إسلام ويب

كتاب الصلاة [1]للشيخ : محمد يوسف حربة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للصلاة في الإسلام شأن عظيم، ولذا فهي تجب على كل مسلم بالغ عاقل، وأما حكم تاركها فاختلف فيه العلماء، ووضع الإسلام للصلاة شروطاً وأوقاتاً محددة، فوقت الظهر بدايته من بعد الزوال، واختلف العلماء فيه في موضعين: الأول: في آخر وقتها الموسع، والثاني: في وقتها المرغب فيه، واختلفوا أيضاً من العصر في موضعين: الأول: في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت الظهر، والثاني: في آخر وقتها.

    1.   

    من تجب عليه الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [المسألة الثالثة: وأما على من تجب فتجب على المسلم البالغ، ولا خلاف في ذلك].

    1.   

    حكم تارك الصلاة

    قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الرابعة: حكم تارك الصلاة.

    وأما ما الواجب على من تركها عمداً، وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحوداً لفرضها، فإن قوماً قالوا: يقتل، وقوماً قالوا: يعزر ويحبس. والذين قالوا: يقتل، منهم من أوجب قتله كفراً، وهو مذهب أحمد و إسحاق و ابن المبارك ، ومنهم من أوجبه حداً، وهو مالك و الشافعي و أبو حنيفة ، وأصحابه، وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي ].

    سبب اختلاف العلماء في حكم تارك الصلاة

    قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في هذا الاختلاف: اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس ) ] يعني: أن هذا الحديث يشير إلى أنه لا يدخل فيه قاطع الصلاة؛ لأنه ليس من أحد الثلاثة إلا إن كان كافراً.

    [ وروي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث بريدة أنه قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ).

    وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا الشرك -أو قال: الشرك- إلا ترك الصلاة ) ] وحديث: ( ليس بين العبد والكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة )، قد أخرجه مسلم ، والحديث الأول أخرجه الترمذي و أحمد ، وهو حديث صحيح، وهذان الحديثان قد صرحا بأن تارك الصلاة كافر.

    [ فمن فهم من الكفر هنا الكفر الحقيقي ] وهو الخروج من الملة [ جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: ( كفر بعد إيمان ) ].

    ولفظة الحديث: (كفر بعد إيمان)، تكون مفسرة للحديث الأول وليس هناك خلاف بينهما.

    [ ومن فهم هاهنا التغليظ والتوبيخ، أي: أن أفعاله أفعال كافر، وأنه في صورة كافر؛ كما قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، لم ير قتله كفراً ]. يعني: أنه إذا فهم منه أنه كفر دون كفر مثل حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، فهذا الحديث لا ينفي عنه أصل الإيمان، وإنما ينفي عنه كمال الإيمان، بدليل الحديث الآخر: ( من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق )، وهذا أسلوب عربي، وهو أن العرب تنفي الشيء باعتبار كماله لا باعتبار أصله، فإذا كان هناك نجار يتقن النجارة، ونجار آخر لا يتقن النجارة، فإنك تقول: فلان ليس بنجار، ومعناه نفي الكمال، فهذا الحديث هنا ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )، معناه نفي الكمال، فهنا في هذه الأحاديث ( ليس بين العبد والكفر أو قال: الشرك إلا ترك الصلاة ) يعني: هذا يراد به إثبات نوع من الشرك، أو نوع من الكفر، وهو ليس بكفر أكبر، ولا شرك أكبر.

    فيكون الحديث الأول باق على أصله، وهو كفر بعد إيمان، وهنا رأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أنه لا يقتل.

    [وأما من قال يقتل حداً]، أي: رأى أنه ليس بكافر، يقول المؤلف: [ فضعيف، ولا مستند له، إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن، وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات، والقتل رأس المنهيات وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب، إلا أن يتركها معتقداً لتركها هكذا ]، أي: كالذي يتركها ويعتقد أنها رياضة، وأن الرياضة تكفي عنها، فهو بذلك الكفار الخارجين من الملة الملحدين، فإذا كان ترك الصلاة كسلاً ليس جحوداً [ فنحن إذاً بين أحد أمرين:

    إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي يجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة معتقداً لتركها فقد كفر ].

    فإذا قلنا: إن المراد من ترك الصلاة فهو كافر يعني: معتقداً لتركها.

