إسلام ويب

البذل والتضحية في سبيل اللهللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من لوازم الدين ومقتضياته التضحية والبذل في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله سبحانه، وإظهار دينه، ولذلك دوافع منها محبة الله تعالى، والخوف منه ورجاء ما عنده سبحانه، ولكن يحول بين هذا وذاك عوائق عديدة يزينها الشيطان والنفس كخوف الأعداء، وخوف التشويه، والخوف على المصالح، إلا أن لكل عائق حلاً، وعوامل التهيئة موجودة بإذن الله.

    1.   

    دوافع التضحية والبذل في سبيل الله

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن العاقل دائماً تاجر يبحث عن الربح في تصرفاته، فلا يقدم على بذل شيءٍ إلا إذا كان يؤمل من ورائه شيئاً أهم لديه منه، وإن المؤمن الذي يؤمن بالله، واليوم الآخر، ويعلم أنه معروض على الله تعالى، قادم إليه، وأنه سيحاسبه على عمله، لا يمكن أن يكتم منه شيئاً، ويعلم أن الله تعالى يجازي على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وأنه يجازي على السيئة بمثلها إلا أن يتجاوز عنها، ويعلم أن الربح الطائل المضاعف، هو الذي يستحق أن يبذل فيه ما لدى الإنسان من تجارات، وعمر الإنسان هو رأس ماله، وطاقاته التي خلق الله فيه هي جهده الذي يتصرف به، والربح الذي يؤمله هو جزاء ما يبذله، فإذا علم الإنسان أن الله سبحانه وتعالى قد أقام سوقاً لأعمال هذه الحياة الدنيا، ودعا الناس دعاءً كريماً وضمن لهم الربح، وهو لا يخلف الميعاد، وكرر النداء لقرضه قرضاً حسناً، فقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة:245]، وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11]، فإنه لا بد أن يقبل على الله سبحانه وتعالى، وأن يكون من المتنافسين في التقرب إليه، ابتغاء وجهه، وابتغاء طلب ما لديه من الربح العظيم.

    وأيضاً فإن الذي يعلم ما أعد الله تعالى من العقوبة لمن أخلف ولم يقم بما أمره به، لا بد أن يجتهد في نجاة نفسه من هذه العقوبة العظيمة التي لا يستطيع دفعها عن نفسه، وأنتم تعلمون أن من خاف لا بد أن يبحث عن مهرب، وأن الذي يعلم ما عند الله تعالى من العقوبات، وما أعد لمن خالف أمره، ولم يقم بالحق الذي له، من العقوبة العاجلة في الدنيا، وفي البرزخ، ومن العذاب الأخروي الأليم، لا بد أن يخاف من هذه العقوبة فيبحث عن مغارات أو مدخلٍ يلجأ إليه قبل فوات الأوان.

    وإذا علم الإنسان ذلك علم أن له ثلاثة أمور تدعوه إلى التضحية والبذل في سبيل الله:

    محبة الله تعالى والأنس به

    الدافع الأول: محبته لله سبحانه وتعالى، وأنسه به، فأهل الإيمان يحبون الله حباً شديداً، وحب الله أحب إليهم من كل ما يحبونه ممن دونه، ولا يمكن أن يذوق الإنسان حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبة، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب العبد لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار )، فهذه الأمور الثلاثة به تنال حلاوة الإيمان، وحلاوة الإيمان: إنما تكون بمخالطته لشغاف القلب، واتصاله به، وإذا حصل ذلك فإن الله يكتبه في قلب الإنسان فلا يبدل، فالذين والوا الله تعالى، وقدموا ولاءه على ولاء من سواه، يكتب الله في قلوبهم الإيمان، وقد وعدهم بذلك فقال تعالى في سورة المجادلة: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22]، فيستقر هذا الإيمان في نفوسهم ولا يبدل أبداً.

    وأنتم تعلمون أن من كتب الله في قلبه الإيمان فإن معنى ذلك ضمان حسن الخاتمة له، وأن يستمر على الإيمان وأن لا ينزع منه حتى يلقى الله تعالى، ومن مات على الإيمان فهو من أهل الجنة قطعاً، فهذا الدافع الأول: هو محبة الله تعالى والأنس به، وهذا الدافع لا يمكن أن يعدله ما سواه من الدوافع، فدافع الرجاء والخوف، هو دون دافع المحبة، ولذلك قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165].

    ودافع المحبة حتى لو كان في أمور الدنيا، كثيراً ما يدفع الإنسان إلى بذل نفسه ونفيسه في إرضاء محبوبه، حتى في الأمر الذي لم يأمره به، ولم يطلبه منه، ولذلك تجدون في عصرنا هذا أن بعض الزعماء المؤثرين في شعوبهم يبذل كثير من شعوبهم أنفسهم في الدفاع عنهم، وهم لا يعرفونهم ولا يعلمون تضحيتهم وبذلهم، وربما لم يقع بينهم لقاء قط، فمن أمثلة ذلك مثلاً: عبد الله أوجلان الكردي ، فإنه لما اعتقلته مافيا الصهاينة، ونقلته إلى تركيا، أحرق كثير من الأكراد في أوروبا أنفسهم، وهذا فعل لا يقره شرع ولا عقل، لكنه يدل على مدى المحبة والتأثر، والذي يحب الله سبحانه وتعالى، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن يكون حبه لهما أحب من حب أي مخلوق، فلذلك دافع الحب يؤدي بالإنسان إلى تجشم العناء، ويؤثر حتى في عقله وتصرفه، وحب الله سبحانه وتعالى أولى من كل حب، وهو مقدم على غيره.

    رجاء الأجر عند الله تعالى

    والدافع الثاني: هو رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر، وهو الأجر المضاعف الذي لا يمكن أن يخطر على قلب الإنسان مقداره، ولا جنسه، وفي الحديث: ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، ويكفي منه النظر إلى وجه الله الكريم، وتقريبه في الفردوس الأعلى من الجنة.

    الخوف من الله سبحانه وتعالى

    وكذلك الدافع الثالث: مخافة الله سبحانه وتعالى، فهو الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ويكفي من مخافته الحياء منه، فهو الذي يستحق أن يخاف، وأن يستحيا منه جل وعلا؛ لأنه المطلع على السرائر، لا تخفى عليه خافية، فالخوف منه يقتضي أن يترك الإنسان ما يهواه؛ لأن الله حرمه عليه أو نهاه عنه، وأن يفعل ما لا يهواه؛ لأن الله أمره به، فيكون هذا الخوف دافعاً للإنسان لترك ما يهواه، ولو لم يخف أي عقوبة من غير الله، ولو لم يرتب على ذلك أي عقاب قانوني في الدنيا، فهو يتركه؛ لأن الله لا يرضاه له.

    ومن هنا فإن الإنسان إذا وصل إلى هذا المستوى من الإيمان، لا يحتاج إلى الروادع الدنيوية، ولا إلى رقابة الناس عليه، فقد جاء ماعز بن مالك الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تائباً منيباً، ولم يشهد عليه أحد، ولم يشكه أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه يعلم أن الله مطلع على سريرته، وعلى عمله، وهو يخاف وقت العرض على الله تعالى، فجاء يريد التطهير من ذلك الذنب الذي اقترفه.

