إسلام ويب

التربية ضرورة ومنهجللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للتربية أهمية كبرى في حياة المسلم بجوانبها الثلاثة: العقلي، والبدني، والروحي، وهي ضرورية أيضاً لمن أراد أن ينتقل من الجهل إلى العلم، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخلق السيئ إلى الخلق الحسن. ومن أعظم ما يعين على التربية قراءة سير السلف والخلف ممن ضربوا أروع الأمثلة في التربية الحسنة.

    1.   

    أهمية التربية في حياة المسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من ضعف، وجعله قابلاً للنمو والتطور، وآتاه وسائل ذلك النمو والتطور، فيسر له سبل الهدى، وأعانه على ذلك بما آتاه من الجوارح المعينة على التدبر في آيات الله المسطورة والمنظورة ليزداد بذلك إيماناً ويقيناً؛ وليزداد في أخلاقه وفي سلوكه وفي أعماله كلها.

    والإنسان محتاج إلى ذلك الازدياد بصورة مستمرة دائماً، ولهذا فإن الإنسان لا يتوقف نموه بالكلية إلا إذا هو أقبل على النقص، فالإنسان دائماً في مسير إما إلى الأمام وإما إلى الخلف، لكنه لا يمكن أن يتوقف مسيره، فهو في بداية نشأته نشأ ضعيفاً، ثم بعد ذلك وصل إلى القوة، ثم تراجع إلى الضعف والشيبة، ثم بعد ذلك الموت، وفي مسيره الأول من بداية نشأته لا بد أن يمر بأطوار كثيرة، كما قال نوح عليه السلام في دعوته: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:14] ، وهذه الأطوار ذكر الله منها في كتابه تسعة هي قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:13-16]، هذه تسع مراتب من أطوار خلق الإنسان، وفي كلها تجد النمو والازدياد، وهذا النمو والازدياد ما كان مكتسباً منه هو الذي يسمى بالتربية.

    1.   

    معنى التربية

    والتربية مشتقة من: ربا يربو إذا زاد، فزيادة المال تسمى رباً له، وكذلك زيادة العقل، وزيادة قوة البدن ، وزيادة الخلق، كل ذلك يسمى تربية.

    وأصل هذه المادة في اللغة يستعمل منها أربعة أفعال، فيقال: ربا يربو، ومنها رباه يربيه إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومن هذا الفعل قول الشاعر:

    وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

    قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

    ويقال أيضاً: ربه يربه، ومنه قول صفوان بن أمية بن خلف رضي الله عنه: لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن.

    الفعل الثالث: يقال: رببه يرببه، إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :

    بيض مرازبة غلب أساورة أسد ترببن في الغيضات أشبالا

    ويقال كذلك: ربته يربته، وهذا الفعل الرابع، ومنه قول الشاعر:

    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهل

    ومن هذا الفعل الرب، فالرب يطلق على المالك؛ لأنه هو الذي يعتني بتنمية مربوبه، فيقال: رب البيت ورب المنزل ورب الدابة، أي: مالكها، وأصلها راب، فكثير ما تحذف الألف من (فاعل) للمضعف، كما قال ابن مالك :

    وينحذف بقلة مضاعف منه ألف

    قوله: (بقلة) أي أنه مقصور على السماع، وليس معنى ذلك: قلة وجود الأمثلة على هذا، وذلك: كربٍ وشتٍ وقذٍ وعمٍ فكل هذا بمعنى فاعل.

    وقول الله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ[آل عمران:79] ، قال ابن عباس في تفسير ربانيين: الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذا هو التدرج في طلب العلم، وهو مناسب لهذه المادة، ومثل ذلك قول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران:146] ، فالربيون منسوبون إلى الرب، وهم المربون أو هم المشتغلون بعبادة الرب سبحانه وتعالى.

    وهذه التربية منها ما يقوم به الوالدان، فالولد أمانة عندهما يربيانه على وفق ما يريدان، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وقال: (ما منكم أحد إلا وينتج كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل ترى فيها من جدعاء) أو (فهل ترى فيها من جدع) فمعناه: أنه يولد كامل الأعضاء على الفطرة، ثم بعد ذلك تعمل فيه الأيدي في التربية، كما أن البهائم تولد كاملة ثم إن أهلها يسمونها، إما بقطع الآذان، وإما بوضع ميسم أو غير ذلك.

    ثم بعد هذا تربية الإنسان لنفسه، وكذلك تربية مجتمعه له، فالشارع الذي يتربى فيه الإنسان، والمدرسة التي يدرس فيها، ووسائل الإعلام التي يسمع، ونحوها... كل ذلك مؤثرات تؤثر في سلوكه وتزيد في عمله أو تنقص، وتؤثر في السلوك فيكون إيجابياً ويكون سلبياً.

    1.   

    أقسام التربية

    وعلى هذا فالتربية ثلاثة أقسام:

    تربية عقلية: وهي بزيادة العلم؛ لأن العقل مبناه على العلم، فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد عقلاً، وهذا يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا.

    القسم الثاني: التربية البدنية، وهي بتقوية البدن وتعويده على المهارات والخبرات المختلفة، كمهارات العدو والجري، ومهارة السباحة، ومهارة ركوب الخيل، ومهارة سياقة السيارة، ومهارة القفز، ومهارة حمل الأثقال، ومهارة الكتابة، وغير ذلك من المهارات التي هي من التربية البدنية.

    ثم النوع الثالث من أنواع التربية: التربية الروحية، والمقصود بها تزكية النفوس، وتطهير الأخلاق بتهذيبها، والتخلي عن الصفات الذميمة، والتحلي بالصفات الحميدة، ولا يكون ذلك إلا وفق المنهج الذي شرع الله لعباده.

    فهذه الأقسام الثلاثة هي قابليات الإنسان التي يمكن تطويرها، فيمكن أن يطور الإنسان من الناحية العلمية: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل:78] .

    فكل يوم يمكن أن يزداد الإنسان علماً، ولهذا أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طلب الازدياد من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]

    وكذلك قوة البدن ومهاراته، فكل يوم بالإمكان أن يزداد الإنسان مهارة لم تكن لديه، فتشغيل أي جهاز من الأجهزة -كتشغيل المسجل أو تشغيل جهاز الكمبيوتر أو غير ذلك- كلها مهارات، بالإمكان أن يستفيدها الإنسان في أي يوم من أيام حياته.

    ومثل ذلك: المهارات النفسية، فمهارة العبادة والأدب مع الله سبحانه وتعالى، ومهارة الإخلاص في العمل الصالح، ومهارة الأنس بالله، والتوكل عليه وخوفه ورجائه، وكذلك مهارة التوبة والإنابة إلى الله، كلها مهارات روحية بالإمكان أن يكتسبها الإنسان، وما أحوج الإنسان إلى اكتسابها.

    إن هذه التربية عظيمة تغير الإنسان عن حاله، فبعد أن كان الإنسان جاهلاً أمياً، وبعد أن كان ضعيفاً، وبعد أن كان سيء الخلق، ينتقل بواسطة التربية إلى أعلى كمال ممكن، فبعد الجهل المطلق ينتقل الإنسان إلى مرتبة الاجتهاد أو مرتبة التوقيع عن رب العالمين، وبعد مرتبة الضعف -الذي لا يستطيع الإنسان به إلا مص الثدي- ينتقل الإنسان إلى مقاتل ماهر، وشجاع لا يرده أي خوف، ولا يثنيه أي إرهاق، وكذلك بعد نشأة الإنسان السيئة التي فيها تعويد النفس على ما تشتهي وعدم الحيلولة بينها وبين ذلك، وضعف الحيلة في الوصول إلى ما يشتهيه الإنسان، كالصبي إذا منع شيئاً ليس لديه حيلة إلا البكاء، فهذا الضعف الشديد بعده ينتقل إلى إنسان قوي الشخصية، لا يتضعضع أمام الوسائط، ولا يخضع للإرهاب والتهديد، فيكون متصلاً بالله سبحانه وتعالى، متقوياً بقوته التي لا حدود لها، وبذلك يتغير حاله بالكلية.

    بهذا نعلم أن هذه التربية ليست عملية مؤقتة بزمن محدد، كما يتوهمه بعض الناس، فقول العرب: العوان لا تعلم الخمرة، المقصود بذلك: أصل التعليم لا زيادة المهارة، فهي لا تعلم الخبرة؛ لأنها قد تعلمتها، لكن يمكن أن تزداد مهارة فيها، فما من شيء يتعلمه الإنسان إلا وهو قابل للتطوير والزيادة، ولهذا أدركنا كبار السن -وبعضهم من أهل العلم- كل يوم يحاولون زيادة مهارات أداء سنن الصلاة، فيركع الإنسان أمام الناس ليروه هيئة الركوع، ويسجد أمامهم ليقوموا له النقص الذي لديه بهيئة السجود، ويتوضأ أمامهم ليرى مهارات الوضوء، وهكذا.

    فما من مهارة يتعلمها الإنسان إلا وهي قابلة للتطوير والزيادة، حتى أن أنبياء الله الذين أوصلهم الله سبحانه وتعالى إلى درجات الكمال العليا الممكنة للبشر، ما من أحد إلا وهو يحرص على الازدياد من التربية، فهذا عيسى بن مريم عليه السلام مر مع الحواريين في زقاق ضيق، فاستقبله خنزير، فقال له عيسى: انفذ بسلام، فقيل: يا نبي الله! أتقول هذا لخنزير؟! قال: أردت أن أعود لساني قول الخير.

    وكذلك مر هو والحواريون على جيفة كلب قد أنتن، فقال الحواريون: ما أنتن رائحته، فقال عيسى: ما أحسن بياض أسنانه؟ فقيل له في ذلك، فقال: ذكرته بأحسن ما فيه؟

    وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقوم الليل فيطيل القيام حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة : (أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)، إنه يريد زيادة الشكر، ويحرص على ذلك، وهذا الحرص هو الذي يقتضي للإنسان السمو وعلو الهمة، بحيث لا يرضى بالمراتب الدنية، يريد السمو إلى أن يكون منتهاه الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، فلا يرضى بأي شيء أقل من ذلك ولا دونه، ولهذا يروى أن النابغة الجعدي رضي الله عنه حين أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته الرائية بلغ فيها قوله:

    بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

    قال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله.

    وكذلك العلماء الكبار الذين اشتهروا بكثرة ما حووه من العلم، لم يقصروا في الطلب يوماً من أيام حياتهم، فتسمعون عن محمد بن مالك الطائي الجياني الأندلسي الدمشقي إمام أهل العربية، الذي ألف الكتب الكثيرة في خدمة لسان العرب، فمنها: الخلاصة الألفية المشهورة السائرة، والكافية، وتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والفوائد كذلك، وعدة الحافظ وعمدة اللافظ، والاعتضاد بين ظاهر الظاء والضاد، والواو والياء، والإعلام بتثليث الكلام، والتوضيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وشروح هذه الكتب كلها وغير هذا من الكتب الكثيرة، مع ذلك تعلم يوم موته ثمانية شواهد من ولده، وهو في اللحظات الأخيرة.

    وهذا الإمام مالك بن أنس على جلالة قدره في العلم وكبر سنه فقد عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومع ذلك ففي آخر عمره سئل عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقال: لا أحفظ فيه شيئاً، فلما انفضت الحلقة جلس إليه عبد الله بن وهب وهو أحد طلابه، فقال: حدثني الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابعه في الوضوء)، فحفظ مالك هذا الحديث فلما عادت الحلقة إلى مكانها، قال: سألتموني بالأمس عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقلت لكم: لا أحفظ فيه شيئاً، وقد حدثني عبد الله بن وهب هذا قال: حدثنا الليث بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل الأصابع في الوضوء).

    فكل يوم هم في شغف من الازدياد من العلم، لا يقصرون في ذلك، ويطلبونه على كل الأحيان، ولذلك بلغوا ما بلغوا من المنازل العلية، فكل من شعر بأنه استغنى عن التربية، ووصل إلى حد لا يحتاج فيه إلى الزيادة، فمعناه أنه بدأ في النقص، ولهذا حين أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع هذه الآية، فقالوا: وما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ قال: ما من شيء يتم إلا نقص، فالدين أتمه الله، فخشي عمر أن يكون ذلك بداية النقص، وأول نقص فيه موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك موت الخلفاء الراشدين، ثم لا يزال الدين ينقص، كلما نقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها، فأول ذلك الحكم وآخره الصلاة.

    1.   

