إسلام ويب

تفسير سورة الشعراء [10 - 22]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبر الله تعالى عما أمر به رسوله وكليمه موسى عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره وأخاه بالذهاب إلى فرعون وقومه، وكيف أنه سبحانه أيده بتحويل العصا إلى حية، ففزع موسى وخاف، وما هذا إلا ليثبته ويجعله قادراً على مواجهة المفزعات، بحيث يذهب إلى فرعون وهو مطمئن، وعنده القدرة على مواجهته ودعوته إلى عبادة الله وحده، وإطلاق بني إسرائيل من أسره وعبوديته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الشعراء: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:10-21] .

    في هذه الآيات من سورة الشعراء يذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد ساقها في القرآن في مواضع كثيرة، وفي كل موضع يذكر من القصة الشيء الذي يناسب هذه السورة ويناسب هذا الموضع.

    فهنا يذكر قصة تكليف الله عز وجل موسى بالرسالة، وأن يتوجه إلى فرعون ليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الشعراء:10]، وهنا لم يوضح لنا أين ناداه، لكن في سورة القصص يذكر الله سبحانه وتعالى أين ناداه، حيث يقول: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29] يعني: أن موسى كان عند الطور في جبل سيناء يقال فيه: طور سِيناء وسَيناء وسينين، وهو الجبل المبارك، أو الأرض المباركة، أو المكان المبارك.

    فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص:29] أي: كان راجعاً هو وزوجته، آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29] ، وكأنه كان في وقت برد شديد وفي ليل مظلم والمكان مخيف، فاستأنس من وحشته بنار في مكان بعيد، فتوجه إليها؛ ليأتي منها بقبس من نار، قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا [القصص:29] أي: ابقوا في هذا المكان وأنا سأتوجه وحدي إلى هذه النار، قال: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص:29].

    كأنه كان تائهاً لا يعرف، فلعله يأتي من عند هذه النار بخبر عن الطريق، أو يأتي بقبس من نار يستنيرون ويستدفئون به؛ فَلَمَّا أَتَاهَا [القصص:30] أي: جاء إلى هذا المكان الذي فيه النار، نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ [القصص:30] أي: من جانب الواد الأيمن، فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] ، فإذا بشجرة فيها نار تضطرم فيها وهي خضراء، فالله عز وجل ناداه لما وصل إليها: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] .

    وقال في سورة الشعراء : وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الشعراء:10]، وهناك في القصص ناداه الله عز وجل: أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص:30-31] .

    يعني: بدأ الابتلاء من الله عز وجل لموسى والاختبار، ثم التثبيت والإخبار أنه رسول رب العالمين عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكذا حدث مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يقل له جبريل مباشرة: أنت رسول، وإنما ألقى في روعه ذلك، ولكن كان الاختبار في البداية والتدريب والتمرين حتى يثبت صلوات الله وسلامه عليه، فهنا موسى ذهب وتوجه وحده وترك أهله خوفاً عليهم، وليكون النداء له وحده ليسمع كلام رب العالمين وحده، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما توجه إلى ذلك المكان جاء النداء من رب العالمين، ففزع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فطمأنه ربه وقال: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:12-13]، فهنا وحي من الله، ولكن قبل ذلك ثبته بأن أراه معجزة أمامه؛ ليعلم أن الذي يناديه هو ربه سبحانه، أو مناد من عند ربه سبحانه وليس شيطاناً وليس جاناً يفزعه في هذا المكان، لذلك قال له ربه سبحانه: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31] أي: ارم العصا التي في يدك، فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ [القصص:31] أي: كأنها حية ألقى العصا وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص:31] أي: ولى فاراً ولم ينظر وراءه من شدة الفزع والخوف، يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31] .

