إسلام ويب

الاعتناء بالضعفاءللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خص الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالترابط والتعاون فيما بينهم، وجعل لهم الرحمة سيمة يتخلق بها المؤمنين، فيرحم بعضهم بعضاً، الكبير يرحم الصغير، ويرحم الوالد الولد، والغني الفقير، والمعافى المبتلى، وبهذا يكون التكافل الاجتماعي بين المؤمنين.

    1.   

    حرص الشارع على الترابط والتعاون

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن وبسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى خلق الناس من نفسٍ واحدة, وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، ولو شاء لجعل بني آدم كالشجر، كل شجرة لها جذع مستقل، ولكنه أراد ترابطهم وتعاونهم فيما بينهم, فلذلك خلقهم من نفسٍ واحدة , وجعلهم بمثابة الأسرة الواحدة, ولهذا بين سبحانه وتعالى ما يحصل من التنوع النسبي وغيره، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ [الحجرات:13].

    تعاون المؤمنين فيما بينهم

    وأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالخصوص بالتعاون فيما بينهم, فقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:100-105].

    مقتضى الترابط بين المؤمنين

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الترابط فيما بين المؤمنين؛ فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ).

    وأخرج الشيخان أيضاً في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه ).

    وهذا يقتضي أن يستشعر المؤمن من ضرورات إيمانه، ومن واجب عقيدته عنايته بإخوانه والسعي لعونهم، والتعاون معهم على البر والتقوى، والسعي لنفعهم جميعاً, فذلك من واجبات هذه العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله.

    ولذلك أخرج ابن ماجه في السنن بإسناد صحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقى، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، فهذا أمر بأي نفع يستطيع الإنسان إيصاله إلى أي أخٍ له من المؤمنين، فليبادر إليه امتثالاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعملاً بدافع عقيدته التي تدعوه لتحقيق أخوته للمؤمنين.

    وأولى المؤمنين بالعون والرعاية هم الضعفاء الذين يحتاجون إلى من يقوم بمصالحهم ومن يعتني بشئونهم، فالله سبحانه وتعالى إنما أصابهم بما أصابهم به امتحاناً لغيرهم، ممن قواهم، فمن آتاه الله عقلاً، وآتاه سمعاً وبصراً، وآتاه حركة وتصرفاً، وآتاه مالاً عليه أن يقوم بحق من حرمهم الله ذلك من الضعفاء، فإن الله إنما امتحنه بهم.

    قصة الفقراء الثلاثة وامتحانهم

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم قصةً عجيبة حصلت لقومٍ سابقين في الأمم السابقة, فقد كان فيهم ثلاثة من الضعفة، أحدهم كان أعمى، والآخر كان أبرص، والآخر كان أقرع, وكانت الأمم السابقة لا ترحم أصحاب العاهات، ولا يقع بينها التكافل كما هو بين المسلمين, فكل من فيه عاهة أو آفة يفر منه الأقربون، ويبقى مرذولاً بين الناس, فكان هؤلاء يعيشون على حياة الضنك والمذلة والهوان، لا يرد عليهم أحد السلام ولا يخالطهم، ولا يطعمهم، ولا يسقيهم، ولا يكسوهم, فيبقون في بثهم وحزنهم وتعبهم يكدون على أنفسهم, فأراد الله جل جلاله امتحانهم وهو أعلم بمآلات الأمور، ولا يمكن أن يقع إلا ما شاءه لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29].

    فأرسل ملكاً إليهم لامتحانهم، فجاء إلى الأبرص فسأله عن حاجته وعن أمنيته من هذه الحياة، فقال: ( إن يرد الله علي جلدي ولوني فقد قذرني الناس )، معناه: عدني الناس من جنس القذر الذي يرمى في القمامة, ( فسأله عن أحب المال إليه فذكر أنه الإبل, فدعا الله فرد عليه جلده ولونه, وأعطاه ناقةً عشراء, وقال له: بارك الله لك فيها, فأنتجها فكان له وادٍ من الإبل ).

    وجاء إلى الأقرع فسأله عن أمنيته من هذه الدنيا وأحب شيءٍ إليه, فقال: ( أن يرد الله علي شعري فقد قذرني الناس, فسأله عن أحب المال إليه فذكر البقر, فدعا الله فرد عليه شعره, وأعطاه بقرة مخاضاً, وقال له: بارك الله لك فيها, فأنتجها فكان له وادٍ من البقر ).

    فجاء إلى الأعمى فسأله عن أمنيته وحاجته, فقال: ( أن يرد الله علي بصري فقد قذرني الناس, فسأله عن أحب المال إليه, فذكر الغنم, فدعا الله فرد عليه بصره, وأعطاه شاة فأنتجها فكان له وادٍ من الغنم, وقال له: بارك الله لك في هذا فأنتجها فكان له واد من الغنم ).

    ثم أرسله الله لامتحانهم فجاء إلى الأول بالصورة التي كان عليها، في صورة رجل أبرص، في هيئة رثة، ووضع مسكنة، فملابسه لا تنبؤ بمكانة اجتماعية ولا اقتصادية، وظروفه تدل على أن الناس يقذرونه ولا يلتفتون إليه, فقال له: ( رجل مسكين ابتلاني الله بالبرص، لا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك, فأسألك بالذي شفاك من سقمك وأعطاك هذا المال أن تعطيني ما يعينني, فقال له: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر والحقوق كثيرة, فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه. فأجيح ماله فافتقر ثم عاد إليه البرص فعاد كما كان ).

    ثم أتى إلى الأقرع فجاء له في صورته فقال له: ( رجل فقير ابتلاني الله بهذا القرع، ولا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي شفاك من قرعك وأغناك أن تعطيني ما يعينني, فقال له: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر والحقوق كثيرة, فقال له: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه. فأجيح ماله وعاد إليه القرع ).

    فجاء إلى الأعمى في صورته فقال له: ( رجل ضرير فقير مسكين، قد ابتلاني الله بما ترى من العمى, لا بلغة لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي رد عليك بصرك وأغناك شاة أتبلغ بها في أموري, فقال: إنني كنت رجلاً مثلك ضريراً، فرد الله علي بصري, وكنت فقيراً فأغناني الله، فلا تسألني اليوم بالله شيئاً إلا أعطيتك إياه، فخذ ما شئت، واترك ما شئت, فقال له: بارك الله لك في مالك وتركه ).

    فهذا يدل على أن كل صاحب عاهة أو آفة أو مصيبة, إنما يبتلي الله به الآخرين ويمتحنهم به, فإذا رحموه تحققوا بصفة عظيمة هي صفة الرحمة.

    1.   

    الاتصاف بصفة الرحمة

    صفة الرحمة الصفة التي كتبها الجبار على نفسه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وتسمى باسمين منها, فهو جل جلاله الرحمن الرحيم, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3].

