إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب الآية [50]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شرف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، ولذا كان ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمراً لأمته وما نهي عنه نهياً لأمته، واستثنى الشرع أشياء أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وأشياء فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وأشياء حرمت على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وهذا فيه زيادة فضل وشرف لحبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم وما حرم عليه من النساء

    مهر أمهات المؤمنين

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا [الأحزاب:50-51].

    يخبر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين نبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه أحل له أزواجه اللاتي آتى أجورهن قال تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب:50] فأحل له أن يتزوج المرأة التي يخطبها صلوات الله وسلامه عليه، ويدفع مهرها عليه الصلاة والسلام ويتزوجها.

    وذكر هنا آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب:50] والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج ويدفع مهراً، وكان مهر نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حدود اثنتي عشرة أوقية ونش يعني: ونصف أوقية، أي: حوالي خمسمائة درهم، والدرهم حوالي خمسة جرامات من الفضة، يعني: كأن مهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدفعه لنسائه حوالي ألف وخمسمائة جرام من الفضة، فهذا مقدار مهره صلى الله عليه وسلم.

    وهنا بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفع المهر لنسائه عليه الصلاة والسلام، ومهر أم حبيبة دفعه عنه النجاشي ملك الحبشة، كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان مهاجرة إلى الحبشة مع زوجها وتوفي زوجها هناك، ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قام بهذا العقد للنبي صلى الله عليه وسلم كان النجاشي ملك الحبشة، وكان رجلاً مسلماً رضي الله عنه، اسمه: أصحمة النجاشي ، ودفع مهر النبي صلى الله عليه وسلم من عنده أربعمائة دينار، حوالي نصف كيلو ذهب فهو مهر يليق به لأنه ملك، فدفع هذا المهر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    أما ما دفعه النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه فكان حوالي اثنتي عشرة أوقية ونش، والأوقية تساوي حوالي اثني عشر درهماً تقريباً، فحسب العلماء ذلك بحوالي خمسمائة درهم مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه.

    ذكر هنا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب:50] أي: مهورهن، فكان يتزوج ويدفع المهر، وربنا ذكر في النساء قال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4] يعني: مهور النساء عطية وفريضة من الله سبحانه وتعالى، فلو أن إنساناً تزوج امرأة على أنها ليس لها مهر فهذا شرط باطل لاغ؛ لأن الله عز وجل أمر بالمهر، ولو أن إنساناً تزوج امرأة على مهر بسيط فهذا شرط صحيح ويصح النكاح ولو على مهر بسيط.

    لكن أحياناً بعض الناس يقول: إن السنة أن تتزوج على خمسة وعشرين قرشاً وهذا كذب؛ لأن مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه كان اثنتي عشرة أوقية ونشاً، والأوقية حوالي اثني عشر درهماً، فكان مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه حوالي خمسمائة درهم تقريباً.

    فالذي يقول: مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه كان أقل من ذلك، أو كان خمسة وعشرين قرشاً، ويزعم أن هذا سنة، فهذا ليس بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما السنة ما ذكرنا.

    جواز زواج النبي من بنات أعمامه وأخواله

    أخبر هنا ربنا سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بمن أحلهن له عليه الصلاة والسلام فقال: أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:50] ، كذلك ملك اليمين، أي: من اشترى من ماله صلى الله عليه وسلم من الإماء، كذلك ما أفاء الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم أو من الفيء.

    قال: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ [الأحزاب:50] فقيد هنا بنت العم وبنت الخال وبنت العمة وبنت الخالة بأنها تكون مهاجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    اختصاص النبي بزواج الهبة

    قال: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [الأحزاب:50] وهذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عز وجل قال: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50].

    إذاً: أن تهب المرأة نفسها لغير النبي صلى الله عليه وسلم غير جائز.

    وقد خصه الله عز وجل ببعض الأحكام كما سنذكر بعد ذلك، منها ما فرضه عليه صلى الله عليه وسلم، ومنها ما حرم عليه صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس.

    فهذه المسألة من الأشياء التي أباحها له صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس.

    قال: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] وكلمة يستنكحها بمعنى: يتزوجها.

    إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [الأحزاب:50] وكلمة النبي في كل القرآن تأتي في قراءة نافع مهموزة: النبيء، والأصل فيه النبأ يعني: له نبوءة إخبار وإعلام بالغيب من الله سبحانه تبارك وتعالى، وباقي القراءة يقرءونها في القرآن كله النبي بعدم الهمز وبتشديد الياء الأخيرة.

    نافع له راويان هما: قالون وورش ، في هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا [الأحزاب:50] نافع يقرؤها: (يا أيها النبيء انا) فيمد الياء ويظهر الهمزة ويسهل الثانية، فإذا جاء إلى قوله: لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ [الأحزاب:50] فهنا يخفف قالون ويقرؤها كغيره من القراء: لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ [الأحزاب:50] ، ويقرؤها ورش : ( للنبيء إن اراد) فإذا وصل فسيقرأ ورش هذه الكلمة: ( للنبيء ين اراد ) ويقلب الهمزة الثانية لكي يجعلها ياءً وقد يمدها وقد يكسرها.

    تخصيص النبي بالتخفيف عنه في بعض الأحكام

    يقول الله سبحانه: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ [الأحزاب:50] فرضنا على المؤمنين أشياء وقد نخفف عنك أنت في هذه الأشياء، فللمؤمن أن يتزوج: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] أما النبي صلى الله عليه وسلم فله أكثر من ذلك عليه الصلاة والسلام، أحل الله عز وجل له ذلك للحكم التي ذكرنا من قبل، ومن أهمها:

    الدعوة إلى الله سبحانه، فإن امرأة واحدة لا تكفي أن تبلغ ما ينزل في بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية من كتاب ومن سنة، فامرأة واحدة لا تكفي، إذا كان رجل واحد لا يكفي كيف بالمرأة الواحدة؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لكونه معصوماً، ولكون الله تبارك وتعالى أعطاه القوة والقدرة على ذلك فقد بلغ واستطاع أن يبلغ، أما غيره فلا يقدر على ذلك فكيف بالنساء، فلذلك جعل الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء، فتبلغ كل واحدة ما نزل في بيتها وما علمته من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية للخلق.

    قال الله سبحانه: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [الأحزاب:50] يتزوج الرجل وله أن يتسرى، فيشتري أمة ويطأ بملك اليمين، قال تعالى: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الأحزاب:50] فإن الذي أحل لك هو الله عز وجل، فلا حرج عليك، وليس من حق أحد أن يعترض على ربه سبحانه.

    وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:50] يغفر لك وللمؤمنين، ويرحمك والمؤمنين.

    الإمام القرطبي يذكر لنا في هذه الآية أن الله تبارك وتعالى قد خص النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية بمعان لم يشاركه فيها أحد صلى الله عليه وسلم، ففرض عليه أشياء جعلها فريضة، وحرم عليه أشياء جعلها محرمة، ولا تكون هذه فريضة على غيره، ولا هذه محرمة على غيره عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    ذكر بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم

    ما وجب عليه من العبادات دون أمته

    فذكر العلماء أشياء في بعضها خلاف، من ذلك: أن الله عز وجل فرض عليه صلى الله عليه وسلم التهجد بالليل، ثم خفف الله عز وجل عنه فلم يخفف هو عن نفسه عليه الصلاة والسلام، واستمر في ذلك وقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) صلوات الله وسلامه عليه، فكان قيام الليل فريضة عليه صلى الله عليه وسلم، ثم خفف الله عز وجل عنه، واستمر هو صلى الله عليه وسلم ولم يخفف على نفسه، وكان يقوم حتى تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، وقد يرجع وينام ثم يقوم مرة أخرى ويصلي، ثم يرجع وينام، ثم يقوم ثالثة ويصلي عليه الصلاة والسلام فتذكر السيدة عائشة رضي الله عنها أنه: (كان يصلي إحدى عشرة ركعة من الليل، يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) صلاة طويلة حسنة جميلة يقومها صلى الله عليه وسلم!

    كان إذا قرب الصباح يقوم يغمز نساءه بيده صلى الله عليه وسلم فتقوم هي تصلي أيضاً وتوتر، لكن لا يأمرها أن تقوم الليل كله مثلما يقوم هو صلى الله عليه وسلم.

    وكان يحتاج أن يستريح قبل الفجر، فكان يصلي سنة الفجر ثم يضطجع عليه الصلاة والسلام، ففي الفترة ما بين سنة الفجر حتى تقام الصلاة إن كان بعض نسائه قائمة يكلمها وإلا اضطجع على جنبه فيستريح قليلاً من القيام، ثم يقوم ويصلي بالناس الفجر صلوات الله وسلامه عليه.