    وكذلك أبو لبابة رضي الله عنه، لما سرب سراً من أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، ولم يطلع على ذلك أحد من الناس، جاء تائباً، فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وحلف أن لا يزال ربيطاً فيها حتى ينزل الله توبته، فتاب الله عليه.

    وهذ الوازع الإيماني من خوف الله ورجائه ومهابته ومحبته، هو الذي استغنى به الأولون عن الرقابة والروادع، فلم يكونوا يحتالون للنجاة من العقوبة، بل كانوا يأتون طائعين، يقرون على أنفسهم بما اقترفوا دون شهادة، وهم يريدون التطهير منه، منيبين إلى الله تعالى تائبين إليه، وهذه هي التوبة النصوح التي يتقبلها الله سبحانه وتعالى من صاحبها، فليست التوبة بأن يأتي الإنسان بعد أن تقام عليه الحجة، وبعد أن يشهد عليه الشهود، وبعد أن تترتب عليه العقوبة، فهذه التوبة ليست نصوحاً، وليست كاملة، وليست مثل توبة الذي جاء طائعاً من عند نفسه، ولم يطلع عليه إلا الله، وجاء يريد تطهير نفسه من الذنب، خارجاً منه إلى الله تعالى.

    1.   

    عوائق التضحية والبذل في سبيل الله

    إن الدوافع الثلاثة كافية لأهل الإيمان في التضحية والبذل في سبيل الله، لكنها تحتاج إلى ترسيخها في النفوس، فما دامت قناعة عقليةً دون أن تصل إلى حد العاطفة فتتعلق بها القلوب محبةً ورجاءً وخوفاً، لا يمكن أن تؤثر ذلك التأثير البالغ الذي أثرته في السابقين الأولين من هذه الأمة، وفي غيرهم من الذين ضحوا وبذلوا في سبيل الله سبحانه وتعالى.

    ويحول دون هذا المستوى من التضحية والبذل كثير من العوائق التي تمنع الإنسان أن يصل إلى هذا المقام.

    الشيطان

    فمن هذه العوائق الشيطان الذي يغر الإنسان، فيقول له: يكفيك أقل من هذا، ولا يرضى منه إلا بطول الأمل والتسويف، فإذا أراد أن يبذل لله شيئاً من وقته في قيام الليل، يعقد على قافيته ثلاث عقد، يضرب في كل عقدة: ( إن عليك ليلاً طويلاً فنم ).

    وإذا أراد أن يبذل في سبيل الله شيئاً من ماله، يقول: أمسك عليك مالك؛ فإن الله غني عنك وعمّا عندك، وأنت إنما تعطيه لشخص آخر مثلك، وإذا أراد أن يبذل شيئاً من جاهه كذلك حاول قصره ومنعه منه، فهذا إذاً عائق من هذه العوائق، وهو من أعظمها؛ لأنه يأتي من كل النواحي والجهات: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].

    خوف النفس من إرهاب الأعداء

    وكذلك من هذه العوائق: العائق النفسي المتعلق بنفس الإنسان التي بين جنبيه، وقلما يعدها الإنسان غير ناصحة له؛ لقربها منه، ومع ذلك فهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وعوائقها في هذا الباب متنوعة متعددة، فمنها عائق الخوف، فكثير ما تشغل الإنسان نفسُه بالخوف من غير الله عن التضحية والبذل في سبيل الله، فيخاف أعداء الله، وما يتملكونه من وسائل الإرهاب، والتعذيب، كالسجون والأسلحة وغير ذلك، يخاف هذه الأمور، فلا يستطيع التضحية والبذل في سبيل الله خوفاً من أولئك، وما يملكونه، وهذا الخوف النفسي وهمي غير صحيح، وقد رده الله على أصحابه إذ قال: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فهذا الخوف النفسي إنما هو من إلقاء الشيطان ولمته في النفس، يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، أي: يحملكم على مخافتهم بما يحيطهم به من مسائل الإرعاب، وأنتم تعلمون أنهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياةً، ولا موتاً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ [الحج:73]، هل يستطيع أحد منهم أن يجتلب من الهواء أكثر مما كتب الله له؟ هل يستطيع أن ينال من الرزق أكثر مما كتب الله له؟ هل يستطيع أن يعيش دقيقةً واحدة لم يكتبها الله له، إذاً ليس أهلاً لأن يخاف منه بوجه من الوجوه، فهو عاجز عن مصالح نفسه، فكيف بمصالح غيره! وهو عاجز عن الدفع عن نفسه، فكيف يوثق بدفعه عن الغير.

    الخوف من التشويه

    كذلك من أنواع الخوف: خوف الإنسان من التشويه، فكثير ما يكون حائل بين الإنسان وبين التضحية والبذل في سبيل الله، فيسمع وسائل إبليس؛ لتشويه الناس بتصنيفهم إلى أصناف، وتلقيبهم بالألقاب، ووصفهم بالأوصاف التي لا يفهم كثير من الناس معناها، كما كان في أيام الصحابة، فقد كان أهل الشام يذمون عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فيقولون: يا ابن ذات النطاقين! وهذا مدح لا ذم، وهم يظنون أنهم يذمونه بذلك؛ لأنهم لا يعرفون معنى ذات النطاقين، وذات النطاقين لقب لـأسماء بنت أبي بكر ، وإنما لقبت به؛ لأنها قسمت نطاقها وقت الهجرة، أي: إزارها وقت الهجرة، فنصفه جعلته سفرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر ، ونصفه اتزرت به، فكانت ذات النطاقين حقاً.

    فهذا وصف حمدٍ لا وصف ذمٍ، وهم لا يدرون ذلك، كما أن كثيراً من الناس اليوم يذمون الإنسان بأنه أصولي، ومعناه أنه متمسك بالأصل، الذي هو الكتاب والسنة والدليل، فهل هذا ذم؟ لكن كثيراً من الناس يتخيل أن هذا من الذم.

    وهكذا في بقية الألقاب والأوصاف الأخرى، فكثير من الناس يصف بعض الناس بأنهم حشوية، وما معنى الحشوية؟ لا يعرف هو معنى هذه الكلمة، ولا يدرك هل هي مدح أو ذم؟ ولا يعرف من أطلقها، ولا في أية بيئة أطلقت، فهذا النوع من التشويه كثيراً ما يكون عائقاً بين الإنسان وبين التضحية والبذل في سبيل الله؛ لأنه يرى الناس يشوهون بهذه الأوصاف، فيخاف أن يكون مثلهم، فتلصق به التهم، وتطلق عليه الألقاب، ولكن الواقع أن الرب سبحانه وتعالى، وهو المتصف بصفات الكمال المنزه عن جميع النقائص، زعم النصارى له صاحبة وولداً: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، هل ضر الله تعالى هذا التشويه شيئاً؟ أبداً ما ضره ولن يضره، وأنبياء الله الذين اصطفاهم الله من جميع الخلائق، واصطنعهم على عينه، ورباهم فأحسن تربيتهم، وأكمل خلقتهم وأخلاقهم، ووصفهم بأوصاف الكمال الممكنة في البشر، مع ذلك ما منهم أحد إلا قال الناس فيه: كذاب، مجنون، ساحر، كاهن، طالب سلطة.

