إسلام ويب

كتاب الطهارة [1]للشيخ : محمد يوسف حربة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد افترض الله سبحانه وتعالى على عباده عبادة الصلاة وجعل من شرطها الوضوء، إذ هو واجب على كل مسلم ومسلمة بالغ عاقل يريد الصلاة، وله كيفية لا يصح إلا بها، وهذه الكيفية مفصلة في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد اختلف في النية للوضوء لترددها بين أن تكون عبادة محضة أو تكون معقولة المعنى.

    1.   

    حكم الوضوء والدليل عليه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    وبعد:

    الدرس الأول في بداية المجتهد، في أول الكتاب؛ هو كتاب الطهارة من الحدث.

    قال المصنف رحمه الله: [ فنقول: إنه اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان: طهارة من الحدث، وطهارة من الخبث ].

    أما الطهارة من الحدث فتسمى: الطهارة المعنوية، وأما الطهارة من الخبث فتسمى: الطهارة الحسية، هذا متفق عليه بين العلماء.

    قال رحمه الله: [ واتفقوا على أن الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف: وضوء، وغسل، وبدل منهما وهو: التيمم، وذلك لتضمن ذلك آية الوضوء ]. آية الوضوء تضمنت الغسل، وتضمنت الوضوء، وتضمنت التيمم.

    [ فلنبدأ من ذلك بالقول في الوضوء ]، سيتكلم المؤلف في الوضوء، وسيقسمه إلى خمسة أبواب.

    [ كتاب الوضوء: إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول: في الدليل على وجوبها، وعلى من تجب، ومتى تجب.

    الثاني: في معرفة أفعالها.

    الثالث: في معرفة ما به تفعل، وهو: الماء.

    الرابع: في معرفة نواقضها.

    الخامس: في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها ] هذه خمسة أبواب في الوضوء.

    [الباب الأول] الدليل على وجوب الوضوء، وعلى من يجب، ومتى يجب؟

    [فأما الدليل على وجوبها فالكتاب والسنة والإجماع.

    أما الكتاب فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] الآية، فإنه اتفق المسلمون على أن امتثال الخطاب] والخطاب هو يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، [واجب على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها] وهذا يبين وقت وجوبها.

    [وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )] والحديث أخرجه الإمام مسلم ، وقوله: (صدقة من غلول) والغلول يعني: السرقة، ويطلق الغلول على السرقة من الغنيمة، فالصلاة بغير طهور غير مقبولة، أي أنها باطلة، وكذلك الصدقة من المال الحرام غير مقبولة.

    [وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ )]، وهذا الحديث أخرجه البخاري .

    [وهذان الحديثان ثابتان عند أئمة النقل]، وقد قلنا: إذا قال: الحديث ثابت فهو إما أنه رواه البخاري ، أو رواه مسلم ، أو كان الحديث متفق عليه، إذاً فهذان الحديثان الأول والثاني، الأول رواه مسلم ، والثاني رواه البخاري ، القاعدة منطبقة عليهما.

    [وأما الإجماع فإنه لم ينقل عن أحد من المسلمين في ذلك خلاف]، يعني: لا يوجد أحد يقول: إن الصلاة تصح بغير وضوء.

    [ولو كان هناك خلاف لنقل؛ إذ العادات تقتضي ذلك]، تقتضي نقل الخلاف، فنعرف الإجماع بأنه لم يصل إلينا في المسألة خلاف.

    1.   

    من يجب عليه الوضوء

    قال رحمه الله: [وأما من تجب عليه] أي: على من تجب؟ [ فهو البالغ العاقل، وذلك أيضاً ثابت بالسنة والإجماع، أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة: فذكر الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق )]، والحديث صحيح أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد والحاكم ، ومعنى رفع القلم: أي أنه لا يكتب عليهم إذا حصل منهم شيء من المخالفة، والمراد بالقلم هو الذي يكتب الحسنات والسيئات، والأقلام كثيرة.

