إسلام ويب

تأملات في سور القرآن - هودللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المتفق عليه بين المفسرين أن سورة هود من السور المكية التي ذكر الله فيها حال الأمم مع رسلها وكيف كانت عاقبتها، وقد ذكر الله فيها أن أهل النار مخلدون فيها إلا ما شاء الله، وقد تكلم العلماء على هذا الاستثناء، وبينوا المراد به في هذه الآية.

    1.   

    بعض مقاصد سورة هود

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    إن سورة هود كسورة يونس ، المقصود الأعظم فيها التنويه بشأن القرآن، وقد مر معنا في سورة يونس افتتاح السورة بقول الله سبحانه: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس:1]، وهذه السورة افتتحت بقوله: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، والغالب عليها القصص، فالله عز وجل يذكر قصة نبيه نوح بإسهاب وتفصيل، ثم يذكر خبر هود مع عاد، وخبر صالح مع ثمود، ثم خبر شعيب مع مدين. ويختم بذكر قصة نبيه وكليمه موسى عليه السلام مع فرعون ، وفي ختام السورة يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].

    وهذه السورة المباركة مكية باتفاق أهل التفسير، وقد اشتملت على ثلاث وعشرين ومائة آية، في ألف وتسعمائة وإحدى عشرة كلمة، وسبعة آلاف حرف وستة أحرف.

    1.   

    تكذيب الأمم للرسل عليهم الصلاة والسلام

    وهذه السورة المباركة يبين فيها ربنا جل جلاله أن السمة العامة للأمم مع الرسل التكذيب، والجحود والإعراض، وأن نبياً من الأنبياء لم يلقه قومه بالاستجابة والترحاب، بل الكل أعرض عنه قومه وعاندوه وصدوا عنه.

    وبين الله جل جلاله عاقبة هؤلاء جميعاً، وأنه أنزل بهم العذاب، كما قال في سورة العنكبوت: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

    1.   

    الجمع بين الآيات التي تذكر رد إبراهيم على الملائكة السلام وقوله: (إنا منكم وجلون)

    وفي هذه السورة المباركة سؤالان:

    السؤال الأول في قصة نبي الله إبراهيم ومجيء الملائكة إليه، يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ[هود:69]، ومثلها أيضاً في سورة الذاريات: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:24-25]، هاتان الآيتان نستفيد منهما أن إبراهيم عليه السلام رد السلام على الملائكة، لكن ورد في سورة الحجر ما يفيد غير ذلك، حيث بين الله جل جلاله أن الملائكة لما دخلوا عليه قالوا: سلاماً، قال: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر:52]، وما رد السلام، والجمع بين هذه المواضع أن الأمرين حصلا، فإن إبراهيم عليه السلام رد السلام على الملائكة، ثم بعد ذلك قال لهم: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ، أي: خائفون ومستغربون من مجيئكم على هذه الهيئة.

    1.   

    الجمع بين قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ...) والآيات التي تدل على خلودهم فيها

    الموضع الثاني يقول الله عز وجل عن أهل النار، عياذاً بالله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107]، وهذه الآية ظاهرها يوهم بأن عذاب النار منقطع، وبأن الأشقياء من الكفار والمنافقين يأتي عليهم زمان ينقطع العذاب عنهم فيه، بينما آيات أخرى من القرآن بينت أن العذاب دائم لا ينقطع، كقول الله عز وجل: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97]، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[النساء:56]، وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:167]، لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا[فاطر:36]، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17]، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً [النبأ:30]، فهذه الآيات تفيد أن عذاب أهل النار والعياذ بالله! عذاب أبدي، سرمدي، دائم، باق، خالد لا يزول ولا يحول.

    والجواب عن الاستثناء في هذه الآية المباركة كالجواب عن الآية التي قبلها، فإن الله عز وجل قال: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، ولا يقول أحد بأن نعيم أهل الجنة منقطع، بل نعيم أهل الجنة - نسأل الله أن يجعلنا منهم - نعيم أبدي سرمدي بإجماع المسلمين؛ بدلالة قول ربنا: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، وقد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدارين، فقال: ( يؤتى بالموت يوم القيامة على هيئة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت )، فالاستثناء في قول الله عز وجل: إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ[هود:108]، أجاب عنه العلماء بأجوبة:

    الجواب الأول: أن (ما) بمعنى (من) خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا من شاء ربك له ألا يخلد في النار، وهم عصاة الموحدين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يخلد في النار مؤمن، فلو أن مؤمناً ارتكب ذنوباً ومعاصي استوجبت دخوله النار، فإن دخوله باق إلى أن يطهر من ذنوبه، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة، ومصيره إلى النعيم، وفي القرآن الكريم أطلقت (ما) مراداً بها (من) كما في قول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:3]، أي: من طاب لكم من النساء، مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3].

    ثم الجواب الثاني: أن الاستثناء راجع إلى الفترة ما بين خروجهم من قبورهم إلى استقرارهم في دارهم، ومعلوم بأن يوم القيامة يوجد فيه مشاهد، فالناس يخرجون من قبورهم، كما قال الله عز وجل: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10]، وبعد أن يخرجوا من قبورهم يساقون إلى أرض المحشر، إلى أرض بيضاء، عفراء، ثم بعد ذلك تنشر الدواوين التي فيها الحسنات والسيئات، وتنصب الموازين، ثم العبور على الصراط، والناس يمرون فيه كالبرق الخاطف، وكالريح المرسلة، وكأجاويد الخيل، ومنهم من تخدشه كلاليب جهنم، ومنهم من يكدس في النار، فهذه الفترة ما بين خروجهم من قبورهم إلى استقرارهم في دورهم هي التي ينصَبُّ عليها الاستثناء.

    وهناك جواب ثالث قال به بعض أهل التفسير وهو أن في هذه الآية إجمالاً، وقد دل ظاهر القرآن على أن أهل النار مخلدون فيها، والظاهر من المرجحات، فالظاهر يقدم على المجمل.

    وخلاصة الكلام أن الجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان ولا تبيدان، بل هما باقيتان كما أخبر الله جل جلاله في كتابه، وعليه فالسعيد الموفق هو الذي يعمل للجنة، وكما قيل: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى والآخرة خزفاً يبقى لوجب على العاقل أن يؤثر الباقي على الفاني، فكيف والدنيا خزف يفنى والآخرة ذهب يبقى.

    نسأل الله أن يرزقنا الجنة، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756298101