    هذه أوصاف الناس التي يواجهون بها الأنبياء جميعاً: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53]، وعندما وصف بها قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلاه الله عن ذلك بقوله: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43]، فقد وجه الرسل بذلك من قبله صلى الله عليه وسلم، وواجههم أقوامهم بمثل هذه الأوصاف تماماً، والذي يسلك طريق الأنبياء من الداعين إلى الله تعالى ومن المخلصين له، لا بد أن يواجه بمثل ما ووجهوا به، فليس هو أكرم على الله منهم، فهل أنت أكرم على الله من إبراهيم خليل الله؟ الذي رماه أبوه وأقرب الناس إليه في النار، وأوذي بأنواع الأذى حتى أخرج من وطنه، وأنت تعلم أنك لست أكرم على الله منه، ولا أكرم عليه من موسى، الذي آذاه المؤمنون به من قومه أذىً شديداً حتى قال: يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]، ولست أكرم على الله من عيسى بن مريم الذي رأى النصارى ميلاده من غير أبٍ وسمعوا تكلمه في المهد ورأوا: أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ [آل عمران:49]، ورأوا: وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ [آل عمران:49]، ومع ذلك آذوه بأنواع الأذى، وحاولوا قتله وصلبه والتخلص منه، فهل أنت أكرم على الله منه؟ أبداً.

    وأنت قطعاً لست أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أكرم الثقلين، الإنس والجن على الله تعالى، وقد آذاه الكفار من اليهود والمشركين بأنواع الأذى، فجاء عقبة بن أبي معيط ، وكان كبير الجسم، فجعل أخمص رجله على رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد لربه، مدةً من الزمن، وجاء يحمل سلى ناقة، فوضعه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد لربه، وكانت أم جميل بنت حرب تحمل الشوك والوسخ فتكبه على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد أوذي في بدنه يوم أحدٍ فضربه ابن قمئة بالسيف على جبينه، حتى دخلت في وجهه حلقة من حلقات المغفر، وكسرت رباعيته، وجحشت ركبته. وأوذي في أهل بيته، ومعروف ما قاله المنافقون في قصة الإفك، وآذاه اليهود بأنواع الأذى، فأعطوا عمرو بن جحاش حجراً ضخماً، وأصعدوه فوق دار وأمروه أن يلقيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل فأخبره فقام من مكانه، فوقع الحجر في مكانه، وحاولوا اغتياله مراراً متعددة حتى وضعوا له السم في الشاة، فكان سبب شهادته في سبيل الله، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

    فإذا عرفت أنك لست أكرم على الله من هؤلاء الذين أوذوا في سبيله، فعليك يا أخي! أن لا تجد ضيقاً، وأن لا يضيق باعك بأي أذىً يلحقك في سبيل الله، ولا يمنعك ذلك من أية تضحية يطلب منك أن تضحيها في سبيل الله، فما أنت إلا حلقة واحدة من سلسلة طويلة، فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، ومن على آثارهم من المخلصين، وهذه السلسلة إذا أصابت حلقة منها نكبة، فستصيب كل الحلقات، ولذلك فأنا متأكد لو أن أحدكم الآن يعلم أن بباب هذا المسجد مسماراً قد وطئه آدم، فدخل في رجله، ووطئه إبراهيم فدخل في رجله، ونوح فدخل في رجله، وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، لقمتم جميعاً تستبقون إليه تدخلونه في أرجلكم، لأنه مسمار مبارك، فلذلك اعلموا أن كل هذا التشويه، وكل هذه النكبات والشبهات، قد نالت من هو خير منكم، وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وأزكى وأطهر، فلذلك ليس فيها عار ولا عيب، ولا نقص.

    الخوف على المصالح

    كذلك فإن من أنواع هذا الخوف: الخوف على المصالح، فإن كثيراً من الناس تتاح أمامهم الفرصة للتضحية والبذل في سبيل الله عز وجل، وفي وقت الحاجة إلى بذله وتضحيته، كحالنا اليوم الذي تراجع فيه كثير من الناس عن الدين، فكثير من المسلمين الذين يرجون لقاء الله، ويؤمنون بالعرض عليه، تتاح لهم الفرص الجسيمة؛ لإعلاء كلمة الله بالمواقف المشرفة العظيمة، ومع ذلك لا يتجاسرون عليها؛ لحرصهم على مصالحهم الدنيوية؛ لأنهم يظنون أن مصالحهم الدنيوية ستزول بمجرد تلك التضحية والبذل، وهذا جهل عظيم بتلك المصالح من أين أتت، هل هذه المصالح جاءت من عند غير الله تعالى؟ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ [النحل:53]، وهو وحده الذي يُرجى لبقائها؛ لأنه إذا أراد أخذها فلا يستطيع أحد ردها، وإذا أراد تمتيعك بها فلا يستطيع أحد أن ينتزعها منك، وقد قال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، كل ذلك من عند الله لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا أحد يستطيع أن يغير شيئاً مما أراده، فهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41].

    فإذا عرفت ذلك، فاعلم أن مصالحك إنما هي من عند الله، وأن الذي ترجوه من التمتيع بها إنما هو من عند الله، وقد تعهد بتلك المصالح لمن نصره، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28]، أي: فقراً، كما يقوله كثير من الناس، يقولون: سأفقد راتبي ووظيفتي، إذا قمت بهذا الموقف المشرف لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، يقال: من الرزاق؟ الله عز وجل هو الخالق الرازق، وهو الذي رزقك هذه الوظيفة وغيرها، وهو الذي تعهد لك بهذا التعهد، وهو لا يخلف الميعاد.

    الخوف من تحمل التكاليف

    كذلك فإن من أنواع الخوف الذي يلقيه الشيطان في النفوس أيضاً: الخوف من التكاليف، فكثير من الناس تعود على الحياة السلبية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، فعاش كما يعيش أواسط الناس، يظنون أنهم كالبهائم التي خلقت من أجل أن تعيش وينتفع بها من سواها، فهم يجمعون أنواع الرزق ويبذلون حيلهم وأوقاتهم، وما يملكونه من الطاقات؛ من أجل جمع أنواع الرزق، وهذه حرفة تتقنها الفارة، ويتقنها النمل، فالنملة هل لها شغل إلا جمع الأرزاق؟ والفأرة هل لها شغل غير جمع الأرزاق، فهذا إذاً ليس عملاً شريفاً، ولا هو الذي خلقت من أجله، إنما خلقت من أجل تحقيق الاستخلاف في هذه الأرض وعبادة الله فيها، وقد قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ [الذاريات:56-58]، وأنت تؤمن بأن هذا هو الحق، تؤمن وتعلم علم اليقين، أنك خلقت لعبادة الله سبحانه وتعالى، وللاستخلاف في الأرض.