    [ وأما الإجماع: فإنه لم ينقل في ذلك خلاف ]، أي لا يوجد أحد قال بأن الصبي والمجنون مكلفان، بل في المجنون يقال: إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب.

    خلاف الفقهاء في اشتراط الإسلام للوضوء

    [واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا؟] يقول المؤلف: اختلف العلماء هل تجب عليه فروع الشريعة، أو لا تجب؟ [وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه]، أي: لا تترتب عليها أحكام في الفقه في الدنيا؛ [ لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي ]، فالقول بأنه يجب عليه فروع الشريعة، معناه أنه يحاسب على كفره، وعلى تركه هذه الفروع من الشريعة، والدليل قوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43]، فهذا يدل على أنهم عوقبوا على الصلاة وهي من فروع الشريعة، أما في الدنيا فإن كل الفروع الشرعية لا تقبل من الإنسان إلا بعد أن يكون مسلماً، فهذا شرط في العمل.

    وقول المؤلف: (وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه) يعني بذلك أنه لا يبنى عليها مسائل فرعية في الفقه، الآن تجد الخلاف في الفقه يقال عنده: وينبني عليه مسائل كذا وكذا وكذا، لكن الذي يقول أن الكافر مطالب بفروع الشريعة يقول: لا بد أن يكون مسلماً، ومن قال: أنه غير مطالب، يقول: لا يدخل في الفروع إلا بعد الإسلام، كذا متفقين هنا، لا يوجد غنى فيها، لا نقول: إن من قال: يجب أنه يجيز هذه، ما يجيز هذه، فهي قليلة الغناء في الفروع.

    والعمل الصالح له شروط أربعة: شرط قبله، وشرطان في صلبه، وشرط بعده، فإذا تخلف شرط من هذه الأربعة فهو غير مقبول عند الله.

    أما الشرط الذي هو قبله فهو: الإيمان، أما المشرك فلا قبول لعمله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

    وأما الشرطان اللذان في صلب العمل: فهما الإخلاص والمتابعة. الوحدة في الإخلاص، والوحدة في المتابعة، أما الوحدة في الإخلاص ففي قوله: ( من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه )، وأما الوحدة في المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فلقوله: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).

    وأما الشرط الرابع الذي يكون بعد العمل فهو عدم العجب بالعمل؛ لأن الإنسان إذا أعجب بعمله فنظر إلى الناس على أنهم هلكى وهو أحسنهم، فهو أهلكهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )، فهذا الشرط الذي يكون بعد العمل، وهذا يسمى طغيان الطاعة؛ لأن الإنسان تطغى عليه طاعته حتى ينظر إلى الناس أنهم هلكى، وأنه هو أحسنهم؛ ولهذا يقول الإمام ابن القيم عن صاحب هذه الصفة: أنه يتطلب من الناس أن يعظموه، بسبب عمله فيقبلوا ركبتيه، ويبدءوه بالسلام، إلى غير ذلك، وإذا لم يقابل بمثل هذا، ورأى أن هذا الإنسان لم يقم بحقه، وأن عليه واجباً في أن يقوم بحقه؛ لأن له أعمالاً كبيرة.

    ومعنى كلام ابن القيم أنه لو قلت أن ذلك أشد من الكبائر لكان ذلك صحيحاً؛ لأن عمله هذا هو لله، ويتطلب به من الناس أن يرفعوه؛ فهو يعمل كذلك ولا يظن أنه ذنب وهو من الكبائر؛ لأنه مصاب بالكبر؛ فليحذر الإنسان من أن ينظر إلى عمله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، يعني: إذا كان هناك كلام عن بني إسرائيل لا تقبله الشريعة الإسلامية ولا ترده فلا مانع من أن نقوله؛ لأنه عن بني إسرائيل، بشرط ألا ترده الشريعة الإسلامية.

