إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [139]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صفات الله تعالى وأسماؤه قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وليس على العبد إلا التسليم بما دلت عليه النصوص، والحذر من اتباع من يعملون فكرهم ويقدمون آراءهم في مثل هذه المسائل، مجافين في ذلك ما دلت عليه النصوص، فلا يلبثون أن يضمحل باطلهم، وينهار أساس معتقدهم، فيبقون في حيرة وشك.

    1.   

    مسائل في باب ما جاء في قول الله: (وما قدروا الله حق قدره)

    تفسير قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة)

    قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الأولى: تفسير قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] ].

    تفسير هذه الآية سبق، وهو قوله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، وهذا بعدما ذكر عظم الشرك، فلما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]، ثم قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر:67].

    وهذا خطاب لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي: من الأنبياء لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وهو يدل على أنه ليس بين الإنسان وبين ربه صلة إلا بطاعة الله جل وعلا، فلو قدر أن نبياً من الأنبياء أشرك بالله لحبط عمله، ولأصبح من الخاسرين، وقد حمى الله جل وعلا أنبياءه من ذلك وعصمهم، وإنما ذكر هذا ليعلم المشرك شيئاً من عظمة الله.

    قال: وما قدروا الله يعني: ما عرفوا قدر الله وعظمته، ولهذا يقول المفسرون: وما عظموه حق تعظيمه.

    قال تعالى: والأرض جميعاً قبضته القبضة تكون باليد، وتكون داخل اليد، والأرض جميعاً قبضته، يقول ابن عباس رضي الله عنه: تكون الأرض في كف الرحمن كخردلة في كف أحدكم. ولله المثل الأعلى تعالى وتقدس، فتكون كخردلة صغيرة حقيرة بالنسبة لله جل وعلا.

    قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]، والله يوم القيامة يقبض الأرض، ويطوي السماء أيضاً بيده الأخرى، فجميع المخلوقات تكون بيديه جل وعلا على سعتها وعظمتها.

    صفات الله تعالى وما عند اليهود منها

    [ المسألة الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها ].

    يعني: الذي جاء في حديث ابن مسعود : (كان الرسول صلى الله وسلم جالساً مع أصحابه، فجاء حبر من أحبار اليهود -والحبر: هو العالم- فقال: يا محمد! إنا نجد -يعني: في الكتاب الذي نزل على موسى عليه السلام- أن الله يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والجبال على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الدنيا؟ يقول: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً لما قال، ونزل قول الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).

    وهذا من العلم المتوارث عن الأنبياء، وهو باق عند اليهود، وقد جاء كتابنا مصدقاً ومقرراً وموافقاً له، وهذا هو سبب ضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يفرح أن تكثر الشواهد التي تشهد على صدقه، وعلى صحة ما قاله وجاء به، فيفرح بذلك، وهذا سبب ضحكه صلوات الله وسلامه عليه.

    ولقد ضل من قال: إن ضحكه من جرأة اليهود على التشبيه. فهل يجوز أن يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفر؟! كلا والله، لا يضحك، وإنما يغضب ويكفهر وجهه وينكر الباطل، فكيف يقال هذا؟! لا يقول هذا عاقل.

    [ المسألة الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك ].

    اعترض معترض على هذا فقال: من المعلوم المتقرر أن هذه السورة مكية -أعني: سورة الزمر- وهذه الحادثة وقعت في المدينة، فكيف تنزل الآية؟

    فيقال: هذا الأمر سهل، فإما أن تكون الآية هذه نزلت مكررة، أو أنها نزلت في المدينة ولم تنزل في مكة، وهذا كثير في كتاب الله، فسور مكية تنزل فيها آيات مدنية في المدينة، فتوضع في المكان الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن توضع فيه، فليس هذا إشكالاً.

    [ المسألة الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم ].

    قلنا: إن الضحك في كونه وافق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مصدقاً له.

    ذكر يدي الله جل جلاله وإثبات شماله عز وجل

    [ المسألة الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى ].