    [ وإما أن يحمل على أن اسم الكفر على غير موضوعه الأول ]، يعني: على غير الكفر الحقيقي. [ وذلك على أحد معنيين ]، فإذا حملناه على غير الكفر الحقيقي ينتج منه أمران [ إما على أن حكمه حكم الكافر، (أعني في القتل، وسائر أحكام الكفار)، وإن لم يكن مكذباً ] أي: فهو كاذب، فحكمه حكم الكافر يقتل، وهذا تأويل.

    [ وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له ]، وهذا التأويل الثاني. [ أي: أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذا كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ]، يعني: أنه يشبه غير المؤمنين [ وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه، لا يجب المصير إليه إلا بدليل ] أي: أن حكمه على التأويل الأول أنه ( من ترك الصلاة فهو كافر )، أي: في أحكام الكفر يقتل، لا يجب أن يصار إليه إلا بدليل؛ [ لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه ]، وليس هناك طريق يصير إليه من أن حكمه حكم الكافر، وفيه القتل، [ فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على المعنى المجازي ]، يعني: إذا لم يدل على الكفر الحقيقي فيدل على المعنى المجازي، وهو كفر دون كفر، ولا يدل على القتل.

    [ لا على معنى ما يوجب حكماً لم يثبت بعد في الشرع ] يعني إن قلنا: إنه يدل على الكفر الحقيقي، فنقول: تركها معتقداً، وإن قلنا: لا يدل على الكفر، وحملناه على ترك هذا بغير اعتقاد فهو يدل على أحد معنيين: إما أن أحكامه أحكام الكافر في القتل، فهذا معنى. أو أن الكفر كفر مجازي، ككفر نعم الله، فأما حمله على أنه مثل الكافر في القتل فهذا يحتاج إلى دليل في القتل، وأما حمله على المعنى المجازي فهذا لا يوجب حكماً في الشرع بالقتل.

    [ بل يثبت ضده وهو أنه لا يحل دمه ]، بل يثبت ضده إذا حملناه على المعنى المجازي، وهو أنه لا يحل دمه، [ إذ هو خارج عن الثلاثة الذين نص عليهم الشرع ] وهذا كما تقدم، [ فتأمل هذا، فإنه بين والله أعلم ].

    وهنا الشيخ رجح الرأي الثالث، وهو أنه يسجن؛ لأن الأحاديث تحمل على الاعتقاد، وهو غير معتقدٍ وجوبها.

    [ أعني: أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفاً إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر ]، والمحذوف هو: من ترك الصلاة معتقداً عدم وجوبها فقد كفر، [ وإما أن نحمله على المعنى المستعار وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن، فشيء مفارق للأصول، مع أن الحديث ] يعني: الحديث السابق، وهو حديث عثمان [ نص في حق من يجب قتله كفراً أو حداً، ولذلك صار هذا القول مضاهياً لقول من يكفر بالذنوب ].

    يعني: فمن قال: إن تارك الصلاة كافر، أو أنه يقتل، فهو كمن يكفر بالذنوب، وهم المعتزلة والخوارج. وهذا ما دار عليه كلام المؤلف.

    إذاً فيقول أولاً: إنه ليس بكافر، ثانياً: لا يقتل وإنما يحبس.

    وأما أنه ليس بكافر فقد قيل: إنها وقعت مناظرة بين الإمام الشافعي و أحمد ، فقال الإمام أحمد : إنه بكافر، فقال له الإمام الشافعي : وبماذا يدخل في الإسلام؟ قال: بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: هو يشهد بها، أي: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، هكذا قيل: إنها وقعت مناظرة والله أعلم. والمقصود بالمعنى المستعار أنه كفر مجازي.