    ووصف بها محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128], ووصف بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم معه فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29].

    رحمة جميع الخلائق

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لا يرحم لا يرحم ), وثبت كذلك في سنن الترمذي و ابن ماجه ومسند البزار ومسند أحمد ، وغيرها بأسانيد صحيحة في الحديث المسلسل بالأولية، أي: الذي تعود المحدثون على أن يحدثوا به بالإسناد، وهو أول حديث يحدثون به الطلاب.

    وهذا التسلسل يقول فيه المحدث: حدثنا فلان وهو أول، أي وهو حديث سمعته منه, قال: حدثنا فلان وهو أول, إلى أن ينتهي التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة ، قال: حدثنا عمرو بن دينار ، قال: حدثنا أبو قابوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ), وهذه هي الرواية المشهورة في هذا الحديث.

    وهناك روايتان أخريان: إحداهما: ( الراحمون يرحمهم الرحمن عز وجل، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ), وهي إثبات الثناء على الله تعالى.

    والرواية الأخرى وهي الثالثة: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، بالرفع, يرحمُكم بالرفع، على أنه استئناف أو دعاء, معناها: ارحموا من في الأرض, ونسأل الله أن يرحمكم من في السماء، وحينئذٍ تكون جملة مستأنفة: يرحمكم من في السماء، مثلما تقول: أعطني كذا يرحمك الله, فهذا دعاء واستئناف.

    أما رواية الجزم فإنها جواب للطلب، (ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء) مثلما تقول: قفا نبكي، معناه: إن تقفا نبكي, فالفعل مجزوم في جواب الطلب؛ لأنه مثل الأمر، وهو في قوة شرط، ومعناه: إن تقفا نبكي, كذلك هنا إن ترحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

    ومن في الأرض هنا يشمل: البشر والدواب، وأنواع الخلائق, فالرحمة كتبها الجبار على نفسه جل جلاله, وهذا يقتضي معاملة الخلائق جميعاً بهذه الصفة.

    حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الثابت عنه: ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة, وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ), حتى وأنت تذبح الشاة، وتريد أن تسلخها وتقطع أعضاءها، وتطبخها أو تشويها، لكن مع ذلك أنت مطالب بأن يكون ذبحك لها بالهيئة الحسنة التي بها رحمة بها, وكذلك الكافر الذي تقتله، أو من أصاب حداً من حدود الله, وأنت تريد إقامة حد الله عليه لا بد أن تعامله بهذه الرحمة: ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، ومعنى (وليرح ذبيحته) أي: لا يبادر إلى السلخ قبل موتها حتى تخرج الروح من البدن، فما دامت فيها حركة، فمعنى ذلك أن الإحساس قائم، وأن الألم لا يزال، لكن إذا انتهت الحركة فلن يبقى فيها ألم بعد ذلك, وما ذلك إلا بدافع هذه الرحمة.

    وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم حصيراً مسوداً، فنضح عليه الماء فقال: ( قد اسود هذا الحصير من طول ما لبس ).

    رحمة الإنسان لنفسه

    وكذلك لما رأى الرجل ثائر الرأس، شعثاً، نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً، وقال: ( ما بال أحدكم يدخل علي في صورة شيطان، فخرج الرجل وغسل رأسه وادهن فدخل عليه، فقال: أليس هذا خيراً مما كنت عليه ).

    فرحمة الإنسان لنفسه مطلوبة، وأن تكون هيئته جميلة, والله تعالى يحب أن يرى آثار نعمة على عبده, فإذا آتاك الله ماءً تتنظف به فعليك أن تتنظف, وإذا آتاك هيئة حسنة من أي وجهٍ من الوجوه، فعليك أن يرى أثر نعمة الله عليك.

    ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحب إن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه, وبين صلى الله عليه وسلم بسنته الفعلية أيضاً آثار النعمة, فكان يلبس في الأعياد اللباس الجديد، ويأمر أن يلبس الرجل للجمعة خير ملابسه وأحسنها, كان يقول: ( خير ثيابكم البيض، صلوا فيها جمعكم، وكفنوا فيها موتاكم ), وأمر للجمعة بالاغتسال والادهان والتطيب من طيب بيته، وأمر للصلاة كلها بالسواك, قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ), وفي رواية ( عند كل وضوء ).

    وهذا يقتضي أن يرحم الإنسان نفسه، وأن يؤدي حقها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص : ( إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآتِ كل ذي حق حقه ), فلذلك لا بد أن يكون الإنسان عدلاً في رحمته بنفسه, وأول ذلك أن يرحمها من عذاب الله, فإذا كان الإنسان يعرف أن جسمه على النار لا يقوى، فلا بد أن يلجمه بلجام التقوى, وإذا كان يعلم أن عينه ضعيفة لا تتحمل لهب نار الدنيا، فلا بد أن يكفها عن النظر إلى الحرام؛ لأنه موصل إلى لهب نار جهنم, وهكذا إذا كان الإنسان يحس أنه ضعيف، لا يستطيع حرب البشر ولا يقوى على قتالهم، فكيف يكلف نفسه حرب الله ورسوله بأكله للربا، أو مشاركته به بأي وجه من الوجوه, فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ[البقرة:279].

    فلذلك لا بد أن يرحم الإنسان نفسه أن يرحم ضعفها وما هي إليه من الحاجة.

    رحمة الإنسان لغيره من العباد

    ثم بعد ذلك يرحم عباد الله جميعاً, وأن يتذكر أن الذي ابتلى المبتليين هو الذي أنعم عليه بالنعمة، وخصه بها من بينهم، ولو شاء لجعله مثلهم أو أردأ حالاً.

    ولذلك في حديث أبي ذر رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( انظروا في الدين إلى من فوقكم، وفي الدنيا إلى من دونكم، فذلك أجدر ألا تحتقروا نعمة الله عليكم )، وفي رواية ( ألا تزدروا نعمة الله عليكم ), فإذا كان الإنسان ينظر في الدين إلى من فوقه فذلك مقتضي المنافسة، الذي يقوم الليل، ويكثر ذكر الله، وقراءة القرآن ومجالس العلم، ويشغل نفسه عن المعصية بالكلية هذا فوقك في الدين، فحاول أن تلحق به وأن تنافسه, لكن في الدنيا لا تنظر إلى من فوقك أبداً، انظر إلى من دونك, فذلك أضمن ألا تزدري نعمة الله عليك.