    فلذلك من المؤسف أن تكون ذا نفسٍ شريفة، وقد وظفك الله في أكبر وظيفة، وأنت تريد أدنى وظيفة، هذه طريقة من طرائق اليهود، فهم الذين أنعم الله عليهم بالمن والسلوى، فعدلوا عن ذلك، وسألوه الفوم ونحوه من الأمور التي لا نفع لهم فيها، سألوه العدس والفوم بدل أن أعطاهم المن والسلوى، ولذلك خاطبهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، يوظفك الله في أعلى وظيفةٍ ممكنة في الاستخلاف في الأرض، وتحقيق عبادته، فترد عليه هذه الوظيفة وتسأل وظيفة أخرى، هي وظيفة النمل والفأرة، وغير ذلك من خشاش وخلائق جمع الأرزاق.

    إن الذي يدرك هذا المعنى، لا بد أن يعلم أنه قد باع نفسه لله تعالى، وهذه البيعة كل إنسان منا قد وقع عليها بمجرد نطقه بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا يستطيع التنازل عنها، ولا الإقالة فيها، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، وأنت يا أخي إذا بايعت الله تعالى بهذه البيعة، فاعلم أنك الرابح، فالذي تبذله من المال أو من الجاه، أو من التفكير، أو من الوقت، هو جزء من نعمة الله عليك، وفي مقابله يربحك بجنات النعيم، عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

    إذاً ربح طائل، لا يمكن أن تطلب ربحاً فوقه بوجه من الوجوه، وإذا كان الحال كذلك فاعلم أن خوفك من التكاليف هو أمر ليس له أي مبرر، هل تكون التكاليف في غير النفس والمال؟ التكاليف لا يمكن أن تكون إلا في النفس أو في المال، وقد بعتهما لله، فليسا لك أصلاً، فلذلك لا يمكن أن تخاف تكاليف زائدةً على ما بعته لله تعالى من نفسك ومالك.

    نقص الثقة بالنفس

    كذلك فإن مما يلقيه الشيطان في النفوس من العوائق التي تحول دون التضحية والبذل في سبيل الله: نقص الثقة بالنفس، فكثير من الناس لا يمنعهم من التضحية والبذل في سبيل الله؛ إلا أنهم لا يثقون بأنفسهم، فيرون أن الذين ينصرون الله سبحانه وتعالى، ويبذلون في سبيله على مواصفات معينة، وأنهم هم دون ذلك المستوى، وهذا غير صحيح، فالبشر جميعاً أمام التكاليف الربانية على درجة واحدة، والرسول صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم كافة، وكل إنسان منهم غير معذور فيما يستطيع القيام به، من نصرة الله ورسوله، وإذا قصر في شيءٍ من ذلك، فإنما هو المقصر، لا يتحمل عنه من سواه شيئا، فمن سواه له تكاليف تكفيه، وقد جاءه من الخطاب نظير ما جاءك، فإذا قام هو به فلا يتحمل عنك شيئاً، إنما يقوم بما عليه هو، ويبقى نصيبك أنت غير محمول، فأنت المسئول عن حمله، وعلى هذا فإنك يا أخي لا تستطيع أن تكتم الله شيئاً مما آتاك، ولا يكلفك الله إلا ما آتاك، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وأنت لا تستطيع أن تكتم الله شيئاً، فكلما بك من النعمة منه، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ [النحل:53].

    نقص الثقة بالآخرين

    كذلك مما يلقيه الشيطان في النفس من العوائق التي تحول دون التضحية والبذل في سبيل الله: نقص الثقة بالآخرين، فكثير ما يمتنع الإنسان عن التضحية والبذل في سبيل الله بسبب بسيط؛ وهو أنه يقول: أنا لا أستطيع نصرة الدين وحدي، ولا أرى الصادقين الجادين الذين ينصرون الله حتى أنصره معهم، والذين أراهم يبذلون إنما هم من المرائين المسمعين فيهم، وفيهم من النقص كذا، ويبدأ يعد العيوب ويستقصيها.

    والجواب عن هذا: أن يقال: هل أنت يا أخي سالم من هذه العيوب؟ هم جميعاً غير مخلصين، وأنت الوحيد المخلص، من أعطاك هذا الضمان، أنك الوحيد المخلص، وأن من سواك غير مخلصين.

    أيضاً فكل دعوى لم تقم عليها بينة، فهي مردودة على صاحبها، وأنت لم تعرفهم إلا في سبيل التضحية في سبيل الله، ليس لك بهم علاقة أخرى ولا صلة، ولولا تلك التضحية والبذل لما عرفتهم أصلاً، ولما سمعت أسماءهم، ولما رأيت وجوههم، ولم يجمعك معهم أي شيءٍ آخر.

    وأيضاً حتى لو قدر أنهم غير مخلصين جميعاً، وكانوا منافقين مرائين مسمعين، فهل هذا عذر لك أنت في ترك ما أمرت به؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، مع كل بر وفاجر، لا ينقضه جور جائر، ولا عدل عادل )، حتى لو كان رافع راية نصرة الله سبحانه وتعالى فاجراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرك بنصرة الله معه.

    نقص الثقة بالمستقبل

    كذلك من هذه العوائق: نقص الثقة بالمستقبل، فكثير من الناس يرى انتفاشة الباطل وانتفاخته، ويرى تجزئة الأمة الإسلامية، وغلبة أمم الكفر عليها، وتقسيمهم لها إلى دويلات، فيظن أن الحال لا يمكن أن يتغير، وأن الشر ضربة لازب على هذه الأمة، وهذا في الواقع جهل بالتاريخ، فهذه الأمة مكثت أمة مستقلة قائدةً للأمم في تاريخها الماضي، وإنما سقطت خلافتها الجامعة قبل بضع وسبعين سنة من الآن، هل بضع وسبعون سنة؟ أعظم من هذا التاريخ الكبير الطويل، هل هي أعظم من ألف ومائتين وزيادة من السنوات؟ فلذلك لا بد من مراجعة التاريخ، وأن تعلم أن انتفاشة الباطل وانتفاخته ليس هذا أولها، فقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم وليس على الأرض أحد من أهل هذا الدين من أهل الإيمان، وبعث والناس يعبدون الأصنام وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، ولم تمضِ سنوات قليلة حتى طهر الله أرض جزيرة العرب من الشرك، وأيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب، وبعد النبي صلى الله عليه وسلم وعندما توفاه الله كان الإيمان محصوراً في جزيرة العرب وحدها، لكن لم تمضِ ثلاث سنوات حتى فتحت أرض فارس، وأرض الروم، وتوغل الفاتحون المضحون الباذلون في سبيل الله في مشارق الأرض ومغاربها، ولم تمضِ بعد ذلك ست وستون سنة، حتى وصل إلى ضفاف هذا المحيط الفاتحون في سبيل الله، فقتل عقبة بن نافع رضي الله عنه سنة ستٍ وستين من الهجرة، وقد وقف على شاطئ هذا المحيط فغرز فيه رمحه، فعاهد الله أن لو كان يعلم أن خلف هذا البحر ذو نفس منفوسة، لخاض البحر إليه حتى يبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يموت دونه.