    وقد جاء تسمية الأخرى شمالاً في صحيح مسلم وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يطوي السماوات بيمينه ويقذف الأرض بشماله)، وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً وجب قبوله والإيمان به؛ لأنه معصوم أن يقع في الخطأ، ولأنه صلوات الله وسلامه عليه ما يقول إلا ما يوحيه الله إليه، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] ، وأما ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أو قال: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين) وفي أحاديث أخرى كذلك أنه قال: (وكلتا يديه يمين) فالمقصود بذلك: كلتا يديه كاملة تامة لا يلحقها نقص. إذ المخلوق شماله ليست كيمينه، فشماله تكون ناقصة، والرب جل وعلا بخلاف ذلك، فكلتا يديه كاملة تامة لا يلحقها نقص، فهذا معنى قوله: (وكلتا يديه يمين).

    [ المسألة السادسة: التصريح بتسميتها الشمال ].

    قلنا: إن هذا ثابت في صحيح مسلم وفي غيره أيضاً، وأما قول من يقول: إن هذا شاذ، فهذا في الواقع خطأ، فالشذوذ لا يكون في مثل هذا الشيء المستقر، وإنما الشذوذ يكون في مخالفة ما هو ثابت عن الثقات، أما شيء يأتي تأسيساً في مثل أسماء الله جل وعلا فلا يقال: إن هذا شاذ.

    منازعو الله جل جلاله في صفاته ومصيرهم

    [ المسألة السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك ].

    يعني: عند ذكر عظمة الله جل وعلا يذكر الجبارون والمتكبرون الذين يتكبرون في الدنيا، ولهذا يكونون أحقر الخلق، فقد جاء أنهم يكونون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فالجبارون والمتكبرون يحشرون مع الناس أمثال الذر، فيصبحون تحت أقدام الناس؛ لأنهم نازعو الله جل وعلا في شيء من صفاته، فاستحقوا هذا الجزاء بذلك.

    [ المسألة الثامنة: قوله كخردلة في كف أحدكم ].

    هذا التمثيل -ولله المثل الأعلى- تقريب للأذهان فقط، وليس هذا تشبيهاً لصفات الله، وإنما هو تفهيم للمخاطبين للتقريب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) فهذا هو المثل.

    عظم الكرسي والعرش وماهية العرش

    [ المسألة التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء ].

    يعني: أنه أوسع من السماوات وأكبر.

    [ المسألة العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي ].

    يعني: أن العرش هو أعظم المخلوقات على الإطلاق، فأكبر المخلوقات على الإطلاق هو عرش الرحمن جل وعلا.

    [ المسألة الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء ].

    فهذا رد على من قال: إن الكرسي هو العرش، وقد جاء في القرآن ذكر الكرسي وذكر العرش، وأعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، وفيها قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وقد فسر بعض الناس الكرسي بالعلم، وهذا خطأ في التأويل، ولهذا رده الأئمة، وقرر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره، وقال: لو كان كذلك لكانت الآية فيها تكرار، والله جل وعلا ينزه أن يكون في كلامه تكرار.

    المسافة العظيمة بين السماوات وبين السماء السابعة والكرسي وبين الكرسي والماء

    [ المسألة الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. ].

    المقصود بهذا ذكر المسافة التي بين السماء والأرض، وبين السماء والسماء إلى آخر ما ذكر، وأن هذه المسافة وإن جاء الاختلاف في تحديدها بأنها مسيرة اثنين وسبعين عاماً أو خمسمائة عام فإن هذا يختلف باختلاف السير كما سبق.

    [ المسألة الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي ].

    المقصود أن البعد بين الكرسي والسماء السابعة مثل ما بين سماء وسماء، وهذا ارتفاع هائل جداً، ثم إن الكرسي تحت العرش، والعرش فوقه، والعرش على ماء، والماء ارتفاعه أيضاً وسمكه مثل ما ذكر في السماء، والمقصود ذكر علو الله جل وعلا، وأنه عالٍ على جميع المخلوقات بذكر هذه المسافات، وهذا أمر صرح به تصريحاً مع التحديد الذي لا يحتمل تأويلاً، ولا يحتمل غير العلو لله جل وعلا، لا علو القدر الذي فسروه به، ولا عظمة الخلق فقط، وإنما علو الله جل وعلا وارتفاعه على جميع مخلوقاته.

