إسلام ويب

علو الهمة [13]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الدين، وهو أعظم ما ينبغي لعالي الهمة أن يحرص عليه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ((وجاهدوا في الله حق جهاده))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم)). وفي أخبار السلف ومن تبعهم ما يشحذ الهمم للجهاد في سبيل الله.

    1.   

    علو همة السلف في الجهاد في سبيل الله

    الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    شرعنا منذ فترة في الكلام عن مجالات علو الهمة، وتبقى من هذه المجالات مجالان:

    الأول: علو همة السلف ومن اتبعهم من الخلف في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

    الثاني: علو الهمة في البحث عن الحق، ثم بعد ذلك يأتي الكلام في حال الأمة عند سقوط الهمة، ثم الكلام على أسباب الارتقاء بالهمة، وأسباب انحطاط الهمة.

    فيما يتعلق بعلو الهمة في الجهاد سبيل الله تبارك وتعالى؛ نحن نعلم أن الرعيل الأول من صفوة المسلمين قد علموا حينما رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن في الجهاد فضلاً لا يضاهى، وخيراً لا يتناهى، فأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري العظم في شرب كؤوس الحتوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد من شتى أصناف العباد، وجهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا، وأقرضوا الأموال لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها، وضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مر المذاق، وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق، ونشروا أعلام الإسلام في الآفاق.

    فمن ثم كان في الإشارة إلى بعض مناقبهم، وخبر بلائهم، ما عساه يوقظ الهمم الرقد، وينهض العزم المقعد، ومن لم ترويه الإشارة، فكتب التراجم وبالذات تراجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم والفاتحين مبسوطة فيها أخبار هؤلاء العظماء.

    علو همة النبي عليه الصلاة والسلام في الجهاد

    كان إمامهم الأوحد ورائدهم الأول في باب الجهاد كما هو رائدهم في كل باب من أبواب الخير خير من وطئ الحصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

    ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أعلى البشر همة على الإطلاق؛ لأنه حاز من الكمال البشري أعلى قمة في كل وصف من صفات الكمال البشري.

    كان أشجع الناس، وأقواهم قلباً، وأثبتهم جناناً، وقد حضر المواقف الصعبة المشهورة، وفر الكماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، صلى الله عليه وسلم.

    وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة أو فترة، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يفر قط، وحاشاه من ذلك ثم حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لـأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا) يعني: يطمئنهم أنه بمجرد سماع هذا الصوت كان أسبقهم إلى الخروج ليراه، ثم رجع وهم بعد لم يشرعوا في الخروج ليستكشفوا ويستطلعوا هذا الصوت.

    علي رضي الله عنه من أشجع فرسان العرب على الإطلاق رضي الله تعالى عنه، يحكي شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب فيقول: (كنا إذا اشتد البأس، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً) صلى الله عليه وسلم.

    وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه صلى الله عليه وسلم إذا دنا العدو لقربه منه.

    وقال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب الأعداء.

    علو همة الخلفاء الراشدين في الجهاد

    الشجعان في أمته صلى الله عليه وسلم والأبطال لا يحصون عدة، ولا يحاط بهم كثرة، لاسيما أصحابه المؤيدين، الممدوحين في التنزيل بقول الله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].

    إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم شجعان، فالشجاعة من الكمالات التي تحلى بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

    فأشجع الصحابة وكلهم رضي الله عنهم شجعان أفضل البشر جميعاً بعد الأنبياء خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، هكذا شهد له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أشجع الناس، وصدق رضي الله عنه، فقد كان أثبتهم قلباً وأقواهم جناناً، وحسبك من ذلك ثبات قلبه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، ويوم حنين، بل ثبات قلبه وتثبيته المسلمين عند الخطب الأعظم، والأمر الأفخم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فلا يرتاب عاقل على الإطلاق أن أشد مصيبة وقعت بالمسلمين على الإطلاق هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه أشد قاصمة تعرض لها الإسلام، فإذا ما استحضرت أحداث هذا اليوم العصيب، الذي هو أفظع مصيبة عاناها المسلمون، ولن يبتلوا أبداً بأشد منها كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليعزي المسلمين في مصائبهم المصيبة بي) يعني: إذا مات لأي مسلم بعد رسول الله عليه السلام أي إنسان مهما كان عزيزاً عليه؛ فليتذكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعزي نفسه.

    فإذا راجعنا أحداث هذا اليوم نظرنا كيف ثبت أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثباتاً لا نظير له، حتى عمر الفاروق لم يثبت، بل حصل له ما حصل من الاهتزاز والزلزلة حينما بلغه نبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا من قوة إيمانه وثبات جنانه رضي الله تعالى عنه.

    كذلك عزمه في قتال من ارتد حينئذ، فتلك الشريعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تنازلت لها أعالي الهمم.

    ومنهم الفاروق ناصر الدين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الذي بلغ من الشجاعة والهمة الكبرى أقصى الغايات وأعلى النهايات، والأخبار في قوته في الدين وشدته على المشركين كثيرة مشهورة، ولو أفضنا في الكلام على مواقف عمر رضي الله تعالى عنه وشجاعته لاستوعب ذلك وقتاً كثيراً جداً.

    وهذا الليث الحفصاص، والغيث المدرار، ومفرق كتائب المشركين، والآتي من أنواع الشجاعة بما أوجب تحير المتحيرين، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، كان درعه صدراً لا ظهر له فقيل له: ألا تخاف أن تؤتى من قبل ظهرك؟! يعني: ينصحونه أن يتخذ درعاً على ظهره، حتى إذا ما جاءه أحد الأعداء من ظهره لا يتمكن أن يطعنه أو يصيبه، فقال علي رضي الله عنه: إن أمكنت عدوي من ظهري، فلا أبقى الله عليه إن أبقى علي. يعني: أنه لا يمكن عدواً أن يناله أبداً من ظهره، وفيه إشارة إلى أنه لا يفر أبداً، ولا يولي الدبر؛ لأن العدو لن يقابل ظهره إلا إذا ولى الدبر.

    وذكر ابن عبد البر في صفة علي رضي الله عنه أنه من شدة بأسه وشجاعته كان إذا أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفس. أي: يتوقف الرجل عن التنفس من شدة الخوف والبأس وقوة قبضة علي رضي الله تعلى عنه.

    وأخبار شجاعته وعلو همته رضي الله عنه كثيرة مشهورة.

    علو همة الصحابة في الجهاد في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام

    لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم في القتال في غزوة بدر الكبرى قال له المقداد بن الأسود رضي الله عنه: يا رسول الله! امض لما أراك الله، فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))[المائدة:]، ولكن ( اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معك مقاتلون).

    وقال سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه في نفس الموقف: فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غداً، إننا صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.

    وعن أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، فجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال عمير بن الحمام : يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض، قال: نعم، قال: بخ بخ! -وهي كلمة تقال عند الرضا وعند الإعجاب والاستحسان للشيء- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ؟! قال: لا والله! إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طولية -يعني: كيف ينتظر في الدنيا حتى يفرغ من أكل تمرة أو تمرتين أو ثلاثة! فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون - انهزموا - قال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين-، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ ! الجنة ورب النضر ، إني أجد ريحها دون أحد - يحلف أنه يشم رائحة الجنة من جهة جبل أحد -، قال سعد : فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه - أي: مثلوا بجثته ومزقوها، حتى تلاشت جميع ملامح بدنه، فلم يستطع أحد أن يميزه إلا أخته بطرف أصبعه، وعرفت أن هذه هي جثة أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه- قال أنس : كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه رضي الله تعالى عنه وفي أشباهه: (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))[الأحزاب:].