    وكذلك بلغوا في الجهات الأخرى مثلما بلغوا في هذه الجهة، فتوغلوا في أدغال أفريقيا وأوروبا وآسيا، فوصل عبد الرحمن الغافقي إلى جنوب باريس، وأقام معركة بلاط الشهداء التي ما زالت خالدةً إلى اليوم، ووصل محمد بن القاسم الثقفي إلى بلاد الهند، ففتح السند، وأرض باكستان، ووصل سعيد بن عثمان بلاد أفغانستان، ففتح الطالقان وما وراءها، ووصل الفاتحون بعد ذلك إلى أماكن نائية، فأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه دفن عند حائط القسطنطينية ، وقد فتحها محمد الفاتح فيما بعد، ووصلت جيوش محمد الفاتح إلى شرق أوروبا، ففتح ألبانيا وبلغاريا وعدداً كبيراً من البلدان، وأقام المعارك الضارية مع الأوروبيين في البوسنة وفي كوسوفا، وغيرها من المناطق التي كانت فيها معارك مشهودة للإسلام على أعدائه، ووصل الفاتحون من غيرهم بلاد الروس، وفتحوا كثيراً من تلك المناطق النائية، وقطعوا الأنهار الجامدة من شدة البرد، وبعدهم استمر الفاتحون من ذراريهم على آثارهم، يسلكون هذا الطريق، ويسيرون فيه، والأمة حينئذٍ بخير، وشملها مجتمع، ولواؤها مرتفع، لكن عندما تقاصرت همم أبنائها وقصروا عما كان عليه آباؤهم وأسلافهم من التضحية والبذل في سبيل الله، وصلت الأمة إلى هذا المستوى الذي نحن فيه، وهذا المستوى ليس دار مقام، فقد قال الحكيم:

    ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد

    هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج ولا يرثي له أحد

    فلذلك لا بد أن يخرج من هذه الأمة مضحون باذلون، يصلون تاريخ هذه الأمة، ويعيدون الحلقات المفقودة من تاريخها، والتضحية والبذل في سبيل الله فيها.

    الاختلاف في المناهج

    كذلك فإن من هذه العوائق التي يلقيها الشيطان في نفوس ضعاف النفوس، لتحول بينهم وبين البذل والتضحية في سبيل الله: الاختلاف في مناهج الناصرين لله والداعين إليه، فيرى كثير من الناس أن هذا الاختلاف اختلاف تضاد، وأن هذا الاختلاف مؤذن بالشك في هذه المناهج، والتشكيك فيها، بل يقول بعضهم:

    تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد

    والواقع أن هذه المناهج الاجتهادية هي مثل المذاهب وهي إثراء لهذه الأمة، وتحقيق للفرص المتاحة للجميع، فمن كان يستطيع الشمول فيها، فليقم بذلك النصيب العالي، ومن كان عاجزاً عن ذلك فليأخذ بما دونه وقد قال المعري :

    أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا

    فكل يأخذ على قدر مستواه، وقد فتح أمامه الباب للتضحية والبذل في سبيل الله، كل في مجاله. وكثرة المجالات المفتوحة للبذل والتضحية في سبيل الله، لا ينبغي أن تكون شغلاً شاغلاً للناس عن هذه التضحية، بل ينبغي أن يبادروا لاستغلالها قبل فوات الأوان، وأن يبذل كل جهده وطاقته فيما يستطيع.

    التشكيك في القيادة

    ثم إن هذه العوائق أيضاً قد تصل في بعض الأحيان إلى التشكيك فيمن يقود إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فيقول كثير من الناس: إنما قاد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فبذلك وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التضحية والبذل في سبيل الله، كانوا يرون المعصوم أمامهم، يتقدمهم، وقد قال علي رضي الله عنه: ( كنا نتقي العدو برسول الله صلى الله عليه وسلم )، وكانوا بعد المعصوم صلى الله عليه وسلم يتقون العدو بأصحابه من بعده، فقد كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص : قد أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين، فإذا لقيت العدو فاجعلهم صفاً بين العدو وبين المسلمين، وهم الزبير بن العوام ، و المقداد بن عمرو ، و عبادة بن الصامت .

    لكن يجاب عن هذا: بأن الواقع أن القيادة ليست شرطاً لذلك، بل إن كثيراً من الجيوش كان قادتها ليسوا على مستوى التضحية الحاصل في أفرادها، وكان كثير منهم أيضاً ينقصه الرأي، بل ربما ارتبك في الأمر، فمن أشهر المعارك الإسلامية في عهد الصحابة في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، معركة فتح أفريقيا، وقائدها عبد الله بن أبي السرح ، وقد كان معه ثلاثة آلاف من المسلمين، فجاءه أهل أفريقيا بمائة وعشرين ألفاً، فلما أحاطوا به من كل جانب، جلس في قبته يفكر في الأمر، واعتزل الجيش في تلك اللحظات للتفكير، فبينما هو على ذلك إذا دخل عليه فجأةً عبد الله بن الزبير وهو شاب صغير، فرعب منه فقال: كل أزب نفور، فقال: ما حاجتك؟ قال: لقد رأيت مكيدةً أهزم بها العدو فأريد أن تعطيني مائة فارس، فأقتل ملكهم، ولا بد أن ينهزموا على أكتافهم بعد قتله. فلم يصدقه هذا القائد؛ لأنه رأى أن هذا من تهور الشباب، وأنه ليس له تجربة من قبل في قيادة المعارك، ويمكن أن لا تكون هذه التجربة صحيحة، لكنه ألجأه انعدام رأي آخر إلى موافقته على رأيه، فاختار عبد الله بن الزبير مائة فارس يحمون له ظهره، وانطلق فمر بين الجيوش كأنه رسول إلى الملك، فجاء إلى الملك وهو بين مغنيتين له في عربة تجرها الخيل، فلما وقف بين يديه كأنه يرسل إليه الرسالة، فاخترط سيفه فأطار به رأسه، ثم رفع رأس الملك، وأقبل والجيوش في ذهول، لا يراه أحد منهم، ولا يدري ماذا حصل، فانهزموا وولوا المسلمين أكتافهم، فكانت تلك المعركة القاضية التي كانت سبباً في فتح أفريقية والقيروان وما وراء ذلك من بلاد تونس.

    بل إن كثيراً من المعارك أيضاً دارت وليس لها قائد، ففي معركة مؤتة قتل قائدها الأول: وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم أخذ اللواء القائد الثاني: وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتل، ثم أخذ اللواء القائد الثالث: وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقتل، فأخذ اللواء زيد بن أرقم الأنصاري ، فلما اجتمع الناس عليه قال: ما أريد أن أقودكم فأخرجوا إلي رجلاً منكم يحمل اللواء. فتناوله خالد بن الوليد ففتح على يديه، فـخالد لم يوله أحد، وبذلك يعلم أن القيادة ليست شرطاً، وإنما القائد فرد من أفراد الأمة يظهر في أوقات الحاجة إليه، فيتقدم عندما يحجم الآخرون، أو يكون له الرأي الذي يقصر عنه من سواه، وبالتالي ليس هو إلا فرداً من الأفراد، كما قال علي رضي الله عنه: ما أنا إلا أحدكم، ولكني أثقلكم حملا. لكن كثيراً من الناس لا يفهمون القيادة فيظن أن للقائد مواصفات غير معهودةٍ في البشر، فيظنون أنه هو العالم الذي لا يجهل، وهو الشجاع الذي لا يكسل، وهو المضحي والباذل الذي لا يتراجع أبداً، وهذا غير صحيح، فالقائد ما هو إلا فرد من الأفراد، إذا كان فيهم الكسل فسيكون فيه، وإذا كان فيهم الجهل فسيكون فيه، وقد قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:94-95]، فالملائكة فعلاً لا يقودهم إلا الملائكة، لكن البشر لا يقودهم البشر.

