إسلام ويب

تفسير سورة غافر الآية [67]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أخبر القرآن عن مراحل وأطوار خلق الإنسان في زمن خال من جميع العلوم والأجهزة والتقنيات، ووصفها في عدد من سوره، وفصلها تفصيلاً دقيقاً، وكذلك وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن لا يعلم عنها الناس شيئاً، ثم جاء العلم الحديث ليثبت مصداق ذلك كله، وليكون شاهداً على أن القرآن نزل من عند الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة غافر: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67].

    لقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز عن مراحل خلق الإنسان، وقد ذكرها هنا في سورة غافر، وذكرها في سورة الحج، وفي سورة المؤمنون.

    بيان أن ابتداء خلق الإنسان من تراب

    قال الله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ وقال في سورة الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج:5].

    فذكر الله عز وجل في هاتين الآيتين مراحل وأطوار خلق الإنسان، فقد ابتدأ خلقه من تراب، وكل إنسان مخلوق من هذا التراب، فأصل الخلق هو آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد خلقه الله عز وجل من تراب، كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض)، أي: جاءوا في ألوانهم وفي أصنافهم وفي أنواعهم وفي أخلاقهم وفي تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وفي بعدهم عنه، وفي خيرهم وفي خبثهم كهذه الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (منهم الأحمر والأبيض والأسود)، أي: كما أن الأرض فيها هذه الألوان، قال: (منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك)،فكما أن الأرض فيها السهول والجبال الوعرة والخبيث والطيب وبين ذلك، فكذلك أخلاق الإنسان جاءت على طبيعة الأرض التي خلقوا منها.

    اكتشاف العلم الحديث أن بداية خلق الإنسان من تراب

    فالإنسان خلق من تراب، ومن تحليل جسد الإنسان وجدوا أن فيه اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين عنصراً، وكلها موجودة في الأرض، والأرض فيها أكثر من مائة عنصر اكتشفها الإنسان، ووجدوا أن أكثر خلق الإنسان من هذا الماء، وقالوا: إن نسبة وجود الماء في جسد الإنسان من خمسة وستين إلى سبعين في المائة.

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كل شيء من ماء، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، وقد كان الناس في الماضي لا يتصورون أن يكون هذا البدن واللحم والعظم والعظام من الماء؛ لأن الماء شيء والجسد شيء آخر، ولكن التحليل الحديث أثبت وجود هذا الماء في جسد الإنسان، وأن جسد الإنسان تركب منه، وأيضاً الحيوان فيه هذه النسبة من الماء بنسبة كبيرة.

    والماء عبارة عن اتحاد ذرة الأكسجين مع ذرتين من الهيدروجين.

    إذاً: فثلاثة أرباع جسم الإنسان من الماء، قالوا: وباقي جسد الإنسان فيه عناصر أخرى، منها: الكربون والهيدروجين والأكسجين، والمركبات العضوية الموجودة في جسم الإنسان وهي: السكريات، والبروتينات، والدهون، والفيتمينات، وغير ذلك من المواد الجافة التي تكون جسم الإنسان من المعادن والكلور والكبريت والفسفور والمغنسيوم والبوتاسيوم والصوديوم، ومواد أخرى مثل: الحديد والنحاس واليود والكوبل والتوتيا والفلور والألمنيوم والكدينم والكرم، وأشياء من المعادن الموجودة بداخل هذا الإنسان، فإذا حلل جسم الإنسان وجدت فيه هذه المعادن بنسب بسيطة جداً،والإنسان عندما يموت ويدفن ويتحلل في القبر فإن نسبة الماء الخمسة والستين في المائة ترجع إلى أصلها، وتتحلل بقية المعادن.

    بيان أن قيمة الإنسان بسبب تشريف الله له

    يقول العلماء: إن المعادن في الإنسان تملأ علبة طباشير أو علبة كبريت فقط، ولا تكون إلا مسماراً صغير وحزمة من الملح ومواداً أخرى لا قيمة لها، فعندما يموت الإنسان ويدفن في الأرض لا يخرج منه إلا هذه الكمية البسيطة من هذه الأشياء التي لا يمكن الاستفادة منها، وليس لها أية قيمة.

    فالإنسان خلق من تراب، والتراب أكثر قيمة منه، وهو جاء من هذه النطفة التي لا قيمة لها، والتي يستقذرها الإنسان فيغتسل منها شرعاً، ويغسلها عن نفسه ليميط عن نفسه الأذى عرفاً.