    مثل: كان فيمن كان قبلكم، وكان رجل يسمى بفاسق بني إسرائيل، ورجل يسمى بعابد بني إسرائيل، وكان عابد بني إسرائيل له صومعة ومشهور بأنه عابد، وفاسق بني إسرائيل مشهور بأنه فاسق، فمر فاسق بني إسرائيل بصومعة عابد بني إسرائيل فدخلته الخشية والخوف من الله، فتاب توبة نصوحاً، وقال: إنه عاهد ربه على أنه يكون مع عابد بني إسرائيل ولا يفارقه، فدخل عنده فقال: من أنت؟ قال: أنا فاسق بني إسرائيل، جئت إليك تائباً -راجعاً إلى الله- عاهدت ربي أن أكون بجانبك، فطرده وقال: لا يتحدث الناس بأن عابد بني إسرائيل يجالس فاسق بني إسرائيل؛ فأوحى الله إلى نبي زمانهم: اذهب إلى عابد بني إسرائيل وقل له: إن الله قد أحبط عملك بما أحدثت من عجب واستكبار على الله، وقل لفاسق بني إسرائيل: إن الله قد قبل توبتك وغفر لك ما تقدم من ذنبك؛ فليستأنفا العمل، هذا إخبار عن بني إسرائيل ولكنه لا يخالف الشريعة.

    وكذلك لا مانع إذا ثبت الشيء شرعاً لا مانع أن يستدل عليه حتى بالرؤيا، مع اعتقاد أن الرؤيا ليست تشريعاً، وإنما تطمين.

    وكان هناك رجل عابد يصوم النهار، ويقوم الليل، ونظر إلى نفسه إعجاباً، فرأى في المنام أن فلاناً الذي يصلح الأحذية له منزلة عند الله خير منه، فذهب إلى ذلك السكاك بتلك المدينة فوجده إذا نودي إلى الصلاة أجاب، ورجع إلى عمله، فإذا جاء الليل صلى وتره ونام، هكذا ثلاثة أيام، وهو عنده ضيق، قال: أنا رأيت ثلاث ليالٍ متوالية كذا وكذا وكذا، ولا أرى لك كبير عمل. وأنا أصوم النهار، وأقوم الليل، ورأيت أن لك منزلة عند الله خير مني، قال: هو ما ترى، ولكن حيث رأيت هذه الرؤيا فإني أقول لك: ما دخل أحد في مسجد من بيوت الله، ونظرت إليه إلا واعتقدت أن له منزلة عند الله خير مني.

    إذاً ينبغي لنا إذا عملنا عملاً أن ننظر أولاً إلى أن الذي وفقنا له هو الله، والذي أعاننا عليه هو الله، والذي سيقبله منا هو الله، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118] فما من عمل إلا ولله علينا فيه ثلاثة أمور:

    الأول: التوفيق، الثاني: الإعانة، الثالث: القبول، فلا ينظر إنسان مع هذا إلى عمله ويعجب به، بل عليه أن يورثه كثرة العمل وكثرة الحب لله حيث وفقه وأعانه وقبل منه.

    1.   

    وقت وجوب الوضوء

    قال رحمه الله: [ وأما متى تجب؟ فإذا دخل وقت الصلاة ]، إذا دخل وقت الصلاة تطلب منك الصلاة، ويطلب معها الوضوء، من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

    [وأراد الإنسان الفعل الذي الوضوء شرط فيه ]، مثلاً إذا أردت أن تقرأ في المصحف فإن عليك أن تتوضأ، وإن لم يكن ذلك مؤقتاً بوقت، يعني: يجب الوضوء عند دخول وقت الصلاة، وعند إرادة عمل يتوقف على الوضوء.

    [ أما وجوبه عند دخول وقت الصلاة على المحدث فلا خلاف فيه لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] الآية، فأوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، ومن شروط الصلاة: دخول الوقت ]؛ لأنها لا تجب إلا بعد دخول الوقت.

    [ وأما دليل وجوبه عند إرادة الأفعال التي هو شرط فيها فسيأتي ذلك عند ذكر الأشياء التي يفعل الوضوء من أجلها، واختلاف الناس في ذلك ].

    وهذه المسألة مختلف فيها، هل يجب على قارئه في حمل المصحف الوضوء أو لا يجب.

    وهذا سيذكره المؤلف في الباب الخامس.

    1.   