    أما في سرية مؤته فقد روي أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أخذ اللواء بيمينه، فقطعت يمينه، فأخذها بشماله، فقطعت، فاحتضنه بعضديه بعدما قطعت الذراعان، حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة، يطير بهما حيث شاء.

    ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربه فقطعه نصفين، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، فتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، يعني: حصل عنده شيء من التردد في منازلة الأعداء، ثم جزم بعد ذلك، وهتف بهذه الأبيات:

    أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه

    إن أجلد الناس وشدو الرنة مالي أراك تكرهين الجنة

    إلى أن قال:

    يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليتي

    وما تمنيتي فقد أعطيتي إن تفعلي فعلهما هديتي

    وإن تأخرت فقد شقيتي

    إن تفعلي فعلهما يعني: فعل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق لحم، فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت يومك هذا ما لقيت، فأخذه من يده، فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس -أي: سمع صوت القتال في ناحية الناس- فقال: وأنت في الدنيا؟! -يعني: الناس يجاهدون وأنت تأكل هذا اللحم- فألقاه من يديه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

    وعن شداد بن الهاد رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غداة غنم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقسم فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهره، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسماً قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: نصيبك وحظك من الغنيمة- فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟! قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار - يعني: في حلقه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟! فقالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته - يعني: من الدعاء اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك هذا الحديث صحيح رواه النسائي .

    علو همة الصحابة في جهاد المرتدين بعد وفاة رسول الله

    عن جعفر بن عبد الله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة، واصطف الناس، كان أول من جرح أبو عقيل ، رمي بسهم فوقع بين من منكبيه وفؤاده في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر في أول النهار، وجر إلى الرحل، فلما حمي القتال يوم اليمامة وانهزم المسلمون، وولوا رحالهم، سمع معد بن عدي يصيح: يا للأنصار! الله الله والكرة على عدوكم، فقال: عبد الله بن عمر : فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟! ما فيك قتال -يعني: أنت ما تستطيع القتال- قال: قد نوه المنادي باسمي! -هو من الأنصار، فلما سمع كلمة: يا للأنصار، قال: المنادي يناديني باسمي - فقال ابن عمر : فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى، قال أبو عقيل : أنا من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبواً، قال ابن عمر : فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرة كيوم حنين، فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً، تقدموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوهم الحديقة، - ظلوا يقاتلونهم حتى أقحموهم في الحديقة - فاختلطوا واختلطت السيوف بيننا وبينهم، قال ابن عمر : فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، فوقعت إلى الأرض - يده انفصلت عن جسده ووقعت إلى الأرض - وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة ، قال ابن عمر : فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل ! فقال: لبيك بلسان ملاتاك يعني: بلسان منكسر، كان ضعيف الكلام لأنه تفيض روحه، ثم قال: لمن الدبرة؟! يعني: لمن النصر أو على من الهزيمة؟ يريد أن يطمئن على نتيجة القتال، قلت: أبشر قد قتل عدو الله، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله.

    ومنهم البراء بن مالك ، أخو أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فعن ابن سيرين رحمه الله أن المسلمين انتهوا إلى حائط فيه رجال من المشركين، فقعد البراء على ترس وقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم، فألقوه وراء الحائط، قال: فأدركوه وقد قتل منهم عشرة -يعني: دخل على كل جيش الأعداء في داخل الحديقة، وقتل منهم عشرة- وجرح البراء يومئذ بضع وثمانين جراحة، ما بين رمية وضربة، فأقام عليه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه شهراً حتى برئ من جراحته رضي الله تعالى عنه.

    وعن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة قال سالم مولى أبي حذيفة : ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ما أعجبه قتال أصحابه في ذلك اليوم، فماذا فعل؟

    فحفر لنفسه حفرة ودخل فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، فقاتل حتى قتل يوم اليمامة شهيداً سنة اثنتي عشرة.

    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مررت يوم اليمامة بـثابت بن قيس بن شماس وهو يتحنط، يعني: يضع الحنوط الذي هو نوع من الطيب مخصوص للموتى، وكان السلف يفعلون ذلك إذا خرجوا للجهاد من باب حث النفوس على الموت، وتصميم العزم على نيل الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى.

    قال أنس : فقلت: يا عم! ألا ترى ما يلقى المسلمون وأنت هاهنا؟! يعني: المسلمون في الجهاد والقتال شديد، وأنت هنا تتحنط بهذا الطيب؟! قال: فتبسم ثم قال: الآن يا ابن أخي! فلبس سلاحه وركب فرسه، حتى أتى الصف، فقال: أف لهؤلاء وما يصنعون، وقال للعدو: أف لهؤلاء وما يعبدون، خلوا عن سبيله -يعني: افسحوا الطريق عن الفرس- حتى أصلى بحرها. فحمل فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

    وعن عبد الله بن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيو)، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى ! أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟! قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه -أي: الغمد- ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

    علو همة خالد بن الوليد في الجهاد

    وهذا سيف الله تعالى وفارس الإسلام وليث المشاهد قائد المجاهدين أبو سليمان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وهأنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. يعني: وما قتلت مع ذلك، فيدعو على الجبناء الذين يجبنون عن الجهاد خوفاً من الموت ألا يناموا، وأن يزيد الله من فزعهم من الموت، فلا نامت أعين الجبناء.

    وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال: لما حضرت خالداً الوفاة قال: لقد طلبت القتل مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار، ثم قال: إذا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله، فلما توفي خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعاً أو لقلقة.

    هذه الأمة حينما بنيت هذا البناء المتين الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، والذي يستعصي على الاقتلاع حتى اليوم؛ إنما هو أثر من آثار وبركة من بركات جهاد الصحابة الأوائل رضي الله تعالى عنهم، كل ما نحن فيه من نعمة الإسلام، سواء هاهنا في بلادنا أو في غيرها من آفاق الأرض، إنما هو بسبب جهاد الصحابة، الصحابة لو قطنوا في جزيرة العرب، لو اعتزلوا وناموا ما انتشر الإسلام، وما وصلتنا هذه النعمة العظيمة التي هي أجل النعم على الإطلاق في هذا الوجود، نعمة الإسلام.

    فتباً لهؤلاء الذين يريدون أن يطفئوا النور الذي أضاء الصحابة به ربوع الأرض كلها، من أعداء الله من العلمانيين الملحدين، وأعداء الدين الذين كل جهدهم الآن أن يطفئوا نور الله، وأن يمحوا ويقتلعوا ويجففوا منابع الإسلام، جفف الله الدم في عروقهم أجمعين!

    انظر إلى هذه الشجاعة، شيء لا يكاد يتصور ولا يتخيل، قائد عسكري هو أعظم قواد الإسلام على الإطلاق، ماذا فعل خالد في إحدى المعارك؟

    بلغ من شجاعة خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أن جيش الأعداء كان واقفاً ويصطف في الصفوف، ويقف قائد الفرس لينظم صفوفهم، وإذا بـخالد ينطلق كالبرق حتى يحتضن القائد ويخطفه، ويعود به من وسط جيوشه إلى جيش المسلمين أسيراً!