    وقد جاء هذا أيضاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أوصاني خليلي بثلاث )، يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين منها: ( أن أوتر قبل أن أنام, وأن أنظر في الدنيا إلى من دوني, وأن أنظر في الدين إلى من فوقي ), فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة رضي الله عنه, وهذا يقتضي من الإنسان أن لا يزدري نعمة الله عليه، فإذا تذكر ضيق حاله أو فقره أو ضعفه أو عجزه ليتذكر منه دونه، وليمر بالمستشفى فيرى الذين يصرخون من الألم, ويرى الذين انكسرت أرجلهم وعلقت, ويرى الذين لا يستطيعون التقلب على الفراش إلا ومعهم من يقلبهم, ويرى الذين لا يستطيعون قضاء الحاجة إلا بجهاز, وهكذا فإنه لن يزدري نعمة الله عليه حينئذ.

    ولهذا جاء رجل إلى الحسن البصري فشكا إليه الفقير، وذكر له أنه فقير معدم، فسأله الحسن فقال: ألك عينان؟ قال: نعم, قال: ما ديتهما؟ قال: دية كاملة، كل واحدة منهما خمسمائة دينار, فقال: ألف دينار، قال: ألك أذنان؟ قال: نعم قال: ما ديتهما؟ قال: دية كاملة، قال: ألف دينار، قال: عيناك مبصرتان؟ قال: نعم. قال: فما دية البصر؟ قال: دية كاملة، قال: ثلاثة آلاف دينار. قال: أذناك سامعتان؟ قال: نعم. قال: فما دية سمعك؟ قال: دية كاملة. قال: أربعة آلاف دينار, وهكذا بقية الجوارح أعد له ذلك حتى حصل على مالٍ كثير، ثمانية عشر ألف دينار في جوارحه فقط.

    فإذا أدرك الإنسان ما أنعم الله عليه به من نعمة الإيمان, وهو يرى السادرين الذين لا يخطر أمر الآخرة على قلب أحد منهم, ومن نعمة خشية الله، وهو يرى العصاة المسرفين على أنفسهم، وهم يتقلبون فيما آتاهم الله من أمر الدنيا وما عجل لهم من متاعها, ورأى المرضى والمصابين بالعاهات والآفات، فإن ذلك جدير به هو أن يحمد نعمة الله عليه, وأن يرضى بما شرفه الله به عليه.

    1.   

    نعمة الوالدين ووجوب رحمتهما

    ثم بعد هذا لا شك أن الضعفاء متفاوتون في الحاجة إلى العناية وفي الحاجة إلى الرحمة, فأنت مطالب برحمتهم جميعاً, فالوالدان في حال ضعفهما وكبرهما، يقول الله في رحمتهما: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24], لا بد أن تخفض لهما جناح الذل، أن تكون ذليلاً أمامهما، لا ترفع عليهم صوتك ولا ترفع إليهما بصرك، ولا تتقدم بين يدي أمرهما، وإذا أمراك بشيءٍ بادرت إليه، وإذا نادياك وأنت قد رفعت رجلك لتخطو للأمام قلبت الخطوة إلى الوراء, فهذا هو البر بهم الذي أمر الله به, وهو خفض الجناح لهما من الذل ذل لهما, وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، لا بد أن ترحمهما بذلك.

    فإذا كان الإنسان يغضب إذا واجهه والداه بكلام سيئ، أو كان يغضب إذا تصرفا في ماله, أو كان يغضب إذا آثر عليه بعض أولادهما, أو كان يغضب إذا رفعا إليه بعض حوائجهما، أو كان يضجر بضعفهما وعجزهما، أو كان لا يستطيع إمساك الشرب لهما، أو تنظيف ملابسهما، أو تنظيف فراشهما وتمهيده، أو القيام بخدمتهما، فهذا الإنسان غير بر بأبويه، ولم يمتثل بما أمره الله به بقوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[الإسراء:24].

    وليتذكر حال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم وهم يتمنون ذلك, ليتذكر اللقطاء الذين ليس لهم أب ولا أم, ليتذكر الذين مات آباؤهم وأمهاتهم، وفقدوا الرحمة في المجتمع, ليتذكر الذين عاشوا يتامى, ليتذكر حاله وهو ضعيف كيف كان أبواه يقومان بمصالحه ويسهران من أجل نومه, ويتعبان من أجل راحته, ويسعيان من أجل تعليمه ونصحه، ويدعوان الله له في سجودهما وفي كل أوقاتهما, ليتذكر أنه لا يستطيع مكافأتهما بأي وجه من الوجوه.

    وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يحمل أمه في الطواف، وهو يقول: هل كافأتك؟ فقال له ابن عمر : لا، ولا زقيةً واحدة, ما كافأت زقيةً واحدة, والزقية: هي رفع الصوت عند الطلق، أي: عند الوضع, فما كافأت شيئاً من آلامها عندما وضعتك, ولا من آلامها عندما حملتك، فقد حملتك كرهاً ووضعتك كرهاً, وأنت لم تكافئها في مصة واحدة من ثديها, ولا في قيامها بأي مصلحة من مصالحك ومسح القذر عنك، وتربيتك وأنت صغير محتاج إليها, وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

    مقتضى رحمة الوالدين

    فلذلك لا بد من رحمة الوالدين رحمة شديدة, وهذا يقتضي من الإنسان الحرص على بقائه معهما؛ وأن يشتاق إليهما كلما غاب عنهما؛ وأن يسعى لخدمتهما بكل وجه من الوجوه, وأن يبادر وينافس إخوته وأخواته في بر والديه حتى يكون أقرب الأولاد إلى والديه, وإذا كانا قد ماتا أو أحدهما؛ فلا بد أن يسعى لبرهما بعد الممات ببر أقاربهما، وذوي أرحامهما، وأصحابهما، وقرنائهما، وإيفاء ديونهما، وإنفاذ وصاياهما، والدعاء لهما ليلاً ونهاراً؛ فكل ذلك من برهما بعد الممات.

    قصة أمية بن الأسكر مع ولديه

    ولنتذكر ما حصل لـأمية بن الأسكر رضي الله عنه، وهو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف، وكان له ولدان أحدهما اسمه: كلاب وكان براً به شديد البر؛ وكان أمية قد كبر فتجاوز المائة، وقد أخذته الرعشة في الأطراف، فكان لا يمسك القدح على نفسه, بعد أن كان رجلاً شجاعاً، فعاد إلى الضعف والشيبة الذي لا ينتظر بعده صحة، ولا ينتظر بعده إلا الموت.