    وسائل التربية

    إن الإنسان محتاج إلى العناية بتربية نفسه، ولذلك وسائل كثيرة:

    فمن أهم الوسائل قراءة سير السابقين الذين بلغوا المقامات العلية ، وقراءة سيرهم ليست لمجرد الثقافة والتاريخ ، وإنما هي لأخذ العبر، وليرسم الإنسان لنفسه طريقاً فيحاول تطبيقه، ولهذا فإن مؤلفات هذه الأمة في التاريخ كثيرة جداً، فلماذا ألفوا فيه؟ لماذا كتب لنا الذهبي رحمه الله أكثر من ثلاثين كتاباً في التاريخ والسير وتراجم الرجال؟

    إنما فعلوا ذلك ليكون هذا حافزاً للناس على التخلق بأخلاق هؤلاء، والتربي بتربيتهم، وسلوك منهجهم، فإن الإنسان إذا قرأ سيرة أحد هؤلاء الأعلام من السلف الصالح -وكان ذا همة- حاول أن يسد مسده للأمة، وليتذكر الشباب الآن أن علماء الأمة وعظماءها وقادتها ليسوا مخلدين، فما منهم أحد إلا وهو على موعد مع ملك الموت، وإذا جاء ذلك الموعد لا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم، والأمة محتاجة إليهم فمن سيخلفهم؟ ومن سيأخذ اللواء منهم؟ لا ترضى الأمة أن يسقط اللواء على الأرض، بل تريد من يقوم بحمل هذا اللواء ويتهيأ لذلك، وأنتم تعرفون قول حسان رضي الله عنه:

    لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم

    فلا بد من هؤلاء النجوم الذين يتأهبون لحمل اللواء، ويستعدون لذلك، فيعدون العدة له قبل أن يصابوا بهذه المصيبة، كل إنسان عليه أن يفكر أنه ربما يكون في يوم من الأيام مسئولاً عن دين الله في بلد من البلدان، فالذين يعول عليهم الآن القيام لله بالحق والقسط هم على موعد مع ربهم، وسيلبون نداءه، وكذلك هم عرضة للفتنة وعرضة للقتل والسجن وغير ذلك، فلا بد ممن يخلفهم ويقوم مقامهم، فقبل أن يأتي ذلك اليوم الذي يتعين عليك أن تقوم مقام أولئك، فاجتهد بنفسك في أن تصل إلى المقام الذي وصلوا إليه، وأن تكون عتاداً جاهزاً يخلف أولئك السابقين، كحال أهل مؤتة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم قال: (أميركم زيد ، فإن قتل فـجعفر بن أبي طالب ، فإن قتل فـعبد الله بن رواحة ، فإن قتل فليتفق المسلمون على رجل منهم)؛ ولذلك فإن ثابت بن أقرم رضي الله عنه، كان قريباً من عبد الله بن رواحة ، فلما قتل أخذ اللواء وقال: يا معشر المسلمين! إني ما أخذته لأقودكم، وإنما أخذته لتقدموا رجلاً منكم، فقدموا خالد بن الوليد فأعطاه ثابت بن أقرم اللواء.

    ومصائب المسلمين باخترام قادتهم، وحملة اللواء فيهم، هي من جنس الابتلاء الذين يبتلون به في أديانهم، وهي مستمرة وسنة كونية لا انقطاع لها، فهم يحتاجون كذلك إلى وجود البدائل الجاهزة، التي يمكن أن تكون عند مستوى التحدي، وهذه البدائل لم تكن إلا أصحاب الهمم العالية الذين يفكرون في سد مسد هؤلاء، ويفكرون بتفكير جاد، ليأخذوا قسطهم الآن قبل أن يصل إليهم الدور، فهم ينتظرون في الطابور، ويعلمون أن الكراسي هي مثل كرسي الحلاق، يجلس عليه هذا فإذا حلق رأسه قام فجلس غيره.

    هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

    فلهذا يتمثلون دائماً قول الشاعر:

    يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا

    فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا

    وذو الجهل يأمن وأيامه وينسى مصارع من قد خلا

    فإن دهمته صروف الزما ن ببعض مصائبه أعولا

    فالعويل لا فائدة فيه، بل هو كما قال الأعرابي: نصرها بكاء وبرها سرقة، فلهذا علينا أن ننظر إلى حال الذين سدوا للأمة مسداً، وكيف كانت حوافزهم لذلك، عندما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان عبد الله بن عباس فتى في العاشرة من عمره أو الثالثة عشرة، قال: فذهبت إلى لدة لي من الأنصار كان يلعب معي، فقلت: يا أخي! إن الله قد أخذ رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الأمة تحتاج إلينا يوماً من الأيام، قال: فقال لي: دعنا نلعب فمتى يحتاج إلينا، فذهبت وتركته، فذهب ابن عباس في طلب العلم، فلم تمض سنوات قليلة حتى أصبح عضواً في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وكان عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه فتى الكهول، ولا يقضي أمراً حتى يستشيره فيه، ولذلك يقول فيه أحد الصحابة:

    بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب

    فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا

    ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا

    إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بمنتظمات لا ترى بينها فصلا

    كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

    1.   

    نماذج ممن تربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته

    إن أولئك الذين تربوا تلك التربية النافعة هم الذين تحملوا المسئوليات، وإن هذه التربية لا بد فيها من ضرائب، فهي تحتاج إلى تضحيات جسيمة، لقد حدثنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه عن أولئك النفر الأوائل الذين صدقوا الله ورسوله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فامتحنوا على طريق الهداية، وأوذوا في الله، وحوصروا ثلاث سنين، لا يبايعهم أحد ولا يهدي إليهم ولا يعطيهم أحد، ويمنعون من دخول الأسواق، ومن ورود المياه العذبة، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، وقد عقدت قريش حلفها على ذلك، وكتبوه في الصحيفة التي علقوها في الكعبة، فيقول:

    فكنا في الشعب -في شعب أبي طالب- يربط أحدنا على بطنه حجراً من الجوع، فخرجت ذات ليلة فوجدت ثوباً قد علاه العفاء، أي: سفته السوافي، فأخذته فغسلته فقسمته نصفين، فتأزرت بنصفه، وأعطيت نصفه سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقاص فأتزر به، ثم إن سعد بن مالك خرج ذات ليلة لقضاء حاجته، فوقع بوله على شيء فلمسه، فإذا هو جلد فأخذه فغسله وشواه فأكلناه! ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار، بعد أن حصل ما حصل من الأذى!

    ويقول سعد بن أبي وقاص كما في صحيح البخاري: (والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام خبت إذاً وضل سعيي).

    إن أولئك النفر قد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية عجيبة، مكثت هذه التربية في مدرستها الأولى ثلاث عشرة سنة، فهذه مدة المدرسة الابتدائية وهي العهد المكي، لكن هذه السنين الثلاث عشرة آتت أكلها، فكل سنة منها جاءت بقرن كامل من الزمن من عمر الأمة، فاستمر عمر دولة الإسلام ثلاثة عشر قرناً على آثار تلك التربية في ثلاث عشرة سنة.

    وكذلك فإنهم تربوا تربية مكنتهم من البطولات، فهؤلاء الذين كانوا في هذا الأذى الشديد هم الذين استطاعوا فيما بعد تحمل المشاق، وهم الذين صبروا في المواقف العظيمة، فهذا أبو بكر الصديق الذي نال منه المشركون ما نالوا، وكانوا يقرعونه في كل أمر يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فأكثروا عليه من ذلك، فلما كانت ليلة الإسراء والمعراج لم يكن أبو بكر حاضراً، فأتوه فقالوا: إن صاحبك زعم أنه جيء بدابة فذهب بها إلى الشام ليلته هذه، فدخل بيت المقدس، ثم صعد به إلى السماء فاخترق السماوات السبع! أفتصدقه فيما قال؟ قال: إن كان قالها فقد صدق، هذه هي القوة اليقينية التي استطاع بها أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة.

    لينظر كل واحد منكم إلى نفسه لو كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه، وكان الوحي أشد ما يكون تتابعاً، والغزو أشد ما يكون كثرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الوضع، ماذا سيحصل له؟ إنها أعظم مصيبة يمكن أن تفكروا فيها، لكن أبا بكر صمد عند هذه المصيبة، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، إنها التربية العقدية الصحيحة التي تقتضي من الإنسان التمسك بالمبادئ وعدم التنازل عنها في أحلك الظروف.

    يقرأ أبو بكر على الناس قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144-145] فيثبت الله به هذه الأمة، وقد وصف أنس بن مالك رضي الله عنه حال الصحابة إذ ذاك بقوله: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما ماتوا كانوا كالمعز المطيرة، فلم يستطع أحد منهم الوقوف ولا الكلام إلا أبا بكر .

    إن هذا الأثر أثر واضح من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ليكون خليفة عنه، وليسد مسده للأمة.

    وكذلك حال عمر بن الخطاب عند موت أبي بكر ، يقول ابن عباس كما في الصحيح: عندما مات عمر فحمل على الرقاب جاء رجل من خلفي فوضع يده على منكبي، ثم نظر إليه فقال: رحمك الله، لكثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر و عمر ، ودخلت أنا و أبو بكر و عمر ، فالتفت فإذا هو علي ، علي بن أبي طالب يشهد لـعمر بهذه التربية، وهي الاصطحاب الدائم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئه به للقيام بهذا الأمر، فكان يهيئ أبا بكر و عمر للخلافة فيصطحبهما في كل الأمر، فيقول: خرجت أنا وأبو بكر و عمر ، ودخلت أنا و أبو بكر و عمر ، وبهذا كان أهلاً لهذه الخلافة، وشهد بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

    كذلك فإن أثر هذا بارز حتى في شهادات النبي صلى الله عليه وسلم، حدث أصحابه ذات يوم فقال: (إن بقرة تكلمت، كان صاحبها يسوقها فركبها، فالتفتت إليه فقالت: ما خلقت لهذا، فقالوا: سبحان الله بقرة تكلم! فقال: لكني أومن بذلك أنا و أبو بكر و عمر)، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر و عمر بأنهما يؤمنان بهذا الذي أخبر هو به، ولم يسمع منهما ذلك، فهذا يدلنا على أهمية هذه التربية وأثرها البالغ.

    إن هذه التربية كذلك هي التي تجعل الرجال ينتقلون من طور إلى طور، فـعمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر فيسجد له ويعبده، ثم إذا جاع أكله فصنع صنماً آخر، أصبح يقول للحجر الأسود: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

    وكذلك فإن الذين كانوا في الجاهلية الجهلاء انتقلوا إلى هذه المقامات العلية العجيبة، ففي المقام العلمي مثلاً، كانت هذه الأمة أمة لا تحسب ولا تكتب، وكان العرب أشد الشعوب تخلفاً، وبالأخص في مجال الحساب والعلوم العقلية، مع ذلك فما هي إلا سنوات من التربية حتى يخرج علينا علي بن أبي طالب فيقف على المنبر خطيباً فيقول: الحمد الله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فيقول له قائل: هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فيقول: صار ثمنها تسعاً، ويستمر في خطبته. فسميت هذه المسألة بالمنبرية لدى أهل علم الفرائض، فإن أصل المسألة من أربعٍ وعشرين، وعالة إلى سبع وعشرين، والأصول العائلة ثلاثة فقط، والأصل الثالث من أصول العول هو أصل أربعة وعشرين ولا يعول إلا مرة واحدة وهي عوله إلى سبعة وعشرين كما بين علي في هذه المسألة، لكن السرعة الهائلة في الحساب جعلته لا يفكر ولا يقطع خطبته، ويستمر على نفس القافية التي كان مستمراً عليها في خطبته، فيقول: صار ثمنها تسعاً.

    وتجعله كذلك يفكر تفكيراً قليلاً، في أقل أمد الحمل، فيقول: هو ستة أشهر، ويأخذ ذلك من قول الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا[الأحقاف:15] ، مع قوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[لقمان:14] فانتزع عامين من ثلاثين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر، فعامين للفصال وستة أشهر للحمل؛ لأن الله جعل الحمل والفصال ثلاثين شهراً ثم جعل الفصال وحده عامين، أربعة وعشرين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر فهي أقل أمد الحمل.

    وكذلك تجعل آخرين ينتقلون من أحضان الأمهات وتربية النساء المدللة، إلى السفارة الإسلامية الشاملة، وقيادة الأمم بكاملها، فهذا مصعب بن عمير كان أحب الأولاد إلى أمه، وكانت تغدق عليه من أموالها، فلما أسلم آذته وحبسته بين أربعة جدران، وكلفت به أشداء من الرجال يضربونه صباحاً ومساءً؛ لعله يرجع عن دينه فامتنع عن ذلك، ومع هذا يخرج من كل ما كان فيه من النعيم، مهاجراً في سبيل الله سفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقيم أول لبنة من لبنات الدولة الإسلامية، يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة عندما بايعه الأنصار وسألوه أن يرسل معهم إماماً لهم، اختار هذا الشاب الحدث، فأخرجه إماماً للمدينة الجديدة التي هي عاصمة الإسلام، فيخرج وليس معه من الدنيا إلا سيفه وبردته، ويعطيه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء يوم بدر، ويعطيه اللواء يوم أحد، ولما قتل يوم أحد لم يكن عنده من المال إلا بردته تلك وسيفه، فكانوا إذا غطوا رجليه بدا رأسه، وإذا غطوا رأسه بدت رجلاه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه، وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، فخرج ولم يتعجل شيئاً من هذه الدنيا.

    وكذلك الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى الملوك، فكانوا في المجال الدبلوماسي خير السفراء، كـعبد الله بن حذافة بن قيس الذي أرسله إلى كسرى، وكـدحية بن خليفة الكلبي الذي أرسله إلى هرقل ، وكـعمرو بن العاص الذي أرسله إلى المنذر بن ساوى ، وغير هؤلاء من الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق فكانوا خير السفراء لهذه الأمة الإسلامية.