    الراجح في حكم تارك الصلاة

    الراجح أنه يقتل، وسنستدل بآية من كتاب الله، وحديث، أما الآية فهي قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وأما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم )، ولكن إذا قلنا: يقتل، وكفر هذا المقدم للقتل، وقيل له: أنت لك من صلاة الظهر إلى انتهاء صلاة العصر، فإن صليت لم تقتل، وإن أصررت قتلناك، فقال: لا أصلي، وأصر على ذلك، وقدم للقتل فتقدم مختاراً للقتل على ترك الصلاة، فهل يتصور هذا في حكم العقل والبديهة أن إنساناً يترك الصلاة كسلاً فيقدم عنقه ونفسه في جانب الكسل؟! أو يكون هذا في جانب العقائد؟! ولهذا رجح شيخنا ناصر الدين الألباني أنه ليس بكافر، يعني: تارك الصلاة في حال وجود حكومة كوقتنا الحاضر لا تقيم حداً في الزنا، ولا في الخمر، ولا تسأل عن تارك الصلاة، فلو أن إنساناً ترك الصلاة كسلاً، فيصلي فرضاً أو ثلاثة فروض حتى يأتي وقت القات فيخزن ولا يصلي.. وهكذا يأتي أصحابه فيترك الصلاة، ففي مثل هذا عند عدم وجود حكومة ما نقول: إنه كافر خارج عن الملة، أما إذا وجدت الحكومة، وأخذت هذا الرجل، وقدمته إلى المشنقة، فاختار المشنقة ولم يصل، فهذا في حكم الكافر والفطرة على أنه كافر.

    إذاً: الراجح أن من ترك الصلاة كسلاً مع اعتقاد وجوبها، فإنه فاسق مرتكب كبيرة من أعظم الكبائر، بعد الكفر والشرك الأكبر، وليس بكافر، ويدل على عدم كفره حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( خمس صلوات افترض الله، من أحسن وضوءهن، وصلاتهن، وأتم ركوعهن، وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه )، إذاً فقوله في هذا الحديث: ( إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه ) يدل على أنه ليس بكافر، وقد قال النووي في المجموع (3/20) رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، انتهى كلام الشيخ، ونحن قد حكمنا أنه ليس بكافر، ولكن الراجح أنه يجب قتله، ويدل على ذلك قوله تعالى: قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:36]، إلى قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فهنا رتب عدم القتل على الإيمان، وإقامة الصلاة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، متفق عليه.

    والمقاتلة مستلزمة للقتل.

    إذاً يقتل تارك الصلاة، وهذا استدل به من يقول بقتله.

    والآية السابقة أن الكفار والمشركين لا ينجون من القتل إلا بشروط: الأول: إذا تابوا من الشرك.

    والثاني: إذا أقاموا الصلاة. والثالث: إذا آتوا الزكاة. وكذلك: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) واحد، ( ويقيموا الصلاة ) اثنين، ( ويؤتوا الزكاة ) ثلاثة، فإذا لم يقوموا بهذه الثلاثة فالمقاتلة باقية، ولا عصمة للدماء.

    قتل مانع الزكاة

    ولكن لو سأل سائل وقال: هل مانع الزكاة يقتل؟

    والجواب: لا، إلا إن كانوا جماعة لهم شوكة ولا يمكن أن تأخذ الزكاة منهم، فنقاتلهم حتى نتمكن من أخذها، وإن كان واحداً يمكن أخذ الزكاة منه ... الصلاة، هذه تأديباً له كما في الحديث: ( أنه يؤخذ نصف ماله )، إذاً فمانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة، أو يؤخذ نصف ماله على خلاف في ذلك، ولا يقتل؛ لأننا نستطيع أن نتمكن منه.

    ولكن تارك الصلاة لا يتصور التمكن منه، فيصلي إجباراً.

    والآية السابقة هي في حق المشركين ابتداءً، ولكن لا يرتفع القتل والمقاتلة إلا بتحقق هذه الثلاثة: التوبة، والصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن كانوا جماعة لهم شوكة يقاتلون في الزكاة، وإن كان واحداً يؤخذ منه الزكاة.

    فالآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:11]، وفي الآية الأخرى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].

    تبين أننا نخلي سبيلهم وأنهم إخواننا، ولكن إذا لم يتصفوا بهذه الصفات فإننا لا نخلي سبيلهم، وإنما يلزم مقاتلتهم.

    فلا بد من اتصافهم بهذه الثلاث بمجموعها فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فإن اتصفوا بالثلاث لم يقاتلوا، وإن اتصفوا بواحدة لا يرتفع عنهم القتال، فإن كانوا جماعة مضوا، وإن كان واحداً ترك مثلاً الزكاة ويمكن أن نأخذها منه ونصف ماله؛ كما في الحديث، وإن كان في الصلاة فكيف نخلي سبيله؟! فلا يمكن ذلك وهو ممتنع من الصلاة؛ لأنها دين، فهذا يقدم إلى القتل.