    [ المسألة الرابعة عشرة:كم بين الكرسي والماء ].

    المقصود بالماء البحر الذي عليه العرش، وهو فوق الكرسي.

    فوقية الله تعالى على عرشه وكون العرش على الماء

    [ المسألة الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.

    المسألة السادسة عشرة: أن الله فوق العرش ].

    نعم، وهذا تصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضح منه أن الله فوق العرش، ولا يجوز أن يقال: (فوق) بمعنى أعظم كما يقوله الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله، حيث قالوا: معنى (فوق العرش) أنه أكبر من العرش وأعظم.

    والمعنى واضح في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فالفوق هنا معناه العلو، أي أنه عال عليه مستوٍ عليه، ولهذا فسره السلف بالارتفاع والعلو، وبأنه مستقر على العرش ومستو عليه، ومرتفع وعال وصاعد عليه، هكذا جاءت تفاسيرهم بألفاظ أربعة، ففسروه بالعلو كما في صحيح البخاري عن أبي العالية ، وكذلك أنه ارتفع، وكذلك أنه استقر على العرش، وكذلك أنه صعد على العرش، فهذه التفاسير الأربعة جاء مفسراً بها قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ومع ذلك فالأصل واضح لا يحتمل تأويلاً.

    المسافة بين الأرض والسماء وصفة العرش

    [ المسألة السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض ].

    يعني: أن السماء الدنيا بينها وبين الأرض مثل ما ذكر في المسافة بين سماء وسماء، وبين السماء السابعة والكرسي، وبين الكرسي والبحر الذي عليه العرش، وفوق الماء عرش الرحمن، وهو أعظم المخلوقات وأوسعها، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أن كرسيه وسع السماوات والأرض.

    وسبق أن نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة من حديد ألقيت في أرض من الفلاة، فهو صغير بالنسبة إلى العرش، فالعرش أعظم مخلوقات الله على الإطلاق وأوسعها وأكبرها، ولهذا يسأل الله بذلك، فيقال: (ورب العرش العظيم)، كما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقو ل في دعائه: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض..) إلخ. فيأتي التوسل في ذكر ربوبيته للعرش وعظمة العرش بقوله: (رب العرش العظيم).

    وقد جاء هذا في مواضع متعددة من القرآن ، فمرة يوصف بالكرم رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، والكريم معناه: الواسع العظيم، ومرة يوصف بالعظمة رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129]، والشيء الذي يعظمه الله جل وعلا عظيم، فهو أعظم المخلوقات على الإطلاق.

    والعرش ليس مكوراً كالسماوات؛ لأنه له قوائم، وله حملة، أما السماوات فإنها مستديرة كل سماء محيطة بالتي تحتها، والسماء الدنيا محيطة بالأرض من جميع الجهات، والسماء التي فوقها محيطة بالتي تحتها، وهكذا.

    أما العرش فهو له قوائم، وله حملة، فليس مستديراً، بل هو أوسع من كل المخلوقات على الإطلاق وأعظمها وأكبرها.

    وقد جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فسقف الفردوس عرش الرحمن، فعرش الرحمن أعلى المخلوقات، والفردوس هي أعلى الجنان، ولا يكون الشيء وسطه أعلاه إلا إذا كان مكوراً على شبه الكرة، فهو الذي يكون وسطه أعلاه، لهذا قال وسط الجنة وأعلى الجنة.

    أما إذا كان مسطحاً فلا يكون كذلك، أي: لا يكون وسطه أعلاه، فما يلزم أن يكون وسطه أعلاه، ولهذا ذكر أنه منه تفجر أنهار الجنة، وأنهار الجنة تفجر من أعلى شيء في الجنة، فالفردوس هو أعلى الجنان، وهو أرفعها، وهو مستقر عباد الله الذين وصفهم بأنهم لا يعبدون غيره، ولا يعصونه وهم يستطيعون، ولا يتركون أمره، وهم أولياؤه.

