليه، صلوات الله وسلامه عليه؛ لينال من بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فتأخر هذا الرجل قليلاً؛ فقد كانوا أتوا من سفر، وقد اتسخت ثيابهم، فأراد أن يتنظف، فنظف نفسه ولبس ثوبين طيبين، ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هيئة جميلة، ففرح به النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من فرحه بالآخرين، وقال لهذا الرجل معظماً فعله: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم)، أنك حليم، أي: تحلم وتعفو عمن يسيء إليك. (والأناة)، أي: أن غير متعجل.

    والإنسان الذي جاء من سفر قد يكون ممتلئاً عرقاً، وممتلئاً بغبار السفر، فإذا جاء ليقابل أحداً ويسلم عليه فربما يغضب، فقد يلوث له ثيابه، فهذا الرجل انتظر حتى تنظف ولبس ثوبين وتطيب، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم طيباً، ففرح به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، فسأله الرجل: هاتان الخصلتان اكتسبتهما أنا أم هما هبة من الله عز وجل فطرني الله عليهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من الله)، يعني: الله هو الذي فطرك عليهما. فحمد الرجل ربه سبحانه أن فطره على ذلك.

    فالإنسان الحليم محبوب من الله عز وجل، ومحبوب من الخلق، فهو إنسان متأن غير مستعجل، فلا يريد أن يعمل كل شيء بسرعة، ولكنه يفكر قبل أن يعمل الشيء.

    1.   

    حب الله لصفة الرفق

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله).

    فالله عظيم سبحانه وتعالى، ومن صفات كماله وجلاله سبحانه الحلم والرفق والرحمة، فهو حليم ورفيق يرفق بعباده، قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس:11]. أي: لو أن الإنسان عند استعجاله للشر وسؤاله له مثل قوله: يا رب خذني، لو أجابه الله لعجل له الشر وأخذه، ولعله يأخذه وهو على معصية، فلا يتوب إلى الله عز وجل.

    وكذلك عندما يغضب الإنسان من ابنه ويدعو ربه أن يأخذه فلو أن الله عجل إليه لأخذه حالاً، فيعود الإنسان يلوم نفسه ويسألها: ما الذي جعلني أدعو عليه؟

    وهكذا الإنسان يتغيظ ويدعو على نفسه، أو يدعو على زوجه، أو يدعو على أهله أو ولده، والله عز وجل يؤدبنا ويقول لنا: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس:11]، ولكن الله عز وجل حليم رفيق بعباده ولطيف بهم، فيحب من عباده أن يتخلقوا بهذه الصفة، صفة الرفق.

    ولله عز وجل صفات يأبى أن يشاركه فيها أحد من خلقه، وله صفات أمر عباده أن يتخلقوا بنحوها.

    فمن صفاته سبحانه التي أبى لعباده أن يتخلقوا بمثلها: صفة الكبر، ومن نازع الله عز وجل في ذلك أدخله النار سبحانه تبارك وتعالى.

    ومن صفاته الكريمة سبحانه: صفة الكرم، وقد أمر عباده أن يكونوا كرماء.

    والله صفاته عظيمة، فله الكمال في كل وصف من الأوصاف، والعباد لهم من ذلك على قدر ما يفعلون، وصفات العباد فيها نقص، وأما الله فله الكمال سبحانه، وذلك مثل: أنه جعل في عباده الحياة، وهو حي سبحانه وتعالى، وحياة الله دائمة أبدية سرمدية، فهو الأول وهو الآخر، فلا بداية له ولا نهاية؛ لأن البداية والنهاية زمن مخلوق، والله عز وجل هو الحي حياة أبدية لا نهاية لها.

    فالمخلوق حي حياة على قدره، والله عز وجل له الكمال في ذلك سبحانه.

    والله هو السميع البصير، فهو يسمع ويبصر، فهو يسمع كل شيء، ويرى كل شيء، وقد جعل في عبده سمعاً وبصراً، قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، ولكن هذا المخلوق سمعه وبصره يليقان بنقصه وضعفه، وسمع الله عز وجل وبصره يليقان بكماله سبحانه. فأمر عباده أن يتصفوا بصفات من صفات رحمته سبحانه.

    وأن يكونوا رحماء وحلماء وكرماء، وأن يكونوا طيبين ورفقاء بغيرهم، فالله طيب يحب الطيبين، وهو جميل يحب الجمال، ورفيق يحب الرفق، وهو الرحيم وقد جعل المؤمنين فيما بينهم رحماء. إذاً: فمن صفاته الكاملة سبحانه: صفة الرفق، وصفة الحلم، وقد أمر عباده بأن يحلموا.

    فالعبد عندما يقول: إن فلاناً أغاظني، نقول له: هذا العبد كم أغضب ربه سبحانه؟ وكم حلم عليه سبحانه وتعالى؟ فعندها يرفق العبد، ويعامل الناس بالشيء الذي يحب أن يعاملوه به؛ ابتغاء وجه الله سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، ففي الحديث أن الرفق ليس مرة أو مرتين، وإنما في كل أمرك كن رفيقاً، ومع كل شيء.

