إسلام ويب

تفسير سورة الحج [11 - 15]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبر الله عز وجل عن صنف من الناس قلوبهم مريضة، وحياتهم تعيسة، لا ينظرون إلا إلى المادة فيعبدونها ويركعون لها من دون الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء ما دخلوا في دين الله إلا للتجربة، فإن صلحت أحوالهم من أموال وزوجات وأولاد قالوا: هذا دين حسن، وإن ابتلاهم الله عز وجل انقلبوا على أعقابهم وارتدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، فعبدوا من دون الله ما يضرهم ولا ينفعهم، وعبدوا من دون الله من كان بعيداً منهم لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ومن الناس من يعبد الله على حرف .. )

    الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج:11-14].

    يذكر لنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها أصنافاً من الكفار الذين يعبدون غير الله سبحانه تبارك وتعالى، فمنهم من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير، فهو مستكبر ثاني عطفه؛ ليضل عن سبيل الله، فأخبر الله سبحانه أن هذا الإنسان المستكبر جزاؤه أن يخزيه الله عز وجل في الدنيا، وأنه يوم القيامة يذيقه عذاب الحريق .

    وكان من هؤلاء وهو سبب نزول هذه الآية: النضر بن الحارث ، فأذله الله عز وجل في الدنيا وأخزاه، وقتل صبراً في يوم بدر، ويوم القيامة له عذاب الحريق، وكذلك من كان مثله من يصد عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ويريد أن يظهر أنه ليس من عند الله سبحانه، وأنه ليس الحق، فهذا الرجل كان يجادل بالباطل، ويجلس إلى الناس يحدثهم بالقصص والخرافات، ويقول: هذا أحسن حديثاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل على ذلك حتى قصمه الله سبحانه تبارك وتعالى.

    وهذه صورة أخرى من صور هؤلاء الذين يدخلون في دين الله وهم على حرف: عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ [التوبة:109] فهو لما دخل في هذا الدين، وجاءه رزق وفير، والله أنعم عليه في هذه الدنيا، فهو يقول: هذا الدين دين جيد، ويستمر عليه، فإذا أصيب بشيء من البلاء قال: هذا الدين ليس جيداً، وينصرف عن هذا الدين راجعاً إلى الشرك والعياذ بالله!

    ومن الناس -من هذا الصنف- من يعبد الله على حرف، يعني: دخل في الدين وهو متوجس يأخذ في التفكير: أدخل أو لا أدخل؟! أدخل وأنظر! فهو على حرف، ليس ثابتاً على هذا الدين، ولكنه متزعزع، متزلزل، متشكك، يجرب تجربة! الدين ليس محلاً للتجربة، لكنه يجرب فإذا أعجبه استمر، وإذا لم يعجبه رجع عنه، لم ينزل دين الله عز وجل بذلك، ولكن المؤمن يدخل في دين الله واثقاً في الله سبحانه تبارك وتعالى، مقتنعاً بهذا الدين، قد امتلأ قلبه بالإيمان، فهو على يقين من أن الله واحد لا شريك له، وعلى يقين من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مبلغ عن رب العالمين سبحانه، وعلى يقين من أن هذه الشريعة هي منهج الحياة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهو على يقين بأنه سيحاسب يوم القيامة على عمله.

    أما هذا المتزلزل المتزعزع -الذي هو على حرف- فإن وجد خيراً استمر، وإن وجد ضيراً انقلب على عقبيه، هذه صورته.

    يقول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الحج:11]، ومعنى (حرف) أي: على وجه واحد، أو على آخر الشيء مثل حرف المكان أي: آخره، والواقف على الحرف: إما أنه يبعد ويقع، وإما أنه يستمر على ما هو فيه، فهذا على تشكك في عقيدته، ومتزلزل في إيمانه.

    وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] قال ابن عباس : يريد شيبة بن ربيعة وكان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظهور هنا بمعنى: الغلبة، فكان في مكة والنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين قلة، ولم يكن لهم دور، دخل الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء من شريعة، فإذا بهذا الرجل يرجع ولا يريد ذلك.

    وقيل: إنه رجل من اليهود دخل في الدين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فلما أسلم ابتلاه الله عز وجل، فذهب بصره وماله، يعني: عمي الرجل وذهب ماله، فتشاءم بالإسلام، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقلني، فقال له: (إن الإسلام لا يقال)، والإقالة أن يبيع الإنسان بيعة ثم يرجع في كلامه، فظن أنه هكذا في الإسلام، فقال: إني رجعت في كلامي لا أريد، فقال له: (إن الإسلام لا يقال، فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيراً، ذهب بصري ومالي وولدي، فقال له: يا يهودي! إن الإسلام يسبك الرجال، كما تسبك النار خبث الحديد) فنزلت هذه الآية، والحديث في إسناده ضعف، ولكنه من ضمن الصور التي فيها أن البعض كان يسلم، ويبتليه الله سبحانه تبارك وتعالى سواء كان هذا اليهودي أو غيره فيرتد عن الإسلام.