    أفعال الوضوء

    الأصل في أفعال الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ الباب الثاني: وأما معرفة فعل الوضوء فالأصل فيه ما ورد من صفته ]، والأصل هو الأساس الذي ينبني عليه غيره، وقد يطلق ويراد به الدليل، ويطلق ويراد به الحكم الغالب الذي هو في الشرع، وما خرج فهو خروج نادر، فهنا الأصل المراد به: الدليل، الأصل تحريم الميتة إلا للمضطر، وخرج عنه أكلها للمضطر.

    إذن الأصل يراد به: الدليل، ويراد به: الحكم الغالب.

    [ والأصل فيه ما ورد من صفته في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6]، وقد تكلمنا في المقدمة عن القراءتين (أرجلَكم) و(أرجلِكم)، وذكرنا أنهما تسببان الخلاف.

    [ وما ورد من ذلك أيضاً في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في الآثار الثابتة ]، ومعنى (الآثار) أي الأحاديث.

    النية في الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ ويتعلق بذلك مسائل اثنتا عشرة مشهورة تجري مجرى الأمهات ]، هناك اثنتا عشرة مسألة تتعلق بأفعال الوضوء.

    [ وهي راجعة إلى معرفة الشروط والأركان، وصفة أفعالها وأعدادها وتعيينها، وتحديد محال أنواع أحكام جميع ذلك.

    المسألة الأولى: من الشروط، اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا؟]، هذه مختلف فيها، بعضهم يقول: شرط، وبعضهم يقول: ليست بشرط.

    [ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات ]، فاتفقوا على أن العبادات المحضة لا بد لها من نية، وأن العبادات التي هي معقولة المعنى ليس لها نية، أي: أن الأشياء المطلوبة منك شرعاً وهي معقولة معناها ليست لها نية، مثل: الصلاة اتفقوا على أن لها نية، كذلك النجاسة تراها في ثوبك وملطخة بالثوب، واغسلها، هذه معقولة معناها، رد الوديعة عبادة معقول معناها، إطعام الزوجة عبادة معقول معناه، هذه لا تحتاج إلى نية، يبقى الوضوء، هل هو يحتاج إلى نية أو لا يحتاج إلى نية؟ اختلفوا فيه.

    قال: [ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات؛ لقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]] معنى مخلصين: النية، [ ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) الحديث المشهور ]، هذا من دلالة الحصر، وهو من الدلالات الظاهرة، (إنما) أداة حصر، (الأعمال بالنيات) فإذا لم توجد النية فلا يوجد عمل، فهذه من دلالة النص، الحصر، كقولك: ما قام إلا زيد، إنما قام زيد، هذه من الحصر الذي لا تحتمل غيره، ومثل ذلك: (إنما الأعمال بالنيات)، فإنه لا يحتمل غيره.

    والحديث أخرجه البخاري و مسلم ، والمراد اشتهاره بين الناس، وليس المراد الحديث مشهور، وهو: ما رواه ثلاثة عن ثلاثة أو أكثر.

    [ فذهب فريق منهم إلى أنها شرط ]، أي: أن النية شرط، [ وهو مذهب الشافعي و مالك و أحمد و أبي ثور و داود ] الذي يقول إنها شرط هم الشافعي و مالك و أحمد و أبو ثور و داود ، لكن أنا أقول: إن الشافعي لا يقول: إن النية شرط، وإنما يقول: ركن، بمعنى أنها تقترن بأول غسل جزء من الوجه، هذا هو قول الشافعي ؛ لأن الفرق بين الشرط والركن: أن الشرط يكون خارجاً عن المشروط، والركن لا بد أن يكون في الماهية؛ ولهذا قال الشافعي : إن النية ركن، فلا بد أن تقترن بأول جزء من الوجه، ويقول: ولا بد أن تقترن بأول تكبيرة الإحرام، هاه، فالشافعي يشدد كثيراً في هذا.

