إسلام ويب

تفسير سورة الشعراء [221 - 227]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان كفار قريش يتهمون النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يأتيه شيطان بالوحي، فرد الله عليهم هذا الافتراء، وبين لهم من الذي تتنزل عليه الشياطين، وأنها تنزل على الأفاكين، وذم الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون، واستثنى من هذا الذم الشعراء المؤمنين الصالحين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين... وأكثرهم كاذبون)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في آخر سورة الشعراء: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:1221-227].

    في ختام هذه السورة الكريمة سورة الشعراء يخبر ربنا سبحانه وتعالى أن الشياطين تنزل على أهلها وأصحابها وأوليائها، وكان الكفار يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم أن شيطانه يأتيه بهذا الوحي من السماء، فقال ربنا مجيباً لهؤلاء الكذابين: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ [الشعراء:221]، و(تنزل) مدغمة وأصلها تتنزل الشياطين، أي: أن الشياطين تطير في الهواء وتنزل على أصحابها وأوليائها.

    تَنَزَّلُ [الشعراء:222] أي: تتنزل: عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] أي: على الكذابين، والأفاك هو الإنسان الكثير الكذب، فهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق لا يكذب، وقد شهد الله عز وجل عليهم بذلك فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] يعني: أنهم لا يدعون أنك تكذب، فهم كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، فلا يجتمع أن يكون صادقاً وأميناً ثم تنزل عليه الشياطين، وهذا لا يكون حتى عندهم، ولكنهم يجحدون بآيات الله رب العالمين، فربنا يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أنك لست كذاباً، وهم لا يعتقدون أنك كذاب، بل هم يجحدون -والجحد: إخفاء الحقيقة مع اليقين والعلم بها- آيات الله، مع أنهم يعرفون أنه الحق من ربهم سبحانه، ولكن ينكرون ذلك مع أن قلوبهم متيقنة أن هذا الحق من عند رب العالمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، ومع ذلك يكذبون ويقولون: كذاب، ويقولون: مجنون، ويقولون: ساحر، فربنا يقول لهم: لا، الأولى أن تعرفوا من هم هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين، فليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن تنزل عليه الشياطين، وإنما تتنزل الشياطين على شعرائكم الكذابين، فكان كل شاعر منهم يزعم أن له شيطاناً يأتيه بالسحر، فالشياطين تنزل على كهنتهم وكذابيهم.

    قال الله تعالى: تَنَزَّلُ [الشعراء:222] أي: هذه الشياطين، عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] أي: على كل كذاب، بل من كان فاحش الكذب، فهؤلاء هم الذين تواليهم الشياطين، أَثِيمٍ [الشعراء:222] أي: كثير الإثم، يفعل الآثام والذنوب. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223] يعني الشياطين تلقي السمع إلى أخبار السماء وتنزل بهذه الأخبار -إذا شاء الله- إلى الأرض، فتخبر بها الكهنة والعرافين ونحوهم، فيخبرون بما أخبروا به.

    وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطانين يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء فيسترقوا السمع، ويشاء الله عز وجل فتنة عباده بأن تتحدث الملائكة بخبر من خبر السماء، فتخطفه الشياطين وتنزل به إلى الأرض، فيرمى الشيطان بالشهاب، فقد يدركه قبل أن ينزل بهذا الخبر، وقد يدركه بعد أن ينزل بهذا الخبر، فيصل الخبر إلى الكاهن في الأرض، والشيطان يقرقره في أذن الكاهن، والكاهن يخبر الناس بهذا الخبر ويكذب مائة كذبة مع ما أخبره الشيطان به، وعندما يتحقق هذا الخبر الصدق يصدق الناس الكهان، ويقولون: صدق في اليوم الفلاني، فيصدقون باقي كلامه الكذب.

    وقد حذرنا ربنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم من تصديق الكهان وقال لنا: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، فلا يجوز لأحد أن يأتي كاهناً أو عرافاً ليسمع منه، أو ليسأله عن شيء.