    والمقاتلة مستلزمة للقتل، إلا أن شيخنا ناصر الدين الألباني قال: إذا حكم عليه بالقتل فأصر على عدم الصلاة، مختاراً للقتل، فإنه في هذه الحالة يحكم أنه قتل كافراً لأن اختيار تقديم النفس إنما يصدر عن اعتقاد، لا عمن تركها كسلاً، فهذا ما قرره شيخنا الألباني .

    1.   

    معرفة أوقات الصلاة

    قال المصنف رحمه الله: [ الباب الأول: في معرفة أوقات الصلاة، وهذا الباب ينقسم أولاً إلى فصلين:

    الأول: في معرفة الأوقات المأمور بها.

    الثاني: في معرفة الأوقات المنهي عنها.

    الفصل الأول: في معرفة الأوقات المأمور بها، وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضاً:

    القسم الأول: في الأوقات الموسعة والمختارة. والثاني: في أوقات أهل الضرورة.

    القسم الأول من الفصل الأول من الباب الأول من الجملة الثانية، والأصل في هذا الباب قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103].

    اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتاً خمساً هي شرط في صحة الصلاة، وأن منها أوقات فضيلة وأوقات توسعة، واختلفوا في حدود أوقات التوسعة والفضيلة، وفيه خمس مسائل: ]

    1.   

    وقت صلاة الظهر

    قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الأولى: وقت الظهر.

    اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال إلا خلافاً شاذاً روي عن ابن عباس ، وإلا ما روي من الخلاف في صلاة الجمعة على ما سيأتي ] أي: أن صلاة الجمعة تقدم قبل الظهر، [ واختلفوا منها ] أي: من صلاة الظهر [ في موضعين: في آخر وقتها الموسع، وفي وقتها المرغب فيه.

    فأما آخر وقتها الموسع: فقال مالك و الشافعي و أبو ثور و داود ]، وكذلك أحمد ، وهو أن يكون ظل كل شيء مثله ]، يعني: أن آخر وقت الظهر عندما يكون ظل كل شيء مثله، من غير ظل الاستواء، وظل الاستواء: هو ظل يوجد في كل البلدان، ولكنه يكون كثيراً في بعض البلدان، وقليلاً في بعض البلدان، وعلى جهة الشمال فقط في بعض البلدان، وعلى جهة اليمين والشمال في بعض البلدان، ويكثر في بلادنا في ميل الشمس الجنوبي، ويقل في ميل الشمس الشمالي، ويستوي ميل هذا الظل شمالاً وجنوباً، وينعدم ميله جنوباً، ووجود الظل شمالاً في سوريا، وتركيا، وبلاد الشام، يكون دائماً الظل شمالاً. وظل الاستواء يكون مثلاً إذا كانت الشمس في الرءوس ينتهي ظل الاستواء، وإذا كان الميل شمالاً أو جنوباً فيوجد ظل الاستواء، والميل ينقسم من حيث هو إلى دولابي وإلى حمائلي، وحمائلي الذي تميل كذا وتميل كذا عندنا يسمى حمائلي، وإلى رحوي، فالميل عندنا وفي كل بلاد لم تخط على خط الاستواء فيكون الميل حمائلي، مرة تميل عنا كذا، ومرة تميل عنا كذا، والميل في خط الاستواء دولابي، ومن كان في آخر الشمال، وهي البلاد التي يقال عنها في آخر الشمال: إنهم مكسوون بالثلج، حيث يكون القطب الشمالي، فالشمس تميل هكذا، تمشي هكذا رحوي، فستة أشهر تظهر، وستة أشهر لا تظهر.