    على كل حال هي شرط، لكن تشدد الشافعية في ذلك فأورث لهم مرضاً، وهو الوسواس في الصلاة؛ فتجد أحدهم يقول: الله الله الله حين يريد أن يقول: الله أكبر، ويقول: ما اقترنت النية بالتكبير؛ فيتعبون تعباً شديداً في ذلك، ولو قالوا أنها شرط لكان أفضل، وهذا الوسواس من شيطان يسمى: الخنزب. ولقد ذكر أن أحدهم كان يقول: أصلي فرض الظهر أداءً الله أكبر، وكان بجانبه رجل فقال له: قد آذيت الله ورسوله والملائكة والناس أجمعين.

    على كل الشافعية والمالكية و أحمد و أبو ثور و داود قالوا: إنها شرط، وزاد الشافعي قولاً آخر أنها ركن، والأقرب أن تكون شرطاً. فإذا كان إنسان يبتلي بالوسواس -والعياذ بالله- فهذا نوع من الجنون؛ لأنه يذهب إلى المسجد، يأخذ الماء ويغسل وجهه، ويقول: أنا لم أنوِ الوضوء.

    والنية هي: القصد، وقصد الفعل مقترناً به أو قبله، مقترناً به عند الشافعية، أو قبله عند الأئمة الآخرين؛ إذ لا يمكن أن يتصور فعل بلا قصد؟ إلا في شيئين: حركة المرتعش، والمجنون؛ لأن كل الأقوال لا بد لها من قصد، ولهذا قال بعض العلماء لرجل حين قال له: أنا أغسل وجهي ثلاثاً، وأقول: لم أغسلها، فقال له: إذاً لا صلاة عليك؛ لأنك مجنون.

    والمقصود بحركة المرتعش أي حركة الذي به مرض، فيورثه المرض ارتعاشاً يكون بغير اختيار منه.

    فالنية هي: قصد الفعل مقترناً به، أو مقدماً عليه، وهذا لا يتصور عدم وجوده إلا في حالات: وهي حركة المرتعش والمجنون، وهناك ثالث وهو من أصابه فزع؛ لأنه يكون يتحرك بغير قصد، وبدون إرادة.

    فلذلك المجنون والمرتعش إذا عملا عملاً فإن عملهم هذا ليس فيه نية، فلا يثابان عليه؛ لأن الحديث يقول: ( إنما الأعمال بالنيات ).

    قال المؤلف: [ وذهب فريق آخر إلى أنها ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة و الثوري ]، قالوا: فلو نزل عليك المطر، أو انغمست في البحر وتسبحت فلك أن تصلي ولو لم تتوضأ.

    سبب اختلاف العلماء في النية للوضوء

    وانظروا إلى سبب الاختلاف [ وسبب اختلافهم تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة ]، وهذا يحتاج إلى النية [ أعني: غير معقولة المعنى ].

    وقد ذكرنا أن ما كان غير معقول المعنى فإنه لا بد له من النية [وإنما قصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة؛ فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى نية، والوضوء فيه شبه بين العبادتين؛ ولذلك وقع الخلاف فيه] يعني: هل هو يشبه الصلاة أو يشبه النجاسة؟

    [وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة]، أي: إذا وجدت فيه أوساخ تنظفه [وللفقيه أن ينظر بأيهما أقوى شبهاً فيلحقه به].

    فالمراد بالمعقول هو: الذي للعقل فيه دخل، فأنت لما يطلب منك غسل النجاسة تكون العلة في ذلك: أن فيها رائحة كريهة، وأنك لا يمكن أن تقابل الناس وأنت متلطخ بالنجاسة, لكن ما العلة في كون الصلاة أربع ركعات في الظهر، وأربع ركعات في العصر، وثلاث ركعات في المغرب، وأربع ركعات في العشاء، وركعتين في الصبح، ولماذا قال الشارع قدم الركوع على السجود وغيرها؛ فالمعقولة المعنى هي التي تهتدي لها أنت بالعقل.

    وأما غير المعقولة تعرف علتها، إنما تعرف أن هذه أحكام من الله لا يتدخل العقل فيها، علي فيها القبول، ومثل الصلاة رمي الجمرات فإنها غير معقولة المعنى، هذه عبادة محضة.