    فجاء سعد بن أبي وقاص يسأل أهل الطائف الغزو، ويحض شبابهم على الخروج للغزو في سبيل الله إلى العراق، فخرج معه ولدا هذا الشيخ الكبير وتركاه على ضعفه، فلما خرجا إلى الجهاد في سبيل الله حزن عليهما حزناً شديداً، وقال أشعاراً في حزنه عليهما، ومنها قوله:

    يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان

    إن ما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلبا غير كذان

    أو ما تريني لا أمضي إلى سفرٍ إلا معي واحد منكم أو اثنان

    ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني

    يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني

    يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان

    إذ يحمل الفرس الأحواء ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان

    أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضانِ؟

    انعق بضأنك في نجم تحفره من النواضع واحبسها بجندان

    إن ترعى ضأناً فإني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

    والشعر يتناقله الناس فيحفظونه ويروونه, كما قال زهير بن أبي سلمى :

    وإن الشعر ليس له مرد إذا ورد المياه به التجارُ

    فوصل الشعر إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى المدينة, فلما سمع هذا الشعر رحم هذا الشيخ الكبير الفاني رحمة شديدة، وبكى رحمة له, فأرسل إلى سعد بن أبي وقاص في العراق أن يرسل إليه ولد هذا الرجل, فأرسله إليه، فجيء به إلى عمر في المدينة, فلما ذهب عمر إلى مكة صحبه معه، فجيء بأمية بن الأسكر شيخاً كبيراً، فأجلسه عمر إليه؛ فسأله عن بر كلاب به، فقال: كان يختار ناقة في إبلنا فيغسل ضرعها بيده ويغسل القدح ويحتلبها، ثم يأتي فيمسك علي القدح حتى أشرب نهمتي منه، أي: حاجتي, فأمر عمر كلاب ففعل ما كان يفعل، فأمسك عمر اللبن على الشيخ يشرب منه فلما ذاق طعمه فقال: حلب كلاب ورب الكعبة, فأمره عمر أن يصحبه وألا يفارقه حتى يدفنه.

    قصة المرأة مع ولدها حين خرج للغزو

    ونظير هذا أيضاً ما حصل للفرزدق الشاعر في أيام عبد الملك بن مروان ، فقد خرجت جيوش بني أمية في أيام عبد الملك وابنه الوليد ، وازدادت الرقعة وحصلت الفتوح, وخرج جيش إلى أقاصي أفغانستان الآن، وتسمى في ذلك الوقت بلاد الطالقان, وهذا الجيش يقوده رجل اسمه تميم بن زيد ، وهو من قادة جيوش بني أمية, فخرج به شاب وحيد أمه، وكانت أمه تحبه حباً شديداً, فما استطاعت أن تمنعه من الخروج للغزو في سبيل الله, ولكن ما إن فارقته حتى ضاقت عليها الدنيا بما رحبت, وأصبح فؤادها فارغاً شوقاً إلى ولدها ومحبةً له ورحمة له, فصارت تصل ليلها بنهارها بالبكاء, فذكر لها الفرزدق الشاعر، فجاءت إليه فذكرت أنها مستعيذة بنخوة أبيه غالب ، وقد كان أبوه صاحب مروءة لا يسأله أحد حاجته إلا أعطاه إياها, فكتب الفرزدق أبياتاً إلى تميم بن زيد يقول فيها:

    تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهرٍ ولا يعيا علي جوابها

    فهب لي خنيساً واحتسب فيه منة لحوبة أم ما يسوغ شرابها

    أتتني فعاذت يا تميم بـغالب وبالحفرة السافي عليها ترابها

    فجاءت الأبيات إلى تميم ، فلما قرأها لم يدر هل المطلوب خنيس أو حبيش ، فبحث عن كل من في الجيش في من اسمه خنيس أو حبيش فسيره إلى الفرزدق .

    القيام بمصالح الوالدين وتقديمهما على الأولاد

    فلذلك لا بد من رحمة الوالدين، ولا بد من الحرص على القيام بمصلحتهما كلها, ونحن نعلم أن كثيراً من الشباب الآن يرون أن لدى الوالدين بعض الأخلاقيات التي لا يرضونها, وبعض التصرفات التي لم تعد مناسبة للمدنية, فربما ضجروا من بعض ذلك, لكن هذا منافٍ للرحمة التي أمر الله بها, فلا بد أن ينظر الولد إلى والده ووالدته على أنهما أقرب إليه أو مساويان لولديه, وليتذكر لو أن له ولداً صغيراً، هل كان سيتأثر بريقه أو بكلامه أو بضربه له على الوجه أو بعضه له.

    لا شك أنه سيحبه حباً شديداً فيغتفر كل هذه الأمور, إذا بصق في وجهه كان ذلك سروراً بالنسبة إليه, وإذا ضايقه على فراشه كان ذلك سروراً لديه, وإذا أخذ بعض ما في جيبه كان ذلك سروراً لديه, فالوالدان أولى بهذه الرحمة من الأولاد، أو مساويان على الأقل: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ[النساء:11].

    1.   

    الرحمة بالأولاد والحرص على صلاحهم

    ثم بعد ذلك لا بد من رحمة الأولاد أيضاً, فالأولاد أفلاذ أكباد الآباء والأمهات, وهم امتداد في العمر وزيادة فيه.

    فلا بد أن يحرص الإنسان على رحمتهم, وأن يحرص على سلوكهم للطريق المستقيم, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ما يكتب في العمل بعد الموت؛ ذكر الولد فاشترط فيه الصلاح ولم يشترط في الوالد شيئاً؛ فقال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية ), فلم يقل: إذا مات ابن آدم الصالح, فالوالد لم يشترط فيه شيء, لكن الولد الذي يكتب عمله للوالد يشترط فيه هذا الصلاح؛ لأنه قال: ( أو ولد صالح يدعو له ), فلذلك لا بد أن يحرص الآباء والأمهات على صلاح الذرية.

    وهذا الصلاح يقتضي الحرص على صلاح القلوب, فإذا كان الوالد يؤثر بعض الأولاد على بعض، فلم تصلح قلوبهم، بل سيزرع بينهم الضغائن والحسد والبغضاء, وإذا كان لا يرحمهم بالكذب أمامهم فيكذب في حديثه لهم، فإذا أراد الخروج لمهمة فسألوه: أين تذهب؟ قال: لا أخرج من البيت، فهو يعود أولاده على الكذب فلا يرحمهم بذلك؛ وإذا سألوه حاجة وذكر لهم أنه ليس لديه أي شيء، فيطلعون على أن لديه شيئاً، فيعلمون أن أباهم كذاب, فيعودهم على الكذب بذلك. وهكذا في حق الأم, فإن امرأة كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فدعت ولدها فقالت: ( تعال أعطيك, فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تريدين أن تعطيه؟ فقالت: تمرة، قال: أما أنك لو لم تفعلين للفحتك النار ), فلذلك لا بد من الصدق في معاملة الأولاد وتربيتهم على هذا المنهج الصحيح.

    فالشدة والغلظة عليهم ضرر بهم, ولذلك قال الأحنف بن قيس رضي الله عنه لـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما سأله عن تربية الولد فقال: يا أمير المؤمنين! اجعله صاحباً يزداد عقله ويربو عن الشباب, ولا تضربه فيتمنى موتك, ولا تكتم عنه شيئاً مما آتاك الله من مالك فإنه صائر إليه. أي: هو وارثك في المستقبل, فبين له هذه القواعد العظيمة التي هي من حكمة الأحنف بن قيس, واكتسبها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما, فلا بد أن يحرص الوالدان على رحمة الأولاد وعونهم على البرور.