    كذلك جاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: (كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله، قال: هذا دين صالح)، فهو يدخل في الدين تجربة.

    فالدين لا يصلح فيه هذا الشيء، فإما أن يثبت هذا الشخص، وإما أن يكون مزعزعاً فلا يصلح في هذا الدين، ولا يتسمى بمسمى الإسلام إلا أن يكون على شهادة أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه.

    فكان الرجل من هؤلاء الأعراب يدخل في هذا الدين ليجرب وينظر، فإذا حملت زوجته وأتت بولد كان هذا الدين جيداً، وإذا نتجت الخيل وكثرت كان ديناً جيداً، وإلا فإنه يرجع عن هذا الدين ويقول: إن هذا دين سوء، ولذلك الله أخبر عن هؤلاء الأعراب فقال: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97] فإذا كانوا يدخلون الدين من أجل أن يجربوه فهؤلاء أشد كفراً ونفاقاً، فليس في قلوبهم من الإيمان شيء إلا التسمية بأنه مسلم فقط، لكن الحقيقة أنه ليس في قلوبهم إسلام، ولذلك أخبر الله عز وجل عنهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، إسلام باللسان فقط، لا يوجد إيمان: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، الإيمان إذا دخل القلب وانفتح انشرح صدر الإنسان بهذا الإسلام، ويكون في سبيل دين الله عز وجل مستعداً أن يترك ماله وولده، ويترك كل شيء ابتغاء مرضاة الله عز وجل، أما الذي يريد الدنيا والآخرة، فيبتغي في الدنيا المال والولد، ويريد زهرة الدنيا مع الآخرة، فهذا لا يكون، أين التضحية؟! وعلى أي شيء سيدخل الجنة؟ لا بد أن الإنسان يبذل في الدنيا ويصبر فيها، يقول الله سبحانه: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35] .

    فالإنسان يظفر بالجنة ويدخلها بالصبر على المكاره، وبقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهؤلاء هم الذين يعلمون أن مصيرهم إلى الله عز وجل، وأن الله سيحاسبهم يوم القيامة، فيبتغون رضا الله سبحانه.

    أما الإنسان الذي يريد الخير في الدنيا والآخرة، فلا يمكن، قال الله سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] تريد أن تقول: أنا مؤمن من غير أن تصاب بشيء في الدنيا لا في المال ولا في الولد ولا في النفس؟! لا يصلح الإسلام إلا بشيء من البلاء.

    قال الله تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] (حرف الشيء) طرفه وشفيره وحده، والمعنى: يعبدون الله على وجه واحد وهو السراء، ولا يريدون ضراء.

    ولو عبدوا الله على الشكر في السراء، والصبر في الضراء، لما عبدوا الله على حرف، فالإنسان في وقت السراء يشكر الله ويحمده سبحانه، ووقت الضراء يصبر وينتظر الفرج من الله سبحانه، فهذا هو الذي يعبد الله على حق.

    معنى قوله تعالى: (فإن أصابه خير اطمأن به ...)

    قال تعالى: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الحج:11] يعني: ثبت على الدين، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ [الحج:11] يعني: أصابته في ماله وبدنه وولده، انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، فالإنسان الذي يرتد ويرجع إلى الكفر لن يضر الله شيئاً، إنما هو الخاسر الخسران المبين، ففي الدنيا الله عز وجل يعطي الإنسان الهدى من فضله ورحمته، وهذا أعظم مكسب، ولذلك أهل الجنة يقولون عند دخولهم الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:43]، فهنا أهل الجنة عرفوا نعمة الله عز وجل، ونعمة الإسلام، ووفق العبد للعبادة في الدنيا وابتلاه في الدنيا فصبر، فكان بتوفيق من الله سبحانه تبارك وتعالى أن أعطاه في الدنيا فحمد ربه، وعندما يأتي يوم القيامة يقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا.