    كثف كل سماء وعمارها

    [ المسألة الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة ].

    هذا بالإضافة إلى مسيرة المسافة التي بين سماء وسماء، والكثافة: هي سمك السماء؛ لأن كل سماء فيها سكان، وفيها عمّار يعمرونها بالطاعة، وعددهم لا يعلمه إلا الله، فالملائكة الذين فيها يعمرونها بالطاعة، وقد جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع)، وهذا ليس المقصود به السماء الواحدة، بل السماوات كلها.

    وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه لما عرج به رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة حيال الكعبة على الأرض، يقول: (فرأيته يدخله سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعودوا لكثرة الملائكة، إنما يدخله الملك مرة واحدة ثم يترك الأمر لغيره، والملائكة هم جند الله الأعظم، وقد قال جل وعلا: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] لما ذكر أن النار عليها تسعة عشر من الملائكة الذين يقومون على إيقادها وتعذيب أهلها، فتقال الكفار هذا العدد، فصاروا يهزءون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، يقول قائل منهم: أنا أكفيكم كذا عدداً، أكفيكم سبعة عشر. أو قال: أكفيكم عشرة. فالإنسان ظلوم جهول، والله جل وعلا وصفهم بأنهم غلاظ شداد، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

    وأخبرنا جل وعلا أن ملكاً من الملائكة يطلع على الأمة القاهرة في البلاد المترامية الأطراف فيصيح صيحة فيهم فيموتون عن آخرهم بصيحة فقط، وعنده شيء أكثر من ذلك، وجبريل عليه السلام لما أتى إلى لوط ومعه عدد من الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فأضافهم إبراهيم وقدم لهم العجل الحنيذ المشوي فرأى أنهم لا يأكلون، فعند ذلك خاف منهم؛ لأن الذي يأتيك في صورة ضيف ثم تكرمه وتقدم له الطعام فيأبى أن يأكل لابد أنه مضمر شيئاً ويريد أمراً.

    فعند ذلك خاف منهم وأوجس في نفسه خيفة منهم، فلما رأوا ذلك قالوا له: لا تخف؛ لسنا من بني أدم الذين يأكلون ويشربون، إنا أرسلنا إلى قوم لوط -يعنون أنهم ملائكة- ثم أتوا إلى لوط عليه السلام، ولوط هو ابن عم إبراهيم، وقد آمن بإبراهيم فجعله الله رسولاً، وأرسله إلى قومه، وكانوا قد ابتدعوا بدعة لم يسبقوا إليها، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويتركون أزواجهم، فنهاهم نبيهم فلم ينتهوا، وتمادوا في ذلك حتى أصبحوا إذا أتى إليهم آت تسارعوا إليه ليفعلوا به الفاحشة.

    فلما جاءت الملائكة في صورة أضياف كان من تمام الفتنة والابتلاء أن جاءوا بصورة شباب حسان الوجوه، فجاءوا يهرعون مسرعين إليهم ليفعلوا بهم الفاحشة، فحاول معهم لوط عليه السلام بكل ممكن، حتى قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى الله، وأي ركن أشد من ركن الله جل وعلا؟! ولكن المقصود أنه ضاقت عليه الأرض، وضاق بما فعل قومه، فلقد حاولوا فعل الفاحشة بأضيافة، وقال لهم: لا تخزوني في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟! وما فيهم رجل رشيد في الواقع.

    فعند ذلك لما رأى جبريل عليه السلام الأمر قد وصل إلى نهايته عند لوط قال له: لا تخف؛ لن يصلوا إلينا ولن يصلوا إليك، نحن رسل الله أتينا لتعذيبهم وإهلاكهم، فأومأ بطرف جناحه فطمس أعينهم فعموا، عند ذلك قال لوط عليه السلام: خذوهم الآن وأهلكوهم. قالوا: موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟! وأمروه بأن يخرج من هذا البلد هو وأهله، وألا يلتفت إليهم بجسده لئلا يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يدل على الحنو وعلى التعلق بهم، فالذي يتعلق بهم يخشى أن يصيبه ما أصابهم.