    نماذج ممن تربى على يد الصحابة والتابعين

    ومثل ذلك القادة الذين برزوا فقادوا هذه الأمة في أحلك الظروف، في حروبها ومشكلاتها، إنما كانت قياداتهم من آثار تربيتهم، فهذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزن بألف رجل، عندما أرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستنجده بثلاثة آلاف مقاتل، فأرسل إليه عمر ثلاثة رجال فقط، هم: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ، فكتب إليه: لقد أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت العدو فاجعلهم صفاً بين العدو وبين المسلمين، فكان عمرو بن العاص يجعل هؤلاء في الواجهة أمام المسلمين، فلا يرجعون على أدبارهم حتى يهزم العدو.

    يحدثنا الزبير عن تربية أمه له، فيقول: كانت صفية بنت عبد المطلب تضربني في صباي ضرباً شديداً، فكان عمي ينكر ذلك عليها، ويزعم أنها تبغضني، فكانت تقول:

    من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب

    ويهزم الجيش ويأتي بالسلب

    جاءها رجل ذات يوم فقال لها: أين الزبير ؟ فقالت: ما حاجتك إليه، قال: أريد أن أقتله، فقالت: هو في النخل، فاذهب إليه! فذهب الرجل إلى الزبير فاعتركا، فأخذه الزبير فكتفه بحبل وجعله على كتفه وجاء به يحمله، فرماه بين يدي أمه صفية ، فضربت رأسه بمغزل، وقالت له: كيف وجدت زبراً، أعسلاً وتمراً، أم أسداً هزبراً؟!

    وكذلك فإن تربية النبي صلى الله عليه وسلم له، وتهيئته للقيام بمعارك الإسلام الفاصلة كان لها الأثر البارز في شجاعة الرجل وإقدامه، فقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من المعارك أمام العدو، ولذلك يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل

    فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يبذل

    ومثل هذا تربية أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير ، الذي جاءت به حين ولد إلى بيت أختها عائشة ، فوضعته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، ثم تربى تربية أبي بكر والزبير بن العوام ، حتى إنه كان في خطابته يشبه بـأبي بكر ، وفي فروسيته يشبه بـالزبير ! عندما خرج مع عبد الله بن أبي سرح في الجيش الذي وجهه عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع إلى أفريقيا، خرجوا في ثلاثة آلاف فدخلوا أرض برقة وهي أرض ليبيا، فاستقبلهم جيش البربر في مائة وعشرين ألف مقاتل، وعليهم ملك أفريقيا وهو جرجير ، وكان بين قينتين تغنيان وهو يركب بينهما في مركب، فلما رأى ابن أبي سرح الجيش وكثرته دخل قبة له، فقال: لا يدخل عليَّ أحد حتى أفكر في خدعة، فاقتحم عليه ابن الزبير فرعب منه، فقال: إنه ظهرت لي خدعة، فقال: وما هي؟ قال: أن تعطيني مائة مقاتل يحمون ظهري، فأخرج كأني رسول إلى الملك فأطير رأسه، وحينئذ سينهزمون، فأذن له ابن أبي سرح بذلك، فخرج، فاختار مائة فارس وخرج يشق صفوف العدو، وهم لا يظنون إلا أنه يحمل رسالة إلى الملك، حتى وصل إليه فأطار رأسه من بين القينتين، ودارت المعركة، وانقض المسلمون عليهم، وقتلوهم قتلاً.

    ثم إن ابن أبي سرح وجه عبد الله بن الزبير بالبشارة إلى عثمان بن عفان ، فأتاه بداره فأخبره بتفاصيل المعركة، وقد كان عثمان في العادة إذا أتاه بشير عن معركة من المعارك، وقفه على المنبر فشرح للناس تفاصيل ما حصل، كما كان يفعل عمر من قبله، لكنه في هذه المرة آثر أن يتقدم ابن الزبير فيقف على المنبر، فيقص على الناس تفاصيل المعركة، وما ذلك إلا لشدة تأثر عثمان بما سمع من قص ابن الزبير وما دار في المعركة، فهو قص إنسان مباشر، دخل المعركة وأفاد فيها، وأبلى البلاء الحسن.

    فلما وقف ابن الزبير على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وسمع ذلك المسلمون بكوا بكاءً شديداً، حين تذكروا خطبة أبي بكر ، فقالوا: ما هو إلا أبو بكر .

    وكذلك الذين كانوا بعد هؤلاء من التابعين تربوا على تربيتهم، فلذلك كانت لهم الآثار البارزة في نصرة الله ورسوله، وتحمل أعباء هذه الأمة، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي ، وكان شاباً من شباب المسلمين خرج بالجيوش إلى خراسان، فافتتح في غزوة واحدة اثنتين وسبعين مدينة، وكان من أشهر المسلمين في الفتوحات، حتى إنه لم تهزم له راية قط في معاركه كلها، وكان شاباً حديث السن، لكنه كان ذكياً مؤمناً محباً للجهاد في سبيل الله، حاصر حصناً من الحصون فترة فلم يفتح عليه، فقال للمسلمين: لعلكم قصرتم في سنة من سنن الدين؛ حبس الله عنكم الفتح لأجلها، فنظروا فإذا هم قد تأخروا عن السواك، فقد كانوا في أرض ليس بها من الشجر ما يستاكون به، فأمر بعض القوم فأتاهم بالمساويك، فلما صفوا في أوجه العدو جعلوا يستاكون، فظن العدو أنهم يشحذون أسنانهم ليأكلوهم ففتحوا لهم الحصن.

    نماذج لأهل التربية والهمم العالية

    وكذلك الذين برزوا في العلم وحمل هذه الرسالة والأمانة العظيمة، إنما كان ذلك أثراً من آثار تربيتهم، فهذا سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى يقول: دعتني أمي، وكانت ذات همة وحرص على العلم، فقالت: يا بني! إن لدي همة لجمع العلم، وإني امرأة لا أستطيع أن أغشى مجالس الرجال، ولكني سأكفيك أمر الدنيا بمغزلي، وتكفيني أنت أمر العلم، فكانت تلك المرأة ذات مغزل فتبيع ما غزلته من الصوف، وتنفق به على ولدها، وتغدق عليه الأموال التي يتزود به لأسفاره، ويجمع بها الكتب، ويستطيع بها التفرغ لطلب العلم، فاشتركا في الأجر: فالمرأة تغزل الصوف وتبيعه، والرجل تفرغ لطلب العلم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين.

    وكذلك مالك بن أنس رحمه الله يقول: دعتني أمي، وكنت أشتغل بضرب العود، أي بتعلم الغناء في ذلك الوقت وهو صغير، فقالت: يا بني! إنها حرفة لا تصلح لك، فعممتني بعمامة، وكستني ثوباً أبيض، وأعطتني صرة من الدراهم، وقالت: اذهب إلى المسجد فلا ترجع إليَّ حتى تكون رأس الحلقة، وكذلك ربيعة بن فروخ وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك ،الذي اشتهر بـربيعة الرأي ، ما رباه إلا أمه، فإن أباه خرج في الغزوة فمكث أربعاً وعشرين سنة في غزوة من الغزوات، وقد ترك ولده حملاً، فلما رجع وقفل من غزوته جاء إلى بيته فاستقبله رجل، فدخلا في عراك حتى عرف أنه ولده الذي تركه حملاً، وإذا هو عالم المدينة إذ ذاك دون مدافع، فسأل امرأته عن المال الذي تركه عندها، قالت: أنفقته على ولدك حتى أصبح عالم المدينة.

    وكذلك غير هؤلاء من الذين برزوا في هذا المجال، كان للتربية الأثر البالغ فيهم، سواء كانت تلك التربية من تربية الأمهات أو من عناية الآباء أو من تربية المربين الآخرين، فهذا أبو يوسف القاضي كان ذكياً جداً، وكان أبوه يحرص على تعليمه بعض المهن الدنيوية، يريد أن ينال من ورائه كسبا ًمادياً، فكان يمر على حلقة أبي حنيفة فيسمعه يناظر في الفقه فتعجبه المناظرة، فيجلس إليه، فرآه أبو حنيفة فأعجب به، فامتحنه، فأعجب بذكائه، فقال: اجلس إليّ حتى تحمل عني بعض هذا العلم الذي لديَّ فقال: إن أبي يمنعني ذلك، فقال: وما حاجة أبيك إليك، قال: يريد مالاً، فقال أبو حنيفة : أنا أكفيك ذلك، فكان أبو حنيفة يعطيه مالاً يقدمه لأبيه كل شهر، ويجلسه هو في مجلسه يتعلم، حتى أصبح الناس يقولون: أبو يوسف وأبو حنيفة ، فهو صورة طبق الأصل من أبي حنيفة .

    وكذلك فإن أبا جمرة رحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: جلست إلى ابن عباس فكنت أترجم بينه وبين الناس فقال: اجلس عندي شهراً؛ حتى أعطيك قسطاً من مالي، فتقاسم ابن عباس ماله مع أبي جمرة حين أعجب بعلمه، يريد منه أن يتفرغ للحديث وحمل العلم، وكذلك يذكر عن مالك أنه قاسم الشافعي ماله تشجيعاً له على طلب العلم، وكذلك كان محمد بن شهاب الزهري إذا رأى من يعجبه ذكاءه من الطلبة أنفق عليه الآلاف من الدنانير؛ لكي لا تشغله الدنيا والتفكر فيها عن طلب العلم، فكان يفرغ طلاب العلم، فيحتمل الديون في ذلك.

    ومثل هذا ما كان عليه عبد الله بن المبارك العالم المجاهد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان من أشد هذه الأمة قياماً بالحق، فكان إذا رأى من يعجبه ذكاءه أنفق عليه؛ ليقوم لهذه الأمة مقاماً تحتاج إليه، وكان إذا خرج بالحج يأخذ أزواد طلاب العلم فيقول: كل من معه شيء من المال فليأت به، فيأتون بأموالهم، فيتركها عبد الله في مروة، وينفق عليهم من ماله الخالص طيلة الحج، حتى إذا رجع إلى مروة سلم إلى كل واحد منهم ماله الذي أخذ منه، وهم يظنون أنهم يأكلون من أموالهم وأزوادهم، وهم إنما يأكلون من مال عبد الله وزاده؛ ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:

    إذا غاب عبد الله عن مرو ليلة فقد غاب عنها نورها وجمالها

    وقد كتب رحمه الله إلى الفضيل بن عياض -وكان عبد الله إذ ذاك في الغزو إلى أرض فارس، فلقي ركباً يذهبون إلى الحجاز- رسالة يقول فيها:

    يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

    من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

    أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

    فلما بلغت هذه الأبيات الفضيل بن عياض بكى بكاءً شديداً حين علم أن الجهاد أفضل مما هو فيه، وأن ابن المبارك والزمرة الذين معه من طلاب العلم هم في نحور العدو وفي الجهاد في سبيل الله في الثغور، فقال للرسول الذي أتاه يحمل هذه الرسالة: لأحدثنك بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالحديث الذي فيه: (لا يجتمع غباران في أنف امرئ مسلم: غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم).

    وهكذا الذين أتوا بعد هؤلاء قد اعتنوا عناية بالغة بتربية أولادهم وطلابهم؛ ليكونوا أهلاً لتحمل المسئولية، يحدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله أنه كف بصره وهو صغير في الرابعة من عمره، فقالت له أمه: إن من كان أعمى لا يزينه عند الناس إلا العلم، فاشتغل بحفظ السنة، فإن ذلك يعوض لك ما فقدت من البصر، قال: فاشتغلت بحفظ السنة، واعتكفت ذات ليلة في المسجد وأنا أطلب السنة، فسألت الله أن يرد عليّ بصري، فرده علي، ومع ذلك استمر على الاشتغال بحفظ السنة، وكانت أمه تنفق عليه وتفرغه لطلب الحديث، فإذا أراد الرحلة إلى أي مدينة من أنحاء العالم زودته أمه بأحسن زاد، واختارت له أحسن مركب، وما ذلك إلا من عمل يدها، ولهذا لم تبق حاضرة من حواضر العلم في الأرض إلا دخلها البخاري، وروى ما فيها، حتى بلغت مروياته سبعمائة ألف حديث.

    وكذلك حال أبي محمد الجويني رحمه الله، فإنه أراد أن يولد له ولد يربيه على منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من علماء هذه الأمة، فاكتسب من الحلال حتى أحرز أربعمائة درهم، فأرسل بها إلى رسول أمين إلى أرض الثغر فاشترى له جارية من أرض الثغر، لم تتداولها الأملاك بعد، فأتاه بها، فحرص على تغذيتها من الحلال، ورباها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها، وحرص على منعها من مخالطة الناس، وكان يوقظها لقيام الليل معه ويلزمها بصيام النفل معه، ويعودها على الطاعات والعبادات، حتى أتت بولدها وهو أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني ، فلما ولد منعها من مخالطة الناس، وكان يسعى في الكسب من الحلال للنفقة على زوجه وولده، وكان يأمرها بإرضاعه إذا أكلت من حلال، وبينما هو يصلي ذات يوم، إذ دخلت البيت امرأة فخفف من صلاته وأقبل مسرعاً، فإذا المرأة ترضع ولده، فغضب غضباً شديداً، فيقول عبد الملك : فأخذ برجلي وحملني وعصرني حتى أخرج من بطني كل شيء كان فيه، قال: فكانت بعد ذلك تأخذني كبوة عند المناظرة ما أراها إلا من تلك المصة!