    ومن هنا فلن يكون قائد الأمة إلا فرداً من أفرادها، ولذلك فإن القادة الذين برزوا فيما بعد كمحمد الفاتح وغيره، إنما ميزهم فقط أنهم أدركوا الخطر الذي يواجه الأمة، فبذلوا ما يستطيعون في سبيله، فصلاح الدين الأيوبي رحمة الله عليه عندما تولى ملك مصر، كان شغله الشاغل ليس في مصر، ولا في بناء القصور، ولا في جمع المراكب، ولا في جمع الأموال، إنما كان يفكر في تحرير بيت المقدس، فهذا شغله الشاغل الذي يفكر فيه آناء الليل وأطراف النهار، وعندما اجتمع عليه طلاب الحديث، وكان محدثاً، فسألوه أن يحدثهم بالحديث المسلسل بالابتسامة، فحدثهم بالحديث ولم يبتسم، فقالوا: ألا تبتسم حتى يستمر لنا الإسناد بالابتسامة، قال: إني لأستحيي من الله أن أبتسم وبيت المقدس في أيدي الصليبيين، فحرره الله على يديه؛ لهذه الهمة العالية، ولذلك فإن الذين هم بهذا المستوى من الهمة دائماً هم الذين يرفعون شأن الأمة.

    وسيف الدولة الحمداني عندما كان الصليبيون يطمعون في احتلال بلدان الشام، كان هو يغزوهم حتى يصل إلى عقر دارهم، وفي كل معركة ينتصر عليهم، ولو لم يكن معه إلا أشخاص قلائل، وفي معركة من المعارك هزم عنه جيشه فبقي هو مبتسماً في وجه النصارى لا يجرءون عليه، فجاءوه يطلبون الصلح، فعقد معهم الصلح، فلما صالحوه إذا هو في نفر يسير من الناس.

    ولذلك يقول فيه أبو الطيب المتنبي :

    على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

    وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

    يكلف سيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الملوك الخضارم

    ويقول في هذه القصيدة:

    هل الحدث الحمراء تعرف لونها وتعلم أي الساقيين الغمائم

    سقتها الغمام الغر قبل وروده فلما دنا منها سقتها الجماجم

    وكان بها مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم

    وكذلك في معركة أخرى يقول فيه المتنبي أيضاً:

    رأى ملك الروم ارتياحك للندى فقام مقام المجتدي المتملق

    وكاتب من أرض بعيد مرامها قريب على خيل حواليك سبقِ

    وقد سار في مسراك منها رسوله فما سار إلا فوق هام مغلَّقٍ

    وكنت إذا كاتبته قبل هذه كتبت إليه في قذال الدمستق

    ويقول فيه في أخرى:

    فلا تعجبن إن السيوف كثيرة ولكن سيف الدولة اليوم واحد

    فأنت حسام الدين والله ضارب وأنت لواء الدين والله عاقد

    وأنت أبو الهيجاء بن حمدان يا ابنه تشابه مولود كريم ووالد

    وحمدان حمدون، وحمدون حارث وحارث لقمان، ولقمان راشد

    أولئك أنياب الخلافة كلها وسائر أملاك البلاد الزوائد

    أحبك يا شمس الزمان وبدره وإن لا مني فيك السهى والفراقد

    ويقول فيها:

    شننت بها الغارات حتى تركتها وجفن الذي خلف الفرنجة ساهد

    فلم يبق إلا من حماها من الظُّبى لمى شفتيها والثدي النواهد

    تبكي عليهن البطاريق في الدجى وهن لدينا ملقيات كواسد

    ومن شرف الإقدام أنك فيهم على القتل موموق كأنك شاكد

    وأن دماً أجريته بك فاخر وأن فؤاداً رعته لك حامد

    فلذلك لا بد أن يعرف أن القائد ما هو إلا فرد من أفراد الأمة، وإذا وجد من يتقدم معه، فسيوجد من أفراد الأمة من يسد لها هذا المسد، فما وظيفة القيادة إلا وظيفة عادية من وظائف الأمة، وإذا أرادت الأمة أن تنفض عنها الغبار فلن تعدم من يقوم بهذه الوظيفة.

    ثم إن هذه العوائق كذلك لله فيها حكم عظيمة، فالله تعالى يرد الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، ولا يرتضي بذلهم وتضحيتهم، فهم على مكانٍ من الشجاعة رفيع، وهم كذلك على مستوى من القوة كبير، ولكن لا يرتضي الله خدمتهم للدين، فقوتهم وشجاعتهم هي على شعوبهم، وعلى أقاربهم وبني عمهم.

    وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

    فما لديهم من السلاح والقوة إنما يصرف في الشعوب المسكينة الفقيرة الضعيفة، ولا يواجهون الأعداء إلا بالتواضع والمذلة، والخنوع، كما قال الخارجي:

    أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر

    هلا كررت على غزالة في الوغى أم كان قلبك بين جنبي طائر

    ثم إن هؤلاء الذين لا يرتضي الله تعالى خدمتهم للدين، لا يمكن أن يكونوا أبداً من الفاتحين، ولا من المعلين لكلمة الله، ولا من الرافعين للوائه، يصرفون عن ذلك، وقد قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146]، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].

    انعدام القدوة

    كذلك فإن مما يقف دون هذه التضحية والبذل من العوائق في كثير من الأحيان لدى بعض الناس انعدام القدوة، فيقول: أنا أحتاج إلى من يسبقني، لكن يقال له: قد سبقك الكثير، وما عليك إلا أن تدرس سير السابقين، وما فائدة التاريخ إذا كان الإنسان لا يأخذ منه الدروس والعبر، هل نحن أمة مبتورة من الناس؟ لا بد أن تدرك هذه الأمة أن لها تاريخاً طويلاً فيه كثير من الأمجاد والتضحيات، ولا بد أن تتصل بتلك الأمجاد والتضحيات، ولا بد أن يدرس الشباب سير السابقين المضحين الباذلين، وأن يكون ذلك من المقررات العلمية التي تدرس، ولا بد أن يدرس الناس سير الباذلين المضحين في سبيل الله، حتى يقتدوا بهم، فقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: سير الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].

    1.   