    فلما جاء الوقت المحدد اقتلع جبريل عليه السلام المدن -وكانت سبع مدن- من الأرض، وحملها على طرف جناحه - وله أكثر من ستمائة جناح- فطار بها وعلا بها حتى كانت الملائكة الذين في العنان يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، عند ذلك قلبها فجعل عاليها سافلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل على كل حجر اسم صاحبه الذي يرميه ويهلكه.

    ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] يعني: هذه العقوبة ليست من ظالمي هذه الأمة الذين يفعلون هذه الفعلة ببعيد، بل قريب. ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يكون في هذه الأمة خسف وقذف بالحجارة، فيقذفون مثلما قذف قوم لوط إذا فعلوا فعلهم، نسأل الله العافية.

    فالمقصود أن الملائكة عظام شداد، فلو أذن لأحدهم أن يقتلع الأرض لاقتلعها كلها، ومع كثرتهم وقوتهم لا يعصون الله ما أمرهم من شدة خوفهم، فجبريل عليه السلام مع هذه العظمة وهذا الكبر الهائل والقوة الهائلة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرج به ووصل جبريل إلى سدرة المنتهى يقول: (رأيته خاضعاً لله ساجداً له كالحلس البالي) خضوعاً وذلاً لله جل وعلا؛ لأن من عرف الله كان له أخوف، وله أطوع.

    فالمقصود أن عظمة السماء وسعتها وكبرها بهذه المثابة التي ذكرت، وذلك لما فيها من كثرة الخلق ومن كثرة العباد الذين خلقهم الله جل وعلا لطاعته، والملائكة قسم كبير جداً منهم خلقوا للعبادة فقط، ومنهم من خلق لوظائف معينة منها القيام على مصالح بني آدم، ومنها حفظهم، كما قال الله جل وعلا: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]؛ لأن الملائكة تتعاقب عليه لتحفظه، فلو نام إنسان في البر بقي فمه مفتوحاً وأذنه مفتوحة، فتأتيه الهوام فيصدها الملائكة الذين يحفظونه فلا يدخل في فمه، ولا في منخره، ولا في أذنه شيء، فيحفظه الله بالملائكة، فإذا جاء القدر تخلوا عنه وتركوه، وسلموه لما قدره الله جل وعلا.

    ومنهم الذين يحفظون أعماله، ويسجلون عليه كل ما نطق وتكلم به، ومنهم الذين يتولون قبض روحه، ومنهم الذين يتولون إنزال المطر، إلى غير ذلك مما ذكر الله جل وعلا من وظائفهم التي تكون في مصالح بني آدم.

    ومنهم الذين لا نعرفهم، ولا نعرف إلا أنهم في الجملة عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أكرمهم الله جل وعلا بطاعته، فهم الذين يسكنون السماء، وهم كذلك يتولون المصالح التي تكون للمؤمنين حتى في الجنة، كما جاء في قول الله جل وعلا: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24] فيسلمون عليهم ويحيونهم ويهنئونهم لدخلوهم الجنة وكرامة الله جل وعلا لهم.

    الجمع بين علو الله عز وجل ومعيته لخلقه

    [ المسألة التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ].

    المقصود بهذا الحديث ذكر علو الله جل وعلا، وعلو الله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها عباده، فكل إنسان يريد أن يسأل ربه يجد دافعاً من نفسه يدفعه أن يسأل ربه من فوقه ويمد يده إليه، فيمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب! يا رب! وهذا أمر لا يتخلص منه أحد، حتى الكفار إذا وقعوا في الضرورة يجدون هذا في نفوسهم، فهو أمر مقطوع به، ولهذا يقول العلماء: إن صفة الله بالعلو صفة ذاتية، أي: أنها ملازمة لله دائماً وأبداً، وما جاء في ذكر معية الله جل وعلا لخلقه، أو للمؤمنين، أو لأوليائه، كقوله جل وعلا لموسى وأخيه هارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وكقوله جل وعلا في قصة سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم مع صديقه ورفيقه في الغار: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] يعني: معنا دون الكفار الذين يحيطون بالغار.