    أما هؤلاء الكفار الذين ارتدوا على أعقابهم فقد خسروا الهدى في الدنيا، وخسروا طريق الله فلم يعرفوه، أو ارتدوا عن طريق الله سبحانه تبارك وتعالى، فالكافر قلبه مظلم، يعيش في شك وحيرة، ويعيش في ضلال وتيه، فلا تفرح بمظهر الإنسان الكافر صاحب الغنى والمال والثروة، فقلبه فيه خواء، ضيع عمره في الرقص واللعب والموسيقى والأغاني، وهو يستشعر أن قلبه لا يوجد فيه شيء، هو مستشعر أنه ضائع تائه، ولذلك أعلى معدلات الانتحار تكون عند هؤلاء الكفار، يأخذ أحدهم من الدنيا ولا يشبع، فهو يحس أنه محتاج إلى شيء لكنه لا يعرفه، ما هو هذا الشيء الذي يحتاج إليه؟! وفي النهاية يضيع ويهلك نفسه منتحراً يائساً من الدنيا، وتجد كثيرين من هؤلاء معهم من الأموال الشيء الكثير، ولكن لا يستشعرون بالسعادة التي يستشعرها المؤمن الفقير.

    فالمؤمن الفقير راض عن الله سبحانه تبارك وتعالى، إن أعطاه حمده، وإن منعه صبر وانتظر أن يدخل الجنة قبل الأغنياء يوم القيامة، في قلبه ما يدفعه إلى حب الله سبحانه، وينتظر الجزاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، قلبه معلق بالله، وممتلئ إيماناً، أما الكافر فقلبه فارغ.

    فذلك الكافر يخسر الدنيا مهما أعطي فيها من مال وبنين وغير ذلك، وانظروا إلى التفكك الأسري عند الكفار، يعيش الكافر ويكبر ابنه فيحس أنه ليس بابنه، فابنه بعدما يبلغ لا يستطيع أن يبقيه في البيت، يخرج ابنه خارج البيت، فلا يوجد بينهم ترابط أسري، والدين هو الذي يوجب ذلك، فعندما يكبر الأب يذهب إلى دار المسنين، لا يقبل الابن أن يكون أبوه معه في البيت، ولا أمه تكون معه في البيت، كل واحد يعيش لوحده! لا يوجد ترابط بينهم!

    فالذي يجمع ويؤلف هو دين الله سبحانه تبارك وتعالى، يجعل في القلب حب الأب للابن، وحب الابن لأبيه، والطاعة بين الابن لأبيه، والمحبة من الأب لابنه، فيجمع الناس، قال تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، أما هؤلاء فأهم شيء عندهم الدنيا، فيحصل على الدنيا ولا يتدخل في أنه ينفع ابنه أو يضره!

    هنا الله سبحانه تبارك وتعالى يخبر عن هؤلاء الكفار أنهم خسروا الدنيا والآخرة، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11] أي: الواضح البين، فهؤلاء ما استفادوا بأن دعوا الأصنام شيئاً، يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، فهذا الصنم الذي يعبده من دون الله، وهذه الآلهة الباطلة التي يعبدها من دون الله، لا تضر ولا تنفع، بل ضررها أقرب من نفعها، فالكافر يدعو الوثن والصنم ويتقرب إليه، ويطلب منه أن ينصره، وترك ربه سبحانه فتخلى عنه ربه وتركه، فخسر الدنيا قبل الآخرة، فنصر الله سبحانه وولايته ليست مع هذا الإنسان، فهو يدعو الصنم، والله يقول: (أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فهذا الذي يدعو غير الله أين النفع الذي سينفعه الصنم؟! لا يملك لنفسه شيئاً فضلاً عن غيره، وخسر في الدنيا ولاية الله سبحانه، وخسر الآخرة فكان في النار عياذاً بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يدعو من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه .. )

    قال سبحانه: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [الحج:12] الكافر ضال تائه حائر، لا يعرف أين الحق، فهو في ضلال بعيد عن الحق، بعد وتاه في ضلاله، يقال: فلان دخل في الصحراء وتاه في أولها، أي: بعد فيها، فتيئس من هذا الإنسان فلا يوجد فيه أمل، فهو قد ضاع فيها.

    فهذا الذي يدعو الصنم والوثن في ضلال بعيد، لا يرجى لمثل هذا الإنسان وهو على هذه الحال خير لا في الدنيا ولا في الآخرة، فضلاله بعيد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يدعو لمن ضره أقرب من نفعه .. )

    قال تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج:13] ضرر هذا الوثن الذي يعبد أقرب من نفعه إن كان له نفع، ولكن الضرر في الدنيا أن يتخلى الله عنه سبحانه تبارك وتعالى، وسيزيده ضلالاً على ضلاله، فلا يهديه سبحانه تبارك وتعالى، وفي الآخرة له نار جنهم.

    لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج:13] المولى: النصير والقريب كابن العم وغيره، فإذا كان يستنصر بهذا المولى وبهذا الوثن من دون الله فبئس ما يستنصر به!