    والكاهن هو الذي يتكهن للناس، فيقول: سيحصل كذا، وفي آخر السنة هذه سيكون كذا، وفي أول السنة سيكون كذا، ويكذب على الناس بأكاذيب، كما ترى في الجرائد من يقول: العرافون يقولون: كذا وكذا، وصاحب علم النجوم يقول: هذه السنة سيحصل كوارث وكذا وكذا، فهذا من الكهانة التي حرمها ربنا سبحانه، ومن صدق ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

    والعراف مثل الكاهن، ولكنه يستدل ببعض الأشياء على أشياء مغيبة، فيقول لهم: عند فلان كذا، وعند فلان كذا، فتخبره الشياطين عن ذلك، وغاية الشيطان الوقيعة بين الناس، فالشيطان يخبره أن فلاناً هو الذي سرق، فتتقاطع الأرحام بفعل ذلك الكاهن والعراف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون)

    لما ذكر الله عز وجل هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين من الأفاكين والعرافين والسحرة والكهنة قال سبحانه: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:223-224] (يتبعهم) يعني: يسير وراءهم، وقراءة الجمهور: يَتَّبِعُهُمُ [الشعراء:224] بتشديد التاء، وقرأها نافع : (يتَبْعهم) بغير تشديد، والمعنى أنه يمشي وراءهم كل غاوٍ، والغاوي هو الإنسان الذي يمشي في هواه، ولذلك قال ربنا سبحانه مقسماً بالنجم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، فمن غوى كأنه حصل له شيء في هواه فاتبعه بعيداً عن الصواب.

    فهؤلاء الغاوون الذين يتبعون الشاعر فكيف يكون حال الشاعر؟! فإذا قيل: إن فلاناً يتبعه كل آثم، فكيف بالمتبوع؟! فأشد الغواة الشعراء.

    وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]، لماذا؟ قال سبحان معجِّباً من حال أكثرهم: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:225]، ألم تر أن هؤلاء الشعراء يسيرون هائمين، فالشاعر يسير ولا يدري أين يسير، يقال: فلان هائم على وجهه في الأرض، أي: يمشي مثل الأعمى، فكذلك الشعراء يهيمون في كل واد، فأي فكرة تخطر في باله فإنه يتكلم فيها بأي شيء.

    وهذا العموم مخصوص، ولذلك قال الله بعد هذا: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227]، فالله عز وجل خص من هؤلاء الغاوين أهل الإيمان، فهم ليسوا غاوين، بل هم أهل تقوى كما سيذكر صفاتهم بعد ذلك.

    الشعر بمنزلة الكلام

    روى البخاري في الأدب والدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام).

    فالشعر موهبة من الله عز وجل للإنسان، وهذا الشعر يكون حكمه بحسب الموضوع الذي قيل فيه هذا الشعر، فإن كان الموضوع موضوعاً جيداً ومن المواضيع النافعة فالشعر حسن فيها، وأن كان الموضوع موضوعاً تافهاً فالشعر فيه مثله، فالشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قد استمع للشعر، قال أحد الصحابة -وهو الشريد السلمي -: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟)، وأمية بن أبي الصلت شاعر جاهلي، وكان يقول شعراً في غاية الجودة والجمال، ويكاد شعره ينطق بالتوحيد، ومع ذلك لم يؤمن، فكفر قلبه وآمن شعره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع هذا الشعر الذي فيه التوحيد، قال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قال: قلت: نعم، قال: هيه) (هيه) يعني: قل وأسمعني، قال: (فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت)، فهذا الصحابي كان يحفظ الشعر، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل استمع هذا الشعر منه.

    وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) أي: كاد ولم يسلم، فشعره مليء بالتوحيد ولكنه لم يسلم.

    وكثير من الصحابة كانوا يحفظون الشعر، وكان كثير منهم يقول الشعر، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل بعضهم قال الشعر بحضرته صلى الله عليه وسلم، وما من أحد من آل بيته صلى الله عليه وسلم إلا وقال الشعر كعمه العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وغيرهما من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومن نساء آل البيت من قالت الشعر، فالشعر ليس قبيحاً إلا أن يكون الموضوع الذي يتكلم فيه الشاعر موضوعاً قبيحاً.

    وقد ورد أن العباس مدح النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات شعر، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت فيك شعراً، ويريد أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:

    من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق

    ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق

    بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسراً وأهله الغرق

    تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق

    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفضض الله فاك).

    وهذا الشعر قاله العباس في النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: (من قبلها) أي: من قبل ما تجيء في هذه الدنيا (طبت في الظلال) يعني: طبت في الجنة.

    (وفي مستودع حيث يخصف الورق) يقصد قصة آدم وحواء لما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، والمعنى أنت كنت في صلب آدم وهو في الجنة.

    قال: (ثم هبطت البلاد)، إلى آخر ما ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم.