    شيء لا يكاد يتخيله إنسان، هل هناك قلب يكون عنده مثل هذه الشجاعة وهذه السرعة وهذا الإنجاز؟

    انطلق إليه بدون حراسة معه، وبدون قوات معه، وبلا شك هذا أثار ذهول الأعداء، وما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً أمام هذه الشجاعة النادرة، فرضي الله تعالى عن خالد وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    علو همة الصحابة في جهاد الروم

    في حديث عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه أنه أسرته الروم، فحبسه طاغية في بيت، ووضع له في هذا البيت ماءاً ممزوجاً بخمر، ولحم خنزير مشوي؛ ليأكل الخنزير ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلم يفعل، لا شرب الماء؛ لأن فيه خمراً، ولا أكل لحم الخنزير المشوي مع جوعه، ثم أخرجوه حين خشوا موته من الجوع، فقال: والله! لقد كان أحله الله لي؛ لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الإسلام.

    و عبد الله بن حذافة السهمي صحابي توفي بمصر ودفن بمقبرتها في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وله قصة مشهورة حكاها أبو رافع قال: وجه عمر جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة ، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟! وفي بعض الروايات أنه عرض عليه أن يزوجه ابنته أيضاً.

    قال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك، فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه. وأراد إرهابه فقط، وهو يعرض عليه أثناء ذلك النصرانية ويأبى، فأنزله ودعا بقدر فصب به ماء يغلي، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي في القدر وهو يعرض عليه النصرانية، وهو يأبى، ثم بكى، فقيل للملك: إنه بكى لما رأى الأسير الذي أدخلوه في ذاك الإناء الذي يغلي، فخرج وهو عظام تلوح، ذاب لحمه وشحمه في هذا الماء المغلي. فظن أنه قد جزع وخاف، فقال: ردوه، ما أبكاك؟ قال: قلت: هي نفس واحدة، تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله.

    فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ فقال له عبد الله : عن جميع الأسارى؟ قال: نعم، فقبل رأسه. وعدو الله أراد أن يقبل رأسه ليرضي غروره، فحينما وازن الأمرين وجد أن إنقاذ إخوانه المسلمين أهم، وما قبل أن يفرج عنه وحده، فقبل رأسه، وأقبل بالأسارى على عمر رضي الله عنه، فأخبره خبره، فقال عمر رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة ، وأنا أبدأ، فقبل المسلمون رأسه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

    يقول الشاعر:

    أجدر الناس بالكرامة عبد تلفت نفسه ليسلم دينه

    استوصى عابداً من العباد صاحباً له يعني: ماذا يفعل من العبادات والطاعات فقال: هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بالترهات، يعني: أعظم ما تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى بذل روحك، وما عدا ذلك فترهات، يقول الشاعر:

    الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود

    وعن العلاء بن سفيان الحضرمي قال: غزا بسر بن أبي أرطأة الروم، فجعلت ساقه لا تزال تصاب، فيكمن لهم الكمين، فيصاب الكمين -والمراد: ساقة الجيش- فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم، فإذا براذين مربوطة -جمع برذون، والبرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، وهو عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحافر- فإذا براذين مربوطة نحو ثلاثين، والكنيسة إلى جانبهم -يعني: هؤلاء الفرسان هم الذين كانوا دائماً يصيبون ساقته في الكمائن- فنزل عن فرسه فربطه، وقد انفرد عن إخوانه المائة الذين كانوا معه، فلما رأى ثلاثين برذوناً عرف أن في الكنيسة ثلاثين فارساً، فدخل الكنيسة، فأغلق عليه وعليهم بابها انظروا إلى الشجاعة والهمة العالية، حتى لا يهربوا وهو واحد- فجعلت الروم تعجب من إغلاقه، يعني: كيف تصل به الشجاعة إلى أن يغلق الباب عليهم أجمعين، مع أنه واحد فقط، فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع منهم ثلاثة، وفقده أصحابه في ذلك الوقت، فطلبوه، فوجدوا الفرس الخاص به مربوطاً إلى جوار هؤلاء البراذين، فعرفوه، وسمعوا الجلبة والأصوات من داخل الكنيسة، فأتوها فإذا بابها مغلق، فقلعوا بعض الخشب من السقف ونزلوا عليهم، وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده، قد أصابه هؤلاء الفرسان، وقد قتل منهم ثلاثة وبقي سبعة وعشرون، وظل يقاتل سبعة وعشرين وهو وحده، فجرحوا منه بطنه، فانزلقت أمعاؤه، فأخذ يقاتلهم وهو ممسك الأمعاء بيده حتى لا تسقط، ونزلوا عليهم وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده، والسيف بيده اليمنى، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بسر مغشي عليه، فأقبلوا على أولئك فأسروا وقتلوا، فأقبلت الأسارى فقالوا: ننشدكم الله، من هذا؟ قالوا: بسر بن أبي أرطأة ، فقالوا: والله! ما ولدت النساء مثله. فعمدوا إلى أمعائه فردوها إلى جوفه، ولم ينخرط منها شيء، ثم ربطوه بعمائمهم وحملوه، ثم خاطوه فسلم وعوفي رحمه الله تعالى.

    علو همة الصحابة في جهاد الفرس

    كبيري الهمم من المجاهدين يهوون رفع الثقيل من الأمور، وخوض المخاطر، واقتحام العقبات، فأولئك النخعيون الذين تسابقوا على الاستشهاد في معركة القادسية قال واحد منهم: أتينا القادسية، فقتل منا كثير من النخعيين ومن سائر الناس قليل، فسئل عمر رضي الله عنه عن ذلك فقالوا: إن النخع ولو أعظم الأمر وحدهم. يعني: هم الذين تجردوا للجهاد في هذه الوقعة.

    ورفع الله سبحانه وتعالى الحرج عن المعذورين، فقال عز من قائل: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91]، وقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]، فعذر الحق سبحانه وتعالى أصحاب الأعذار، لكن ما صبرت القلوب، الأبدان معذورة لكن القلوب لا تصبر ولا تتعاطى الرخصة، فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد، وطلب أن يعطى اللواء، مع أنه أعمى، فأخذه مصعب بن عمير ، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه بيده الأخرى، فضرب اليد الأخرى، فأمسكه بصدره، وقرأ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، هذه عزائم القوم، والحق يقول: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [النور:61]، وهو من هؤلاء المعذورين.

    عمرو بن الجموح من كبار الأنصار أعرج، وكان في أول الجيش، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد عذرك، فقال: والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة).

    وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.

    وكر الفرس كرة على غرة، فرجع المسلمون متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة؛ لأنه يجوز الفرار إذا كان لأجل الكر والفر أثناء القتال، يعني يفر من أمام العدو حتى يدور عليه من جهة أخرى أو يعود إلى كتيبة المسلمين يتزود منها ثم يعود، فالمسلمون لما بوغتوا وفوجئوا بهذه الحملة من الكفار، رجعوا حتى يرتبوا أنفسهم ويعودوا للقتال، فطاردهم هؤلاء المشركون الفرس، فلم يستطيعوا أن يأسروا منهم أحداً إلا أضعف الناس سيراً وقت الانسحاب أو التقهقر، فاختطفوه أسيراً وعادوا به.

    تصوروا الآن أضعف واحد في الجيش الإسلامي كيف كان مفهوم الجهاد في سبيل الله في حسه، هذا هو الأضعف الذي لم يستطع الجري ومن ثم أسر، انظروا مستوى الوعي والفهم لحقيقة رسالته في هذه الحياة.