    وكذلك يحدثنا الشيخ أحمد زروق رحمه الله في تربية جدته له، يقول : إنه توفيت أمه عند مولده قبل أن يسمى، وتوفي أبوه بعد ذلك بشهر فربته جدته من الأم، فاعتنت بتربيته عناية عظيمة، وقد قص هذه العناية فذكر من أعاجيبها أنها كانت إذا جاعوا تركته حتى ينام، ثم تخرج فتكتسب فتشتري غذاء من التمر والخبز، فتجعله تحت طرف الفراش، فإذا استيقظ جائعاً تقول له: ما لنا إلا أن نسأل ربنا، فتعال بنا نسأل ربنا أن يرزقنا، فيمد يديه ويضرع إلى الله ويبكي وتبكي معه، ثم تقول: إن ربنا قد أعطانا هذا فتكشف الفراش عما تحته من التمر والخبز، وكذلك إذا احتاج إلى اللباس تتركه، حتى إذا انصرف في طلب العلم أو نحو ذلك، فتكتسب هي حتى تشتري له ملابس، ثم تضعه تحت طرف الفراش وتسترها في البيت، ثم تأمر الصبي بالضراعة إلى الله لعل الله يرزقه لباساً، وتعوده على هذا، حتى يقول هو عن نفسه: ما تعلمت اللجأ إلى الله إلا من جدتي تلك، فكان يلجأ إلى الله في شأنه كله.

    واللجأ إلى الله مهارة تربوية عظيمة، فإن كثيراً من الناس إذا نابتهم نائبة لجئوا إلى الناس، ولم يلجئوا إلى الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يلجأ إليه، ويسأل وتلتمس منه الحوائج هو وحده الغني الحميد، يقول المكودي رحمه الله:

    إذا عرضت لي في زمان حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد

    وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد

    ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد

    الذي يقول حارسه: سيدي اليوم راقد هذا لا تلتمس منه الحوائج، فلذلك يقول: إنه إذا التجأ إلى الله بأي شيء يسره له، وكذلك يقول السهيلي رحمه الله:

    بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرع

    يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

    يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع

    يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع

    ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع

    ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع

    ومن الذي أدعوه وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

    حاشا لمجدك أن تقنط داعياً الفضل أجزل والمواهب أوسع

    يقول أحد علماء الشام: كنت معتكفاً في بيت المقدس في رمضان، والمسجد يموج بالمعتكفين، فنام الناس غفوة من وسط الليل، فقام إبراهيم بن أدهم يتضرع إلى الله فيقول:

    إلهي عبدك العاصي أتاك مقر بالذنوب وقد دعاك

    فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك

    فلم يبق أحد في المسجد إلا ردد معه هذه الأبيات من شدة تأثيرها وتعلقها بالله سبحانه وتعالى وحده، وأثر ذلك بالغ فهذا أحد المشايخ رحمه الله أخذه النصارى الفرنسيون فجعلوه في زورق حربي كان يسمى (بني)، فنقلوه يريدون تغريبه، وإخراجه من بلاده؛ بسبب مخالفة حصلت منه لأمرهم، فلما أيقن أنهم قد أخذوه، وأنه لا تصرف له في الأمر، انتزع عمامته من فوق رأسه، والتجأ إلى الله عز وجل وقال:

    أقول لما أتى ....... بنا بُنيٌ وغرب عنها وهو منجزل

    يقصر الطرف عنه وهو مجتهد عدواً ويقصر عنه العربد الرعل

    تلقي دواخله من خلفه ظللاً من فوقها ظلل من تحتها ظلل

    الله صاحبنا سفراً وحافظنا رب العباد إليه الوجه والعمل

    ولم يخب أمل بالله معتلق ولم يضع من على الرحمن يتكل

    فلما انتهى من الأبيات، وقع ماتور الزورق في البحر، فجاء إليه قبطانه يشكو إليه ما حصل، فلجئوا إلى الشاطئ، وانتهت المهمة على هذا الحد، ورجع معززاً مكرماً، وكبت الذي كفر؛ ولذلك كان يقول: أنه إذا جاءته أي نازلة دعا الله تعالى بأبياته المشهورة بالدعاء التي يقول فيها:

    يا رب إني إلى رحماك محتاج وأنت من ترتجى من عنده الحاج

    أبواب فضلك ما زالت مفتحة ما إن لها دون من يرجوك إرتاج

    وبحر جودك غمر كلما نفدت أمواج خير تداعت منه أمواج

    منهاج قصدك للحاجات إن حضرت لا ريب في أنه للقصد منهاج

    لا يغتني سوقة عنه ولا ملك ما زال يورث في آبائه التاج

    ومن يؤمك في الحاجات أجمعها منه سيحمد عند الصبح إدلاج

    فيقول: ما دعا بهذه الأبيات في مهمة إلا تحققت.

    ومثل ذلك ما يقول الشيخ محمد علي بن عبد الودود رحمه الله:

    إني ولو كنت محتاجاً لمحتاج لخير من ترتجى من عنده الحاج

    فمنه أطلب حاجي دون واسطة تكون مثلي كما أحتاج تحتاج

    وكان يقول كذلك:

    لا آمل الناس في سرٍ ولا علنٍ في حالتي ثروة مني وإفلاس

    ولا أرى الرزق إلا عند خالقه ولا أضيف أمور الله للناس

    إن هذا نوع من التربية يقتضي الاتصال بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده، وبذلك يتقوى الإنسان قوة خارقة، ليست على مستوى قوة الأسباب، فالذي يتصل بالملك الديان سبحانه وتعالى ويسند إليه شأنه كله، قد استعاذ بمعاذ وأوى إلى ركن شديد، ولهذا فهو الغالب لا محالة؛ لذلك كان كثير من السلف ينشد قول الشاعر:

    فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

    وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

    إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

    وهذا المعنى هو الذي يقول فيه العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:

    أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي

    وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي

    أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي

    ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال

    وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالاموال

    متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال

    1.   

    قراءة سير الأفذاذ تشحذ الهمم وتقوي العزائم

    إن قراءة سير هؤلاء السلف واتصالهم بالله سبحانه وتعالى وما بذلوه في سبيل دينه من الأمور المثبتة على دين الله، التي يحتاج إليها الإنسان في كثير من مواقفه، فعندما تشتد الأزمات ويتكالب الأعداء على دين الله، يلجأ المسلمون إلى قراءة سير سلفهم الصالح، فيجدون فيها متنفساً، ويجدون فيها تقوية لعزائمهم، وتثبيتاً لهم على منهج الله، وإقناعاً لهم بثوابتهم التي لا تتغير ولا تتبدل، وعندما يضيق حال إنسان في هذه الدنيا فيأسى لذلك، يرجع لقراءة سير السلف الصالح فيجد فيها تسلية عما أصابه، ويجد فيها عزاءً، وثقة بالله سبحانه وتعالى وتوكلاً عليه، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله به قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120].

    أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، قال: (فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فقال: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق به فرقتين، لا يصده ذلك عن دينه، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، إن هذه القصة التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال السابقين مثبتة للمؤمنين الذين يكون بلاؤهم دون ذلك، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما آذاه رجل فوقف عليه فقال: يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، ابتسم ونظر إليه وقال: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).

    إن تذكر أحوال أولئك والنكبات التي أصابتهم معين للإنسان على التزام طريق الحق والثبات عليه، والإنسان محتاج إلى مراجعة نفسه وزيادة تربيته من خلال سير هؤلاء الصالحين، ومما يحتاج الناس إلى مراجعته اختيارات العلماء في هذا الباب، فمثلاً يحتاج طلاب العلم إلى مراجعة كتاب الذهبي ، تذكرة الحفاظ، فقد اختار فيه تراجم عدد من الحفاظ الذين بذلوا أسباباً أنجحها الله سبحانه وتعالى، فحفظوا العلم للناس، وكذلك بقراءتنا لكتابه الآخر (سير أعلام النبلاء) يتبين لنا مواقف كثير من المضحين الباذلين في سبيل الله.

    إن كل نوع من الناس عليه أن يقرأ في تراجم الذين يريد أن يجعلهم مثلاً حسناً له، فطلاب العلم عليهم أن يقرءوا سير حفاظ العلم ورواة الحديث، والتجار والأغنياء عليهم أن يقرءوا سير الباذلين في سبيل الله، كسيرة عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و سعد بن عبادة بن دليم وغيرهم من المضحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذلين.

    وكذلك النساء عليهن أن يدرسن سير نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته اللواتي بايعنه من أهل الإيمان من المهاجرين والأنصار، وكذلك سير من لحقن على هذا الدرب وسلكن هذا الطريق على مر العصور، إن كل شريحة من المجتمع تركن إلى نظيرتها، ويمكن أن تتأثر بها أبلغ تأثر، فإذا قرأ الملوك تراجم الملوك الصالحين، وقرأ طلاب العلم تراجم العلماء، وقرأ التجار تراجم المضحين؛ فإنهم سيحاولون اللحاق بهم، وسلوك طريقهم، ويكون ذلك وقوداً لهم وعوناً لهم على الاستمرار على هذا المنهج وسلوك هذا الطريق، وما لم يفعلوا فإن التربية ستبقى أموراً نظرية يتهمها كثير من الناس بعدم الواقعية؛ ولذلك فإن بيان الإمكان محتاج إليه، كما يقول أهل البلاغة في قول امرئ القيس :

    مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ

    فإن قوله: (مكر مفر مقبل مدبر معاً) لا يمكن تصوره إلا بالمشاهدة، فلما مثله بقوله: (كجلمود صخر حطه السيل من عل) عرف الناس إمكان ذلك.

    فلهذا نحتاج إلى بيان الإمكان، وما ذلك على الله بعزيز، وبدراستنا لسير هؤلاء يتبين لنا إمكان تطبيق منهج الله الذي ارتضاه لعباده، وإمكان أن يكون الناس على وفق ما ارتضاه لهم بارئهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وإمكان أن يتدارك الإنسان ما فاته، فهذا العز بن عبد السلام ما طلب العلم إلا بعد أن أكمل ستين سنة، ومع ذلك أصبح مفتي العالم كله، وأصبح سلطان العلماء، بل حين حكم بتكفير أحد وزراء مصر، كان الناس جميعاً لا يلتفتون إليه ولا يتقبلون منه كلمة، بل أرسله الملك برسالة إلى ملك نائي المكان، فلما أتاه بالرسالة قال: من أنت؟ فقال: وزير من وزرائه، قال: لا تكن أنت الذي كفرك العز بن عبد السلام ، فبهت الرجل فقال: أخرجوه عني فهو الذي كفره العز بن عبد السلام .

    وحين غاضب ملك مصر خرج من مصر على أتان وحمار له، يحمل على أحدهما زوجه وعلى الآخر كتبه، فلما رآه الناس خارجاً من مصر خرجوا جميعاً في أثره، فجاء الجند إلى الملك، وقالوا: إذا كنت تريد أن تكون ملكاً على مصر فقد خرج أهلها جميعاً مع العز بن عبد السلام ، فإنك لن تكون ملكاً إلا على الخلاء الذي ليس فيه أحد، فذهب الملك إليه يسترضيه ويسترجعه حتى رجع.

    وهذا النووي رحمه الله الذي خرج من نوى شاباً حدث السن، وذهب إلى دمشق، واشتغل بطلب الحديث، عزم على أن لا ينام مضطجعاً حتى يعود إلى أهله، فمكث في دمشق سبع عشرة سنة ما نام مضطجعاً، لا ينام إلا مستنداً على سارية من سواري المسجد ويضع عينيه على يديه فوق ركبته؛ لكي لا يستغرق في النوم عن طلب العلم، ولهذا كان أسلافنا يقولون: الحر فيما مشى.

    وكذلك لم يأكل خياراً مدة مقامه بدمشق، قال: إن أكله يؤدي إلى الركون إلى الدنيا، فلم يأكل خياراً مدة مقامه في دمشق، والخيار نوع من البقول معروف.

    1.   

    صور فريدة وشخصيات فذة في العصور المتأخرة

    هناك عدد من الذين سعوا في التمكين لدين الله سبحانه وتعالى، حتى من المتأخرين وفي العصور المتأخرة، وكانت لديهم هذه الهمم التي تمنعهم من النوم والراحة، وتقتضي منهم التضحية والبذل، فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان قد خرج وهو شاب في طلب العلم إلى مكة، وكان معه أبوه الذي كان قاضياً يأكل الرشوة، فكان ولده ينكر عليه ذلك، فلما خرج إلى مكة حاجاً مع أبيه تخلف عنه في طلب العلم، ثم انتقل من مكة إلى المدينة، ثم من المدينة إلى البصرة، حتى جمع كثيراً من علم زمانه، ثم خرج إلى بلاده فسعى في تغيير المنكر، فلم يجتمع حوله إلا فتية صغار ليس لهم أي مكانة في المجتمع، لكنه أراد أن يكاثر بهم أهل الباطل، فوقف في وجهه في البداية سلاطين بلده، فأخرجوه من العيينة في وقت الظهيرة وشدة الحر حافياً راجلاً، يحمل شرابه على كتفه ليس معه أحد، فأتى الدرعية فنزل في المسجد وقت صلاة الظهر، فلما رآه أهلها رأوا شخصاً غريباً عنهم، فتقدم ودعا إلى الله سبحانه وتعالى، وأرشد إلى طريق الحق، فأول من اجتمع إليه والي الدرعية، فاستجاب لدعوته، فقال: ابدأ بنفسك فغير ما أنت فيه من الحرام، واترك الضريبة والإتاوة التي تأخذها على الناس، ثم بعد ذلك يمكن الله لك في الأرض، ويستعملك لنصرة دينه، فإن الله لا ينتصر بالفجار، فاستجاب له الرجل، حتى بنى دولة عظيمة خرجت منها قوافل الجهاد والدعوة في كل مكان.