    وأيضاً جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال شعراً، فمن قوله رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم:

    فقدنا الوحي إذ ولّيت عنا وودعنا من الله الكلام

    سوى ما قد تركت لنا رهيناً توارثه القراطيس الكرام

    فقد أورثتنا ميراث صدق عليك به التحية والسلام

    وكان للنبي صلوات الله وسلامه عليه شعراء مثل حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن زهير وغيرهم ممن كانوا يقولون الشعر، ويمدحون النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحون دين الله سبحانه، ويدافعون عن الدين، ويهجون الكفار المجرمين.

    وكان حسان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه أن يرد عليهم حذره أن يسب الأنساب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له نسب فيهم، فإذا سب آباءهم فكأنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فحذره فقال: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، وهذه من البراعة التي كان عليها حسان رضي الله عنه، حيث يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ويهجو المشركين، ويسل النبي صلى الله عليه وسلم منهم من غير أن يتعرض لنسبه بشيء صلى الله عليه وسلم.

    وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه حسان وكعب بن مالك وابن رواحة لما سمعوا هذه الآيات المكية، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء، فقال: (اقرؤوا ما بعدها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] حتى بلغ: وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227])، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (انتصروا ولا تقولوا إلا حقاً، ولا تذكروا الآباء والأمهات) يعني: انتصروا لهذا الدين واهجوا المشركين ولكن لا تسبوا الآباء والأمهات.

    ومن شعر حسان رضي الله عنه أنه هجا أبا سفيان قبل إسلامه عندما هجا أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له حسان :

    هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

    فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

    أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

    لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

    فـحسان رضي الله تبارك وتعالى عنه يهجو هؤلاء ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أفديك أنا وأبي وأمي، وكلنا نفدي النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    ذم الشعراء الغاوين

    قوله سبحانه: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:224-225]، فالشاعر الذي يترك لنفسه الحبل على الغارب يقع في المزالق وفي الخطأ، ولذلك بعض الشعراء كانوا مؤمنين وعلى صلاح ولما تمادوا في الشعر وقعوا في أشياء خطيرة جداً، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225-226].

    وقد روى مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً)، جوف الإنسان أي صدره، لأن يمتلئ صديداً أفضل له من أن يمتلئ شعراً، والمقصود الشعر الذي فيه أكاذيب.

    وفي حديث آخر في الصحيح عن أبي سعيد قال: (بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه، ولعله من الشعراء الذين يمدحون الناس، فإن أعطوه مالاً مدحهم، وإن لم يعطوه مالاً هجاهم، فلذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً.

    قال العلماء: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعله كان ممن اتخذ الشعر طريقاً للتكسب، ولذلك أحد هؤلاء الشعراء قال للنبي صلى الله عليه وسلم يخوفه: يا محمد! إن مدحي زين، وإن ذمي شين، فقال له: (ذاك الله سبحانه وتعالى) يعني: الذي يمدح فيرفع والذي يقدح فيضع هو الله سبحانه ولست أنت، فعرف الرجل قدر نفسه.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه)، (حتى يريه) يعني: حتى يمزق جوفه، والمقصود الشعر القبيح.

    مدح الشعراء الصالحين

    قال النبي صلى الله عليه وسلم في شعر حسان : (إنه لأسرع فيهم من رشق النبل)، وجاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء أو عمرة القضية، وكان عبد الله بن رواحة يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول للكفار:

    خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله

    ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

    فأنكر عليه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : (خل عنه يا عمر ، فلهو أشد عليهم من نضح النبل)، وكان ذلك في عمرة القضية سنة سبع من الهجرة قبل فتح مكة بعام، فكانوا داخلين مكة للعمرة، وكانوا ألفاً وخمسمائة، فـعبد الله بن رواحة كان يقول ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يشجعه؛ لأن هذا الشعر الذي يقوله أشد على الكفار من رمي النبال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ...)

    قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:225] أي: في كل لغو يخوضون ولا يتبعون سنن الحق، وقد ذكر الإمام القرطبي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، يعني: كان والياً على بلد من بلاد الشام، فقال شعراً، وهو من المؤمنين الصالحين، ولكن حصلت له هفوة فقال هذا الشعر:

    من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يُسقى في زجاج وحنتم

    إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم

    فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم

    لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا في الجوسق المتهدم

    فبلغ هذا الشعر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأرسل إليه، فلما أقبل على عمر قال له: إي والله! إني ليسوءني ذلك، لأنه قال في شعره:

    لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم

    وهو يقول: (من مبلغ الحسناء) يعني: امرأته، من يبلغها؟ (أن حليلها) أي زوجها، (بميسان يسقى في زجاج وحنتم)، يعني: أنه يشرب الخمر، في بلدة ميسان، وهو لم يشرب، ولكن كما قال الله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:224-225]، فلما قال له عمر ذلك استشعر من عمر أنه سيقيم عليه الحد باعترافه أنه شرب الخمر، فقال: يا أمير المؤمنين! ما فعلت شيئاً مما قلت، وإنما كان فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226].