    عوامل تهيئة الأمة للتضحية والبذل في سبيل الله

    الإيمان والعقيدة

    إن الله سبحانه وتعالى قد هيأ هذه الأمة للتضحية والبذل في سبيله، فأول هذه التهيئة إيماننا الذي هو حافزنا إلى التضحية والبذل، وهو الذي يقتضي منا أن لا نخاف غير الله تعالى، وأن نعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وأن كل إنسان منا كتبت خطواته، وكتب عليه كل أمر يتعلق به، وهو جنين في بطن أمه، فلا يمكن أن يتغير شيء من ذلك، ولا يمكن أن يصاب بأية نكبة، إلا وقد كتبت عليه من قبل، وهذا الدافع هو من أعظم الدوافع، ولا بد من استحضاره ومراجعته، فالدافع العقدي هو الزاد الحقيقي للتضحية، وهو الذي لا بد أن يتذكره الإنسان في كل الأحيان، وكان الأولون يتذكرونه في مثل هذه المواقف، فأصحاب داود عليه السلام حين كانوا فئة يسيرة قليلة، وصفهم الله تعالى بهذا الإيمان، فقال: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، (( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ )) أي: يوقنون، أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

    دعاء الله واللجوء إليه

    والدافع الثاني: هو اللجأ إلى الله والدعاء، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الدعاء يصطرع في السماء مع البلاء )، والدعاء جند من جنود الله سبحانه وتعالى، وبه ينصر المستضعفين من عباد الله، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما التقى بعدوه، ولم يكن على استعدادٍ كاملٍ من ناحية العدة والعدد للقتال، وكان أصحابه يودون: أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، فجاءتهم ذات الشوكة وهي الجيش، وكانوا يريدون غير ذات الشوكة، وهي العير، لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله، فبذل قصارى جهده في الدعاء، وكان يرفع يديه حتى يقع رداؤه عن كتفيه، و أبو بكر يقول له: ( حسبك! فإن الله منجز لك ما وعدك )، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك علم اليقين، ولكنه يعلم أن هذا الدعاء جيش من جيوش الله، ولا يمكن التفريط فيه، ولا التقصير فيه أبداً، وبه يتغلب الإنسان على تلك النوازع والعوائق، وبه يزهد في أمور الدنيا والحياة فيها.

    قوة الشخصية في كل الأمور

    وكذلك من هذه المقويات أيضاً: قوة الشخصية، فالإنسان محتاج إلى قوة الشخصية في كل أموره، فإذا قويت شخصيته كان ذلك سبباً لشجاعته، وقوة الشخصية من أعظمها ما أخبرنا الله به في كتابه في قوله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، أن يرجو المسلم من الله ما لا يرجوه أعداؤه، فهو يعلم أن من مات من الأعداء فهو صائر إلى النار، وأنه هو إذا مات مقبلاً غير مدبر فهو صائر إلى الجنة، وهذا الدافع كذلك عظيم، ولهذا فإن رجلاً من الأنصار كان يأكل تمرات في يده، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الصف يقول: ( تقدموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال: عرضها السموات والأرض، بخٍ بخ، إنه لعمر طويل لئن بقيت حتى آكل هؤلاء التمرات، فرمى بهن، وتقدم فقاتل حتى قتل ).

    قوة في الشخصية تقتضي مثل هذا النوع، ولذلك فإن هذه القوة في الشخصية، تحصل حتى مع انعدام الوسائل، فقد كان رجل من المجاهدين اسمه محمد أحمد فال ، عندما واجهوا جيشاً عظيماً من جيوش النصارى، وكانوا سبعةً فقط، قال رجل منهم: لا طاقة لنا اليوم بهؤلاء، فقال محمد هذا: أليس لهم أرواح، وهم يخافون عليها، كيف لا طاقة لنا بهم. فكانت قوة هذه الشخصية سبباً لهزيمة العدو، ولذلك فإن الإنسان إذا كان يعلم أن المصير قد كتب، فستقوى شخصيته، ويتقدم حين يحجم الآخرون.

    مراجعة كتاب الله تعالى

    وكذلك من هذه الدوافع التي تدفع الإنسان لهذه التضحيات، والبذل في سبيل الله، مراجعته لكتاب الله، فهذا القرآن العظيم حوى كثيراً من الأمور التي تدفعنا للتضحية والبذل في سبيل الله، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:38-41]، واقرءوا كذلك قول الله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، فقد تضمنت هذه الآية ثلاثة حوافز عظيمة، فالحافز الأول منها: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38]، تذكيرنا بأننا قادمون على الله، وأن أعمالنا كلها محصاة عنده، وسنجدها عند وقت الحاجة إليها، فإذا تذكر الإنسان ذلك، فإن هذا أبلغ حافز يدعوه بأن يقدم لنفسه، فالفرصة متاحة أمامه الآن، والتنافس قد بدأ، وقد أقبل الناس على التغابن وهم يستبقون، فإياك إياك أن تكون في آخر الركب، فالمسابقة قائمة.

    ثم بعد هذا الحافز الثاني: قول الله تعالى: وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، أن تتذكر علاقاتك يا أخي بالله، هل أنت مستغنٍ عن الله في طرفة عين، هل تستطيع أن تقطع العلاقات معه؟ لذلك اعلم أن الله غني عنك، وأنت فقير إليه، فأنت محتاج إليه في كل لحظاتك وسكناتك، وحركاتك، فلا تستغني عنه بوجه من الوجوه، وهو الآن يدعوك لأن تقرضه قرضاً حسناً، وهو غني عنك، فعليك أن تبادر لذلك قبل أن يفوت الأوان.

    والحافز الثالث هو قوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، إن لله من الجنود ما لا نستطيع إحصاءه، ولا يمكن أن نطلع عليه، فمن جنوده الريح العاتية العقيم، ومن جنوده النمل وما بينهما من أنواع الجنود، ونحن ماذا نساوي من جند الله سبحانه وتعالى، إذا أعرضنا فلم نؤدّ الحق الذي علينا، فسيذهب الله بنا، ويأتي بآخرين يؤدون الحق الذي عليهم.

    ولذلك فقد قال الله تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، فإذا لم تقوموا أنتم بالحق الذي عليكم، فسيذهب الله بكم ولا يعجزه ذلك، ويأتي بقوم آخرين يقومون بالحق الذي عليهم، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، فما أنتم إلا موظفون في ديوان الخدمة عند الله، فإذا لم تؤدوا الخدمة التي كلفتم بها فسيفصلكم، ويولي قوماً سواكم، فيتقنون العمل ويؤدونه على أحسن الوجوه، ويوفقهم لذلك، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].

    إن الذي يعرف هذه الحوافز، ويعلم ما ينتظره، وهو يعلم أنه ميت لا محالة، وأن الموتة التي كتب الله عليه واحدة، وسيموتها سواءً مات بالسيف أو بغيره.

    ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

    لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب

    فيعلم أنه ميت لا محالة، وأشرف الموت ما كان في سبيل الله منه، ويبيع الإنسان نفسه لله تعالى بالثمن الرابح، فالشهيد في سبيل الله أول قطرة تقطر من دمه يكفر بها عنه جميع ذنوبه، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويبعث يوم القيامة ودمه يثعب، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فلذلك لا يمكن أن يقارن هذا بموتة الإنسان بمرض من الأمراض، أو في حادث سير، أو بغير ذلك من الأمور التي يموت بها الناس، والجميع ميتون، وما دون الموت لا يخافه العاقلون من الناس، فهو منقطع، وإذا كان الموت آتياً لا محالة، وأنتم جميعاً تعلمون أنكم ميتون، فعلى الإنسان أن يختار أشرف الموتات، وأن يختار لنفسه الرابح من هذه الموتات، وهو ما عند الله.