    فلما أراه آية ومعجزة خاف منها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأراد الله أن يطمئنه ويثبته، ولو كانت هذه المعجزة حصلت أمام فرعون للمرة الأولى فسيخاف فرعون وموسى أيضاً، ولكن الله عز وجل أرى موسى هذه الآية في ظلمة الليل في مكان موحش وهو وحده عليه الصلاة والسلام، والعصا تتحول إلى ثعبان أمامه؛ حتى لا يفزع حين يذهب إلى فرعون ليريه هذه الآية.

    ثم قال تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [القصص:32] أي: ضع يدك في جيب قميصك، والجيب هو مكان دخول الرأس من القميص، فكان يضع يده في جيب قميصه فيخرجها بيضاء لها شعاع كالشمس في الليل، فيعجب موسى لذلك، فيطمئنه ربه سبحانه وتعالى ويقول له: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [القصص:32] أي: إذا خفت فضم يدك إلى جناحك إلى جنبك يذهب عنك هذا الخوف، فذهب الخوف عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

    ثم قال له ربه سبحانه: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص:32] ليس لك أنت؛ لأنك قد عرفت، ولكن إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص:32] أي: اذهب بهذه الآيات إلى فرعون وقومه.

    ففي سورة القصص أطال ذكر القصة، واختصرها هنا في سورة الشعراء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قوم فرعون ألا يتقون ... إني أخاف أن يكذبون)

    قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ [الشعراء:11] أي: أليس يتقون ربهم ويخافونه سبحانه وتعالى؛ لئلا ينزل بهم العذاب والنكال؟ فبعدما اطمأن موسى وعلم أن الذي يخاطبه هو الله عز وجل، ورأى المعجزات البينات، بدأ يطلب من ربه سبحانه الإعانة فقال: رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [الشعراء:12] أي: أخاف من فرعون ومن معه أن يكذبوني، فهو كان يعرف أنهم سيكذبونه، فقد ذكر الله لنا في سورة طه وفي سورة القصص أنه تربى في بيت فرعون، وبهذا يكون قد عرف طبيعة فرعون، وما الذي يمكن أن يجابهه به، وكذلك قد عرف الملأ من قوم فرعون وما الذي يمكن أن يواجهونه به، فلذلك بدأ بذلك وقال لربه: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [الشعراء:12] ، وقراءة يعقوب : إني أخاف أن يكذبوني.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويضيق صدري ... ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون)

    قال الله تعالى: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء:13].

    كأنه يقول: وإني يضيق صدري، ولذلك رفعت هنا على الاستئناف أو القطع عما قبلها، وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي [الشعراء:13]، فقد كان في لسانه لثغة وثقل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وموسى عليه الصلاة والسلام كانت فيه حدة، وكان يغضب بسرعة، ولذلك عندما غضب على القبطي وكزه موسى عليه الصلاة والسلام فقتله.

    فهنا يقول لربه: أنا أخاف من نفسي وأخاف على نفسي، فأخاف أن يكذبوني، وأيضاً أخاف أن يضيق صدري بسرعة، وأيضاً عندي لثغة في لساني فلا ينطلق لساني، فلا أستطيع الكلام معهم، فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ أي: اشدد أزري بأخي هارون يكون معي، وجاء في سورة القصص قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [القصص:34] أي: يتكلم أحسن مني؛ لأن موسى كانت فيه لثغة في لسانه من صغره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    وكان سببها: أنه لما كان في بيت فرعون حمله فرعون، فإذا بموسى يشده من لحيته فيغضب فرعون ويريد قتله، فإذا بزوجة فرعون تقول له: إنه صبي لا يفهم، لكن فرعون كان مصراً على أن يقتل الصبي، فقالت له: أعطه جوهرة وأعطه جمرة وانظر أيهما سيأخذ؟ فالله عز وجل جعله يأخذ الجمرة من النار ويضعها على لسانه، فأصيب بلثغة في لسانه، حتى أصبح لا يجيد التعبير، ويثقل النطق على لسانه، ولذلك دعا ربه فكانت معجزة أخرى من معجزاته عليه الصلاة والسلام: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28]، ثم قال له ربه بعد ذلك: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36].