    فالولد إذا كان لا يجد من أبويه إلا الغلظة والشدة كثيراً ما يصاب بانفصام الشخصية, وكم نعالج الآن من الحالات المستعصية التي أصلها فظاظة وغلظة من طرف الأبوين أو أحدهما في حق الأولاد، فيصاب الولد أو البنت بانفصام في الشخصية لا علاج له، ويعيش وقته منزوياً عن الناس منطوياً عنهم، ويكون بهذا قد تحطمت حياته ومستقبله.

    1.   

    رحمة الإخوة والأخوات ورعايتهم

    كذلك لا بد من رحمة الإخوة والأخوات الذين هم صوان الإنسان خرجوا معه من بذرة واحدة, فلا بد أن يرحمهم وأن يقوم برعايتهم وحقوقهم، وأن يتذكر أن صلته لهم هي من تمام بره بأبويه ومن قيامه بالحق.

    ولذلك قال أهل التفسير في الحكمة من قول الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36], قالوا: قدم الأخ؛ لأنه أول من يلجأ إليه الإنسان عند المناصرة, في حال دخول الإنسان في محاربة أو مضاربة، أول من يلجأ إليه ليس أباه ولا أمه، بل الأخ هو أول من يلجأ إليه:

    أخاك أخاك إن من لا أخاً له كساع إلى الهيجا بغير سلاح

    وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه وهل ينهض البازي بغير جناح

    فلذلك لا بد أن يسعى الإنسان لتقريب إخوته وأخواته، وأن يذيقهم طعم الأخوة, وإذا كان للإنسان أخت فليعلم أنها تتمنى من بين الناس أن يكون لها أخ شريف, مثل ما قالت أخت بيهس: أخي بطل أخي بطل، فقال لها: مكرهاً أخاك لا بطل. فالأخت تحب أن يكون أخوها ذا مكانة شريفة، فلذلك لا بد أن يحرص أخوها على أن يذيقها طعم الأخوة.

    وهكذا إخوتك لا بد أن يستشعروا أن لهم أخاً نافعاً, فإذا كان الأخ إذا فقدوه لا يفقدون شيئاً ولا يتأسفون لموته, وإذا وجد أنه لم ينفعهم بشيء فما فائدة أخوته, ومن ذلك ما قاله لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه:

    ففارقني جار بأربد نافع

    وما قالت الخنساء تماضر بنت عمرو الشريد الأسلمي رضي الله عنها في رثائها لأخيها صخر بن عمرو الشريد وهو كثير، ولكن منه قولها:

    أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لـصخر الندى

    ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا

    طويل النجاد رفيع العماد ساد عشيرته أمردا

    إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليدا

    فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم مضى مصعدا

    يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا

    وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدا

    وفيه تقول أيضاً:

    قذىً بعينك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار

    وفي هذه القصيدة تقول:

    وإنَّ صخراً لوالِينَا وسيِّدنا وإنَّ صخراً إذا نشتُو لمنحارُ

    وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ به كأنَّه علمٌ في رأسهِ نارُ

    رثاء فارعة البكرية لأخيها الوليد بن طريف

    وتتذكرون أيضاً قول فارعة بنت طريف البكرية في رثائها لأخيها الوليد بن طريف الذي تقول فيه:

    بتلِّ نهاكَ رسم قبرٍ كأنه على جبلٍ فوق الجبال مُنيفِ

    تضمّنَ مجداً عاصمياً وسؤدداً وهمة مقدامٍ ورأي حصيفِ

    أيا شجر الخابور ما لكَ مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريفِ

    فتىً لا يعد الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنىً وسيوفِ

    ولا الذخر إلا كل جرداء صلدمٍ معودةٍ للكرِّ بين صفوفِ

    حليف الندى ما دام يرضى به الندى فإن مات لم يرضَ الندى بحليفِ

    ألا يا لقومي للنوائب والحمى وللأرض لما أزمعت بزحوف

    وللبدر من بين الكواكب إذ هوى وللشمس لما أزمعت بكسوفِ

    ولليث كل الليث إذ يحملونه إلى حفرةٍ ملحودةٍ وسقيفِ

    لئن كان أرداه يزيد ابن مزيدٍ فرُبَّ زحوفٍ لفها بزحوفِ

    فقدناك فتنان الشباب وليتنا فديناك من فتياننا بألوف

    ولا شك أن حاجة الأخ إلى مكانة أخيه وعنايته به من المهمات, فلذلك لا بد أن يرحم إخوانه الصغار، وأن يتذكر أنهم عون له في المستقبل.

    حرص موسى على أخيه هارون وحبه له

    ولنتذكر قول موسى بن عمران عليه السلام، لما شرفه الله بكلامه ورسالاته، وميزه بهذا التمييز العظيم وهو بطور سيناء في البقعة المباركة من الشجرة في طرف الوادي، وادي طوى، في الثلث الأخير من الليل، وقد جاء يطلب ناراً فآتاه الله نوراً، كلّمه الله بكلامه جل جلاله, وأوحى إليه بوحيه وكلفه برسالاته، فقال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص:24-35], وعندما شرفه الله بهذا المقام الرفيع وأُذن له بالسؤال أن يسأل الله: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:25-35].

    1.   

    رحمة الأقارب وإيصال حقوقهم

    كذلك من الرحمة رحمة الأقارب عموماً، فـ ( عم الرجل صنو أبيه )، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في العباس بن عبد المطلب , وكذلك الخال، فالخال والد والرب شاهد, وهكذا في كل الأقارب الذين يحتاجون إلى الإنسان ويحتاج إليهم، فلا بد أن يرحمهم، وأن تظهر الرحمة في تعامله معهم، فأبناء العمومة وأبناء الخؤولة فإن لهم حقاً مختصاً، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ[الأحزاب:50], فلا بد أن يحرص الإنسان على رحمتهم جميعاً، وإيصال الحقوق إليهم, وأن يتذكر أنه كثيراً ما يقع الحسد فيهم, وكثيراً ما يلقي الشيطان بينهم البغضاء, وهنا أذكر ما جاء في معلقة طرفة بن العبد :

    وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند

    فإذا كان أقارب الإنسان يظلمونه، فظلمهم أشد عليه من ظلم الأبعدين؛ لأنه يدفع ظلم الأبعدين بالأقربين، فإذا جاء الظلم من الأقربين فماذا يصنع الإنسان حينئذٍ؟ ولذلك لا بد أن يحرص الإنسان على أداء حقوقهم وأن يرحمهم.

    1.   