    وكذلك قوله جل وعلا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، مثل المعية مع المؤمنين الأتقياء والأولياء والأنبياء فهذه تسمى معيّة خاصة، وهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ، أي: النصر على الأعداء، وتأييدهم، وحفظهم، وحمايتهم مما يريد العدو بهم، فهذا مقتضاها، ومعناها أن الله محيط بهم يراهم ويسمعهم ويحفظهم، فهم في تقلباتهم في قبضته.

    وأما المعنى الثاني الذي جاءت المعية به فهي معية عامة، كقوله جل وعلا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] في آيات متعددة، فهذه المعية لا تنافي علو الله، وذلك أن الله أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، فهو فوق عرشه يسمع كلام عباده، ويرى تصرفاتهم، وهم في قبضته.

    والمعية في اللغة العربية تأتي بمعنى المصاحبة، والمصاحبة تكون بحسب ما أضيفت إليه، فإذا قال القائل: سرت مع القمر صح الكلام، وقد جاء هذا عن العرب، يقولون: سرنا مع القمر. فالقمر في السماء وهم في الأرض، وهذا الكلام يكون صحيحاً، فيجوز للإنسان أن يقول: مالي معي. وإن كان ماله في بلد وهو في بلد، ويجوز أن يقول: زوجي معي وإن كانت في بلد وهو في بلد.

    وكذلك قول الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] يعني: المصاحبين له. وليست المعية هنا المخالطة والممازجة كما يتوهمه من ضل في دينه وعقله.

    فتراه يقول: إن المعية معناها المخالطة. ويقول: إن هذه الآية التي فيها ذكر المعية تنافي العلو.

    وهي في الواقع لا تنافي علو الله، بل المعية معناها المصاحبة، وهي إما أن تقتضي التخويف والاطلاع والعلم، أو تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد، فإذا كانت خاصة اقتضت الحفظ والنصر والتأييد، وإذا كانت عامة اقتضت التخويف والاطلاع والعلم.

    ولهذا السلف يفسرون المعية بالعلم، فقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4] يعني: بعلمه. وهذا جزء من معناه، وليس كل معناه.

    ثم كذلك ما ذكر في النصوص الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وذلك في كل ليلة، فإذا بقي ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا فقال -ينادي عباده-: (هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، وهذا كل ليلة.

    فهذا لا يقتضي أن نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا تكون معه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه، كلا! بل هو ينزل وهو على عرشه فوق جميع مخلوقات؛ لأن المخلوقات كلها بالنسبة إليه صغيرة حقيرة، ولا يجوز أن يتوهم متوهم أن السماء تقل الله أو تظله تعالى وتقدس، فهو أكبر وأعظم من ذلك.

    وكذلك أخبر الله جل وعلا عنه في كتابه بقوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وهذا يوم القيامة إذا جاء للفصل بين عباده، وكذلك قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210]، فيوم القيامة يأتي إلى الأرض ليفصل بين خلقه، فيأتي وهو على عرشه أعلى من كل شيء وفوق كل شيء، فعلوه ثابت له ثبوتاً ذاتياً لا ينفك عنه جل وعلا، وهذا معنى قول السلف: إن علو الله صفة ذاتية؛ لأن صفة الذات معناها الصفات التي تكون ملازمة لا يمكن أن يخلو الرب جل وعلا منها في وقت من الأوقات، بخلاف صفة الأفعال، فإن صفات الأفعال يفعلها في وقت دون آخر، وكذلك قوله جل وعلا.

    فهو الحامل لخلقه وللعرش ولحملة العرش وللسماء التي تراها مرفوعة بلا عمد، كل ذلك بقدرته، ولكن لحكمته جعل هذه الأشياء حتى يبتلي عباده ليؤمن من يؤمن، ويأبى الإيمان بذلك من يأباه، فالمؤمن يستحق الإثابة والكرامة، ومن يأبون ذلك الله يحكم فيهم بما يستحقون، وكل الخلق عباد الله وفي ملكه يتصرف بهم كيف يشاء، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] تعالى وتقدس.