    إذاً فمن الميل الحمائلي ينتج ظل الاستواء، وظل الاستواء لا نحسبه في الأوقات. واتفق العلماء على أن ظل المثل، يعني: ظل مثلك، أي: بقدم الإنسان ستة أقدام ونصف، أو سبعة أقدام إلا ربع، يعني: إذا وضعت عصا مساوية لك وقدمتها فيكون ستة أقدام ونصف، فإذا كان الظل ستة أقدام ونصف في أيام الشمس في الرءوس، فإنه قد خرج الظهر ودخل العصر، فإذا زاد كان بظل الاستواء، مثلاً كان ظل الاستواء ثلاثة أقدام، إذاً يخرج الظهر بتسعة أقدام ونصف، وأعرف ظل الاستواء في كل يوم بجداول قديمة فيها ظل الاستواء يومياً، ويسموه الزيادة الكبرى، والزيادة الصغرى، وهو يزيد في يوم بمقدار بنانة حتى ينتهي، ثم ينقص بمقدار بنانة حتى ينتهي.. وهكذا، أما إذا لم يكن عندي هذه الجداول، فأعرف أولاً منتصف النهار، وآخذ عصا وأنصبها، وأعرف اتجاه القطب، ففي الصباح سيكون الظل مائلاً غرباً عن خط القطب، فأراقبه حتى يصل إلى خط القطب، وأنه ماشٍ من خط القطب، فأعرف أنه استوى الظل، فأعبر عن ظل الاستواء، ثم هو سيزيد قليلاً قليلاً ويمشي، وظل الاستواء أعرفه بأن أراقب الشمس كل يوم مدة سنة، وأرصده وهكذا يعملون الحساب الذين يريدونه وبعضهم لا يكتفي بهذه الجداول، وقد وجد واحد عندنا رصد الشمس سنتين، وأثبتها بجدول، كم تزيد كل يوم في بلادنا، وهناك ما يسمى بالمربع وهو كالدائرة في لوح خشبي مدورة، وهذه عليها كتابة يعرف بها زيادة الظل، ويعرف بها أوقات الصلاة في كل بلد، ما معك إلا قراءة هذا الكتاب، وتعرف خط البلاد كم يكون عرضه، وتستخرج التوقيت وأنت في بلدك ولا تخطئ، وقد اختصر هذا إلى ما يسمى بالربع وهو ربع دائرة، ووضعت الكتب على هذا الربع، فهذا الربع تعرف به أوقات الصلاة في كل بلد، وأنت في بلدك، وتعرف به قبلة كل بلد وأنت في بلدك، وعرض البلد الفلاني كذا وكذا، والبلد الفلاني كذا وكذا، فاعمل بالعملية الموجودة في الكتاب، وستعرف بذلك كم يميل مثلاً عن القطب، وتعرف كذلك به أوقات الصلاة في كل بلد، كما أنك ستعرف بهذا الربع الارتفاعات، تضعه بكيفية معينة وترصد، عنده خيط هكذا ثم تقول هكذا، وخيط هنا في شيء ثقيل، وعندما ترى الاستواء هكذا كالصائد تمسكه، تقول: ارتفاعه الآن كذا وكذا، وكذلك تعرف بعد المسافة، فتقول: بعد المسافة كذا وكذا، من هذا الربع، وهذا موجود الآن، ويدرسه أناس كثيرون عند عالم متخصص في هذا الفن عندنا.

    فنحن لا نقول: ستة أقدام إنما نقول: غير ظل الاستواء.

    [ وقال أبو حنيفة : آخر الوقت أن يكون ظل كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه ]، و أبو حنيفة يقول: إن الظهر يمتد إلى ظل المثلين، [ وهو عنده أول وقت العصر، وقد روي عنه: أن آخر وقت الظهر هو المثل، وأول وقت العصر المثلان، وأن ما بين المثل والمثلين ليس يصلح لصلاة الظهر ]، ولا لصلاة العصر، إذاً أبو حنيفة خالف، وفي خلافه قولان: مرة يقول: يمتد وقت الظهر إلى ظل المثلين. ومرة يقول: يمتد إلى ظل المثل، ويكون هناك وقت بين وقتين، أما العصر فهو يقول: على ظل المثلين كما سيأتي. وبهذا القول الأخير وهو أن هناك وقتاً بين وقتين [ وبه قال صاحباه أبو يوسف و محمد .

    وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الأحاديث، وذلك أنه ورد في إمامة جبريل: ( أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، ثم قال: الوقت بين هذين ) ]، أي: الوقتين، وهذا نص صريح في تحديد وقت الظهر.

    وهذا الحديث أخرجه أحمد ، وهو حديث صحيح.

    [ وروي عنه قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: أي ربنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن كنا أكثر عملاً؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء ) ] وهذا الحديث أخرجه البخاري [ فذهب مالك و الشافعي إلى حديث إمامة جبريل ] وهو الحديث السابق. [ وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا الحديث، وهو أنه إذا كان من العصر إلى المغرب، أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث، فواجب أن يكون أول العصر أكثر من قامة، وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر ]، حتى يطول الوقت.

    [ قال أبو محمد بن حزم : وليس كما ظنوا، وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر ]، ومعناه: أن القامة تنتهي بعد أن يمضي أكثر..