    رحمة الصغار

    كذلك رحمة الصغار مطلقاً, فالصغار عموماً يحتاجون إلى الرحمة وهي حقهم, وقد أخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها ), فرحمة الكبار للصغار مطلقاً هي من صفات هذه الأمة التي قرن بها النبي صلى الله عليه وسلم رحمة الله لها، والخير الذي فيها: ( لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها ).

    رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للأولاد وكيفية معاملته لهم

    وانظروا إلى نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم كيف كانت معاملته للصغار، كان إذا خرج في طريقه ورأى الصغار يلعبون أتاهم فسلم عليهم، وكان يمسح على رءوسهم، وكان يرد عليهم السلام ويهدي إليهم, وكان إذا أتاه ما يختص بالصغار أهداه إليهم, فجاءته أم خالد وهي طفلة صغيرة قد ولدت في الحبشة، فجاء بها أبواها مهجرين إلى المدينة الهجرة الثانية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ( قد جيء بثياب وفيها ثوب صغير، فكساه أم خالد هذه فقال لها: سنة سنة )، وهذه كلمة من لغة الحبشة، أي: حسن حسن، وهو يخاطبها باللغة التي تحسنها إن كانت هذه اللغة أعجمية تألفاً ورحمة. وكذلك دخل بيت أبي طلحة الأنصاري ، وفيه طفل صغير لـأبي طلحة ، وكان له طائر يلعب به، والولد إذا كان له طير أو لعبة، يحبها وتكون معه دائماً, فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما فعل النغير يا أبا عمير )، فكناه أولاً وخاطبه بالكنية، وهذا عند العرب تشريف, كما قال الشاعر:

    أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب

    كذلك أدبت حتى صار من خلقي أني رأيت ملاك الشيمة الأدب

    فهو يكنيه ويقول: أبا عمير وهو طفل صغير, وهذا ما نفقده في حياتنا الآن, فالأطفال الصغار عادة لا يخاطبهم الكبار إلا بأدنى الأسماء وأخسها, ويصغرون أسماءهم, والمفروض أن يكبروها وأن يكنوهم حتى يجعلوا من أنفسهم رجالاً وهم صغار، وهذا الذي يحدث الشخصية لدى الإنسان.

    تشجيع الأولاد على صالح أعمالهم وتشديد العقوبة على سيئها

    ولذلك فإن صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، وهي أم الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه, كانت تربي ولدها الزبير على الرجولة والشرف من صباه وصغره, فكان إذا أخطأ تشددت معه في العقوبة، وإذا أصاب شرفته جداً وكرمته في مقابل عمله, فتشجعه على العمل الجيد الصالح، وتؤدبه على العمل السيئ, وكان عمه يرى أنها تكرهه؛ لأن أباه توفي وهو طفل صغير فأصبح يتيماً لديها، فقال: إنما تعاقبينه لكراهيتك له, فقالت:

    من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب

    ويهزم الجيش ويأتي بالسلب

    فهي تعود الولد الصغير اليتيم على أن يكونا لبيباً يفهم الأمور, وأن يكون شجاعاً, وأن يكون كريماً أيضاً،

    فإذا هزم الجيش لا يترك السلب، ولا يأخذه لنفسه ويأتي بالسلب.

    وقد جاء عن رجل يسأل عن الزبير أين هو؟ قالت: ما حاجتك إليه؟ قال: أريد أن أقتله. وكان هذا في الجاهلية, فقالت: هو ذاك في السور فاذهب إليه, فذهب الرجل إلى الزبير وهو شاب صغير, فتصارع معه ثم صرعه الزبير وجاء يحمله على كتفه ورماه بين يدي أمه, قالت: كيف وجدت زبرا، أعسلاً وتمرا، أم أسداً هزبرا. وهنا كبرت اسمه, فهو أصلاً مسمى باسم مصغر الزبير ، ومعناه: الحجر الصغير, ولكنها هنا كبرت اسمه، تشجيعاً له على ما فعل, قالت: كيف وجدت زبرا، أعسلاً وتمرا، أم أسداً هزبرا؟ ورحمة الصغار تحدث في نفوسهم العقل والتدبير.

    قصة الطفل مع المنصور عندما أراد أهل بلدته عزل واليهم

    ولذلك قال وفد أهل البصرة لما دخلوا على المنصور , وقد ولى عليهم والٍ فعسف وظلم، وفرض الضرائب على الناس, فجاءوا يشكونه إلى المنصور يريدون عزله، فلما تكلم كبار السن والشيوخ، قالوا: يا أمير المؤمنين! لقد فعلت، قال: ما أعلم يا أهل البصرة في ولاتي أعدل واليكم، فسكت الشيوخ واستحيوا من الخليفة إذا كان ولاته أعدلهم هذا، فتقدم طفل صغير، فقال: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي في الكلام؟ فقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه فهيت، معناه: هات ما عندك, فالمرء ليس كبره بكبر جسمه، فالفيل أكبر من الإنسان، لكن العبرة بقلبه ولسانه وهما أصغر ما فيه, فقال: إن من تمام عدلك أن تصرف هذا الوالي إلى غيرنا حتى يعم عدلك سائر الأمصار, فلم يستطع الخليفة رداً لهذا الكلام، وعرف أنه لا بد من العزل, إما أن يكون جائراً، وإما أن يكون عدلاً, فإذا كان جائراً لا بد من عزله, وإذا كان عدلاً فمن تمام عدله, إذا كان أعدل ولاته أن يصرفه إلى مصر آخر حتى يتساوى الأمصار في عدله.

    1.   

    رحمة الضعفاء

    رحمة اليتامى والأرامل والقيام بحقوقهم

    كذلك الضعفة من اليتامى والأرامل والأيامى من النساء، فلا بد من رحمتهم وهم مستحقون لذلك, وفي ذلك يقول الله تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ[البقرة:177], فكل هؤلاء يستحقون الرحمة, والإنسان إذا رحمهم فإن الله سيعوضه خيراً من ذلك: ( يا ابن آدم! أنفق أنفق عليكوَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39], ونفقة الإنسان على اليتامى مقتضية لأن يعيش أولاده وهو في غير يتم, ولذلك قال الله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9].

    فقوله: (( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ )) أي: الأحياء الذين لهم أولاد، لو تركوا ذريتهم ضعافاً خافوا عليهم, لو كان لهم فماتوا عنهم، وتركوهم ضعافاً صغاراً خافوا عليهم أن يظلموا، وأن تؤكل أموالهم، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً؛ لأن هذا الذي يقتضي نشر قيم العدالة والعدل في المجتمع، فلا يضطهد أولادهم ولا يظلموا, فينبغي أن يعاملوا الآخرين بمثل ما يحبون المعاملة به, وهذه قاعدة عامة في الخلق: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به, فلذلك لا بد من رحمتهم.