    ثم إن العلو الثابت لله أقسام ثلاثة: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر.

    كلها ثابتة لله جل وعلا، ولا يجوز أن نثبت واحداً دون البقية، والمخالفون يجعلون العلو علو قدر، وعلو القدر معناه: تقديره وتعظيمه في قلوب عباده. فهذا علو القدر، ويجعلونه كذلك علو قهر، أي أنه هو الذي يحكم ويتصرف في خلقه، أما علو الذات فينكرونه ويأبون قبوله.

    وشبهتهم -ما سبق أن ذكرناه- أنهم يقولون: هذا إذا أثبتناه دل على التشبيه؛ لأنه يعني أن الله في مكان، والله جل وعلا -كما يقولون- لا تحويه الأمكنة، ولا تحصره، ولا يكون في جهة، ومعلوم أن الذي لا يكون كذلك يكون عدم، ولهذا يصفون الله جل وعلا في كتبهم فيقولون: إن الله ليس في فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا هو في داخل العالم ولا في خارج العالم. إذاً أين يكون؟ فلن يكون هذا إلا العدم.

    وإذا قيل لهم: إنكم تذكرون عدما.ً قالوا: الله في كل مكان، أي: حتى في بطونكم تعالى الله وتقدس، فكونه في كل مكان هذا كفر بالله جل وعلا وإلحاد؛ لأنه لا يجوز أن يكون في الأمكنة النجسة والأمكنة السفلى الخبيثة -تعالى الله وتقدس-، وإذا كان الأمر هكذا يقال لهم: أخبرونا! لما خلق الله جل وعلا السماء والأرض أين كان ربنا؟

    فهل كان فيهما وخلق السماء والأرض في ذاته جل وعلا؟ فمن قال هذا فقد كفر، فلابد أن يقال: إنه خلقها خارج ذاته، فإذا كان خلقها خارج ذاته فلابد أن يكون فوقها وعالياً عليها، وهذا عند المجادلة بالعقل فقط، ولكن لا نحتاج إلى هذا؛ لأن كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم أغنيانا عن ذلك، فيجب أن نتبع ذلك ونؤمن به، ونتعرف على ربنا بما عرفنا به نفسه تعالى وتقدس، فيجب أن نعرف الله في ذاته، والله جل وعلا يهدي من يشاء إلى الحق ويضل من يشاء، وله الحكم، وهو الذي يفصل بين خلقه تعالى وتقدس.

    نتيجة الاستعاضة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ومن القصص والحكايات التي وقعت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في القرن السادس أن أحد كبار العلماء الذين توغلوا في الكلام، وصار لهم أثر كبير، وهو مشهور جداً، بل هو قطب من أكبر أقطاب المتكلمين، وهو معروف بإمام الحرمين الجويني ، وسمي بإمام الحرمين لأنه جاور بمكة والمدينة أوقاتاً، وكان يعلم ويدرس في المسجد النبوي، وكان مذهبه مذهب أهل الكلام في نفي علو الله جل وعلا ولا يقر بذلك، فكان على كرسي في المسجد، وكان يقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا مداخلاً للعالم، ولا خارجاً منه، فقام رجل ممن كان حاضراً فوقف أمامه حتى تنبه له ورآه، وعند ذلك قال: عندي سؤال: قال: نعم، قال: دعني من هذا الكلام الذي تقوله، كان ولا مكان.. إلى آخره ، وأخبرني عن شيء أجده أنا في نفسي وتجده أنت وغيرك، والناس كلهم يجدونه، أخبرني عن الضرورة التي أجدها في نفسي ويجدها غيري، فعندما أدعو ربي أجد دافعاً يدفعني من داخل نفسي أني أطلب ربي من فوق، فمن أين جاءت هذه الضرورة؟ فوضع رأسه وجعل يفكر ثم صار يبكي، ونزل من على الكرسي، وقال: حيرني الرجل حيرني. فلم يدر بم يجيب، وقد التبس عليه علمه الذي كان يقرره، وذهب بهذه الكلمة فحار.