    ومثل ذلك ما حدثني به أحد الذين كانوا يترددون على حسن البنا ، فإنه عندما خرج شاباً من دار أهله في القاهرة كان فقيراً لا يملك شيئاً، فلما أتى القاهرة شغل بالتردد بين حلق العلم في الأزهر وغيره، وكان يصحب الشيوخ إذا انتهت دروسهم إلى منازلهم، يسألهم ويستعير كتبهم، فيقرؤها ويردها، ويتفحص أحوال الأمة، واستطاع أن يحصل على ملكة يعرف بها حال الشيوخ، فيعرف من يستفاد منه في علم معين ولا يستفاد منه في غيره، ومن لديه أخطاء في العلم الفلاني ومن لديه أخطاء في الجانب الفلاني، وهكذا.. ثم احتاج إلى ما ينفق به على نفسه، وكان صاحب تعفف وزهد.

    قال: فذهبت إلى صاحب بقالة، فسألته أن أعمل عنده ساعتين من النهار في وقت الظهيرة، في الوقت الذي ليس فيه دراسة رسمية ولا حلقات في المساء، فالدراسة صباحية والحلقات العلمية في المساء، فأعطاه ذلك دراهم قليلة مقابل عمل ساعتين يومياً من كل يوم، فكان يعمل في البقالة في وقت الظهيرة، ويأخذ تلك الدراهم وينفق بها على نفسه وعلى من معه من طلاب العلم، حتى أحرز ما أحرزه، فذهب إلى الإسماعيلية فأقام دعوته في البداية بخمسة أشخاص فقط، ومع ذلك عندما رجع إلى القاهرة، وانتشرت دعوته بين الناس، حدثني أحد الذين كانوا معه قال: ما كان ينام إلا لماماً، يقول: كنت آتيه في آخر الليل فإذا هو مضطجع على فراشه بعد أن أكمل قيام الليل يلصق طوابع البريد على ظروف جريدته التي كان يوزعها، وقد كان آنذاك يدير جريدتين فيكتب عناوين المشتركين، ويلصق الطوابع البريدية على الظروف في وقت نومه، فسألته فقلت: رحمك الله! أليس هذا الوقت وقت نوم؟ فقال: إني لأستحي من نفسي أن يأتيني شباب صغار لا يقال عن أحد منهم مرشد، فإذا هم من الصباح إلى مثل هذا الوقت وهم يعملون في خدمة دين الله، فأنا أستحي أن ترفع إليّ الأعناق ويشار إليّ بالبنان وأنا لا أفعل مثلما يفعلون.

    وكذلك عز الدين القسام رحمه الله الذي كان في فلسطين وقت مجيء اليهود بعمليتهم الماكرة، عندما أتوا بالتدريج، فكانت إرسالياتهم في البداية مجرد رهبان يتعبدون في بيت المقدس وفي الكنائس المحيطة به، ثم بعد ذلك أصبحوا يشترون البيوت الخربة ويسكنونها، ثم أصبحوا بعد ذلك يأتون باليتامى فيربونهم في تلك الأرض، ثم بعد ذلك أصبحوا يأتون بالتجار الذين في ظاهر الأمر يعمرون الأرض ويرغب الناس في مجاورتهم، ثم أتوا بعد بمستوطنين، وما زالوا يسحبون على فلسطين حتى احتلوها، وحالهم فيها هو الحال المعروف لديكم الآن، فهم أهل مكر وخديعة أتوا بهذا التدريج، وقد شهد ذلك عز الدين القسام من بدايته، فرأى أن اليهود في أول إتيانهم كانوا فقط عباداً رهباناً منعزلين إلى العبادة، ثم أصبحوا بعد ذلك يشترون البيوت الخربة، ثم يربون اليتامى من اليهود، ثم بعد جاء تجارهم، ثم بدأ مستوطنوهم يأتون بأهليهم، فعرف أن القضية مسلسل لا نهاية له، فتجرد للجهاد في سبيل الله لإخراج اليهود من أرض فلسطين، وكان شاباً في بداية أمره، ليس له أي قوة لا من الناحية السياسية ولا من الناحية المادية، والخلافة العثمانية آنذاك في أوجه انشغالها وضعفها، لكنه مع ذلك وجد أعواناً من شباب المسلمين الذين كانوا يكتمون مساعدته عن آبائهم وأمهاتهم.

    يحدثني أحدهم -رحمة الله عليه- وهو الشيخ أحمد فرج عقيلان وكان من كتائب القسام في بداية نشأته، يقول: كنت شاباً فكان القسام يجمعنا في آخر الليل، فنختفي عن آبائنا وأمهاتنا للتدريب والتكوين، فكنا نبدأ التدريب دائماً بالأذكار ثم بقيام الليل ثم بقراءة حزب من القرآن، ثم بعد ذلك بالتدريب العسكري ثم نختم بالدعاء، فأمسكت بي أمي ذات ليلة، فلما ضاق وقت الموعد كادت تضيق عليّ الأرض بما رحبت، فلما رأت أمي ما أنا فيه سألتني: إلى أين تتجه؟ فصارحتها ولم أجد بداً من ذلك، فيقول: فخرجت أمي في أثري، فلما رأت ما نحن فيه تأثرت به تأثراً بالغاً، فجاءت من الغد تحمل حليها، فقالت: خذ هذا وسلمه للشيخ عز الدين يعينه على الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك الوقت بدأت مشاركة النساء في الجهاد في فلسطين.

    إن التضحية تبدأ في البداية صغيرة ثم تكبر، عندما يتقبلها الله تفتح لها أبواب السماء فتأتي بالخير الكثير، لكن لا بد في ذلك من الهمم والنماذج التي يقتدى بها، ويحتذى بأثرها، فهذا علال الفاسي رحمه الله يقول:

    أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب

    ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب

    وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب

    ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب

    على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب

    ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلب

    إن أصحاب الهمم العالية هكذا يعيشون، وهم الذين يستطيعون تحمل المسئوليات والقيام بشئون أمتهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله المضحين في سبيله، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، وأن يعزنا بدينه وأن يعز دينه بنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    كل حكم شرعي لابد له من فقه الشرع وفقه الواقع

    السؤال: ما تعليقكم على ما يطرح اليوم في الساحة مما يسمى بالتجديد في الدين وفقه الواقع، وينادي أصحابه بطرح بعض النصوص؛ نظراً لأنها لا تنسجم مع واقع اليوم، ويقولون: لكل زمان فقهه وواقعه، مستدلين لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فما هو حد هذه الأشياء التي لا يبحث عنها؟

    الجواب: جوابنا أنه لا شك أن كل زمان له واقع يختلف فيه الحكم باختلافه، لكن مع ذلك فإن التجديد له إطار محدد، فلا بد أن يقتصر فيه الإنسان على المأذون فيه بالتجديد، وعلى مواقع الاجتهاد، ولابد من التمييز بين ثوابت الشرع ومتغيراته، فللشرع ثوابت هي الأصول، لا يمكن التطوير فيها ولا التغيير، وفيه متجددات وهي ما يتجدد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والنيات، وهذه كثيرة وأحوال الناس فيها واضحة؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة)، حينما نهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، وبين صلى الله عليه وسلم في عدد كثير من الأحاديث أحكام الضرورة، وبين أن الضرورة تبيح المحظور، وهذا ما جاء في قول الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119] وفي قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ[البقرة:173] وفي غير ذلك من الآيات.

    وعلى هذا فلا بد من فقه واقع الناس؛ حتى يعرف الإنسان هل هم أصحاب ضرورة أو أصحاب حاجة؟ وما هو قدر تلك الضرورة حتى لا يتعدى محلها؟ وكذلك لا بد من فقه الدين حتى يؤخذ من الدين الحلول للمشكلات الواقعية؛ لذلك يقول الشاطبي رحمه الله: كل حكم شرعي مؤلف من قضيتين: قضية صغرى واقعية وقضية كبرى شرعية، فمثلاً: لو صلى إنسان إلى جهة الغرب في هذا المكان، فقلت له: صلاتك هذه باطلة؛ فهذا حكم شرعي مؤلف من قضيتين، إحداهما: واقعية وهي الصغرى، وهي أن هذه الصلاة إلى غير القبلة، والقضية الثانية: هي أن كل صلاة إلى غير القبلة فهي باطلة وهي قضية شرعية.

    ومن هنا: فإن الخوارج إنما ضلوا بسبب إرادتهم تحكيم النصوص دون الذهاب إلى الواقع، عندما نادوا بتحكيم كتاب الله فقط، وأرادوا أن يكون القرآن حاكماً وأن لا يحكم الرجال في كتاب الله، قال علي رضي الله عنه: إنها دعوة حق أريد بها باطل، فهم أنكروا على علي رضي الله عنه تحكيم الرجال في كتاب الله، وقالوا: إن القرآن هو الحاكم ولا يحكم فيه الرجال، فعندما ناظرهم ابن عباس في هذا قال: أرأيتم قتل أرنب في الحرم أعظم أم قتل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بل قتل الأمة أعظم، قال: فإن الله تعالى حكم الرجال في كتاب الله في أرنب تقتل في الحرم، فقال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ[المائدة:95] فأقنعهم بهذه المسألة.

    إن كثيراً من الناس يظن أننا إذا قلنا بتجدد الاجتهاد، أو بتجدد آلياته، أو بمراجعة بعض الشروط الاجتهادية التي يضعها الفقهاء يظن أن هذا معناه: هدم بعض ما تقرر من الشرع! لكن شتان، وهيهات، فثوابت الشرع هي ما جاء في النص من القرآن والسنة واضح الدلالة، وهذه لا تقبل التبديل ولا التغيير.

    أما الأمور الاجتهادية فهي متقلبة باختلاف أحوال الناس، فلا شك أن الشارع جعلنا بين سورين أحدهما: سور الرخصة والثاني سور العزيمة، فسور الرخصة يؤخذ به للضعفاء والمعذورين، وسور العزيمة يؤخذ به للأشداء والأقوياء، وبين الأمرين تأتي التفصيلات والخلافات الفقهية، فلا تخرج من بين هذين السورين: سور الرخصة وسور العزيمة.

    فلهذا لا بد من فقه الواقع؛ لقول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108] ، وفقه الواقع يقتضي من الإنسان أن يعلم المصالح والمفاسد المترتبة على الأمور في الواقع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه الأحزاب فاجتمعوا عليه في المدينة، عرض على هوازن أن يرجعوا عنه عامهم ذلك وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولا شك أن دفع مال المسلمين للكافرين الذين يحاربون المسلمين محرم، ولكنه ارتكب أخف الضررين، فأراد بذلك رد المشركين في تلك السنة بالمال الذي يدفع لهم.

    ومثل ذلك ما حدثنا الله به عن لوط عليه السلام عندما قال لقومه: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ[هود:78] ، فلا شك أن تزويج المسلمة للكافر محرم لقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا[النساء:141] ، لكن الاعتداء على الملائكة أعظم من تزوج الكافر بالمسلمة.

    وكذلك ما يتعلق بتنزيل النصوص في مواضعها ومنازلها، فإن كثيراً من المفسرين يفسرون آيات القرآن على حسب ما أوتوا من العلم في زمانهم، ثم تتجدد الوسائل الأخرى ، والله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن بأسلوب واحد، لو كان كذلك لفهمه الصحابة جميعاً ولم يبق للتابعين منه حظ ولا لأتباع التابعين، ولا لمن بعدهم، والواقع أن كل قوم لهم حظ من كتاب الله يدخر لهم فيه من الفهم ما يقضي حاجياتهم، ويغطي كل النوازل التي تتجدد لديهم.