    ومن رحمتهم القيام بمصالحهم عموماً، ولذلك في قصة الخضر مع موسى عليهم السلام قال الخضر : وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82], فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على القيام بحقوق اليتامى والأرامل, وأن يتذكر أن أهله هو ليسوا بمأمن أن يصيبهم مثلما أصاب هؤلاء.

    رحمة ذوي العاهات والمرضى

    كذلك الضعفة من ذوي العاهات, فالذين رفع الله عنهم الحرج في التكليف ولم يجعل عليهم حرجاً فيه، هم أهل لأن يرحموا, فقد قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61], والأعمى والأصم والأعرج أباح الله لهم المسألة، أي: سؤال الناس، مع أنها محرمة على من سواهم، ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا ثلاثة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحل المسألة لغني ولا لذي مرة سوي )، فالغني لا تحل له المسألة مطلقاً، ولا لذي مرة سوي، و(ذي المرة) معناه: ذي القوة, و(السوي)، معناه: الذي ليس فيه عاهة في طرفٍ من أطرافه، فمفهوم هذا أن من ليس ذا مرة سوياً فإن له المسألة لحاجته وضعفه، ولذلك عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الأعمى عبد الله بن أم مكتوم ، فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4].

    رحمة عامة الضعفاء والمبتلين

    وكذلك الضعفة عموماً، كمن لديه ابتلاء في عقله، سواءً كان فاقداً للعقل كالمعتوه أو كان مصاباً بجنون, أو صرعٍ أو نحو ذلك, فهؤلاء آفتهم في عقولهم، فلا بد من رحمتهم وهم يستحقون هذه الرحمة, ولذلك أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)، فإذا رأيت مبتلىً في دينه, فتذكر أن شر البلية البلاء في الدين, فلذلك ارحمه واسعَ لهدايته, فلا بد أن ترحم الفساق, ولا بد أن ترحم من لديه رقة في الدين من عذاب الله أن يكبه الله على وجهه في النار, وإذا رأيت صاحب معصية، فلا بد أن تتحرك الرحمة فيك لتحول بينه وبين عذاب الله، لترده عن معصيته، وهذا هو نصره كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً, قيل: يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه أو تحجزه عن ظلمه فإن ذلك نصره )، فنصره أن تحجزه أو أن تمنعه من ظلمه، فهذا هو نصره, فلذلك لا بد من رحمة المبتلى بالدين.

    دفع الضرر عن المبتلى في الجسم والمال ورحمته

    ثم بعد ذلك المبتلى في الخلق، والمبتلى في الجسم, ثم المبتلى في المال، فالفقير الذي لا يجد قوت يومه، أو الذي أصيب بفقر في قلبه، فالغنى إنما هو غنى النفس: ( ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس ), فكثير هم أولئك الذين يظن الناس أنهم أغنياء، وما ذلك إلا من تعففهم، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273].

    وكثير هم أولئك الذين يظنون أنهم فقراء، وما ذلك إلا لكساستهم ولؤمهم, فلذلك لا بد من رحمة الفقراء, ولتتذكر إذا رفعت إليك حاجة أن الله أكرمك حين لم تكن أنت صاحب الحاجة, ( فاليد العليا خير من اليد السفلى ), ولذلك قال الحكيم:

    لا تقطعن عادة الإحسان عن أحدٍ ما دمت تقدر فالأيام عادات

    واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات

    فقوله: (لا تقطعن عادة الإحسان عن أحد ما دمت تقدر) أي إنسان تستطيع أن تصله بمعروف، وبعادة الإحسان لا تقطعها عن أحد ما دمت تقدر.

    (فالأيام عادات) الإنسان إنما يتعود على الخيرات بتعويد نفسه على ذلك، كما قال المسيح بن مريم عليه السلام: (أردت إن أعود لساني قول الخير).

    واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات

    أي: جعلت إليك حاجات للناس، لا لك إلى الناس هذه الحاجة؛ وهذا فضل من الله شرفك به، فلا بد أن تذكره لله.

    كذلك يقول الحكيم الآخر:

    ارحم بنيّ جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة

    وقر كبيرهم وارحم صغيرهم وراعِ في كل خلق حق من خلقه

    فالله الذي خلق الناس من حقه إكرامهم، فهم عياله وعباده، و (الناس عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله ), فلذلك من الفضل أن تكون سبباً يجري الله على يديك رزق أحدٍ من عباده، أو فضلاً يصل إليه، أو خيراً أياً كان, وانظروا إلى الفرق بين المحبوب والمكروه الممقوت بين الناس، فالذي يجري الله على يديه نفع الناس، أو مجرد ابتسامته أو شفاعته أو الخير الذي فيه, لا شك أنه محبوب لدى الناس، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وقد كان في وقت الفتنة السياسية والمشكلات, فكانت هذه الأمة إذاك في ضائقة شديدة, بنو أمية في الشام، و عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على مكة والحجاز, و المختار بن أبي عبيد في العراق, و نجدة بن عامر والخوارج في نجد واليمامة, فتفرقت الأمة فبحثت عمن تجد عنده الرحمة إذاك, فقيض الله لهذه المهمة عبد الله بن العباس وأخاه عبيد الله بن العباس، فكان عبيد الله يطعم الناس جميعاً ويكسوهم, وكان عبد الله يعلمهم ويرشدهم ويدعو لهم, فكان يجتمع عليهم خلق كثير، فجاء أهل السياسة إليهم يظنون أن لهم هدفاً سياسياً لاجتماع الناس عندهم؛ فقالوا لـابن عباس : إن الناس يجتمعون إليكما، إليك وإلى أخيك عبيد الله فلا تفعلا، فقال: والله ما يأتينا إلا طالب علم أو طالب فضلٍ، فأي هذين نمنع، ولذلك يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه وهو آخر من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة من هذه الأمة، يقول في ذكر ابن عباس رضي الله عنهما يقول:

    كنا نزور ابن عباس فيتحفنا نوراً ويكسبنا علماً ويهدينا

    ولا يزال عبيد الله مترعةً جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا

    1.   