    قال له رستم قائد جيش الفرس: ما جاء بكم؟ وما تطلبون؟ فقال له هذا المسلم: جئنا نطلب موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأبناؤكم إن أبيتم أن تسلموا، ومن قتل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا وعده، فنحن على يقين.

    قال: قد وضعنا إذاً في أيديكم! فقال له المسلم: ويحك يا رستم ! إن أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى من حولك، فإنك لست تحارب الإنس، وإنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره، هذا الرجل الذي هو أضعف واحد في جيش المسلمين، انظر كيف فهمه لغايته في الجهاد.

    أوجز خالد بن الوليد وأبلغ حين وصف جنود الإسلام وهو يخاطب الفرس: قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة، هذا وصف صادق باختصار شديد، وهذا ما يعرفه كل أعداء الإسلام في شتى الأعصار والأزمان.

    علو همة التابعين في الجهاد

    التابعي الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأزدي رحمه الله، كان من نتاج تربية الأربعة الخلفاء الراشدين وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.

    عاف التجارات والبيوت؛ لانشغاله بالجهاد، لم يكن له بيت يدخل فيه، ولم يكن يشتغل في تجارة، وما كان يعرف أي شيء عن هذه الأشياء، بنى له في الكوفة خصاً صغيراً يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، مساحة الخص الذي اتخذه تحتمل جسده والفرس والسلاح فقط.

    وبقي طول عمره متحفزاً للجهاد، يخرج للجهاد ويعود إلى هذا الحصن، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس؛ لأنه لم يمارس هذه الأشياء أبداً، وإنما عاش كل حياته من الجهاد وإلى الجهاد.

    وكان إذا خلى ينشج -يعني: يبكي بصوت وتوجع- من خشية الله سبحانه وتعالى، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل، وكان له خص يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وإذا رجع بناه.

    هكذا كانوا يمضون نحو غايتهم الكبرى لا يلتفتون إلى الوراء، ويقول أحدهم غير وجل ولا آسف:

    وأراني أسمو بسعيي ووعيي عن جزاء من معدن الأرض بخس

    حسب نفسي من الجزاء شعوري أنني في الإله أبذل نفسي

    يعني: يسمو ويتعالى عن أن يكون هدفه من الجهاد في سبيل الله عن جزاء من معدن الأرض بخس من ذهب أو فضة أو مال.

    وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى وهو الإمام المجاهد الكبير:

    بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفس بما ليست له ثمناً

    إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا

    وعن موسى بن أبي إسحاق الأنصاري أن علي بن أسد كان قد قتل وصنع أموراً عظاماً -من الظلم والخطايا- فمر ليلة بالكوفة، فإذا برجل يقرأ من جوف الليل: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فلما سمع الآية قال علي : أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، فعمد فاغتسل، ثم غسل ثيابه، فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي بعير، فغزا في البحر، فلقي الروم، واقتربت مراكبهم من مراكب العدو، قال علي : لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً، يعني: هذه الفرصة لا أضيعها، لأني لا أعيش بعد اليوم، بل أطلب الشهادة الآن وهي توصلني إلى الجنة، فاقتحم بنفسه في سفائنهم، فمازال يضربهم وينحازوا، يعني: ينحازوا كلهم في جانب واحد، حتى مالوا في شق واحد فانكفأت بهم السفينة فغرق وعليه درع حديد رحمه الله تعالى.

    ويروى أن عقبة بن نافع وقف على شاطئ المحيط الأطلسي وخاض في مياهه بفرسه قائلاً: والله! أيها البحر، لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضتك وفتحتها بإذن الله.

    انظر الهمة في بلوغ غاية الإمكان؛ لأن هذا أقصى ما استطاع أن يصل إليه، فحتى يمعن في التعبير عن هذا الإصرار خاض في البحر خطوات، وكان لا يعرف أن هناك أرضاً وراء هذا البحر.

    علو همة السلاجقة في الجهاد

    في عام (463) من الهجرة سار ملك الروم أرمنوس إلى بلاد المسلمين بمائتي ألف مقاتل على أقل تقدير للمؤرخين، كان هذا الجيش كثيفاً، يضم أخلاطاً من الروم والفرنجة والروس والصرب والأرمن والبوشناق، واتخذ طريقه إلى العراق، وقبل أن ينطلق من أوروبا أقطع بطارقته الأرض حتى بغداد، الأرض من المكان الذي هو فيه إلى بغداد كلها وزعها على البطارقة، أنت ستملك كذا، وأنت ستحكم كذا ... إلى آخره، فجعل إقطاعات لهم كأنه ضامن أنه سيستولي على هذه الأرض كلها، فأقطع بطارقته الأرض حتى بغداد، وعين له نائباً على بغداد قبل أن يسير، واستوصى نائبه بالخليفة خيراً.

    وقد عزم أرمنوس أن يبيد الإسلام وأهله، وإذا انتهى من العراق وخراسان مال على الشام ميلة واحدة، فأباد المسلمين فيها أيضاً.

    خرج أرمنوس من القسطنطينية متجهاً نحو الشرق، فوصل إلى ملاذ كرد، في شرقي تركيا اليوم على مقربة من بحيرة (وان) وأتى الخبر إلى ألب أرسلان السلطان السلجوقي وهو في أذربيجان وقد عاد من حلب، فلم يتمكن من جمع الجند لبعده عن مقر حكمه، ولقرب العدو منه، فسار بمن معه وهم خمسة عشر ألفاً. يعني: خمسة عشر ألفاً يواجهون مائتي ألف.

    سار متوكلاً على الله سبحانه وتعالى للقاء هذا العدو، وقال: إنني أقاتل محتسباً صابراً، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملك شاة ولي عهدي.

    وجد في السير وأرسل مقدمته أمامه، فالتقت عند مدينة خلاط بمقدمة الروم، وكان عددهم عشرة آلاف، فهزم الروم بإذن الله، وأسر قائدهم.

    واقترب الجمعان بعضهما من بعض، وأرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه الهدنة، فقد خافه لكثرة من معه، إذ يعادل جند ملك الروم خمسة عشر ضعف المسلمين، غير أن ملك الروم قد أخذته العزة بالإثم فقال: لا هدنة إلا في الري، ومدينة الري هي طهران، ولم يدر أنه يقدم قومه إلى الهاوية، فتأثر السلطان من هذا الرد المتغطرس، فاستشار إمام جنده أبا نصر محمد بن عبد الملك البخاري ، فأجابه إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة، وكان يومها يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وجاء يوم الجمعة، وحان وقت الزوال، فصلى أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بالناس، فبكى السلطان وبكى الناس لبكائه ودعوا معه بعد الصلاة، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وإنما الجهاد والرغبة في لقاء الله.

    ثم ألقى القوس وأخذ السيف، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني. وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما اقترب منهم ترجل -أي: نزل عن الفرس- ومرغ وجهه في التراب وبكى، وأكثر من الدعاء وطلب النصر من الله سبحانه وتعالى.

    ثم ركب وحمل على الروم، وحمل المسلمون حتى وصلوا إلى وسط الروم، وحجز الغبار بينهم، وما هي إلا جولة حتى أنزل الله نصره، وهزمت الروم، ومنحوا المسلمين أجسادهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً حتى امتلأت الأرض بالجثث، وقدر عدد القتلى بمائة وخمسين ألفاً، أي أن كل مسلم قد قتل عشرة من الروم، ووقع ملك الروم أرمنوس وبطارقته جميعاً أسرى بأيدي المسلمين، وحمل أرمنوس إلى السلطان ألب أرسلان ، فلما وقف بين يديه ضربه على رأسه بالعصا ثلاث مرات، وقال: لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟ قال: كل قبيح، قال: فما ظنك بي؟ قال: إما أن تقتل بعد أن تشهر بي في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني، قال: ما عزمت على غير العفو والفداء، فافتدى نفسه بمليون ونصف من الدنانير، فقام بين يدي السلطان، وسقاه شربة من ماء، وقبل الأرض بين يديه، وقد ترك له السلطان عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة الأسرى.