    فهنا في هذه الآيات يقول لربه سبحانه: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي [الشعراء:12-13]، وهذه قراءة الجمهور.

    وقراءة يعقوب : (ويضيقَ صدري ولا ينطلقَ لساني) بنصب الفعل، وكأنه عطف على أن خوفي من تكذيبهم وخوفي من أن يضيق صدري، وخوفي من ألا ينطلق لساني فلا أقدر على التبليغ، فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء:13] ؛ لأنه أفصح مني لساناً، وقال أيضاً: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:14] .

    قالوا: كان موسى عليه السلام أنفع أخ لأخيه في الدهر كله؛ لأنه طلب من ربه أن يجعل أخاه نبياً معصوماً؛ لأنه ما من نبي إلا وهو معصوم، وما من نبي إلا وهو في الجنة، فكان أعظم دعاء يدعوه أخ لأخيه هو هذا الذي دعاه موسى، واستجيب له في أخيه هارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    فقوله: وَلَهُمْ يعني: لفرعون وقومه لهم، عَلَيَّ ذَنْبٌ أي: لهم علي قصاص، وهو أنه قتل القبطي، قال: فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي: أن يقتصون مني؛ لأني قتلت رجلاً منهم، وقراءة يعقوب : فأخاف أن يقتلوني.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال كلا فاذهبا بآياتنا ... أن أرسل معنا بني إسرائيل)

    قال الله تعالى: قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15]، والآيات هي: العصا واليد، فاذهبا بهذه الآيات إلى فرعون وجنوده، قال سبحانه: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ، وقال في سورة طه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أي: أسمع ما تقولان وما يقال لكما، وأرى ما تفعلون.

    وقال سبحانه: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ [الشعراء:16]، فأمر الله عز وجل بأن يذهبا أولاً إلى فرعون فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا [الشعراء:16]، يعني: اذهبا إليه وقولا له: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:16]، وهناك في طه أمر سبحانه أن يقولا له: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه:47] فهناك ذكر التثنية، وهنا ذكر الإفراد، وقد ذكر المفسرون أن سبب إفراد كلمة رسول: أن الأصل في ذلك هو موسى عليه الصلاة والسلام، فأفرد باعتباره هو الأصل الذي يبلغ، وقيل: لا، ليس هذا المقصود، بل إن الرسول يأتي بمعنى المرسل الذي يرسل، وتأتي بمعنى المصدر يعني: الرسالة، فإذا جاءت كلمة الرسول بمعنى الرسالة فلا تثنى ولا تجمع، فيكون للواحد، وللاثنين وللجمع، قالوا: وهذا مثل قول الله عز وجل عن إبراهيم: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] فهنا جاءت أيضاً على معنى المصدر، والمعنى: أعداء لي، فلما قصد المصدر كانت الصورة واحدة، فيقول: هذا عدو لي، وهذان عدو لي، وهؤلاء عدو لي، يعني: أن العداوة بيني وبينهم قائمة، وكذلك الرسالة هنا وكأنه يقول: إنا ذووا رسالة من عند رب العالمين، إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

    وقيل: إنه صيغة فعول وفعيل يستوي فيهما المذكر والمؤنث، والواحد والجمع إذا قصد المصدر.

    وقال تعالى: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:17] يعني: جئناك بأن ترسل معنا بني إسرائيل.

    إذاً: فالغرض هو دعوة فرعون وجنوده إلى عبادة رب العالمين سبحانه، وأن يترك بني إسرائيل يخرجوا من مصر مع موسى وهارون على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال ألم نربك فينا وليداً ... قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين)

    قال تعالى: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء:18].

    انظر هنا إلى هذا الانتقال من أمر إلى آخر، فالمشهد الأول: أن موسى ما زال عند الشجرة، وأنه يخاطب ربه، وربه يأمره أنه يذهب إلى فرعون، وموسى يطلب من ربه سبحانه أن يبعث معه أخاه هارون، فأخبره الله عز وجل بأن أخاه سيكون معه، ثم وجه الاثنين: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه:43-47]، إذاً فهذا الخطاب كان في الأول مع موسى عند الشجرة، هذا هو المشهد الأول.