    (قال القاضي) وهو المؤلف. (أنا شاك في الكسر، وأظنه قال: وثلث)، يعني إلى تسع وثلث، فعلى هذا تكون القامة موافقة للحديث، على أن ما بعد العصر أقل مما قبل العصر، وهو ما بين الظهر والعصر.

    [ وحجة من قال باتصال الوقتين ]، وهذا القول لـأبي حنيفة ومعه قول ثان، يقول: إن هناك وقتاً بين الظهر والعصر.

    [ (أعني اتصالاً -لا يفصل- غير منقسم، قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يخرج وقت الصلاة حتى يدخل وقت أخرى ) وهو حديث ثابت ] وهو حديث صحيح، ولفظه: ( ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى ). وهو مروي عن أبي قتادة ، أخرجه الإمام مسلم .

    والراجح أن وقت الظهر ينتهي بمصير ظل كل شيء مثله، غير ظل الاستواء، وبه يدخل وقت العصر؛ لحديث صلاة جبريل، وحديث أبي قتادة : ( ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ) وهما نص في التوقيت، ومقصودان لذلك، للتوقيت.

    وأما حديث ابن عمر ؟ الذي قال فيه: ( إنما بقاؤكم ... ) إلى آخره، والذي استدل به الحنفية، فقد ورد للتمثيل، ولم يرد به تحديد أول وقت العصر، وآخر وقت الظهر، والتمثيل لا يلزم منه المساواة في كل وجه. انظر: الفتح (2/48).

    أليس يراد بحديث: ( إنما بقاؤكم .. ) التمثيل لبقاء هذه الأمة؟ وهل أورده الرسول للتوقيت؟ فنقول: لم يرده للتوقيت، وبعد ذلك أجاب عنه بأجوبة كثيرة، ونحن أخذنا أقل شيء من الجواب، أولاً أن قوله: (عملنا كثيراً)، هذا من قولهم وليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، هم الذين قالوا: عملنا كثيراً.

    ثانياً: قولهم: (عملنا كثيراً)، أي: أن أهل الكتاب مع أهل الإنجيل عملوا كثيراً، أما أهل الإنجيل فمعروف في التاريخ أن ما بين ولادة عيسى وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم على الأكثر ستمائة سنة، ونحن قد جاوزنا (1400) سنة، فالمراد: عملنا كثيراً، أي: أهل الإنجيل وأهل التوراة، يعني: مجموع الفئتين، وقد تكلم على هذا الحافظ فأكثر الكلام فيه، ولكن المراد بذلك هو التمثيل.

    وقت الظهر المرغب فيه

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما وقتها المرغب فيه والمختار: فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ]، يعني: أن المنفرد يصلي في أول وقت الظهر. [ ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلاً في مساجد الجماعات. وقال الشافعي ] وأيضاً أحمد [ أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر، وروي مثل ذلك عن مالك ، وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد والجماعة، وفي الحر والبرد. وإنما اختلفوا في ذلك لاختلاف الأحاديث، وذلك أن في ذلك حديثين ثابتين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا اشتد الحر، فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم ) ]. وهذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم ، وهذا فيه دلالة على مشروعية الإبراد بالصلاة.

    [ والثاني: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر بالهاجرة ) ]، وهذا الحديث أيضاً أخرجه البخاري و مسلم . [ وفي حديث خباب : ( أنهم شكوا إليه حر الرمضاء، فلم يشكهم )، خرجه مسلم ].

    ومعنى: (فلم يشكهم) أي: فلم يجب شكواهم. وهذه الأحاديث متعارضة، فالحديثان الأخريان يدلان على أن الصلاة في أول الوقت، والحديث الأول يدل على أن الصلاة بعد مضي وقت الحر.

    [ قال زهير راوي الحديث قلت لـأبي إسحاق شيخه: أفي الظهر؟ قال: نعم ] يعني: شكو في الظهر. [ قلت: أفي تعجيلها؟ قال: نعم. فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو نص ]، حديث الإبراد نعم، أما هذه فمحتملة، [ وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص، وقوم رجحوا هذه الأحاديث ] يعني: أيدوا هذه الأحاديث، [ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم، ( وقد سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها )، والحديث متفق عليه، وهذه الزيادة أعني: (لأول وقتها) مختلف فيها ]، هذه الزيادة: (لأول وقتها)، مختلفة عن حديث البخاري : (لوقتها)، أو (على وقتها)، أما رواية: (لأول وقتها) فهي في غير البخاري . وقد صححها شيخنا ناصر الدين الألباني ، انظر: المشكاة رقم (607) وصحيح أبي داود رقم (452)، وصحيح الجامع رقم (1093)، والراجح أن الإبراد أفضل؛ وذلك لما يأتي:

    أولاً: الأحاديث الواردة في فضيلة أول الوقت عامة أو مطلقة، وحديث الأمر بالإبراد خاص أو مقيد، ولا معارضة بين العام والخاص، ولا بين المطلق والمقيد.