    علو همة يعقوب المراكشي في الجهاد

    من علو همة السلطان المنصور أبي يوسف يعقوب بن السلطان يوسف بن السلطان عبد المؤمن بن علي المغربي المراكشي الظاهري أنه كتب إليه الأدفنش يهدده، والأدفنش هو القائد من الكفار في الأندلس، فكتب إليه الأدفنش يهدده ويعنفه، ويطلب منه بعض البلاد، ويقول: ما لك تتباطأ، أنا أتخذ حداً للقتال، وأنت تتباطأ، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطأ بك أو التكذيب بما وعد نبيك؟

    يعني: لو كنت تعتقد أن هناك جنة وهناك ثواب، وأنك إذا قتلت ستدخل الجنة، فما الذي يمنعك من أن تأتي حتى تقاتلني؟!

    فلما قرأ الكتاب تنمر وغضب ومزقه وكتب على رقعة منه بعدما مزقه: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]، الجواب ما ترى لا ما تسمع.

    ولا كتب إلا المشرفية عندنا، ولا رسل إلا الخميس العرمرم أي: الجيش.

    ثم استنفر سائر الناس، وحشد وجمع، حتى احتوى ديوان جيشه على مائة ألف، ومن المطوعة مثلهم، وذهب إلى الأندلس، فتمت الملحمة الكبرى، ونزل النصر والظفر، فقيل: غنموا ستين ألف درع، وقال ابن الأثير : قتل من العدو مائة ألف وستة وأربعون ألفاً، ومن المسلمين عشرون ألفاً.

    علو همة صلاح الدين الأيوبي

    نتكلم عن علو همة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، وإذا أردنا أن نتكلم عن حال الأمة عند صدق الهمم لا نحتاج إلى الكلام؛ لأنه واقع نعيشه بكل مرارته، يكفي إن القدس تضيع رسمياً بهذه الصورة، والناس ليس على بالهم على الإطلاق موضوع القدس التي ضاعت أو كادت بصورة مذلة ومهينة، حتى كأنه لا تتحرك شعرة في بلاد المسلمين لهذا المصيبة ولهذه المذلة ولهذا الهوان، فانظر إلى صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، كان يقول القاضي ابن شداد : كان رحمه الله عنده من أمر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، فهو كالوالدة الثكلى -أي: الأم التي مات ابنها- من الحزن على بيت المقدس، يجول بنفسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، وينادي: يا للإسلام! وعيناه تذرفان الدموع.

    ونظر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شداد وقال: ألا أخبرك شيئاً في نفسي: إنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد ووطيت ووسعت، وركبت هذا البحر إلى جزائله، وأتبعتهم - يعني: الصليبيين - فيها - يعني: في ديارهم في أوروبا - حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت. فهذه هي همة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى.

    بعد وقعة حطين التي هزم فيها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله هؤلاء الصليبيين هزيمة منكرة، حتى أنه باع بعض الفقراء من المسلمين أسيراً بنعل، فقيل له في ذلك، فقال: أردت هوانهم. يعني: أن الأسير الكافر يساوي عندي نعلاً، ويمكن أن يأخذ فيه مالاً أكثر من ذلك إذا بيع كعبد، لكن قال: بعته بنعل أردت هوانهم.

    فانظروا الآن المشهد المرير الذي حصل أثناء حرب الخليج كيف الجندي العراقي وقف يقبل حذاء الجندي الأمريكي، الله أعلم بحقيقة هذا الأمر، هل هو تمثيل أم غير تمثيل، لكن يكفي هذا الأمر الأليم حيث يقبل قدم الجندي الأمريكي ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    وحكى بعضهم أنه لقي بحوران رجلاً واحداً ومعه صلب خيمة -عمود خيمة- قد ربط فيه نيفاً وثلاثين أسيراً، يجرهم وحده، هو وحده أسر ثلاثين أسيراً من الصليبيين يجرهم في هذه الخشبة، وقد ربطهم بها للخذلان الذي وقع عليهم.

    وقال عماد الكاتب في حصاد موقعة حطين قال: فمن شاهد القتلى يومئذ قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل، يعني من كثرة أعداد الأسرى والقتلى.

    علو همة السرماري في الجهاد

    من منازل علو الهمة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى علو همة فارس الإسلام السرماري وهو الذي قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في وصفه: الإمام الزاهد العابد المجاهد فارس الإسلام أبو إسحاق ، يقول الذهبي : وكان أحد الثقاة، وبشجاعته يضرب المثل. وقال أيضاً في موطن آخر: أخبار هذا الغازي تسر قلب المسلم. وقال: قال إبراهيم بن عفان البزاز : كنت عند أبي عبد الله البخاري ، فجرى ذكر أبي إسحاق السرماري فقال: ما نعلم في الإسلام مثله. فخرجت فإذا أحمد رئيس المطوعة ، فأخبرته بما قاله أبو عبد الله البخاري في السرماري ، فلما سمع أحمد بذلك غضب، ودخل على البخاري وسأله، فقال: ما كذا قلت! بل ما بلغنا أنه كان في الإسلام ولا في الجاهلية مثله. يعني: في الشجاعة. وعن أحمد بن إسحاق السرماري قال: ينبغي لقائد الغزاة أن يكون فيه عشر خصال: أن يكون في قلب الأسد لا يجبن، وفي كبر النمر لا يتواضع للأعداء، وفي شجاعة الدب يقتل بجوارحه كلها، وفي حنة الخنزير لا يولي دبره، وفي غارة الذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أكثر من وزنها، وفي الثبات كالصخر، وفي الصبر كالحمار، وفي الوقاحة كالكلب لو دخل صيده النار لدخل خلفه، وفي اقتناص الفرصة كالديك. قال إبراهيم بن شماس : كنت أكاتب أحمد بن إسحاق السرماري فكتب إلي: إذا أردت الخروج إلى بلاد الغزية في شراء الأسرى فاكتب إلي. فكتبت إليه، فقدم سمرقند، فخرجنا، فلما علم جعبويه استقبلنا في عدة من جلوسه -وهو قائد جيش الكفار- فأقمنا عنده، فعرض يوماً جيشه -وهو الاستعراض العسكري- فمر رجل، فعظمه وخلع عليه -أي: أن هذا جندي في جيش الكفار أخذ جعبويه يمدحه ويعظمه، وخلع عليه من الهدايا والهبات- فسألني عن السرماري فقلت: هذا رجل مبارز يعد بألف فارس. قال: أنا أبارزه. فسكت، فقال: جعبويه : ما يقول هذا؟ قلت: يقول كذا وكذا. قال: لعله سكران لا يشعر، ولكن غداً نركب. فلما كان الغد ركبوا، فركب السرماري ومعه عمود خبأه في كمه، فقام بإزاء المبارز الذي هو مقدم عندهم، فقصده فهرب أحمد حتى باعده من الجيش، فظل يتراجع ويظهر التراجع أمامه حتى يبعده عن باقي الجيش، ثم كر عليه وضربه بالعمود فقتله، فتبعه إبراهيم بن شماس -لأنه كان سبقه- فلحقه، وعلم زيغويه فجهز في طلبه خمسين فارساً نقاوة فأدركوه، فثبت تحت تل من الرمال مختفياً، حتى مروا كلهم واحداً بعد واحد، وجعل يضربهم بعموده من ورائهم، إلى أن قتل تسعة وأربعين من الوراء، وأمسك واحداً، فقطع أنفه وأذنيه وأطلقه حتى يرجع ويخبر بما حدث؛ لأنه شاهد عيان. ثم بعد عامين توفي أحمد ، وذهب ابن شماس في الفداء فقال له جعبويه : من ذاك الذي قتل فرساننا؟! قال: ذلك أحمد السرماري . قال: فلم لم تحمله معك؟ قلت: توفي. فصك في وجهي -أي: ضربه في وجهه- وقال: لو أعلمتني أنه هو لكنت أعطيته خمسمائة برذون وعشرة آلاف شاة. وعن عبيد الله بن واصل قال: سمعت أحمد السرماري يقول وأخرج سيفه: أعلم يقيناً أني قتلت به ألف تركي، وإن عشت قتلت به ألفاً آخر، ولولا خوفي أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي. فانظر إلى غاية اتباعه وورعه في أدق الأشياء، يعني: لولا خوفه أن يكون بدعة لأوصى أن يدفن سيفه معه في قبره، مع أن هذا السيف استعمله في الجهاد، فيا عجباً ممن يوصي أن يدفن معه العود -آلة الموسيقى- في قبره! وعن محمود بن سهل الكاتب قال: كانوا في بعض الحروب يحاصرون مكاناً، ورئيس العدو قاعد على صفة -يعني: على ظلة وعلى بهو واسع وسقفه عال-، فرمى السرناري سهماً فغرزه في الصفة، فأومأ الرئيس إلى أحد الجند لينزعه، فرماه بسهم آخر فأصاب يده فثبتها في الخشبة، فتطاول الكافر لينزعه من يده فرماه بسهم ثالث في نحره، فانهزم العدو وكان الفتح. وعن عمران بن محمد المطوعي قال: سمعت أبي يقول: كان عمود السرناري ثمانية عشر مناً، والمن رطلان، فلما شاخ جعله اثني عشر مناً، وكان يقاتل بالعمود رحمه الله تعالى.