    ولهذا فالنوازل والوقائع غير محصورة، كل يوم تتجدد النوازل والوقائع التي لا عهد للمسلمين بها، وكل نازلة لله فيها حكم، وذلك الحكم لا يمكن أن يؤخذ إلا بالاستنباط، فلهذا يحتاج إلى إعمال الاجتهاد وفق الضوابط الشرعية للوصول إلى الحلول في كل مشكلة تنزل، وحينئذ لن يكون ذلك الحل قطيعاً لأنه اجتهاد، لكن مع ذلك يتعبد الله به؛ لأن الله أمرنا بإعمال الاجتهاد وبتدبر القرآن وحض على ذلك وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24] وقال: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29] وقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ[الحشر:2] والرسول صلى الله عليه وسلم حض كذلك على إعمال الاجتهاد والعقل، فقال لعمرو بن العاص حين أمره بالقضاء فقال: أأقضي بين يديك، فقال: (اقض، فإن أصبت أقررت، وإن أخطأت رددت عليك)، وقال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن اجتهد فأخطأ كان له أجر)، ولهذا فلا مشاحة في الأمر، فقد يتجدد من الوقائع ما يوجد له حلول في الكتاب وما يوجد له حلول في السنة، وما يوجد له حلول في القياس، ومن لم يستوعب تلك الوقائع ولم يفهمها لا يمكن أن يفتي فيها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

    ولهذا فالعقود الحديثة الكثيرة واستغلال الأجهزة الحديثة في الإثبات وغيره، في أجهزة الاتصال ونحو ذلك من لم يستوعبها ويفهمها لا يحل له الإفتاء فيها، ومثل ذلك أمور تنظيم الدولة والمؤسسات والشركات، فالأمور التنظيمية كلها من لم يكن مستوعباً لها لم يحل له الإفتاء فيها؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33] ، ويقول تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء:36] فكل أمر يتجدد إنما يفتي فيه أهله ولا يحل استفتاء الذين لا يفقهون هذه الأمور فيه، فالذي يذهب الآن بالعقود الحديثة عقود البورصات فيستفتي فيها فقيهاً من أهل البادية، ما عرف شيئاً من الاجتهاد ولا وسائله ولا أدرك شيئاً من فقه الواقع، هذا أخطأ وساعد على المعصية؛ لأن الفقيه لا يحل له أن يفتي في مثل هذا حتى يستوعبه؛ ولذلك كان مالك رحمه الله يكره أن يسأل في المسائل المستجدة، ويقول: إن للمسائل رجالاً يعاصرونها هم أولى بالاجتهاد فيها، وكان إذا سئل عن نازلة ينظر هل وقعت أم لا؟ فإن لم تقع لم يجب فيها، وإن كانت قد وقعت استعان بالله عليها.

    معنى التجديد في الدين

    السؤال: ما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، وما المقصود بهذا التجديد؟

    الجواب: لا شك أن الدين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم يخلق ويجد، قال: (إن الإيمان ليجد في النفوس ويخلق)فيحتاج إلى التجديد، وتجديده في أوجه كثيرة:

    فمنها مثلاً: تجديده بالجهاد في سبيل الله، وتجديده بإقامة حكم الله وعدله في الأرض، وتجديده بإقامة الحدود، وتجديده بتعليم العلم الشرعي، وتجديده بإعادة الناس إلى الاعتقاد الصحيح، وتجديده بإعادة الناس إلى منابع العلم الأصلية، وتجديده بإعادة الناس إلى أخلاق الإسلام وقيمه، وتجديده بالتحاكم إلى شرع الله، كل هذا من تجديد دين الله، ولا يمكن أن يقوم به فرد، فالذين يفهمون المجدد على أنه فرد، ويخصصون عالماً من العلماء أو أميراً من الأمراء لذلك قد غلطوا في الفهم، فلا يمكن أن يجدد الدين واحد، بل لا بد أن يجتمع على ذلك أعداد من الناس تجدد الدين، فمنها من يجدد جانب الاجتهاد، ومنها من يجدد جانب الحفظ، ومنها من يجدد جانب الجهاد، ومنها من يجدد جانب القيم والأخلاق وغير ذلك.

    معنى قول النبي (استفت قلبك)

    السؤال: كثير من الناس ينبهر بحضارة الغرب، فيحصل عنده انهزاميه في النفس، فما نصيحتكم له، وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك

    الجواب: إن الانبهار بحضارة الغرب هو من الإغراق في الماديات وفي هذه الدنيا وأمورها، فالإنسان الذي لا يعرف قيمة الدنيا هو الذي يمكن أن ينبهر بها، أما الذي يعرف قيمة الدنيا، ويعرف أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن كل جديد فيها إلى البلى، وأن كل حسن فيها إلى القبح، لا يمكن أن ينبهر ويغتر بها، فانظروا إلى أحسن البيوت وأحسن المنازل التي تبنى في الأحياء الراقية، لا يمر عليها عشر سنوات إلا وأصبحت قبيحة وأصبح غيرها أحسن منها!

    هكذا الدنيا كلها فكل جديد فيها إلى البلى:

    لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب

    فلذلك جديدها إلى البلى، وحسنها إلى القبح، ومن لم يعرف قيمتها هو الذي يتهافت عليها، وينبهر بما أوتيه الغربيون من مفاتيح هذه الدنيا، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[الروم:7] .

    أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك)، فليس هذا لكل أحد من المسلمين بل هو لأهل الإيمان والتقوى فقط، من ليس من أهل التقوى لا ينبغي أن يستفتي قلبه؛ لأن معنى ذلك أنه سيتبع هواه، لكن من كان من أهل التقوى هو الذي يستفتي قلبه؛ لأن لديه وازعاً قوياً في قلبه يمنعه من معصية الله، فإذا خاف أمراً أن يكون من معصية الله تركه وابتعد عنه، فليس هذا الحديث خطاباً لكل الناس، بل هو خطاب لأهل التقوى والورع.

    المسائل المنهي عن السؤال عنها

    السؤال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، ما الجمع بين ذلك وبين قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ[المائدة:101] ، وبين قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43] ؟

    الجواب: بالنسبة للآية والحديث اللذين فيهما النهي عن المسائل، فالمقصود بذلك المسائل التي فيها تكلف وتعسف لما لا يحتاج الناس إليه، أما قول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، فهذا في المسائل العملية التي يحتاج إليها الإنسان، يسأل عنها ليعمل بها، وشتان بين الأمرين، فالمسائل التي كرهها النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل السؤال عن أخبار بني إسرائيل، والسؤال عن أمور القدر، والسؤال عما يتجدد من أمور هذه الأمة، فالمسائل التي ليست عملية ولا داخلة في إطار العمل، هي التي كره السؤال عنها.

    أما السؤال عن أحكام الدين وما جهله الإنسان منها، فهذا من المحبوب شرعاً؛ المطلوب الذي لا بد أن يسأل الناس عنه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما دواء العي السؤال).

    احتمالات الفقهاء يقصدون بها رياضة الذهن

    السؤال: ما هو الموقف من هذه الاحتمالات الفقهية التي يتكلم بها الفقهاء رحمهم الله، ولما تقع بعد؟

    الجواب: أنهم ما أرادوا بها أن يضعوا حلولاً جاهزة، وإنما أرادوا بها رياضة ذهنية؛ ليكون الذي تعرض عليه تلك المسائل يعرف الاحتمالات، ويستطيع أن يختار منها أو يختار من غيرها، أو يبني عليها، فلذلك ليست المشكلة في الاجتهاد، ولا في الفقه، وإنما المشكلة في التعصب فقط، فإذا تركنا التعصب فلا بأس بدراسة الفقه، ومعرفة أدلته ومآخذ أهل العلم، والاستئناس بأقوالهم، وفتح الأبواب التي فتحها الله لهم، والتي ما نالوها إلا بالورع والعبادة والتقوى وخشية الله، وأما التعصب لآرائهم، أو زعم أنها معصومة أو أنها صواب (100%) فهذا من الخطأ والخطل.

    معنى قوله: (كل نفس بما كسبت رهينة)

    السؤال: ما معنى قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ[المدثر:38-41]؟

    الجواب: أن الله سبحانه وتعالى بين أن الناس يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم، وكل إنسان منهم يحمل طائره في عنقه، فيأتي بكل أعماله فيجد صالحها وسيئها: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا[آل عمران:30] ، لكن أهل الجنة الذين يتجاوز الله عن سيئاتهم، يجدون تلك السيئات قد محيت وعوضت بالحسنات التي عملوها، فيسترهم الله بستره الجميل، (والله يبسط كنفه على عبده المؤمن، فيقول: أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا، كنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا رب! وكنت قد نسيت، فيقول: لكنني لم أنسه، فيقول: إني سترتك به في الدنيا فلن أفضحك به يوم القيامة).

    فأولئك الذين يسترهم الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة، وفي المقابل يفتضح آخرون الفضيحة العظيمة على رءوس الملأ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ينادى عليه على رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان بن فلان) نسأل الله السلامة والعافية.

    ومعنى كونها رهينة بما كسبت أي: أنها تأتي حاملة له تحمله بكامله، فلا يفوت منه شيء؛ فهذا الموقف من المواقف العظيمة التي قال فيها حكاية عن الذين كفروا عندما يرون الصحف: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف:49] .

    مدى صحة حديث: (مرحباً بالوجه الذي لا يفلح عند الله)

    السؤال: هل صحيح أن أول من يخرج من المسجد بعد انتهاء الصلاة يقبله الشيطان بين عينيه ويقول له: مرحباً بالوجه الذي لا يفلح عند الله؟

    الجواب: هذا ليس صحيحاً، بل يقول الله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[الجمعة:10] .

    نماذج من علماء المغرب

    السؤال: هل بإمكانك أن تذكر نماذج من أسلافنا من هذه البلاد، وكيف كانت تربيتهم؟ وكيف حصلوا ما حصلوا عليه؟

    الجواب: النماذج في طلب العلم كثيرة في هذه البلاد وغيرها، ومن النماذج البارزة الرجل الذي اشتهر بلقب مجيدري ، واسمه: محمد بن حب الله بن الفاضل بن الفقيه موسى اليعقوبي فقد خرج من هذه البلاد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وقد استوعب علوم هذه البلاد، فذهب في طلب العلم وفي طلب الحديث والحج، فلما أتى المغرب لم يجد فيه من يستطيع مناظرته، فاشتهر في المغرب كله بالعلم، حتى إن ملك المغرب كان يجمع له العلماء فلا يستطيعون مناظرته، وقد حصلت له قصص في المغرب عجيبة، فقد كتب بيده كثيراً من الكتب التي ما زال بعضها موجوداً الآن، وعندنا الآن بعض مخطوطاته بيده، أرسل كتاباً إلى أمه في ورقة صغيرة جداً مع تاجر كتب، وأرسل معه زربية وسهاماً وتسعين درهماً وعبداً، وكتب لها: (سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين)، فأخذ التاجر الرسالة فقرأها فلم يفهم شيئاً مما فيها، فلما نزل على أهل الرجل سلم الرسالة إلى أمه، فلما قرأتها قالت: هات السهام والزربية والتسعين والعبد، فقال: من أين أخذتها؟ فقالت: قال: سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، ولام ماء هاء لأنه يصغر على مويه ويجمع على أمواه، فالهاء إذا أضيفت إلى لام سلام صارت سهاماً، وإحدى خبري كأن في قوله ترديت، قالت: عرضت الشعر على ذهني؛ لأطلع على بيت بدايته ترديت وفيه كأن، فوصلت إلى قول غيلان:

    ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد

    فعرفت أنه يقصد هذا، فكأن هنا خبرها زرابي، فمفردها: زربية، فهات الزربية.

    أما إياك نعبد وإياك ونستعين قالت: فلم أفهمها، فحذفت النقاط عنها، فقرأتها بالتصحيف فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين، قرأتها بدون نقط.

    وحين أتى هذا الرجل إلى مصر يحمل كتاباً من ملك المغرب، جمع له ملك مصر عشرة من علماء الأزهر لمناظرته، فقال له الملك: اليوم يوم التعارف، فكل واحد يعد لنفسه عشرة آباء، فعد كل عالم من علماء مصر عشرة آباء لنفسه، وعد مجيدري عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد اجتمعوا بين يدي الملك، فكان كلما سلم عليه واحد منهم، قال: السلام عليك يا فلان ابن فلان ابن فلان ابن فلان حتى يكمل سلسلته حتى أتى على مائة أب، كل واحد عد له عشرة، ولم يتذكروا هم اسمه، لكن لعامل اللغة تأثير في هذا فـمجيدري بن حب الله بن الفاضل ... أسماء صعبة الضبط، فلذلك لم يتذكروها، فأعجب الملك بهذا، ولم يستطع العلماء مناظرته، فسأله: أن يتقبل منه جائزة، قال: جائزتي أن تفرغ لي دار الكتب المصرية أسبوعاً كاملاً لا يدخل عليّ إلا من يخدمني، ففرغها له حتى درس ما فيها من العلوم النادرة التي لم تكن ببلاده، ولذلك رجع إلى هذه البلاد مجدداً مصلحاً في مجال الاعتقاد ومجال السلوك ومجال الفقه، وقد كتب لعلماء هذه البلاد أسئلة، وهي الإثنا عشر المشهورة التي أسكتت العلماء، ولم يستطع أحد منهم جوابها، وكان من هذه الأسئلة الإثنا عشر: ما الفرق بين الشافعي وابن القاسمي؟ أليس كل واحد منهما تلميذاً لـمالك ؟ فهذا السؤال محرج للمقلدين في زمانه، فلم يستطع أحد منهم جوابه.