    وأيضاً في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، يعني: لو كان هناك منكر موجود مثلاً فقام إنسان ينكر هذا المنكر فتكلم برفق فانتهى صاحب المنكر عن منكره، وقام آخر وتشدد وعنف هذا الإنسان وضربه ومنعه من المنكر، فكل منهما نهى عن منكر، لكن الأول أكثرهما ثواباً، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف). فالذي تعامل بالرفق يأخذ أجراً أعظم ممن تعامل بالعنف، مع أن النتيجة واحدة، ولكن الرفق وراءه الرفق؛ فلما رفقت بهذا الإنسان استحيا منك واستحيا من الله، وراجع نفسه وتفكر فيما عمل، وعزم على عدم فعله مرة ثانية.

    ولو عاملته بعنف لسألك: لماذا تعاملني بالعنف هكذا؟ وهل أنت أحسن مني أو أقوى مني؟ ولعله يقول: سأعملها مرة أخرى، فأنت قد نهيته عن المنكر، ولكن لعله يعود معانداً إليه مرة ثانية، فانظر الرفق: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه)، فيحبك على ذلك، وكلما تذكر رفقك به وأدبك معه يقول: لقد تركت ذلك العمل من ذلك الوقت، ولم أعمله مرة أخرى. وإذا تذكر الآخر قال: لقد أغاظني، ألم يكن عنده طريقة غير تلك الطريقة؟

    وهذا فرق كبير بينهما، وأنت تسمع هذا كثيراً، فتسمع إنساناً يذكر من علمه الإحسان بطريقة حسنة، ويذكره دائماً ويدعو له.

    ويقول عن غيره: فلان لا أحب التعامل معه وإن كان يصلي، لكنه عنيف ومتهور وكذا. قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ويعطي الله عز وجل على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه).

    فالرفق إذا كان في الشيء كان زينة له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه). فما كان الرفق في قلب إنسان إلا كان زينة لهذا الإنسان.

    وما كان في عمل من الأعمال إلا وكان هذا العمل جميلاً، وما نزع هذا الرفق من شيء إلا كان شيناً على صاحبه، وعلى العمل الذي عمل فيه، فكن رفيقاً، فالرفق نتيجة حلم الإنسان، والإنسان الحليم محبوب إلى الخالق سبحانه، ومحبوب إلى الناس.

    1.   

    رفق النبي بالأعرابي الذي بال في المسجد

    وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بال أعرابي في المسجد). وكلنا يحفظ هذا الحديث.

    فالأعرابي الذي دخل المسجد كان فيه شيء من الجهل، دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يقضي حاجته، ولم يكن يوجد دورة مياه كما هو موجود الآن في مساجدنا، ولا مكان للوضوء في المسجد، ورأى أن المسجد لا يوجد فيه حصير ولا بساط، وإنما هو حصى وتراب، فذهب إلى أحد أركان المسجد وجلس يبول فيه، فقام إليه الصحابة ينتهرونه: ماذا تعمل؟

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروه، لا تزرموه بوله). يعني: اتركوه يكمل، ولو قطعتم عليه بوله فقد يحصل له احتقان أو نحوه له حاجة ما، فاتركوه.

    ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو: ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).

    وهذا الكلام الجميل من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإنسان الذي تبول في المسجد ليس معناه: أنك لم تفعل شيئاً قبيحاً، وإنما معناه: لقد فعلت شيئاً قبيحاً، ولو رأيتك قبل ذلك لنهيتك.

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكنه طالما قد بدأ قال: (دعوه، ولا تزرموه بولته، إنما بعثتم ميسرين) فالأعرابي لما نظر إلى الصحابة وهم يقولون له: ماذا تعمل؟ ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه برفق قام يصلي، ودعا قائلاً: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً).

    فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم متعجباً من جهله وحماقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً). يعني: أنك تحجر رحمة ربنا فإذا رحمك أنت ومحمداً فقط فبقية الناس أين يذهبون.

    فلما مشى الرجل تعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: (أهو أضل أم بعير أهله؟!) فهو ليس فيه فهم، لأنه بال في المسجد، ودعا بالرحمة لنفسه وللنبي صلى الله عليه وسلم فقط، وأما غيرهما من الناس فلا.

    فهو صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا الخلق، وأن يخص الإنسان نفسه بالدعاء ولا يدعو لغيره، فإن الدعاء العظيم أن تدعو للمؤمنين، وأبخل الناس من بخل بالدعاء، ولو علم ما في الدعاء من خير لدعا لأخيه المسلم؛ حتى تؤمن الملائكة وتقول: ولك بمثله، فعندما تدعو للمسلم فإن الملائكة تقول: ولك بمثل، أي: مثلما دعوت له.

    بل جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن من قال: (اللهم اغفر لي وللمؤمنين أعطي بكل واحد منهم حسنة). أي: أحياء وأمواتاً؟ فإذا دعوت بهذا الدعاء فلك بكل واحد منهم حسنة، فلا تبخل بالدعاء، وتدعو لنفسك فقط، بل ادع لغيرك، ففيه الفضل الواسع.

    فهذا الإنسان لما قال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) دل ذلك على جهله بالله سبحانه، وعلى جهله بآداب بيت الله بما صنع، وما منع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه: (لقد حجرت واسعاً) وأن يقول لأصحابه: (دعوه)، ثم أمر بصب الماء على هذا البول، فعلمهم كيف يطهر أثر هذا الشيء، وعلم الرجل ألا يفعل مثل ذلك. والله أعلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756013201