    علو همة اللؤلؤ العادلي في الجهاد

    من هؤلاء الأبطال اللؤلؤ العادلي ، كان يلقب بالحاجب، يقول الذهبي : من أبطال الإسلام، وهو كان المندوب لحرب فرنج الكرك الذين ساروا لأخذ طيبة، وساروا في البحر المالح.

    فسمع اللؤلؤ العادلي الحاجب رحمه الله تعالى بسرية من الكفار من فرنج الكرك أو عدد منهم يقولون: نحن ذاهبون إلى طيبة المدينة النبوية لاستخراج جسد الرسول صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله!

    فسمع بخبرهم، فلم يسر لؤلؤ إلا ومعه قيود بعدد هؤلاء الذين خرجوا في هذه الحملة، فأدركهم عند الأحلتين، فأحاط بهم، فسلموه نفوسهم وهو لوحده، فقيدهم، وكانوا أكثر من ثلاثمائة مقاتل، وأقبل بهم إلى القاهرة فكان يوماً مشهوداً.

    من علو الهمة في الجهاد

    هذا مجاهد آخر ينتدب نفسه للمهمة الجسيمة، ويمضي نحو همته، ويلح سائلاً مولاه يقول:

    فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف

    ولكن قبري بطن نسر نقيله بجو السماء في نسور عواسف

    وأوصي شهيداً خاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف

    فوارس من بغداد ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف

    إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف

    قوله:

    فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف

    يعني: يقول: يا رب! إن حضرني أجلي وحانت وفاتي، فيدع الله سبحانه وتعالى ألا يموت موتاً عادياً كما يموت سائر الناس، فلا تكن وفاتي على نعش، لا يحب أن يحمل على نعش، انظر الهمة هنا عالية بدرجة غريبة جداً، يقول: إذا أتى أجلي فيدعو الله ألا تكون وفاته بحيث يحمل على نعش.

    يعلى بخضر المطارف، هي أطراف الأيدي، علو النعش بجسدي وجثتي بعد موتي ترتفع على أيدي الناس، يقول: هذا دنو همة، وهذا ما أقبله أن أموت على فراشي حتى يرفعني الناس بأيديهم، وأخذلهم على الأرض، ما زالوا في الأرض، وأيديهم هي التي ترفعني داخل النعش، فيدعو الله ألا تكون هذه ميتته.

    فيقول: يا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف

    ولكن قبري بطن نسر نقيله بجو السماء في نسور عواسف

    يقول: اجعل قبري بطن النسور، حتى تحلق بي إلى أعلى آفاق السماء، ولا أدفن في الأرض، يعني يكون شهيداً فتأكله النسور وتتخطفه، فبالتي تستقر جثته في داخل هذه النسور التي تحلق إلى فوق، فجثته ترتفع بأيدي النسور إذا أكلتها، لا بأيدي الرجال إذا حملوه في النعش، فهو لا يحلق بروحه السامية في فلك الشموخ فحسب، بل بجسده أيضاً، بحيث أن الكفار لا يستطيعون أن يصلوا إلى جثته؛ لأنه استقر في بطون النسور، فيراغم الكفار ويغايضهم ميتاً كما راغمهم حياً.

    وهذا بلا شك حري بقول الشاعر:

    علو في الحياة وفي الممات لحق تلك إحدى المكرمات

    يبحث عن علو في الحياة وهو حي، وأيضاً إذا مات يبحث عن العلو حتى لا يتمكن الكفار أن ينالوا جثتة، بل ترتفع إلى آفاق السماء في داخل بطون النسور.

    ثم يقول:

    وأمسي شهيداً خاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف

    يعني: مطمئن منخفض.

    فوارس من بغداد ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف

    شجعان في مقاتلة الأعداء.

    إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف

    وهي الجنة التي بشر بها الشهداء.

    وعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس إلى قدميه عند موته فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟! قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله عز وجل.

    هذا الإمام الجليل عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى يعقد مقارنة بين من تخلى للعبادة وبين من آثر الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، في قصيدة أرسلها إلى عابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول له:

    يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

    من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

    أو كان يجري خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب

    ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب

    سنابك جمع سنبك وهو طرف السيوف.

    ولقد أتانا عن مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب

    لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب

    هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب

    أيضاً الإمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى يعبر عن علو همته في الحياة فيقول:

    منايا من الدنيا علوم أبثها وأنشرها بكل باد وحاضر

    دعاء إلى القرآن والسنن التي تناسى رجال ذكرها في المحاضر

    وألزم أطراق الثغور مجاهداً إذا هيعة سارت فأول نافري

    لإلقى حمامي مقبلاً غير مدبر بسمر العوالي والرقاق البواسل

    كفاح مع الكفار في حومة الوغى وأكرم موت لفتى قتل كافر

    فيا رب لا تجعل حبالي بغيرها ولا تجعلني من قتيل المقابر

    يعني: من سكان المقابر.