    ثانياً: حديث جابر والذي فيه: ( كان يصلي الظهر بالهاجرة ) منسوخ، ويدل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة : ( كنا نصلي بالهاجرة، فقال لنا: أبردوا )، فتعين أن الإبراد كان بعد التهجير. قال الحافظ في الفتح (2/20) في حديث المغيرة رجاله ثقات، ورواه أحمد و ابن ماجه ، وصححه ابن حبان ، ونقل الخلال ، عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثالثاً: أما حديث خباب فإنه محمول على أنهم طلبوا تأخيراً زائداً على قدر الإبراد، وهو زوال حر الرمضاء، وذلك يستلزم خروج الوقت، فلم يجبهم إلى ذلك، فلذا رخص لهم في الإبراد، ولم يرخص لهم في التأخير إلى خروج الوقت.

    1.   

    وقت العصر

    قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثانية: وقت العصر اختلفوا من صلاة العصر في موضعين: أحدهما: في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت الظهر ]، هل وقت الظهر والعصر يشتركان أم لا؟

    [ والثاني: في آخر وقتها ] أي: متى يكون آخر وقت العصر؟

    [ فأما اختلافهم في الاشتراك: فإنه اتفق مالك و الشافعي و داود ] وكذلك أحمد .

    [ وجماعة على أن أول وقت العصر هو بعينه آخر وقت الظهر، وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله ] ولكن غير ظل الاستواء، [ إلا أن مالكاً يرى أن آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر هو وقت مشترك للصلاتين معاً، (أعني بقدر ما يصلي فيه أربع ركعات).

    وأما الشافعي وكذلك أحمد [ و أبو ثور و داود فآخر وقت الظهر عندهم هو الآن الذي هو أول وقت العصر وهو زمان غير منقسم ].

    ومعنى كلامه: أنه يخرج هذا، ويدخل هذا، وليس بينهما شيء.

    [ وقال أبو حنيفة كما قلنا: أول وقت العصر أن يصير ظل كل شيء مثليه. وقد تقدم سبب اختلاف أبي حنيفة معهم في ذلك.

    وأما سبب اختلاف مالك مع الشافعي ، ومن قال بقوله في هذه: فمعارضة حديث جبريل في هذا المعنى لحديث عبد الله بن عمرو ، وذلك أنه جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام الظهر في اليوم الثاني، في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول ]. اشترطوا مدة أربع ركعات.

    [ وفي حديث ابن عمرو أنه قال عليه الصلاة والسلام: ( وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر ) خرجه مسلم .

    فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركاً ]، أي: مشتركاً في أربع ركعات. [ ومن رجح حديث عبد الله لم يجعل بينهما اشتراكاً، وحديث جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد الله ]، أي: أن حديث جبريل يمكن صرفه أو تأويله، وأما حديث ابن عمرو فلا يمكن تأويله. [ من حديث عبد الله إلى حديث جبريل; لأنه يحتمل أن يكون الراوي تجوز في ذلك لقرب ما بين الوقتين، وحديث إمامة جبريل صححه الترمذي ، وحديث ابن عمرو أخرجه مسلم ]، ولهذا فهو أقوى وليس هذا خبراً من مسلم ، قال النووي في المجموع (3/25)، في تأويل حديث جبريل ليوافق حديث عبد الله بن عمرو : إن معنى حديث جبريل: أنه بدأ بالعصر في اليوم الأول، حين صار ظل كل شيء مثله، وفرغ من الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، انتهى كلام النووي .

    وعلى هذا التفسير فلا منافاة بين حديثي جبريل و عبد الله بن عمرو ، بل إن كلاً منهما يوافق الآخر، فلم نفرض التعارض بينها مع إمكان الجمع؟!

    آخر وقت العصر

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما اختلافهم في آخر وقت العصر: فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه ]، وهذا وقت الاختيار، وليس وقت الانتهاء.

    [ وبه قال الشافعي .