    وهكذا الذي يترك كتاب الله ويعتاض عنه بأقوال الرجال وأفكارهم ويجعلها هي مستنده في النتيجة فيحار.

    ثم إن هذه الحيرة أصبحت ملازمة له حتى إنه لما حضرته الوفاة صار يوصي أصحابه ويقول: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أظن أنه يصل بي إلى ما وصل ما اشتغلت به. ويقول لهم عند وفاته: إنني لم أعلم حقيقة من الحقائق، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. ويقول: لقد تركت أهل الإسلام وعلومه، وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي. ثم يقول: ها أنا ذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور. لأنه نيسابوري، ومات هناك، ولكن هل يمكن هذا؟ إنه لا يستطيع أن يموت على عقائد عجائز نيسابور؛ لأن العجائز على فطرة سلمت من الانحراف وسلمت من الشكوك، وما يستطيع الذي عنده شكوك وانحرافات أن يموت عليها.

    ومن القصص الغريبة في هذا الموضوع أن هناك رجلاً آخر عظيماً أيضاً قد ملأت كتبه الدنيا، وهو معروف بـالفخر الرازي ، وله في التفسير وفي الفقه وفي الأصول وفي الكلام وفي غيرها من سائر العلوم، وكان أيضاً في نيسابور، فخرج يوماً من الأيام إلى السوق ومعه أكثر من ثلاثمائة تلميذ خلفه، فوقفت عجوز في بابها تتفكر، فقالت لأحد المارة: من هذا الملك -وكان تلميذاً من تلامذته-؟ فقال لها: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يقيم على وجود الله ألف دليل. عند ذلك ضحكت العجوز وقالت: واعجباً! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يتعرف إلى ألف دليل، وهل وجود الله يحتاج إلى أدلة. إنه تعالى يعرف.

    فالمقصود أن الذي يعتاض عن كتاب الله بالآراء والأفكار لابد أن يضل، وهو أيضاً قال في آخر كتاب ألفه -أعني: فخر الدين -: لقد جربت المناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فلم أرها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق إلى الحق طريقة القرآن.

    ثم جعل يمثل: اقرأ قول الله كذا، اقرأ قول الله كذا. وهذا يدل على أنه رجع في آخر حياته عما كان عليه، وكذلك كان للفخر الرازي تلميذ من أبرز تلامذته وأذكاهم، وكان لهذا التلميذ صاحب ممن لم يسلك مسلك المتكلمين، بل ترسم طريق الكتاب والسنة، وكان يزوره، وفي مرة من المرات دخل عليه في بيته والرجل يتفكر، فسلم فلم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام فلم يرد السلام، ثم أعاده ثالثة فلم يرد عليه، عند ذلك قال: ما الذي دهاه؟ إن الرجل ليس في عقله. فهم أن ينصرف لكونه يسلم على الرجل ولا يرد السلام، فعند ذلك تنبه ورفع رأسه إلى صاحبه الواقف الذي حار مما علاه، وبادره عندما رفع رأسه فقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك عليه صاحبه الواقف ساخراً منه، وقال: ماذا أعتقد؟ أعتقد ما يعتقده المسلمون. فأطرق وجعل يبكي ويقول: ولكني والله ما أدري ماذا اعتقد في ربي. فهذه نتائج الاشتغال في علم الكلام وكتب أهل الآراء الذين يعتاضون بآرائهم عن كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا يقول العلماء: أكثر الناس شكاً عند الموت الذين يشتغلون بالكلام. فأكثر الناس شكاً عند الموت هؤلاء؛ لأنه عند حضور الموت تذهب البهارج ويذهب الباطل، ويبقى الحق، فالباطل الذي معهم يذهب فيحارون ويشكون، ويبقون في حيرة وشك.

    وعلى كل فعلينا الاعتصام بكتاب الله، والله جل وعلا أمرنا بالاعتصام به في العقيدة وفي العمل، ففي العمل نعتصم به عن البدع، وفي العقيدة نعتصم به عن الانحراف الذي وقع لمثل هؤلاء وهو كثير.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757118068