    وإنما قيمة الإنسان في تكريم الله سبحانه له، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الإسراء:70]، وهذا التكريم تشريف من الله سبحانه لهذا الإنسان، ومنة منه عليه، وليس لأن الإنسان يستحق ذلك بأصل خلقته، فهناك من هو أشد خلقاً منه، قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:27-29]، يقول تعالى في هذه الآيات: أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ أأنتم أشد خلقاً أم هذه الأرض التي تسيرون عليها؟ فالأرض أشد خلقاً منكم، والجبال أشد خلقاً منكم، والسماء أشد خلقاً منكم، إذاً: فتشريف ربنا سبحانه وتكريمه لهذا الإنسان منه منَّة، فقيمة الإنسان في تكريم ربه سبحانه وتعالى له.

    أطوار خلق الإنسان كما في السنة

    ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الإنسان ما جاء في الصحيحين البخاري ومسلم، ففي رواية البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، هذا الحديث في رواية الإمام البخاري كما قلنا، وفيه: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)، فكأن جمع خلق الإنسان في بطن الأم يكون خلال أربعين يوماً يتكون فيها هذا الإنسان. (ثم يكون علقة مثل ذلك)، أي: مثلما جمع الخلق في بطن الأم في خلال الأربعين فإن تكون النطفة والعلقة والمضغة وتكون الإنسان يكون في خلال هذه الفترة.

    وفي لفظ لـمسلم أوضح قليلاً من لفظ البخاري يقول: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك)، أي: في خلال الأربعين (علقة مثل ذلك)، يعني: مثلما كان نطفة فإنه يتكون ويتشكل ويصبح علقة مثل ذلك، (ثم يكون في ذلك)، أي: في نفس الأربعين (مضغة مثل ذلك).

    وأكثر من فسر هذا الحديث فسره بأنه يكون نطفة أربعين يوماً، ثم يكون علقة أربعين أخرى، ثم يكون مضغة أربعين أخرى، فيكون المجموع مائة وعشرين يوماً، وهذا خطأ، فإن لفظ الحديث وإن كان محتملاً ذلك في البخاري إلا أنه غير محتمل لذلك في مسلم ، فهو يقول في مسلم : يجمع خلقه أربعين ويكون في ذلك مثل ذلك، أي: في خلال هذه الأربعين يكون مثل ذلك مضغة، أي: أنه يكون نطفة وفي خلال هذه الأربعين يتشكل ويتحول إلى علقة، ثم يتشكل ويتحول إلى مضغة في نفس هذه الأربعين، إلى أن يتشكل إنساناً، ولكن نفخ الروح لا يكون إلا بعد الأربعين الثالثة، وإن كان فيه قبل ذلك حياة من نوع آخر، وهي كما يقولون: إما حياة نباتية أو حياة حيوانية. والحياة النباتية: هي الحركة والنمو، أي: مثلما يتحرك النبات، فإنه يكون بذرة، ثم تنشق هذه البذرة ويخرج منها الساق، ثم تكبر حتى تصير شجرة. وكذلك الإنسان ينمو داخل بطن أمه كهذه الحياة النباتية إلى أن يمر عليه الأربعة الأشهر فينفخ فيه الروح بعد ذلك، فتتحول حياته إلى نوع آخر من الحياة وهي الحياة الحيوانية التي فيها الروح، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل العلم على هذا المعنى في نفخ الروح.

    وجاء في رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره)، فسمع رجل ذلك من ابن مسعود فذهب إلى حذيفة بن أسيد وقال له: سمعت ابن مسعود يقول: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره، كيف يشقى وهو لم يعمل شيئاً؟! فكأنه لم يفهم المعنى من ذلك، فقال له حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أتعجب من ذلك! فإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها).

    وهذا الحديث عجيب جداً! فقد حدد اثنين وأربعين يوماً على وجود النطفة في بطن الأم يكون خلالها قد تكونت فيها هذه الأشياء، وأهل الطب يقولون ذلك، ويقولون: في الأسبوع السادس يكون قد تكونت هذه الأشياء،والأسبوع السادس هو بعد اثنين وأربعين يوماً، وإن كانوا عندما يحددونها بالأيام يقولون: بين ثمانية وثلاثين يوماً وأربعين يوماً يتكون هذا الشيء، والبعض منهم يقول: حديث النبي صلى الله عليه وسلم يذكر اثنين وأربعين يوماً، والأطباء لا يعرفون اليوم الأول أصلاً متى كان؟ ولذلك يخطئون في الاحتمال بين الثمانية والثلاثين وبين الاثنين والأربعين، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اثنان وأربعون. فهذا الحديث عجيب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشيء الذي كان العلماء لا يعرفونه إلى وقت قريب جداً، فلم يكونوا يعرفون متى تتخلق النطفة وتتحول إلى علقة وإلى مضغة، وإلى هذه الأطوار، حتى اكتشفوا الميكروسكوبات وصنعوا الأفلام التلفزيونية التي تمكنوا من خلالها من رؤية تحول الجنين من شيء إلى شيء آخر داخل بطن الأم، وأما قبل ذلك فلم يكونوا يعرفون متى تتحول النطفة إلى علقة وإلى مضغة، ومتى تخلق فيها هذه الأشياء.