    حاجة الأمة إلى الرحمة

    هذه الرحمة تحتاج إليها الأمة في زماننا هذا، وأداء الحقوق إلى الضعفاء هو معيار هذه الرحمة, وذلك أننا الآن في زمانٍ تراجع فيه مد الدين، وتراجعت فيه أخوة المسلمين فيما بينهم، وتراجع الناس عن القيم، فلو ترك ضعفاء الأمة فهم مضطرون للركون إلى ركنٍ شديدٍ يحميهم, فإذا لم يجدوا ذلك من إخوانهم المسلمين أين سيذهبون؟ سيذهبون إلى النصارى والكنائس, أو يذهبون إلى الهيئات التي لها أغراض ماسونية، والمحافل التي تسعى لتغيير ديانتهم وأخلاقهم، فلا بديل عن حفظ هؤلاء، والقيام بهم والعناية بمصالحهم، إلا ذهابهم إلى الكفر وأهله, ولا يمكن أن يتركوا لذلك أبداً, فأنت إذا سعيت لصون ماء وجه شخصٍ واحد، ومنعه من أن يتبع الكنيسة, أو أن يذهب إلى المحفل الماسوني, فإنك قد أفدت هذا الدين وزدت أنصاره، وقمت بفرض كفاية، وأمر لازم واجب, لا يمكن أن يترك الفقراء والضعفة في زماننا هذا أيضاً متطفلين على موائد اللئام، وما أكثر اللئام في أواخر الزمان، فقد قال أحد الشعراء:

    زماننا فيه الندى من أندر النوادر فإن وجدت حاكماً ألفيت ألفين ما درِ

    فلذلك لا بد أن يقام بمصالحهم وأن ترعى ضروراتهم.

    دراسة بعض الكتب المؤلفة في أحكام السؤال والصدقة

    ومن المهمات للناس في هذا الزمان أن يدرسوا الأحكام المتعلقة بذلك, وقد جمع العلامة محمد مولود بن أحمد رحمة الله عليه بعض هذه الأحكام في كتابين عظيمين له، أحدهما سماه: إحكام المقال في أحكام السؤال، وهو مطبوع متوفر، ذكر فيه من تحق له المسألة، ومتى يتعفف عنها، ومتى يجوز له أن يسأل، وما لا يجوز له أن يسأل، وقدر الحاجة والأفضل له والأكمل.

    والكتاب الثاني سماه: مأدبة الصدقة, وهو نظم ومعه شرح له، ومطبوع أيضاً، وذكر فيه آداب الفقراء والأغنياء، وما على الأغنياء أن يبذلوه، وما على الفقراء أن يتعففوا عنه, ولذلك يجمع هذا في بيت واحد:

    يا أغنياء أنفقوا يا فقراء تعففوا

    فيخاطب الجميع بما خاطبه الشرع به, وهذان الكتابان من المهم دراستهما وقراءتهما في المساجد، وبالإمكان أن ينتدب بعض الشباب لقراءتهما وجعلهما دروساً في المساجد, يقرأ فيه يومياً صفحة أو أقل أو أكثر من هذين الكتابين، فسيتعود الناس على هذه الأحكام ويأخذونها بطريقة التلقي السهلة، ويكون ذلك صفة إيجابية في الشباب، وقياماً بفرض التعليم، وأيضاً زرعاً لهذه الأحكام المهمة في هذا الوقت.

    فائدة إقامة الهيئات والمؤسسات الخيرية

    ومن المهمات أيضاً في زماننا: قيام الهيئات المستقلة، هيئات المجتمع المدني التي تقوم على التعاون على البر والتقوى، وتكفل الأيتام وتعلمهم أحكام دينهم، وتعلمهم أخلاق الإسلام وقيمه، وترعى الأرامل وتعلم الجهال وتنفق على الفقراء، وتعالج المرضى, فهذه الجمعيات والهيئات أجرها عظيم، وإن كان الإنسان فقيراً وشارك في إقامتها وتأسيسها، فإنه يكتب له أجر المنفقين الذين تصدقوا عن طريقه, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم إن المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها كتب لزوجها أجر الصدقة، ولها هي ولخادمها الذي يبلغ الصدقة، وبين أن السهم الواحد يدخل به في الجنة ثلاثة, فكل أولئك من الذين تعاونوا على البر والتقوى، وهذه الجمعيات تقوم بواجب لا بد منه.

    وقد كان معهوداً في العهد النبوي من وظائف النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الفقراء والضعفة رحمةً شديدة.

    1.   

    صور من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بالضعفاء والمساكين

    كان يوماً واقفاً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فرأى رجلاً من المسلمين يلبس أسمالاً قد تشققت ملابسه، وهو من فقراء المسلمين، وهو سليك الغطفاني ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع خطبته، فقال: أصليت؟ قال: لا قال: قم فصل، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره حتى صلى ركعتين ثم عاد لخطبته, لينتبه الناس له وليستشعروا أن هذا الشخص مهم، فقد قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الجمعة، فيتصدقوا عليه وينفقوا.

    وكان يوماً في المسجد ( فدخل قوم مجتابي النمار، أي: يلبسون الملابس الغليظة، يشقونها فيدخلون فيها رقابهم، ليس لهم كسوة سواها، عامتهم من مضر، أي: جمهورهم من مضر، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمعر وجهه رحمةً بهم، فقام على المنبر فأشاح بوجهه، فقال: تصدق امرؤ من درهمه من ديناره، من صاع بره، من صاع تمره, فحض الناس على الصدقة، فجاء رجل بدرهم, فقال: سبق درهم مائة ألف درهم, وجاء رجل من الأنصار يحمل مداً من شعير، فقال المنافقون: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله, وفي ذلك أنزل الله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79], حتى جاء رجل من الأنصار يحمل صرة، كادت يده تعجز عنها، بل قد عجزت، وهي من الدنانير، فتهلل لها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت كومين، أحدهما من طعام، والآخر من ثياب، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه فقسم ذلك بينهم ).

    وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أصحاب الحوائج، فرأى ما هم فيه من الهم والغم ظهر ذلك في وجهه، فسعى في قضاء حوائجهم جميعاً, ولما أتاه الفقراء قال: ( ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ), وفي يوم أوطاس لما جاءه الأعراب إلى سمرة فتعلق بها رداؤه، قال لهم: ( إليكم عني، فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً ), وأعطى يوم أوطاس رجلاً ما بين جبلين من الإبل وما بين جبلين من الغنم، وأعطى آخر من الذهب حتى ما يقله، فكان الرجل يرجع إلى قومه، فيقول: ( يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ).

    وكذلك كان من كرمه وجوده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم أنه ما سئل شيئاً قط فقال: لا، إن كان عنده أعطى وإلا رد بميسور من القول، قد أدبه الله بذلك: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28], فيعتذر لهم اعتذاراً صادقاً، وهو القول الميسور والاعتذار الصادق، وإذا كان عنده أعطاهم، لكن لا يقول لهم: لا، ولا يسد الباب في وجوههم أبداً، وإن كان عنده ما يعطيهم أعطاهم، وإن لم يكن عنده ما يعطيهم اعتذر إليهم، وهذا القول الميسور الذي أمره الله به.

    نقف هنا وقد وصلنا إلى بعض أخلاق نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة للاقتداء به واتباع سنته، وهو خير خاتمة أن يقتدي الإنسان برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتعلم عن شمائله وأخلاقه.

    اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755955520