    فقال عمر رضي الله عنه: أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً.

    فالشعراء عادتهم الكذب، ويقولون: أجود الشعر أكذبه. وشعراء أهل الجاهلية كان أحدهم يبتدئ القصيدة بالغزل، ويتكلم في الفخر، ثم يهجو الخصم ويتكلم في الشجاعة، ويأتي بأشياء عجيبة، كالمعلقات التي كانت تعلق في الكعبة، وقد قالها فحول الشعراء مثل عنترة وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وامرؤ القيس ، وقد كتبت بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، ومن أجمل هذه المعلقات معلقة عمرو بن كلثوم وهو رجل تغلبي، وكان في عهده ملك اسمه عمرو بن هند، وكانوا يلقبونه بمضرط الحجارة، أي: أن الحجارة تضرط؛ خوفاً منه، فقد كان جباراً، ومن جبروته أنه سأل الناس: هل يوجد أحد ترفض أمه أن تخدم أمي؟ فقالوا له: نعم، عمرو بن كلثوم ، وكان عُمْر عمرو خمس عشرة سنة، فبعث إليه أن يأتيه مع أمه، فذهب إليه هو وأمه مع عشرين رجلاً من القبيلة، فلما وصلوا إلى الملك دخلت المرأة عند أم الملك، فأم الملك أرادت منها أن تخدمها، فصرخت أم عمرو ، فلما سمع عمرو ذلك أخذ السيف وضرب رقبة الملك، وهرب ومن معه، وقال قصيدته المشهورة:

    وقد علم القبائل من معد إذا قبب بأبطحها بنينا

    بأنا المنعمون إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا أتينا

    وأنا الحاكمون بما أردنا وأنا النازلون بحيث شينا

    وأنا التاركون لما سخطنا وأنا الآخذون لما رضينا

    وأنا العاصمون إذا أطعنا وأنا الغارمون إذا عصينا

    ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً

    ألا أبلغ بني الطماح عنا ودعميّاً فكيف وجدتمونا

    إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الذل فينا

    ملأنا البر حتى ضاق عنا كذلك البحر نملؤه سفينا

    إذا بلغ الفطام لنا وليد تخر له الجبابر ساجدينا

    فاسمعوا إلى هذا الكذب، وكانت هذه القصيدة معلقة في الكعبة أيام الجاهلية، وهو شعر رائع جداً لكنه مليء بالكذب، فإنه قال: ملئنا البر حتى ضاق عنا! فهل قبيلة تغلب تملأ البر؟! وهل ملئوا البحر بالسفن؟! صدق الله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:224-225].

    ومن هؤلاء الشعراء جرول الملقب بـالحطيئة ، فقد كان شاعراً كثير الهجاء، وكان يهجو أي إنسان، حتى كاد عمر رضي الله عنه أن يقطع لسانه، حتى إنه هجا أباه فقال:

    لحاك الله ثم لحاك حقاً أباً ولحاك من عم وخال

    فنعم الشيخ أنت على المخازي وبئس الشيخ أنت لدى المعالي

    وقال لأمه:

    جزاك الله شراً من عجوز ولقّاك العقوق من البنينا

    تنحي فاجلسي عني بعيداً أراح الله منك العالمينا

    أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا

    بل إنه هجا نفسه فقال:

    أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر فما أدري لمن أنا قائل

    أرى لي وجهاً قبح الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله

    فصدق الله إذ يقول: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..)

    قال الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]، فالمؤمن يقول الشعر النافع، فيذكر ويعظ به الناس، ويحثهم على العمل الصالح، وذكْر الله سبحانه وتعالى، والانتصار لدين رب العالمين سبحانه، كـحسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة وغيرهما رضي الله عنهم؛ فهؤلاء لا يذمون على شعرهم.

    قال الله: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] أي: سيعلم الظلمة والكفرة والكذابين والأفاكين أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] أي: أي مرجع سيرجعون إلى الله سبحانه، فسيعرفون شؤم ما صنعوا بجزائهم السيئة يوم القيامة، فنسأل الله سبحانه حسن النهاية، وحسن المنقلب.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755947340