    ونظم أبياته في الإيمان بأسماء الله وصفاته دون تعطيل ودون تأويل فكتبها بالزعفران وهي الأبيات السبعة المشهورة التي شرحها الشيخ محمد المامي في قصيدته الزعفرانية، وهذه الأبيات على وفق عقيدة السلف الصالح، وقد نظمها عندما زعموا أنه مبتدع حين دعا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وعقيدة السلف الصالح قال:

    لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب

    وقد ربى مدرسة عظيمة تربت على منهجه، ومن مشاهير طلابه المأمون بن عبد الله المجاور الذي اشتهر بخلافة نجيدي بعده ورئاسة المدرسة، وقد كان من المشاهير في حفظ الأحاديث، كان يحفظ الصحيحين حفظاً متقناً، ولذلك حين توفي رثاه الشيخ محمد المامي في قصيدته التي مطلعها:

    ريع تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان

    يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن

    فجعل الشيخ محمد المامي المأمون بمثابة البذر بذر القرآن والسنة، إذا بذر في مكان ودفن فيه، ينبت عليه الكتاب والسنة.

    وغير هؤلاء كثر، وقد أجهد أقوام أنفسهم في سبيل هذا العلم، فأنفقوا فيه أوقات طائلة، كالشيخ الذي خرج من عند أهله وعمره أربعون سنة، وتغرب لطلب الحديث وطلب الفقه والأصول، ومكث في طلب العلم عشرين سنة، وما رجع إلى أهله إلا بعد الستين، ومكث أربعين سنة ينشر هذا العلم الذي جاء به، فعاش مائة وزيادة، ولذلك يقول فيه ابن أحمد دان الحسني في وصفه:

    ما للمشيب وفعل الفتية الشببة وللبيب يواصي في الصبا خببه

    آنت لذي شمط الحذين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه

    لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صبري بما سلبه

    ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه

    أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة

    حتى وضعت عصاسيري بباب فتى يأوي الطريد ويولي الراغب الرغبة

    من نبعة طيب الباري أرومتها بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه

    حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه

    أحنى على الشعف والأيتام من نصف على صغير لها قد أكبرت عطبه

    أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة

    يلقى العفاة بوجه من سماحته كالهندوان تجلو متنه الجلبه

    وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه

    ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه

    رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبه

    رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه

    رأى العفاة على باب الكمال كما يرى الدثور على ...... قلبه

    من معتف وأخي حوجا ملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه

    أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه

    فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربه

    إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبه

    لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه

    أما الرقاع فأعلاق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربه

    رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه

    علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطبرة من سرب المها عطبه

    ومص كل ...... من مخيرة در تخيره للملك من ثقبه

    لما تغلغل في علم الشريعة من صافيه أعمل في نيل العلى نجبه

    شد الرحال على كوم العتاق إلى تاج الأئمة من ساداتنا النخبه

    فنال ما نال إذ حط الرحال وما أدراك ما نال يا واهاً لها رتبه

    فأصبح الشيخ مسقى كل ذي ظمأ كما يصبح مسقى دجلة القلبه

    إلى آخر ما قال.

    ومثل ذلك مسك بن بارك الله الذي ذهب في طلب الحديث وطلب العلم، واشتغل بذلك زماناً طويلاً، وخاض الحواضر العلمية حتى رجع بما رجع به من العلم كإجازة ابن ناصر الدرعي.

    ومثله عبد الله الحاجب المبارك الذي ذهب أيضاً إلى مصر والحجاز والعراق والشام وأتى بعلم كثير، وكذلك شيخ الشيوخ ابن أبي الفاضلي الحسني الذي اشتهر في هذه البلاد بعلو الإسناد، فهو الذي نقل علم علي الأجهوري إلى هذه البلاد حديثاً وفقهاً وأصولاً، وغير ذلك.

    فهؤلاء بذلوا في سبيل الحصول على هذا العلم جهداً كبيراً وتعباً ومشقة، فلذلك وصلوا إلى مبتغاهم، ولهذا كان الشيخ سديه كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر:

    ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب

    المدارس النظامية لا تخرج عالماً

    السؤال: ما هو دورنا -طلاب العلم- أمام هذا التغيير التربوي الجديد الذي يحد من تعليم ديننا الحنيف؟

    الجواب: إن المدارس النظامية في الأصل لا يمكن أن يوكل إليها تعليم الدين؛ لأنها ليست مدارس دينية، وما أقيمت على أساس هذه الفكرة، وفكرتها جاءت من عند اليهود والنصارى، ولا يعدون علماً إلا ما كان تجريبياً، فلذلك لا يمكن أن يتكل على المدارس النظامية حتى لو صلحت منهاجها، وكانت على المستوى الذي ترغبون فيه، فإنها لا يمكن أن يتكل عليها في دراسة العلم الشرعي.

    وقد خضنا بلاداً كثيرة، ودخلت أكثر من سبع وثلاثين دولة، وما لقيت عالماً من العلماء يشار إليه تخرج من مدرسة نظامية! وما أذكر أنني رأيت عالماً يوصف بأنه عالم تخرج من مدرسة نظامية! ولذلك فهذه المدارس النظامية كلها فكرتها أصلاً ما قامت على تعليم العلم، وإنما قامت على تحصيل الثقافة، ولذلك يقال فيها: تأخذ من كل شيء شيئاً.

    خطورة الكلام في العلماء والجماعات الإسلامية

    السؤال: ما هي مخاطر أكل لحوم العلماء والجماعات الإسلامية، وما توجيهاتكم لبعض المسلمين الذين لا يبالون بخطورة الأكل من أعراض المسلمين؟

    الجواب: الله سبحانه وتعالى حرم على المسلمين أكل أعراضهم فيما بينهم، وجعل الغيبة بمثابة أكل لحم الإنسان، فقال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ[الحجرات:12] ،وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات:11] ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام في الناس، وبين خطره وضرره، وبين أن عرض المسلم كحرمة دمه وماله، وبين صلى الله عليه وسلم أن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه، وقد حدثتكم كثيراً بما أخرجه مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

    والذين ينتقدون الجماعات والطرق والأشخاص لا بد أن يأتوا ببديل خير مما هم فيه، أو يكونوا عامل هدم لا بناء، ولا يرتضي إنسان أن يهدم منارة إشعاع ومنارة هدى ولا يبني شيئاً في مكانها؛ فلذلك على الإنسان إذا أراد أن ينتقد أن ينظر إلى نفسه أولاً وما عمل، وليتذكر قول الشاعر:

    فعندك عورات وللناس ألسن.

    فلذلك عليه أن يبدأ بنفسه أولاً في الانتقاد، ثم بعد ذلك إذا وصل إلى مستوى يمكنه من نقد الآخرين، ليكن ذلك النقد أيضاً من واقع الحرص عليهم، واستصلاحهم، لا من واقع التشفي فيهم والاستعلاء عليهم، واحتكار الحق دونهم، فذلك كله من عمل الشيطان المقيت، الذي لا يشتغل به إلا صاحب فتنة، وصاحب هوى، تجب مقاطعته وعدم مجالسته، فمن عرف أنه من أصحاب الهوى وأصحاب الفتنة حرمت مجالسته، ووجبت مقاطعته؛ حتى يتوب ويرجع عما هو فيه.

    على الإنسان أن يوازن بين حسنة المعاد ودرهم المعاش

    السؤال: هل من الأفضل أن يصرف الإنسان أغلب وقته في أمور الدعوة، أم في أمور معاش أهله؟

    الجواب: أن على الإنسان التوازن والاعتدال، وأن يعمل لتحقيق حسنة المعاد ودرهم المعاش، وأن يجمل في الطلب، وإذا نظم وقته لم تتعارض عليه المسألتان، ورأى أنه يمكن الجمع بينهما، فيمكن أن يجمع الإنسان بين كسب الدنيا وكسب الآخرة على الوجه الصحيح.

    حال المؤمن والكافر عند نزع الروح

    السؤال: هل صحيح أن الميت ترجع إليه روحه في قبره، ثم تفارقه يوم البعث؟

    الجواب: الميت ترجع إليه روحه عند السؤال، فإن الإنسان إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة جاءه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قرئ عليه قول الله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30] ، فتتهوع روحه من فيه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فينظر إلى الملائكة كأن وجوههم الشموس مد البصر، مادي أيديهم، فلا تمكث روحه طرفة عين إلا تناولوها، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة، وطيب من طيب الجنة، ثم يرتفعون بها، فيستأذنون في السماء، فيفتح لهم، حتى تخر نفسه ساجدة تحت العرش، يقال: مرحباً بالنفس الطيبة، ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت، فترجع إلى البدن لسؤال الملكين.

    وإن كانت النفس خبيثة جاءها ملك الموت وجلس عندها وقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعذاب، فتتفرق نفسه في بدنه، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف، فيخرجها فيسلمها إلى أولئك الملائكة الذين هم مد البصر مادي أيديهم، فيدعونها في حنوط من حنوط النار، فيرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، وأولئك الذين لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[الأعراف:40]، فلا يؤذن لها، فترجع دون السماء، نسأل الله السلامة والعافية.

    ثم بعد ذلك تكون أرواح السعداء في حواصل طير خضر تتفيأ من ظلال الجنة حتى الحشر، وأرواح الأشقياء تكون في أفنية القبور فيما هي فيه من التعذيب حتى تعود.

    ومن هنا فليس الموت بفناء محض بل هو حياة من جنس آخر، فالحياة البرزخية تختلف عن حياة الدنيا، فأنواع الحياة ثلاثة:

    الحياة الدنيا والغالب فيها البدن فهو أغلب من الروح، فلذلك لا يستشعر الإنسان حركات روحه ولا يستشعر عروجها وصعودها وحركتها، وإنما يستشعر بدنه وما فيه من الجوارح وما يحس به من الألم أو اللذة.

    بعدها الحياة البرزخية وهي حياة تغلب فيها الروح على البدن، فالبدن تأكله التراب إلا عظماً واحداً منه بدأ ومنه يركب، وهو عجب الذنب، والروح تبقى محبوسة، ثم بعد ذلك الحياة الأخروية وهي الحياة الحقيقية التي تستوي فيها الروح والبدن: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64] .

    العطور التي فيها كحول طاهرة

    السؤال: هل يجوز استعمال العطور التي فيها نسبة من الكحول؟

    الجواب: إن الكحول مادة مشكلة للخمر، بمعنى أنها وغيرها تتشكل منها الخمر، لكن ليست هي الخمر، وعلى هذا فليس حكمها حكم الخمر لا من ناحية النجاسة ولا من ناحية الحد، ولكن يحرم استعمالها فقط لما فيها من الإفساد والتخدير.

    وعلى هذا فالكحول في نفسه مادة طاهرة، ولا تكون مسكرة إلا إذا مزجت بغيرها؛ حتى يحصل الإسكار الذي يحصل بالخمر، وعلى هذا فالعطور التي فيها الكحول طاهرة، لكن لا يحل شربها لما في ذلك من التخدير أو الإفساد والترقيد فهي طاهرة.

    ليس وجود النسل شرطاً في بقاء العلاقة الزوجية

    السؤال: يسأل عن زوجين طالت مدة عشرتهما ولم ينجبا، فهل لأحد أن يطلب من الزوج طلاق زوجته إذا كانت عقيمة أو كانت كبيرة السن مثلاً، أو ذات عيال أو نحو ذلك؟

    الجواب: إن التفريق بين الزوجين إذا كان بينهما اتفاق وانسجام في العشرة مما يسعى إليه إبليس ويرغب فيه، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لإبليس عرشاً على الماء، فيبعث جنوده من الليل فيأتيه أحدهما فيقول: ما زلت به حتى قتل، فيقول: ما فعلت شيئاً لعله يستغفر الله فيتوب إليه، فيتوب الله عليه، فيأتيه آخر، فيقول: ما زلت به حتى شرب الخمر، فيقول: ما فعلت شيئاً لعله يتوب إلى الله فيتوب عليه، حتى يأتيه أحدهما فيقول: ما زلت به حتى فارق أهله، فيدنيه ويقبله ويقول: أنت ابني.

    إن الاجتماع بين الأزواج -إذا حصل الانسجام في العشرة- مطلب شرعي محبوب، حتى لو لم يترتب على ذلك وجود النسل، فالله تعالى هو الذي يهب ذلك كما قال تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50]، وكم من إنسان يتمنى وجود الذرية، ولو رزق ذرية لكانت فتنة عليه أو خسارة أو وبالاً، والإنسان الكبير الذي انسجمت معه زوجه، واستمرت عشرته معها خير له من صبي لا يدري هل هو شقي أو سعيد؟ ولا يدري هل ينسجم معه بالتعامل أم لا؟

    فلذلك ليس الفراق دواء هنا، ولذلك لا ينبغي أن يفرق الإنسان بين شخصين حصل الانسجام بينهما في الزواج، بل جعل الله ذلك من فعل أهل الشر، كما قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة:102] ، فلذلك لا يحل مثل هذا، لكن بالإمكان -إذا كان الإنسان يطلب نسلاً- أن يتزوج بعد رضا زوجته بزوجة أخرى لعل الله يرزقه منها ولداً.

    حكم اللعب بالورق

    السؤال: ما حكم اللعب بالورق؟

    الجواب: هذا من إفساد الأوقات في غير طائل، وينبغي للناس أن ينزهوا أنفسهم عنه، ومع ذلك إذا لم يكن فيه قمار ولا حلف ولا كذب فليس محرماً لذاته، بل إنما يحرم إذا أخر الإنسان الصلاة بسببه، أو شغله عن طاعة من طاعات الله، أو عن قضاء دين، أو عن اكتساب ما يجب عليه اكتسابه، لكن لا خير فيه، فاللعب به مفسدة للوقت مضيعة له، وتعلق بتوافه أمور الدنيا، فعلى الإنسان أن ينزه عنه نفسه.