    أما الوضوء فهو بحسب النية فإن نظرت إليه على أني أغسل وجهي وفيه أوساخ، أو يدي لأن فيها أوساخ فهو معقول المعنى، وإن نظرت إلى أنه عبادة فيكون غير معقول المعنى.

    أسباب إلحاق الوضوء بالعبادات

    فنقول في الوضوء: سنلحقه بأيهما أقوى شبهاً، فهل هو أقوى شبهاً، بمعقول المعنى أو بغير معقول المعنى؟

    الوضوء أقوى شبهاً بالعبادات لما يأتي:

    الأول: لأن موجبه أمر معنوي يقوم بالأعضاء، بخلاف النجاسة فموجبها أمر حسي.

    إذاً: الفساء والضراط هل أحد يعقله، فكيف يكون الفساء والضراط من الدبر، ونغسل الوجه؟! ما هي المناسبة بين الدبر وبين الوجه؟ هذا غير معقول المعنى، فلا يغسل الدبر، بل إذا فسا وضرط إنسان يغسل وجهه ويديه؟! إذاً هذا غير معقول المعنى.

    لكن النجاسة إذا وجدت في الجبة مثلاً فإننا نغسلها ولا نغسل الشال. وهذا معقول المعنى، وموجبها أمر حسي وهي النجاسة التي أراها. إذاً حصل بينه وبين هذا فرق لا يشبهه.

    الثاني: تخصيص الوضوء بأعضاء محدودة، لا دخل للعقل في معرفة هذا التخصيص، فلو أن الإنسان خرج منه فساء وضراط وبول وغائط، ويغسل وجهه فسئل: لماذا يغسل هكذا؟ لقال: هذا أمرنا به الشرع.

    فهل هذه الأعمال يعقلها الإنسان؟!

    وغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والأذنين، وغسل الأرجل معقولة المعنى أم النجاسة التي لا بد من دلكها، حتى لا يبقى منها شيء، أمر معقول المعنى؟

    النجاسة معقولة المعنى لكن الوضوء ليس معقولاً معناه.

    الثالث: أن المطلوب في الشرط منك إما فعل في الأوامر، أو ترك في النواهي، والمقرر أن الفعل لا بد فيه من القصد له، أما الترك فلا يشترط فيه قصد الترك، مثلاً: الزنا لا يشترط أن أقصد تركه لكن الواجب لا بد أن أقصد فعله، أنا سأصلي سأتوضأ سأذهب إلى المسجد، سأجلس وأنتظر الإمام.. هذه كلها قصد.

    إذاً: عرفنا أن الأفعال لا بد لها من قصد، وأما الترك فلا يشترط فيه قصد الترك، فيحصل وإن لم يقصد.

    والوضوء من الأمر المطلوب فيه الفعل، أما غسل النجاسة فهو من باب الترك والابتعاد عنها، وعلى هذا لو كان على عضوه نجاسة، أو في ثوبه نجاسة، فنزل عليه المطر فأزالها، فإنه يحصل له الطهارة منها، مثلاً: إذا كان شخص معه ثوب عليه نجاسة وانغمس في البحر، فلا نقول له: لا بد من غسله ثانية؛ لأنه قد زالت النجاسة منه، وحصلت طهارة الثوب.

    أما الوضوء فهو فعل، وكل فعل لا بد من قصده فطرة.

    ذكرنا أن الذين يخرجون من القصد ثلاثة، أما من عداهم من العالم والجاهل، والصبي المميز فإنهم يعرفون أن الفعل لا بد له من فطرة، هذه الفطرة يعني: فطرة الناس كلهم.

    فيقول: لا بد من قصده فطرة، والقصد هو: النية، فتقرر بذلك أنه لا بد لصحة الوضوء من قصد فعله، الذي هو النية، فلو نزل على المحدث المطر، أو انغمس في بركة، أو في البحر، لا بقصد الوضوء، وإنما بقصد النظافة، فأصاب الماء أعضاء الوضوء، فإننا لا نقول: إن هذا المحدث حصل منه فعل الوضوء؛ لعدم وجود قصد الفعل؛ فتقرر أن الوضوء أقوى شبهاً بالعبادة منه بالنجاسة.