    وأيضاً فهذا غير ضامن للموت، ولا ضامن لأن ينتَقَصُ شيء مما لدى الأنسان، فالأعمار بيد الله، وقد كتبت، والأرزاق بيده وقد كتبت، فكل ذلك قد فصل فيه، ومن هنا فالتضحية والبذل في سبيل الله، قد لا تكون دائماً مؤديةً إلى تعجيل الموت أو نحو ذلك، بل كم من مضحٍ بذل نفسه في سبيل الله وقد مات على فراشه؟ فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه، عندما أدركه الموت، قال: لا وألت نفس الجبان، لم يبقَ مغرز إبرة في جسدي إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو نطحة بنبل، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير.

    فالشخص لا يموت إلا بما كتب الله عليه، وإذا قدر له الموت في مكان أو بهيئة، فلا بد أن يموت على ذلك النحو الذي كتب له، ولذلك فالمضحون الباذلون في سبيل الله، لن يموتوا إلا كما يموت سواهم، والأعمار كلها كما كتب، لا يمكن أن يُنقَص شيء من أعمارهم، ولا من أرزاقهم، ولا يمكن أن يتعرضوا لما لم يكن مكتوباً عليهم من قبل من الأذى، فهم مثل من سواهم، الجميع كتب عليهم ما يأتيه من الرزق والأجل، وكتبت هيئة موته ومكان موته، لكن شرف هؤلاء أنهم وفوا لله بما عاهدوه عليه، وبذلوا أنفسهم في سبيله، فنالوا ما وعدهم الله سبحانه وتعالى، ورضي الله عنهم فأرضاهم على ما فعلوا، ولهذا فإن شهداء مؤتة رضي الله عنهم وكانوا نفراً من القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامتهم من الفقراء العباد الزهاد، كانوا يقومون الليل، ويخرجون في النهار في المدينة فيحتطبون، ويبيعون الحطب فيتصدقون على الفقراء بما فضل عن نفقاتهم من ثمنه، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الأعراب القرآن، فغدر بهم عامر بن الطفيل العامري ، فلما قتلهم في سبيل الله، أنزل الله تعالى خطاباً من عنده في المؤمنين، كان قرآناً يتلى وقد نسخ لفظه، وفيه: بلغوا قومنا أننا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.

    رضي الله عنهم وأرضاهم. وعندما أحس أحدهم بوقع السيف قال: فزت ورب الكعبة، فلذلك نالوا مرادهم ولم ينقص شيءٌ من أعمارهم، والذين بقوا بعدهم من المنافقين هل عاشوا أبد الآبدين؟ هل ازدادت أرزاقهم؟ هل طالت أعمارهم؟ قد مات الجميع، لكن أولئك قد ماتوا موتةً مشرفة، وبذلوا في سبيل الله، وكانوا أسوة وقدوة صالحة، ومن سواهم دخلوا الحياة وخرجوا من الباب الذي دخلوا منه، لم يؤثروا في شيء، ولم يتركوا أي أثر، فلا لهم وجود في تاريخ هذه الأمة، إنما الوجود في تاريخ هذه الأمة للذي يترك أثراً يبقى بعده، كما قال الحكيم:

    وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى

    فالمرء إنما هو الحديث الذي يذكر به بعده، فإذا كان الإنسان لا يذكر إلا بأنه جمع أنواعاً من أنواع المال، وأكل كثيراً من أنواع المآكل، وشرب كثيراً من أنواع المشارب، هل هذا خير يذكر به الإنسان بعد موته، هل سمعتم في سير الصحابة رضوان الله عليهم شيئاً من هذا؟ هل سمعتم بمثل هذا في سيرة أبي ذر مثلاً؟ لكن سمعتم في سيرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ( ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر ).

    فلذلك لا بد إخواني أن نحيي في نفوسنا روح البذل والتضحية، وأن نتنافس في التقرب من الله سبحانه وتعالى، ببذل ما نستطيع بذله؛ لإعلاء كلمته ونصرة دينه، ونشر هذا الدين، وإيصاله إلى الناس، وذلك بالوسائل الممكنة، وكل إنسان منا قد أتيح له كثير من الوسائل، إذا حاسب نفسه على أربع وعشرين ساعة، فإذا هو يستطيع فيها الكثير من العمل، أربع وعشرون ساعة كم تجد فيها من الدقائق؟ وكل دقيقة منها يمكن أن تصرفها في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تعليم أمر من أمور الدين، أو تبليغ رسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رسالات ربك، وقت كثير جداً، والجهد المطلوب يسير.

    كذلك على كل إنسان منا أن يكون من المتنافسين في أبواب الخير كلها، فيحاول أن يكون من المتصدقين الباذلين في سبيل الله بالمال، ولو كان فقيراً، فالنفقة من جهد المقل ربح عند الله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم مائة ألف درهم ).

    وكذلك الكلمة الطيبة، إذا عجز الإنسان عن الصدقة، فهي صدقة، وتبسم الإنسان في وجه أخيه صدقة.

    وكذلك سعيه لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم في أي موقف يقفه، هي مما يبيض وجهه يوم القيامة، ويسره غاية السرور إذا اطلع عليه في صحيفة حسناته، وقرأه على رءوس الملأ، فهو موقف غير مخزٍ يقرأه الإنسان.

    إنكم تسمعون لدى كبار السن كثيراً من القصص عن الماضين، وما حصل منهم من الغارات والقتال فيما بين المسلمين، وما حصل من النهب، ويثنى بذلك على بعض الناس أنهم كانوا ينهبون أموال المسلمين، وأنهم كانوا يقتتلون مع بني عمهم، أو نحو ذلك، وهذه أمور لا تذهب إلى كفة الحسنات يوم القيامة، ولذلك علينا نحن في بقية أعمارنا أن نجتهد في أن يكون ما نبذله سواءً كان مالاً، أو وقتاً، أو قولاً، أو فعلاً في سبيل الله.

    فنحن أمرنا أن تكون حياتنا وموتنا وصلاتنا ونسكنا لله عز وجل وحده، فقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ[الأنعام:162-163]، ومن هنا فمن المؤسف أن يكون المؤمن الذي يقرأ هذه الآية، لا يدور في خلده يوماً من الأيام أنه يريد أن يكون موته في سبيل الله، وأن تكون حياته في سبيل الله، لماذا تريد الصحة والعافية؟ هل تريد ذلك لتمتع فقط بملذات الدنيا وشهواتها، لا بد أن تقصد ذلك للتقرب من الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في عيادته لسعد بن أبي وقاص : ( اللهم ارفع عبدك هذا ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى صلاة )، هذه فائدة الصحة والعافية، ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة، لا بد أن نفكر في هذا الأمر وأن نجعله نصب أعيننا.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا، لا علينا، وأن يجعلنا أجمعين من الصادقين المخلصين المخلَصين، وأن يتقبل منا، وأن يضاعف لنا حسناتنا، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا أجمعين في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من جنوده الناصرين له، وأن يلزمنا سنته عند فساد أمته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756335382