    فالغرض هنا: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الاثنين والأربعين يوماً التي يتكون فيها الإنسان، وجاء العلماء ليقولوا: بعد الاثنين والأربعين يوماً يتحدد جنس هذا الإنسان، ذكراً أم أنثى، وقد قال الحديث: إنه بعد الاثنين والأربعين يأتي الملك ويقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ كما قال العلماء: إنه بعد هذا الوقت يحدد جنس الجنين ذكراً أو أنثى، حسبما يأمر الله عز وجل به، فيحول الغدد الموجودة في الأعضاء التناسلية إلى الذكورة أو إلى الأنوثة. قال العلماء: ولا يمكن تمييز الجنين أنه ذكر أو أنثى قبل الاثنين والأربعين يوماً أو قبل الأسبوع السادس، هكذا يذكر علماء الطب، وهذا هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه.

    الإيمان بالقضاء والقدر

    قال النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: (إن الملك يقول: يا رب أجله؟ فيقول الرب كما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي الرب كما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك والصحيفة في يده فلا يزيد عما أمر به ولا ينقص).

    فما ذكره ابن مسعود من أن الشقي من شقي في بطن أمه أخذه من سؤال الملك ربه سبحانه وتعالى أشقي أو سعيد؟ فإذا قال الله: شقي فقد علم الله سبحانه وتعالى ما يكون عليه هذا الإنسان، فيكتب الملك ما أعلمه الله سبحانه وتعالى من علم الغيب وعلم المستقبل، فقد علم الله أنه سيكون شقياً، ويكتب الملك قدر الله في الأمرين، وهذا هو الذي استغربه الرجل وقاله ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد كذلك، أي: من كتب الملك له ذلك بحسب علم الله سبحانه وتعالى، وهذا هو ما نؤمن به، وهو أن الله عز وجل يقدر كل شيء، ونحن مأمورون أن نؤمن بالقضاء والقدر وألا نعارض ذلك، ولا نقول: كيف ذلك؟ فالقدر غيب وسر من أسرار الله عز وجل في خلقه، ولم نؤمر أن نتناقش فيه، وإنما أمرنا أن نؤمن به كما نؤمن بالجنة ولا ندري في أي مكان في السماوات هي؟ أهي فوق السماوات السبع أم دونها؟ ولكننا نؤمن بذلك ونوقن بأنها عالية جداً، وكما أمرنا أن نؤمن بالنار، ولا ندري أين توجد، وكما أمرنا أن نؤمن بالملائكة، ولا نعرف أشكالهم ولم نرهم، وإنما أمرنا أن نؤمن بالغيب. ومن الغيب: القضاء والقدر، وعندما يحاسبنا الله عز وجل يوم القيامة لن يقول لنا: لقد علمت أنك تكون شقياً وكتبت أن تدخل النار، ولو احتج أحد على شقائه بكتابة الله أنه شقي لن يقول له الله: وأنا كتبت عليك أن تدخل النار، وليس هناك آية قالت لنا ذلك، وإنما القرآن يقول: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، وأيضاً ادخلوا النار بما كنتم تعملون، وحين يقال للإنسان: ادخل النار، فيقول: لماذا يا رب؟ أنا لا أقبل شاهداً علي إلا من نفسي، فيختم على فيه وتشهد عليه أعضاؤه وتقول: عملت كذا وكذا وكذا، فيستحق العذاب والعياذ بالله! فالإنسان يوم القيامة يسأل عن عمله.

    إذاً: علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر ولا نناقش فيهما، فإن الله علم كل شيء وقدر كل شيء، وله الحكمة والعلم والقدرة سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان أن يعمل، قال تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة:105]، والعمل الذي تعمله يكتبه الله عز وجل عليك ويحاسبك عليه، ولم يقل لأحد أنه في الجنة أو في النار، وإنما قد علم الله أن ناساً في الجنة وناساً في النار، وقدر الله عز وجل أن هؤلاء في الجنة ولا يبالي وهؤلاء في النار ولا يبالي، وأما نحن فأمرنا بأن نؤمن ونصدق ونعمل، قال تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، فنعمل ولا نتشكك ولا نرتاب، ونؤمن بما قاله الله عز وجل في كتابه، فإن من الإيمان: أن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً.

    والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الإنسان أحاديث عجيبة جداً، ولعلها كلها كانت تستغرب في الأزمان الماضية، ولم تعرف حقيقتها إلا بعد تقدم الطب وإثباته أن هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو الواقع الموجود، والذي في القرآن أدق في ذلك، وأدق مما عرفه الإنسان.

    لابد على الإنسان من العمل وعدم الاتكال على القدر

    وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يأمر الله الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فيه إثبات أن الملك يكتب رزق الإنسان، وأنه يرزق في يوم كذا كذا وكذا، فهذه من أقدار الله سبحانه التي لا يناقش فيها، وإذا كان كذلك فلا يقول الإنسان: إذا كان الله قد كتب لي رزقي فسأجلس في البيت حتى يأتيني رزقي، ولا يوجد أحد يقول ذلك، وإنما يقول: سأخرج وأعمل؛ لأن رزقي لن يأتي إلا بالعمل، فلابد أن يكون كذلك في جميع القضاء والقدر، فالإنسان مكتوب عليه أن يموت، فمن الناس من يموت بحادثة، ومنهم من يموت بكذا، ومنهم من يموت بكذا، ولا يجلس الإنسان في بيته ينتظر الموت ويقول: كل ما هو مكتوب فسيأتي .. هذا صحيح، ولكن لم تؤمر أن تمكث في بيتك، بل سر في الأرض وامش في مناكبها وابتغ من فضل الله ومن رزق الله سبحانه، ودع أمر القدر ينفذ فيك كما يريد الله سبحانه وتعالى، فكما أنه إذا جاع الإنسان لا يجلس ينتظر الأكل ويقول: إن الله قد كتب أني سآكل وسيدخل الأكل إلى فمي، ولو قال إنسان ذلك لقيل عنه: مجنون، فربنا كتب لك الأكل وجعل له أسباباً، فمد يدك إلى الأكل وكل، ولا تعمل كهذا الذي سخر منه القرآن بقوله تعالى: كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد:14].

    وهذا المثل للذي يدعو الأصنام، فالقرآن يستهزئ من هذا الداعي للأصنام بقوله: أنت عندما تدعو الصنم وتمد يدك له وتسأله كهذا المغفل الذي يمد يديه إلى الماء وينتظر أن يأتي الماء إلى فمه لأنه عطشان، والماء لن يأتيه ولن يروى هكذا، وهكذا الذي يحتج بالقضاء والقدر، فإن الناس يسخرون منه، فالقضاء والقدر ينفذ فيه، ولكن الله لم يطلعه عليه، ولم يقل له ماذا سيأكل أو سيشرب في هذا اليوم، ولا ما الذي سيحصل له، إذاً: فلا يجلس ينتظر القضاء والقدر، وإنما يؤمن به فقط، ويعمل ويطلب رزقه، وما قدره الله عز وجل له سيأتيه، وليذهب إلى عمله وما قدره الله له من رزق سيكسبه من هذا العمل أو سيفقده في غيره بحسب ما قدر الله عز وجل له، فنؤمن بالقدر ولا نتواكل ولا نناقش في هذا الأمر.

    بيان أن الأعمال بالخواتيم

    يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وفي رواية أخرى: (فيما يراه الناس)، فقد ترى أنت إنساناً صالحاً ثم تراه قد انقلب فجأة، فتتعجب وتتساءل: ما الذي قلب هذا الإنسان؟ والله أعلم بنفس هذا الإنسان، فأنت ترى الظاهر فقط، وكم من إنسان تراه في ظاهره مؤمناً ومهذباً وفيه من خصال الخير، ولكن الله يعلم خبث باطنه، فتجده ينقلب ويتغير حاله بعد أن كان متديناً وملتزماً بأمر الله عز وجل، نسأل العفو والعافية.

    فالله أعلم بمن يستحق الثواب ومن يستحق العقاب، فنؤمن ونتعظ بغيرنا ولا نكون نحن عظة لغيرنا، وهذا معنى قول ابن مسعود : (السعيد من وعظ بغير)، ولم يجعله الله هو العبرة لغيره، وإنما اتعظ فانتفع بالموعظة.

    يقول في بقية الحديث: (وإن أحدكم لعمل بعمل أهل النار)، وفي رواية: (فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، إذاً: فلا ييأس أحد من رحمة الله سبحانه، فقد يعمل الإنسان الأعمال الباطلة الكثيرة، حتى يقال عنه: إنه من أهل جهنم، كما يقول الناس: فلان شرير، وستكون آخرته سوداء، ولعله يختم له في النهاية بخير، فيتوب إلى الله عز وجل ويراجع نفسه. مثل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم تاب إلى الله فكان من أهل الجنة، ولذلك لا يحكم على إنسان بجنة ولا بنار حتى يرى بماذا يختم له.

    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السعادة، وألا يجعلنا من أهل الشقاوة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974917