    فكان قيام الليل فرضاً عليه بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2] فكان الفرض بها.

    أيضاً مما ذكروا أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى، وصلاة الضحى ليست فريضة على الناس، والظاهر أنها كانت فرضاً عليه لفترة، ثم بعد ذلك أصبحت نافلة له ولغيره عليه الصلاة والسلام، ولكنه واظب على صلاة الضحى عليه الصلاة والسلام، وأحياناً كان يتركها ليبين للناس أنها ليست فريضة.

    كذلك ذكروا من الأشياء التي فرضت عليه الأضحية، فضحى صلى الله عليه وسلم عن نفسه فذبح كبشاً وقال: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم) ورفع الحرج عن أمته عليه الصلاة والسلام بكرمه صلى الله عليه وسلم فذبح كبشاً آخر وقال: (وهذا عمن لم يضح من أمتي) فرفع الحرج عن الأمة في أمر الأضحية الواجبة، وصارت الأضحية على الناس سنة.

    كذلك مما كان فرضاً عليه أن يصلي الوتر، وهذا داخل في التهجد؛ لأنه كان فريضة في وقت من الأوقات، ثم بعد ذلك صار الوتر نافلة له ولغيره، وواظب هو عليه صلوات الله وسلامه عليه.

    وأيضاً: مما أمر به السواك، فكان يستاك صلى الله عليه وسلم كثيراً حتى يقول عن نفسه: (حتى خشيت أن أدرد) يعني: من كثرة استخدام السواك خشي على أسنانه أن تدرد، وهذا معلوم فإن الإنسان عندما يستخدم الفرشاة على أسنانه بطريقة قاسية جداً بشكل دائم تذهب وتتساقط في النهاية.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستخدم السواك بشكل دائم، كان يأمره جبريل بذلك صلى الله عليه وسلم، فأول ما يقوم من النوم يستخدم السواك، وكان إذا دخل بيته أول شيء يستخدمه السواك، وإذا توضأ استخدم السواك، وإذا دخل في الصلاة يستخدم السواك، فكان فمه أطهر وأطيب فم صلوات الله وسلامه عليه، فكان يستخدم السواك ويقول: (إني أناجي من لا تناجون) يعني: أنا أكلم الملائكة والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فكان يشدد عليه في ذلك صلوات الله وسلامه عليه.

    من ذلك أيضاً قضاء دين من مات معسراً، لما فتح الله عز وجل عليه الفتوح فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك كلاً أو ديناً فإلي وعلي) فكان كأنه فريضة عليه صلى الله عليه وسلم أو هو اختار أن يقضي ديون من مات وعليه دين بعدما فتح الله عز وجل عليه، وإن كان قبل ذلك لا يصلي على من مات وعليه دين، فلما فتح له صلى الله عليه وسلم كان يقضي دين الميت من عنده ويصلي عليه.

    من ذلك أيضاً أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم أن يشاور في غير الأحكام الشرعية، فالأحكام الشرعية لا مشاورة لأحد فيها، إنما هي أحكام من عند الله عز وجل يأمر بها فينفذها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في غير ذلك من أمر القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل، والسفر ونحو ذلك، كان يشاور كما قال له ربه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

    كذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا عمل عملاً أثبته، فمرة من المرات ترك سنة الظهر القبلية حيث جاء له وفد من الوفود، فجلس يكلمهم ففاتته سنة الظهر ولم يصلها بعد الظهر حتى دخل وقت العصر، فلما صلى العصر قام وصلى ركعتين، فأرسلت أم سلمة إليه تسأله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه عن ذلك؟ فأشار إليها وبعد أن أكمل الصلاة بين لها أنه جاءه وفد فشغله عن هاتين الركعتين، فصلاها بعد العصر ثم أثبتها، إذاً: كل يوم يصلي هاتين الركعتين، فهذا خاص له صلى الله عليه وسلم أنه إذا عمل عملاً أثبت هذا العمل وواظب عليه صلوات الله وسلامه عليه.

    أيضاً من ذلك: تخيير نسائه: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [الأحزاب:28] على ما سبق في ذلك.