    وقوله: (والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبهاً فيلحق به) هذا قياس الشبه، وهو: تردد فرع بين أصلين فيلحق بأقواهما شبهاً، والقياس في الشبه الذي هو تردد الفرع بين أصلين، فيلحق بأقواهما شبهاً، إذاً الوضوء تردد بين العبادة وبين الأعمال التي هي أعمال معقولة المعنى، فرأينا أنه أقوى شبهاً بالعبادة.

    إذاً نقول: إن النية شرط في الوضوء.

    كذلك العبد إذا قُتل، فهل تلزم فيه الدية أو القيمة؟

    تلزم القيمة؛ لأنه تردد بين شبهه بالمال وبين شبهه بالإنسان، فكان أقوى شبهاً بالمال، فإذاً القاعدة طبقها في كل ما يأتي، وهذه القواعد الأصولية لا تنطبق على مثال واحد، ولكن تنطبق على عدة أمثلة؛ لهذا وضع العلماء قواعد أصولية كلما حدث شيء نطبقه عليها.

    1.   

    الأسئلة

    اشتراط القصد في الفعل دون الترك

    السؤال: [هل يشترط القصد في الفعل والترك؟]

    الجواب: لو أن رجلاً نزل البحر وانغمس بقصد السباحة، وأصاب جميع أعضائه الوضوء، فإذا خرج وسألناه: ما قصدت بهذا؟ فقال: السباحة، فإننا لا نقول له: اذهب وصل؛ لأنه ما قصد الوضوء.

    لكن لو كان ثوبه نجساً، نقول له: ثوبك خرجت منه النجاسة؛ لأن النجاسة من باب الترك والابتعاد، أما الوضوء فهو فعل، وليس تركاً وابتعاداً.

    الاكتفاء بغسل الجمعة عن الوضوء

    السؤال: إذا نوى الشخص اغتسال الجمعة ونوى بغسله الوضوء فهل يجزئه عن الوضوء؟

    الجواب: إذا نوى الاغتسال للجمعة والوضوء فعليه ترتيب أعضاء الوضوء، ولو فعل ذلك بدون ترتيب وخرج يصلي، فإن صلاته لا تصح؛ لأنه لا بد من الترتيب، فإذا انغمس، وغسل يديه قبل وجهه وما رتب، لكن هذا يمكن فيما إذا اغتسل للجمعة وقصد الوضوء، وانغمس في بركة، وغمس رأسه، فهذه المسألة تكلم فيها الفقهاء فقالوا: لو انغمس محدث حدثاً أصغر في ماء كثير فلا يشترط بقاؤه في الماء بقدر ما يتوضأ إنسان ليكون قد تطهر وحصل له الترتيب.

    بمعنى: لا يشترط أن ينغمس ويبقى في الماء لمدة عشر دقائق ليحصل له الترتيب، بل يكفي أن ينغمس وهو بنية الوضوء؛ لأن الترتيب يحصل في لحظة، فإذا انغمس فكأنه في تلك اللحظة غسل وجهه ويديه ومسح رأسه، فتحصل كلها؟ لكن الذي يصب عليه دش ليس مثل المنغمس في الماء، فيكون لا بد لمن يغتسل من الترتيب.

    هنا نقول له: لا مانع من اشتراك غسل الجمعة بنية الوضوء ولكن مع الترتيب، فلا بد من المضمضة والاستنشاق وأنت تغتسل، واغسل وجهك، واغسل يديك، وامسح برأسك.

    الاكتفاء بغسل الجنابة عن الوضوء

    السؤال: [هل يكتفى بغسل الجنابة عن الوضوء؟]

    الجواب: الجنب إذا كان عليه حدث أصغر وأكبر، فقد قال الفقهاء: إن الأصغر يدخل في الأكبر؛ فإذا نوى رفع الجنابة فقد حصل له الوضوء؛ لأن الأصغر يدخل في الأكبر -مثل ذلك العمرة تدخل في الحج- ونقلوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ بعد غسله، ولكن يشترط الشافعية ألا يمس ذكره حال الغسل؛ لأنه إذا مس ذكره حال الغسل انتقض وضوءه.