    كذلك يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، فقال: (ولبئس العشير) المعاشر والصاحب والقريب، فالإنسان الذي يتقرب إلى غير الله سبحانه، ويترك ربه، فبئس ما تقرب به، وبئس ما تقرب إليه!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ... )

    ثم يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين، وكيف يعاملهم الله بفضله وبرحمته سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج:14] .

    الكفار كانوا ينظرون إلى هذه الدنيا على أنها: طالما الله يعطينا في الدنيا فسيعطينا في الآخرة، فيقيسون الآخرة على الدنيا، وأنتم يا فقراء المسلمين! الله لن يعطيكم، فكيف سيعطيكم الآخرة إذا كان لن يعطيكم في الدنيا، فنحن أعطانا المال والبنين، فالله يحبنا، إذاً نحن أفضل، فسيعطينا يوم القيامة أكثر، فيخبر الله عز وجل أن هذا الشيء وهم، فإن الله أعطاكم ليس لأنه يحبكم، وليس لأن يرفعكم على الخلق، بل ليملي لكم، فإن كيده متين سبحانه.

    قال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ [الحج:14] فالمؤمنون الصابرون يستحقون الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، جنات وبساتين عظيمة (تجري من تحتها الأنهار) أي: تجري في أرضها الأنهار، أنهار من لبن، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وأنهار من ماء، لا يكدرها شيء.

    إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج:14] أي: يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، ويدخل النار من يشاء لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج:14]، والكفار لا يعجبهم أن المؤمنين يدخلون الجنة وينصرهم الله عز وجل، بل يغضبون، فنقول لهم: اضربوا برءوسكم على الحائط، واشنقوا أنفسكم، وافعلوا ما تشاءون، فهل هذا يغني عنكم أم لا يغني؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة .. )

    قال تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] أي: يعتقد أن الله لا ينصر دينه، ولا ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن الله لا ينصر المؤمنين، ويظن: أن الله طالما أعطاني المال إذاً أنا الذي أستحق النصر وأنتم لا تستحقون، فالذي يظن هذا الشيء ماذا يعمل؟

    قال الله: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15] إذا كان يستطيع أن يصعد إلى السماء ويمنع نصر الله فليفعل، ويذهب لينظر هل هذا الشيء ينفع؟! فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] هل يذهب هذا الكيد أنه يصعد إلى السماء بطائرة أو بصاروخ، ويمنع نصر الله عن المؤمنين.

    وقالوا أيضاً: فليمدد بسبب إلى السماء طالما أنه مغتاظ من أن الله ينصر المؤمنين وينشر دينه سبحانه، اربط حبلاً في سقفك، واخنق به نفسك، وانزل ميتاً على الأرض، وانظر هل هذا الذي تعمله سيذهب غيظك أم لا يذهب غيظك؟! والمعنى: موتوا بغيظكم، واقتلوا أنفسكم، فلن ينصر الله سبحانه إلا دينه وأهل الحق مهما فعل الكافرون.

    قال تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ [الحج:15] الهاء هنا عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو عائدة على دين الله سبحانه، أو على المؤمنين، وهذا وعد من الله عز وجل أن ينصر هذا الدين، ولكن النصر له أسباب، فربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، وقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] ، إن الله ينصر هذا الدين بأسباب قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] ، أعدوا للكفار ما استطعتم من قوة، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ، ويقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

    إذاً: المؤمن يتوكل على الله، والله يقول: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، ويأمرهم أن يأخذوا بالأسباب، قال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، وقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60].

    إذاً: عليك أن تأخذ بأسباب النصر بأن تتقوى، وتكون جيشاً للدفاع عن هذا الدين، حتى تستطيع أن ترد على هؤلاء الكفار، فيكون القلب فيه الإيمان والتوكل على الله سبحانه، والعقيدة الصحيحة أن ينصر دين الله، وليس أن ينصر الأرض والوطن والعروبة، ولا أن ينصر إفريقيا أو غيرها، وإنما ينصر دين الله بالأخذ بالأسباب، فكيف ينصر دين الله من هو جاهل بدين الله سبحانه وتعالى؟! كيف ينصر دين الله من هو مشرك بالله يستغيث بالأولياء والصالحين ويترك ربه سبحانه تبارك وتعالى؟!

    وإذا كان المؤمن على عقيدة صحيحة أخذ بأسباب النصر الدينية والدنيوية، وهنا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، قال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] فمن ترك نصرة دين الله سبحانه، ولم يأخذ بهذه الأسباب التي ذكرها الله؛ فلا يستحق أن ينصره الله .

    نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفر والمشركين.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755820838