    هذا الإمام الجليل أبو القاسم محمد بن أحمد المالكي رحمه الله تعالى المتوفي سنة (741) من الهجرة يقول قبل أن يستشهد مباشرة:

    قصدي المأمل في جهري وإسراري ومطلبي من إله الواحد الباري

    شهادة في سبيل الله خالصة تمحو ذنوبي وتنجيني من النار

    إن المعاصي رجس لا يطهرها إلا الصوارم في أيمان كفار

    فبعد أن أنشد الأبيات قال: أرجو الله أن يعطيني ما سألته في هذه الأبيات، فأعطاه الله ما تمنى، وقتل في نفس اليوم، في موقعة طريق مع النصارى، بعد أن أبلى في قتالهم بلاء حسناً رحمه الله، وأعلى درجته في الشهداء.

    هذا ما تيسر من النماذج من جهاد السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في إعزاز هذا الدين، وعلو همتهم في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

    ولولا هذه الهمة العالية لما ذاع الإسلام وشاع في أقطار الأرض بهذه الطريقة، ولما وصلتنا هذه النعمة، ولما تشرفنا بهذا الشرف العظيم الذي هو شرف الانتماء إلى دين الحق وإلى أمة التوحيد.

    علو همة السرناري في الجهاد

    من منازل علو الهمة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى علو همة فارس الإسلام السرناري وهو الذي قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في وصفه: الإمام الزاهد العابد المجاهد فارس الإسلام أبو إسحاق ، يقول الذهبي : وكان أحد الثقاة، وبشجاعته يضرب المثل.

    وقال أيضاً في موطن آخر: أخبار هذا الغازي تسر قلب المسلم، وقال: قال إبراهيم بن عفان البزاز : كنت عند أبي عبد الله البخاري ، فجرى ذكر أبي إسحاق السرناري فقال: ما نعلم في الإسلام مثله، فخرجت، فإذا أحمد رئيس المطوعة فأخبرته بما قاله أبو عبد الله البخاري في السرناري ، فلما سمع أحمد بذلك غضب، ودخل على البخاري وسأله، فقال: ما كذا قلت! بل ما بلغنا أنه كان في الإسلام ولا في الجاهلية مثله يعني: في الشجاعة.

    وعن أحمد بن إسحاق قال: ينبغي لقائد الغزاة أن يكون فيه عشر خصال -وهو أحمد بن إسحاق السرناري الذي نتكلم عنه رحمه الله-: أن يكون في قلب الأسد لا يجبن، وفي كبر النمر لا يتواضع للأعداء، وفي شجاعة الدب يقتل بجوارحه كلها، وفي حنة الخنزير لا يولي دبره، وفي غارة الذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أكثر من وزنها، وفي الثبات كالصخر، وفي الصبر كالحمار، وفي الوقاحة كالكلب لو دخل صيده النار لدخل خلفه، وفي اقتناص الفرصة كالديك.

    قال إبراهيم بن شماس : كنت أكاتب أحمد بن إسحاق السرناري فكتب إلي: إذا أردت الخروج إلى بلاد الغزية في شراء الأسرى فاكتب إلي، فكتبت إلي، فقدم سمرقند، فخرجنا، فلما علم زيغويه استقبلنا في عدة من جلوسه، فأقمنا عنده، وهو قائد جيش الكفار، فأقمنا عنده، فعرض يوماً جيشه -استعراض عسكري- فمر رجل، فعظمه وخلع عليه -أي: هذا جندي في جيش الكفار، أخذ زيغويه يمدح هذا الرجل ويعظمه، وخلع عليه من الهدايا والهبات- فسألني عن السرناري فقلت: هذا رجل مبارز يعد بألف فارس، قال: أنا أبارزه، فسكت، فقال: زيغويه : ما يقول هذا؟ قلت: يقول كذا وكذا، قال: لعله سكران لا يشعر، ولكن غداً نركب -يعني: لعل صاحبك السرناري لا يدري ما يقول، لكن غداً نركب- فلما كان الغد ركبوا، فركب السرناري ومعه عمود خبأه في كمه.

    فقام بإزاء المبارز الذي هو مقدم عندهم، فقصده فهرب أحمد حتى باعده من الجيش، فظل يتراجع ويظهر التراجع أمامه حتى يبعده عن باقي الجيش، ثم كر عليه وضربه بالعمود فقتله، فتبعه إبراهيم بن شماس ؛ لأنه كان سبقه فلحقه، وعلم زيغويه فجهز في طلبه خمسين فارساً نقاوة فأدركوه، فثبت تحت تل من الرمال مختفياً، حتى مروا كلهم واحداً بعد واحد، وجعل يضربهم بعموده من ورائهم، إلى أن قتل تسعة وأربعين من الوراء، وأمسك واحداً، فقطع أنفه وأذنيه وأطلقه حتى يرجع ويخبر بما حدث؛ لأنه شاهد عيان.

    ثم بعد عامين توفي أحمد ، وذهب ابن شماس في الفداء فقال له زيغويه : من ذاك الذي قتل فرساننا؟! قال: ذلك أحمد السرناري ، قال: فلم لم تحمله معك؟ يعني: هذه المرة لماذا لم تحضره معك؟

    قلت: توفي، فصك في وجهي -ضربه في وجهه- وقال: لو أعلمتني أنه هو، لكنت أعطيته خمسمائة برذون وعشرة آلاف شاة.

    وعن عبيد الله بن واصل قال: سمعت أحمد السرناري يقول وأخرج سيفه: أعلم يقيناً أني قتلت به ألف تركي، وإن عشت قتلت به ألفاً أخر، ولولا خوفي أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي. انظر غاية اتباعه وورعه في أدق الأشياء، يعني: لولا خوفه أن يكون بدعة لأوصى أن يدفن سيفه معه في قبره، مع أن هذا السيف استعمله في الجهاد، فيا عجباً! ممن يوصي أن يدفن معه العود -آلة الموسيقى- في قبره ومثل هذا الكلام الذي يفعله هؤلاء المخذولون.

    وعن محمود بن سهل الكاتب قال: كانوا في بعض الحروب يحاصرون مكاناً، ورئيس العدو قاعد على صفة، -يعني: على ظلة وعلى بهو واسع وسقفه عال- فرمى السرناري سهماً فغرزه في الصفة، فأومأ الرئيس إلى أحد الجند لينزعه، فرماه بسهم آخر فأصاب يده فثبتها في الخشبة، فتطاول الكافر لينزعه من يده فرماه بسهم ثالث في نحره، فانهزم العدو وكان الفتح.

    وعن عمران بن محمد المطوعي قال: سمعت أبي يقول: كان عمود السرناري ثمانية عشر مناً، والمن رطلان، فلما شاخ جعله اثني عشر مناً، وكان يقاتل بالعمود رحمه الله تعالى.

    1.   

    علو الهمة في البحث عن الحق

    بقي الكلام في مجال واحد من مجالات علو الهمة، وهو علو الهمة في البحث عن الحق، وفيه شيء من الطول، ونقتصر في هذه الليلة على قصة واحدة من قصص علو الهمة في البحث عن الحق، ونكمل إن شاء الله فيما سيأتي بإذن الله.

    حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين، الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وبذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثاً عن الحق مخلصاً لله تعالى، فإن الله يهديه إليه، ويمن عليه بأعظم نعمة في الوجود، نعمة الإسلام.

    علو همة سلمان الفارسي في البحث عن الحق

    من هذه النماذج بل أشهرها، قصة سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، جلس يوماً تحت داره المتواضعة في المدائن، وأحاط به جلساؤه ينصتون لحديثه ولقصته في البحث عن الحقيقة، وروى لهم كيف ترك دين قومه -الفرس- إلى النصرانية ثم إلى الإسلام، وكيف ضحى في سبيل البحث عن الحقيقة الكبرى بثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثاً عن خلاص عقله وروحه.