    أما من لا يقول بنقض الوضوء بمس الذكر فإنهم يقولون: يخرج ولا يتوضأ، لكن الشافعية قالوا ليخرجوا من هذه المشكلة: ينوي رفع الحدث عن القبل والدبر وما حواليهما قبل الغسل، ثم يعمم بدنه بالماء ويغتسل ويحرص على ألا يمس ذكره، فيخرج وهو على طهارة كاملة.

    غسل الجنابة بين اعتبارها عبادة معقولة المعنى أو غير معقولة

    السؤال: هل غسل الجنابة عبادة معقولة المعنى؟

    الجواب: لا، غير معقولة المعنى؛ فلهذا يشترط فيها النية؛ لأن الجنب لم يصبه شيء؛ بل هو نظيف، فيحصل له نشاط بعد الاتصال، وابتعاد عن الأشياء؛ فهي جاءت لك بأشياء طيبة.

    الرد على من يقول: يشترط في الترك النية

    السؤال: [كيف ترد على من يقول: إن الترك يشترط فيه النية مستدلاً بحديث: ( إنما تركها من جرائي )؟]

    الجواب: السائل الذي يقول: ( إنما تركها من جرائي )، المعلوم أن الترك لا يشترط فيه نية الفعل، ولكن لو ترك الزنا من غير خوف من الله ولا شيء لا يحصل له الأجر، ويحصل له أنه لا يعاقب على الزنا، لكن لو ترك الزنا خوفاً من الله، فإنه يحصل له الثواب؛ لأنه جاهد نفسه خوفاً من الله.

    ولهذا ورد في الحديث: ( إذا هم بسيئة )، والهم بالسيئة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم صمم على الفعل، ولم تتركه إلا لعجز، فهو صمم على أن يفعل السيئة وما رده إلا عجزه، هو قد مشى إليها بكل قوة فهذا يعاقب، والدليل على هذا: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: عرفنا القاتل، فما بال المقتول، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ).

    الثاني: أن يهم بالمعصية ويتركها، ولكنه ليس يتركها خوفاً من الله، فهذا كما ورد في الحديث، لا تكتب عليه سيئة ولا تكتب له حسنة.

    الثالث: أن يهم بالمعصية ويتركها خوفاً من الله، فهذا تكتب له حسنة على قصده.

    أما من زنى ثم ترك الزنا بالكلية فهذا يسمى التوبة، الترك هو أن يقرب من الفعل فيبتعد عنه، أما بعد أن يفعل فيسمى التوبة؛ ولذلك كان معنى التوبة الرجوع، أي: الرجوع عن هذا العمل الذي قد زاوله التائب.

    ويشترط للتوبة قصد القربة إلى الله، أما من تاب لئلا يفتضح بين الناس، أو تاب لأنه فقير، لا يستطيع الوصول إلى المعصية، فهذا توبته فيها شيء، ولهذا لا تسمى توبة خالصة.

    إذاً التوبة رجوع عن العمل. فمثلاً إنسان كان يزني, ورجع عن الزنا، فإن رجع عن الزنا توبة وخوفاً من الله، فإن التوبة تغسل هذا الذنب، وإن ترك الزنا ورجع عنه لكبر في سنه؛ فهذا لا يكتب عليه زنا في المستقبل، وأما تلك السيئات التي فعلها فإنه يجوز أن تغفر بأعمال صالحة؛ لأنه لم يعاود الزنا، يجوز أن تغفر بأعمال صالحة، ويجوز أن تغفر بمغفرة الله، ويجوز أن يدخل بها صاحبها النار، أما من تاب، ( فالتائب كمن لا ذنب له )، فالترك قسمين: ترك قبل العمل، هذا يسمى: تركاً، وترك بعد العمل، وهو يسمى: رجوعاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757215107