    الثانية: أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس، وهذا قول أحمد بن حنبل .

    وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة.

    والسبب في اختلافهم: أن في ذلك ثلاثة أحاديث متعارضة الظاهر: أحدها: حديث عبد الله بن عمرو خرجه مسلم ، وفيه: ( فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس ). وفي بعض رواياته: ( وقت العصر ما لم تصفر الشمس ) ]. وهذا هو حديث الاصفرار.

    [ والثاني: حديث ابن عباس في إمامة جبريل، وفيه: ( أنه صلى به العصر في اليوم الثاني، حين كان ظل كل شيء مثليه ) ] وذكر في الحديث أيضاً: ( وقال: الوقت بين هذين ).

    [ والثالث: حديث أبي هريرة المشهور: ( من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغيب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك من الصبح ) ]، إذاً فهذه الأحاديث متعارضة. [ فمن صار إلى ترجيح إمامة جبريل، جعل آخر وقتها المختار المثلين. ومن صار إلى ترجيح حديث ابن عمرو جعل آخر وقتها المختار اصفرار الشمس. ومن صار إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال: وقت العصر إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس، وهم أهل الظاهر كما قلنا.

    وأما الجمهور فسلكوا في حديث أبي هريرة وحديث ابن عمرو مع حديث ابن عباس إذ كان معارضاً لهما كل التعارض مسلك الجمع ]، يعني: أن حديث ابن عباس الذي فيه: أنه صلى في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، والحديث الثاني وهو حديث عبد الله بن عمرو ، والذي فيه: (إلى أن تصفر الشمس) قالوا: هذه الأحاديث معناها متقاربة، ولعل الاصفرار قد يكون إلى قرب أن يصير ظل كل شيء مثله.

    وأما حديث أنه إذا بقي من الوقت ركعة، فقالوا: إن هذا لا يمكن الجمع بينها، ولكن هذا الوقت في حق أهل الضرورة، مثل المجنون يفيق، أو تطهر الحائض وقد بقي من الوقت ركعة، قالوا: فهذا الوقت في حق أهل الضرورة.

    [ لأن حديثي ابن عباس و ابن عمرو تتقارب الحدود المذكورة فيهما؛ ولذلك قال مالك مرةً بهذا ومرةً بذلك.

    وأما الذي في حديث أبي هريرة فبعيد منهما ومتفاوت، فقالوا: حديث أبي هريرة إنما خرج مخرج أهل الأعذار ].

    الراجح في وقت صلاة العصر

    والراجح الذي يؤخذ من مجموع الأحاديث الواردة في وقت العصر: أن لها ستة أوقات:

    الأول: وقت فضيلة، وهو من أولها إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه.

    الثاني: وقت جواز، وهو من حين يصير ظل كل شيء مثليه إلى الاصفرار.

    الثالث: وقت كراهة، وهو من الاصفرار إلى أن يبقى من الوقت ما يسع أربع ركعات.

    الرابع: وقت حرمة، وهو إذا بقي من الوقت ما لا يسعها.

    الخامس: وقت ضرورة وعذر، وهو إذا بقي من الوقت قدر ركعة، أو قدر تكبيرة الإحرام في حق أهل الأعذار، كما سيأتي، وهذا يسمونه وقت ضرورة.

    السادس: وقت رخصة، وهو جمعها جمع تقديم مع الظهر في حق المسافر.

    فإذا قال قائل: وماذا بالنسبة للحديث الذي استدل به أبو حنيفة وفيه: (أن أول وقت العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه).

    والجواب أن يقال: إنما الآن رجحت على ضوء الأحاديث، لا على ضوء رأي ولا مذهب، فإن الذي نأخذه من الأحاديث أنها تكلمت إلى ظل المثلين، من الأول إلى ظل المثلين، وهذا وقت الفضيلة الذي صلى جبريل بالرسول صلى الله عليه وسلم. ثانياً: وقت جواز من دون كراهة، ليس فيه نهي، وهو إلى الاصفرار، أما ما بعد الاصفرار ففيه كراهة إلى هذا القدر، وهو وقت يسعها. وقت حرمة إذا لم يسعها، وأما وقت الضرورة فسيأتي ذكره، وهو أن يبقى وقت يسع ركعةً أو تكبيرة الإحرام، ووقت الرخصة هو ما رخصه الرسول صلى الله عليه وسلم للمسافر.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756669861