    طاعة الوالدين مقيدة بعدم تعارضها مع طاعة الله ورسوله

    السؤال: هل هذا حديث: (من أطاعني وعصا والديه سميته عاقاً، ومن أطاع والديه وعصاني سميته باراً)، وما معناه؟

    الجواب: هذا ليس حديثاً، وقد ورد في بر الوالدين عدد كبير من الأحاديث التي فيها الإرشاد إلى بر الوالدين ومثوبة ذلك وأجر صاحبه، وأنه يكفر الذنوب، وأنه مدعاة للاستقامة على طريق الحق، وأن البار بوالديه لا بد أن يوفق على طريق الهداية، لكن مع ذلك فإن أحاديث الوعد كلها مقيدة، فأي حديث فيه وعد للطاعة أو المغفرة أو الاستقامة مقيد بطاعة الله ورسوله.

    فأول طاعة تلزم الإنسان هي طاعة الله ورسوله، ثم بعد ذلك طاعة المخلوقين على حسب درجاتهم.

    حكم السفر إلى دول الكفر

    السؤال: هل يعتبر السفر إلى دولة كافرة حراماً؟

    الجواب: إذا كان معناه السفر من أجل التجارة إلى أي مكان من العالم فهو من الأمور الجائزة، بالشروط المعروفة وهي:

    أن لا يتعرض الإنسان إلى أكل حرام، ولا إلى تضييع الصلاة في وقتها، ولا إلى مخالطة الحرام أو مخالطة الأنجاس، وأيضاً أن يحترس من أكل الربا ومن الصفقات الممنوعة شرعاً.

    معنى: (رجل أعطى بي ثم غدر)

    السؤال: ما هو تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل أعطى بي ثم غدر

    الجواب: قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة يخاصمهم الله عز وجل يوم القيامة، ومن كان خصمه خصمه، ومنهم: رجل (أعطى بي ثم غدر)، أي : رجل عاهد بعهد الله وميثاقه ثم غدر ذلك العهد ولم يوف به.

    حكم الاستمناء

    السؤال: ما حكم الاستمناء باليد؟

    الجواب: الاستمناء لم يرد فيه نص بخصوصه، وقد اختلف فيه أهل العلم: فذهب بعضهم إلى كراهته، وبعضهم إلى تحريمه، ولكن الذي يبدو لي أنه داخل في قول الله تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[المؤمنون:7] ، فعلى هذا ينبغي للإنسان تجنبه والابتعاد عنه؛ حتى لا يكون من العادين، فإن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[المؤمنون:5-7] وهذا مما وراء ذلك.

    استرضاء الوالدين

    السؤال: لي والدان وأنا لا أبخل في إرضائهما، ولكن كلما أطعتهما يقولان: إنني لست ببار؟

    الجواب: على الولد أن يبذل الجهد في استرضاء والديه والتقرب إليهما، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يطيعهما في معروف، وإذا تقرب إليهما غاية التقرب فلم يرضيا بذلك فإنه مأجور أجراً مضاعفاً، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم للذي أخبره أن له رحماً، وأنه يحسن إليهم فيسيئون إليه، فقال: (لئن كنت كما قلت فإنما تسفهم الملَّ -أو- فإنما تسفهم المل)أي: كأنما يطعمهم من الملة، وهي: التراب الحار الذي كان عليه الجمر، فمعنى ذلك أنه خير منهم وأن أجره أعظم من أجورهم.

    معنى آية: (والملائكة باسطو أيديهم)

    السؤال: ما تفسير قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ[الأنعام:93]

    الجواب: أن هذا هو ما تحدثنا عن تفسيره سابقاً في السؤال السابق بذكر الحديث الذي فيه: (إذا كان العبد في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخر أتاه ملك الموت..)إلى آخر الحديث الذي سقناه بالمعنى، بياناً لتفسير هذه الآية.

    حد الواجب من تعليم الزوجة

    السؤال: ما هو حد تعليم الزوجة، هل يكفي منه أمرها بالتعلم أو لا بد من مراقبتها وقهرها؟

    الجواب: القهر لا ينبغي أن يحصل في مثل هذا أصلاً، وهو عبارة لا تليق بالتعامل بين الأزواج، لكن بالنصيحة والإرشاد والقيام بالأمر، ومتابعة الأمر حتى يؤدى على وجهه والتشجيع على ذلك، وهذا هو المطلوب في تعليم الزوجة، وعلى الزوج أن يعلمها مما علمه الله، وأن يتعلم منها أيضاً ما علمها الله، وأن يشجعها على التعلم، وأن يعينها عليه، فذلك من التعاون على البر والتقوى.

    التصرف في مال الأولاد

    السؤال: هل يجوز للأب التصرف كيف شاء فيما يعطى للأبناء الصغار من مال؟

    الجواب: الأب لا يحل له أخذ مال أولاده إذا كان المال أعطيه الأولاد من غير طريقه هو، ولكن إذا أخذ منه شيئاً في النفقة عليهم أو في مروءتهم أو بالقيام بشئونهم فله ذلك، وإذا أنفق منه شيئاً في مصالحه الخاصة، كأن تزوج به فلا بد أن يقضيه بمثله؛ ولذلك فإن أخذ أموالهم داخلاً في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه).

    وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)فلا يصلح هذا للاستدلال في مثل هذه المسألة؛ لأنه عطف المال على النفس، ونفس الولد لا تملك فكذلك المال؛ لأن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.

    تخصيص زيارة الميت بالخميس والجمعة

    السؤال: ما درجة صحة الأثر الذي يقول: إن الروح تعود إلى القبر مساء الخميس حتى السبت، وعليه تكون الزيارة في ذلك الوقت؟

    الجواب: هذا لا يصح فيه شيء، إنما الزيارة في آخر الليل في أي يوم من الأيام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فكان يذهب إلى المقبرة في آخر الليل كما فعل في ليلة عائشة، ولا يخصص لذلك يوماً بعينه.

    للرجل أن يتزوج ربيبة أبيه

    السؤال: هل يجوز للرجل أن يتزوج ربيبة أبيه؟

    الجواب: ربيبة الأب ليست محرماً للإنسان، فيجوز له تزوجها إذا ولدت قبل زواج أبيه بأمها باتفاق أهل الفقه، أما إن كانت ولدت بعد تزوج أبيه بأمها، فهو محل خلاف، ولذلك يقول الشيخ محمد علي رحمه الله:

    حليلة الربيب لم يحرم نكاحها إذ لم تكن بمحرم

    وبنت زوجة تحل لابنه من غيرها وإن تكن في حضنه

    من قبلهم دون خلاف نقلا وبعده مع قول منع نقلا

    مع قول منع، أي: قول بتحريم، وقيل أي: قولاً بالكراهية أيضاً.

    وعلى هذا فالله سبحانه وتعالى لم يعدها من المحرمات في كتابه محرمة في قوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:22-24]، ومعنى المحصنات المتزوجات، فإن المتزوجات من النساء لا يحل تزوجهن لأن الزواج مانع لذلك إلا قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) المقصود بذلك السبي، فإذا كانت المرأة متزوجة في دار الكفر فسباها المسلمون في الغنائم، فإن السبي يهدم النكاح، وحينئذ يحل تزوجها، ولهذا قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ[النساء:24] .

    فإذا تزوج الأب أمها وهي رضيعة، فقد ازداد لبن أمها بالوطء، وإذا ازداد لبن أمها بالوطء فحينئذ انتشرت الحرمة بسبب الرضاع، لأن اللبن إذا ازداد من وطء الزوج نشر الحرمة، فتكون حينئذ أخته من قبل أبيه من الرضاعة.

    الرياء أسبابه وعلاجه

    السؤال: بم تنصحون من يرى أن أفعاله كلها رياء؟

    الجواب: أن هذا وسواس ومن عمل الشيطان، وعلى الإنسان أن لا يتبع خطوات الشيطان، وأن يتوب إلى الله، وأن يبتعد عن مثل هذا، وأن يعلم أنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، عليه أن يسدد ويقارب.

    فهذا من عمل الشيطان، وسببه الوسوسة، وعلاجه بمخالفة الشيطان، واتخاذه عدواً والتعوذ من شره، وملازمة أذكار الصباح والمساء، والإكثار من الذكر فإنه يطرد الشيطان.

    طاعة الأم في معصية

    السؤال: ما حكم من ترسله أمه ليأتيها بشيء من الحرام هل يأتيها به أم لا؟ وهل هذا من البر المتفق عليه؟

    الجواب: لا، وعليه أن ينصحها وينهاها عن استعماله، ويخبرها أنه مما لا يحل لها، فإذا أثر فيها وقبلت فإنه يثاب ثواباً عظيماً، وإن نهى فلم يطع ولم يسمع له، فقد فعل ما أمر به، ولا إثم عليه حينئذ في استعمالها هي.

    مشروع الواحات يدخل في المعاملات المحرمة

    السؤال: ما حكم الشرع في التعامل مع هيئة تابعة لوزارة التنمية الريفية والتي تسمى بمشروع تنمية الواحات، وهو مشروع ينشئ رابطات في الواحات التي تستفيد منه؟

    الجواب: هذا المشروع كغيره من المشروعات إذا قامت على العقود الربوية -كضمان بجعل، وكالقرض بشرط دفع مسبق لجزء من التموين- فهو محرم، وهو عقد ربوي يجب الخروج منه، وقد اطلعنا على بعض مشاريع الواحات فوجدنا فيها هذه الشروط المحرمة، فهم يشترطون أن يدفع مال من قبل في حساب معين في بنك معين، ثم بعد ذلك يزيدونهم عليه قرضاً.

    حكم جمع التعظيم في الدعاء

    السؤال: هل صحيح أن جمع التعظيم في الدعاء منهي عنه؟

    الجواب: جمع التعظيم إذا كان معناه الضمير الذي يدعو به الإنسان فليس منهياً عنه، بل كان أكثر دعاء أبي بكر في سجوده: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201] ، لكن لا يقصد الإنسان بها تعظيم نفسه، بل يقصد به نفسه وإخوانه ومن يدعو له من المسلمين، بل الإنسان إذا دعا وقصد بذلك دخول جميع الداعين معه شمل هذا دعوة جبريل وميكائيل وغيرهما من المقربين، وهذا الدعاء الذي لا يرد.

    حكم الدعاء بالقرآن في السجود

    السؤال: ما حكم الدعاء بالقرآن في السجود؟

    الجواب: يجوز إذا لم يقصد به تلاوة القرآن، وإنما قصد الدعاء، فلذلك ما كان من أدعية القرآن تجوز قراءته في السجود لقصد الدعاء.

    حكم النظر إلى ما يبدو من شعر المرأة

    السؤال: هل ما يبدو على وجه المرأة من شعر رأسها يحرم النظر إليه؟

    الجواب: نعم، شعر رأس المرأة لا يحل النظر إليه، وهو عورة.

    التعصب ابتعاد وابتداع في الدين

    السؤال: هل المتعصب للمذهب المالكي مثلاً متقيد بالشرع، وهل يجوز اتباع ما ظهر لشخص صحة دليله؟

    الجواب: أن ما ظهر لشخص صحة دليله لا يجوز فقط اتباعه بل يجب؛ لأن العمل بالراجح واجب لا راجح، والتعصب حرام وهو معصية شنيعة، وهو أيضاً جهالة بالدين، فإن التعصب معناه أن يدعي الإنسان أن غير المعصوم معصوم، وهذا غاية الابتعاد والابتداع في الدين، فلذلك لا يحل التعصب بوجه من الوجوه.

    والمذاهب طرق من طرق الخير للاستفادة من النصوص الشرعية، وفيها الخطأ والصواب، وما كان فيها من صواب، لا يحملنا كونه من اجتهاد فلان من الناس أن نتركه، وما كان فيها من خطأ، لا يحملنا كونه من اجتهاد فلان من الناس أن نعمل به، بل نأخذ الصواب الذي عرفنا صحته، ونترك الخطأ الذي عرفنا خطأه.

    نبذة عن الإمام مالك

    السؤال: هل من نبذة عن الإمام مالك بن أنس ودعوته وجهاده؟

    الجواب: أن الإمام مالكاً هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن الحارث بن عمرو بن غيمان بن خثيل بن الحارث بن عمرو وهو ذو أصبح الأصبحي الحميري من حلفاء بني تيم بن مرة، كان أجداده أحلاف لـطلحة بن عبيد الله ، وقد تربى في المدينة وتعلم فيها، ولم يخرج منها إلا إلى الحج، وكان إمام زمانه دون مدافع، وقد فسر الذين عاصروه من أتباع التابعين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس آباط الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة) أن المقصود بذلك الإمام مالك بن أنس ، وقد شهد له أهل زمانه بالإمامة في دين الله، وروي عنه بعض أشياخه كـيحيى بن سعيد و محمد بن شهاب الزهري وغيرهما، وروى هو عن أكثر من تسعمائة من التابعين، وروي عنه أكثر من ألف، وألف الموطأ الذي هو أقدم كتاب لدى المسلمين، قال فيه الشافعي رحمه الله: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مالك .

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756275208