    كيف بيع في سوق الرقيق في طريق بحثه عن الحقيقة، كيف التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف آمن به، إنه سلمان الفارسي أو سلمان الخير صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول وهو يحكي قصته:

    كنت رجلاً من أهل أصفهان من قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان أرضها -أي: رئيس القرية- وكنت من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها ولا يتركها تخمد.

    المجوسيون الذين يعبدون النار يتركونها مشتعلة باستمرار في مكان العبادة، بحيث لا تنطفئ أبداً، فكان سلمان الفارسي قاطن النار، يعني كان هو القيم على النار، وكان هو موقدها.

    يقول: وكان لأبي ضيعة أرسلني إليها يوماً، فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلون، فدخلت عليهم لأنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غربت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري.

    وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام، وقلت لأبي حين عدت إليه: إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديداً، وحبسني.

    وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها، لأرحل إلى الشام معهم، ففعلوا، فحطمت الحديد، وخرجت وانطلقت معهم إلى الشام، وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي: هو الأسقف صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدمه وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها، ثم يكتنزه لنفسه، ثم مات.

    وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينه خير منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة، وزهداً في الدنيا، ودأباً على العبادة، وأحببته حباً ما علمت أني أحببت أحداً مثله قبله، فلما حضره قدره -يعني: أجله- قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى من توصي بي؟

    قال: أي بني! ما أعرف أحداً من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجل من الموصل، فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته، فدلني على عابد في نصيبين، فأتيته فأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرة وغنيمة، ثم حضرته الوفاة.

    انظر إلى الدأب، كلما يموت واحد يسأله عن غيره ممن يعرفون الحق، كما جاء في الحديث: {إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم كلهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب}.

    ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني! ما أعرف أحداً على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفاً عليه الصلاة والسلام، مهاجره إلى أرض ذات نخل بين حرتين - الحرة: الجبال ذات الحجارة السوداء - فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آيات - علامات - لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.

    ومر بي ركب ذات يوم فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم .. قالوا: نعم.

    واصطحبوني معهم، حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من اليهود، وظفرت بنخل كثير بوادي القرى، فطمعت أن تكون هي البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تكنها، وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوماً رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله! ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي.

    وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة، حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى قدم المدينة، ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف، وإني لفي رأس نخلة يوماً، وصاحبي جالس تحتها، إذ أقبل رجل من يهود من بني عمه فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة! -يقصد الأنصار- إنهم ليتخاطفون -يعني: يتتابعون ويجتمعون ويتزاحمون استعداداً لحدث خطير جداً وهو استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم- قاتل الله بني قيلة! إنهم ليتخاطفون على رجل بقباء، قادم من مكة، يزعمون أنه نبي. فوالله! ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العرواء -رعشة الحمى- فرجفت النخلة -أي: من الارتعاش الذي أصابه- حتى كدت أسقط فوق صاحبي.

    ثم نزلت سريعاً وقلت: ما الخبر؟

    فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال لي: مالك ولهذا؟! أقبل على عملك، فأقبلت على عملي، ولما انتهيت جمعت ما كان عندي من التمر، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، فدخلت عليه، ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به، فجئتكم به، ثم وضعته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه يده. لماذا؟

    لأنها صدقة.

    فقلت في نفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة.

    ثم رجعت وعدت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي أحمل طعاماً فقلت للرسول صلى الله عليه وسلم: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، فقلت لنفسي: هذه والله الثانية، إنه يأكل الهدية.

    ثم رجعت، فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فموجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة، ومرتدياً الأخرى -كان يلبس إزاراً ورداء على كتفه كلبس الحجاج في الإحرام- فسلمت عليه، ثم استدرت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك -فهم الرسول عليه السلام أن سلمان يبحث عن علامة الخاتم النبوة بين كتفيه- فألقى بردائه عن كاهله، وكشف له ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي، ثم دعاني صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن.

    من أين عرف ذلك الأسقف؟ عرف ذلك من كتبهم، وحتى الآن مازالت علامة خاتم النبوة، موجودة في التوراة وفي الإنجيل رغم التحريف الذي وقع، لكن هذه لم تحرف إلى الآن، وأنا في الحقيقة ما تفرغت لآتينكم بهذا النص، فأرجو فيما بعد أن تذكروني حتى آتيكم بنص موجود في كتابهم المقدس فيه إخبار عن شخص يأتي بالنبوة علامته بين كتفيه، فربما تكون هذه النسخ حذفت فيها العلامات المفصلة؛ لأن فيه علامات أخرى مثل إنها كبيض الحجلة، وعليه شعيرات قليلة.

    ثم يقول سلمان : ثم أسلمت وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد، وفي ذات يوم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كاتب سيدك حتى يعتقك، فكاتبته}، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يعاونوني، وحرر الله رقبتي، وعشت حراً مسلماً، وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزة الخندق والمشاهد كلها.

    فبهذه الكلمات تحدث سلمان الفارسي عن رحلته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة العظمى التي تصله بالله، وترسم له دوره في الحياة، فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان! أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطبية، وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب، فقهرت المستحيل فجعلته ذلولاً!

    أي تمثل للحقيقة وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعاً مختاراً من متاع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه ومشاقه، ينتقل من أرض إلى أرض، ومن بلد إلى بلد، ناصباً كادحاً عابداً.

    صفحة بصيرته الناقية الناس والمذاهب والحياة، ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقاً، ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتي عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمين يملئون أركانها وأنحائها هدى ورحمة وعدلاً.

    نكتفي هذا المساء بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم قول: (واسطتي الله تعالى)

    السؤال: بعض الناس يقول عند تقديم معاملة: أنا واسطتي الله تعالى فما حكم هذا؟ الجواب: هذا التعبير لا يجوز؛ لأن الله يتوسل إليه ولا يتوسل به، والله سبحانه وتعالى ليس وكيلاً إلى غيره، فالله تعالى لا يكون واسطة، ولا يستشفع بالله على أحد، لكن يستشفع إلى الله عز وجل، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له بعض الصحابة: يا رسول الله! إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فغضب من ذلك وقال: إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه). فالشاهد أن هذا التعبير غير صحيح، ولا يجوز إذا قيل لك: (من واسطتك)، أن تقول: الله؛ لأن الله ليس واسطة، وليس وسيلة، إنما الله سبحانه وتعالى يتوسط إليه ويتوسل إليه، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57].

    حكم قول: واسطتي الله تعالى

    السؤال: بعض الناس يقول عند تقديم معاملة: أنا واسطتي الله تعالى، فما حكم هذا؟

    الجواب: هذا التعبير لا يجوز؛ لأن الله يتوسل إليه، ولا يتوسل به، والله سبحانه وتعالى ليس وكيلاً إلى غيره، بمعنى الله لا يكون واسطة، ولا يستشفع بالله على أحد، لكن يشفع إلى الله عز وحل كما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال له بعض الصحابة: {يا رسول الله! إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، غضب من ذلك وقال: إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه}.

    فالشاهد: أن هذا التعبير غير صحيح، ولا يجوز إذا قيل لك: من واسطتك، أن تقول: الله، لماذا؟ لأن الله ليس واسطة، الله ليس وسيلة، إنما الله سبحانه وتعالى يتوسط إليه ويتوسل إليه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755927618