    إذاً: هنا هذه من الأشياء التي فرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعضها والبعض الآخر هو اختاره وأثبته وواظب عليه فكان له خاصة عليه الصلاة والسلام.

    ما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم ومنع منه

    حرمت عليه أشياء دون غيره عليه الصلاة والسلام:

    من ذلك تحريم الزكاة عليه وعلى آله، فيحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ شيئاً من زكوات الناس، وذلك إلى قيام الساعة، فليس للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب أن يأخذوا من الصدقات شيئاً ولا من الزكوات، فيحرم عليه صلى الله عليه وسلم الزكاة وكذلك على آل بيته.

    كذلك يحرم عليه صدقة التطوع، فكان يؤتى بالشيء من تمر ونحوه فيسأل: ما هذا؟ فإذا قالوا: هذا صدقة قال لأصحابه: كلوا، وإذا قالوا: هدية أكل وأمرهم أن يأكلوا عليه الصلاة والسلام، فكان يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة لنفسه عليه الصلاة والسلام.

    أيضاً من ذلك: خائنة الأعين، يعني: أن يغمز لأحد على شيء، فيجوز لغيره إذا كان في حاجة غمز فيها، أما هو فليس له ذلك صلى الله عليه وسلم.

    وهنا قصة رواها الإمام أبو داود ورواها النسائي من حديث مصعب بن سعد عن أبيه يوضح هذا الأمر أنه ما كان لنبي أن يكون له خائنة أعين عليه الصلاة والسلام.

    يقول سعد بن أبي وقاص : (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين).

    وهذا في فتح مكة صلى الله عليه وسلم حين قال للناس: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) إلا أربعة لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا من الخونة ومن أشد الناس إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فبعضهم قتل، وبعضهم أفلت ثم أسلم بعد ذلك.

    فهؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) وهم: عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح ، هؤلاء الأربعة من الرجال، وامرأتان كانتا تغنيان بشتم النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وهجائه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء.

    فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن كريز وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله.

    وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه.

    وأما عكرمة فركب البحر فأصابته ريح عاصف وهم في البحر، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، يعني: انظر العرب في الجاهلية يعرفون أن الذي يعبدونه باطل لا ينفع ولا يضر، فلما ركبوا السفينة -وكلهم كفار- جاءت ريح عاصف عليهم فقال أصحاب السفينة: ارجعوا إلى الإخلاص واتركوا العبادة التي أنتم فيها، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ففكر عكرمة وقال: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص فلا ينجي في البر غيره، فقال: اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاءه فأسلم بعد ذلك رضي الله عنه.

    أما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فاختبأ عند عثمان وكان أخاً لـعثمان من أمه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به عثمان، ووقف به على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله ، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، يعني: لم يرض أن يبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في المرة الرابعة بايعه صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه بعد أن مشى الرجل فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟)، يعني: لا بيعة بيننا وبينه، وهذا إنسان كان على الكفر وعمل عملاً قبل ذلك، فتفهمون أنني لا أريد أصلاً هذا الإنسان فيقوم له أحد ليقتله، فقالوا: (وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟) أي: تغمز لأحد منا يقوم له فيقتله، قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)، مع أنه يريد قتل هذا الإنسان.

    و عبد الله بن سعد بن أبي السرح هذا كان كاتباً يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن، ثم ارتد ورجع إلى الكفار وقال: أنا كنت أملي على النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتب من عند نفسي، فافترى وفتن الناس في ذلك، يعني يقول: أنا كنت أؤلف القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوافقني، فكانت تنزل الآية فيها شيء، ثم ختام الآية: وكان الله غفوراً رحيما، كان الله عليماً حكيماً، فالرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب عليماً حكيماً فينزل القرآن من عند الله عز وجل، يقول: اكتب عليماً حكيماً، فهو كان يفتري ويقول للناس: أنا الذي كنت أؤلف هذه الأشياء، وأنا الذي كنت أجعلها؛ ففتن الناس فاستحق أن يقتل، ولكن رحمة الله عظيمة وواسعة، لم يقتل هذا الإنسان وأفلت، وصار بعد ذلك أميراً على مصر في أيام الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

    المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد قتله وأراد الله عز وجل شيئاً آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يغمز للناس، لو غمز لهم لقاموا إليه وقتلوه، ولكن من خصوصياته أنه ليس من حقه أن يغمز على أحد.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001986