    المشهد الثاني: أن موسى توجه إلى أخيه وطلب من أخيه أن يكون معه؛ لأنه نبي، وجاءت المخاطبة من رب العالمين والتكليف للاثنين: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ [طه:43] وهذا هو المشهد الثاني.

    المشهد الثالث: وهما في بيت فرعون، فاختصر هذا كله في الآيات، وانتقل من مشهد إلى آخر، وهذا من حسن التخلص، وهذا من أفصح وأبلغ ما يكون في اللغة، فهذا المشهد الثالث: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [الشعراء:18]، فانتقل الآن إلى داخل قصر فرعون وفرعون يرد عليهم، فلا يوجد تكرار ممل، بل انتقل مباشرة إلى ذكر رد فرعون: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء:18]، وكأن فرعون يمن على موسى عليه الصلاة والسلام، ويقول: أنت جئت لتدعوني وأنا الذي ربيتك وجلست عندي هنا في بيتي وفي قصري سنوات، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء:19] يعني: قتلت القبطي من قومي، وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:19] أي: لنعمتي عليك، ولتربيتي لك، كأنه هنا جاحد لنعمته، فهذا هو معنى الكفر الذي يقصده فرعون، وليس الكفر بالله سبحانه وتعالى.

    قال موسى: فَعَلْتُهَا [الشعراء:20] أي: حصل مني هذا الشيء ولست كافراً، ولم أجحد نعمة، ولم أكفر بالله رب العالمين سبحانه، قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:20] أي: ما كنت رسولاً من عند رب العالمين سبحانه، وما قصدت أن أقتل هذا الإنسان، ولكني أخطأت، فالضلال يأتي بمعنى الخطأ، ويأتي بمعنى التيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ففررت منكم لما خفتكم ... أن عبدت بني إسرائيل)

    قال الله تعالى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ [الشعراء:21] أي: هربت خوفاً منكم، فموسى كان خائفاً من فرعون من أن يقتله، فالله عز وجل أراه ما يفزعه، ثم بعد ذلك طمأنه سبحانه حتى يعتاد على أنه يرى المواقف المفزعة فلا يفزع ولا يخاف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    قال: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا [الشعراء:21] أي: رسالة من عنده سبحانه، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:21] أي: جعلني واحداً من رسله.

    ثم قال لفرعون: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:22]، وهذه فيها معنيان أحدهما أجمل من الآخر:

    الأول: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ كأنه إقرار بأن لك عليّ نعمة فعلاً؛ لأنك أنت الذي ربيتني عندك في البيت، و عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يعني: كان بنو إسرائيل كلهم عبيداً عندك، فأنت مننت علي وأنعمت علي وربيتني ولم تجعلني كغيري.

    الثاني وهو أجمل من الأول: أنه قال له ذلك تبكيتاً له، يعني: هل هذه نعمة تمنها علي أن عبدت أهلي بني إسرائيل أكثر من ثلاثمائة ألف شخص في البلد فجعلتهم كلهم عبيداً بغير ذنب أساءوه فيه إليك، فسخرتهم وأتعبتهم وشققت عليهم، ثم تمنّ علي؟! فإن كنت مننت علي بأن تركتني حياً، فقتلك لأولاد بني إسرائيل ذنب فظيع ارتكبته في حقهم، فالمنة لله عز وجل حيث نجاني منك، فأنت لم تصنع معي شيئاً إلا أنك تمن علي أن ربيتني، فلو لم تقتل أولاد بني إسرائيل وتركتني لرباني أبواي، ومن الذي رباني عندك أليست أمي التي أرضعتني؟!

    فكأنه يقول: أنت مننت علي وتركتني حياً، وكنت تقتل أبناء بني إسرائيل، وهل هذه نعمة أن عبدت جميع أهلي من بني إسرائيل؟

    إذاً: فهو يبكت فرعون بذلك، والله أعلم.

    نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756029077