إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. مساعد الطيار
  5. عرض كتاب الإتقان
  6. عرض كتاب الإتقان (61) - النوع الثاني والستون في مناسبة الآيات والسور [2]

عرض كتاب الإتقان (61) - النوع الثاني والستون في مناسبة الآيات والسور [2]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ارتباط القرآن بعضه ببعض سوره وآياته علم مستقل، وهو علم المناسبات، فنجد فيه أن القرآن مرتب ترتيباً محكماً: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). ويأتي الرابط والمناسبات على أشكال كثيرة: كالمقابلة والتضاد أو حسن التخلص والاستطراد أو لعلاقة أخرى تربط الآية بالآية، والسورة بالأخرى.

    1.   

    المناسبات بين الآيات والسور

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    البحث عن المناسبات

    فنبتدئ بالإتقان ونأخذ طرفاً مما يتعلق بمناسبات الآيات والسور:

    ذكر الإمام مقولات منقولة عن بعض الأئمة عن عز الدين بن عبد السلام ، وكذلك عن الشيخ ولي الدين الملوي ، وعن الإمام الرازي ما يتعلق بأهمية علم المناسبات وصحته، وسبق أن ذكرت إشارة إلى أن بعض العلماء كان لا يرى علم المناسبة، والصواب: أن علم المناسبة علم ثابت؛ لأنه مبني على أن كتاب الله سبحانه وتعالى مرتب من عند الله سبحانه وتعالى، والحكيم لا يصدر عنه إلا حكمة؛ فتطلب الحكمة وتتبعها في مناسبات الآيات مطلب صحيح بلا ريب، هذا هو الأصل، يعني: أن عدم الوصول إلى حكمة ترتيب بعض الآيات لا ينفي الأصل، وكذلك التكلف في ترتيب مناسبة من مناسبات بعض الآيات لا ينفي الأصل.

    فإذاً: الأصل وجود الحكمة، وإن وجد التكلف أو لم نستطع الوصول إلى حكمة الترتيب بين الآيات في بعض المواطن؛ فإن هذا لا يعني أن الأصل ينتقض، إذاً هذه قاعدة فيما يتعلق بقضية المناسبات.

    ونأخذ مثالاً مما ذكره من كلام ولي الدين الملوي يقول: [وقد وهم من قال لا يطلب للآية الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً وتأصيلاً]. يعني هي من جهة التنزيل مفرقة، لكن من جهة الترتيب؛ فهي مرتبة على حسب الحكمة، قال: [فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيءٍ عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له]. فهذا الكلام كلام نفيس من ولي الدين ، وهو القول الصواب في هذه المسألة خلافاً لمن زعم أنه لا يتطلب مناسبات للآيات.

    ونلاحظ هنا إشارة لـولي الدين فيما لو كانت الآية مستقلة، يعني مستأنفة أو كانت مكملة، فإذا كانت مكملة فهذا واضح، ليس فيه إشكال، وإذا كانت مستأنفة فتطلب المناسبة فيما إذا كانت مستقلة.

    المقصود بالمناسبات

    ثم ذكر السيوطي بعدها فصلاً في قضية ما يتعلق بالمناسبة، وهو كما قال: [هي في اللغة المشاكلة والمقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي أو غير ذلك من أنواع العلاقات، أو التلازم الذهني، كالسبب والمسبب، أو المسبب والعلة والمعلول والنظيرين والضدين ونحوه]. فكأنه يريد أن يقول لنا: إننا حينما نأتي بالمناسبات قد تكون المناسبات للتشاكل في الموضوع، وقد يكون هناك تضاد بين الموضوعات، فنقول مثلاً: لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بحال الكافرين، هكذا؛ فإذاً الآن قد تكون المناسبة من هذه الجهة وقد تكون من جهةً أخرى، بمعنى: أنا لو تتبعنا أنواع المناسبات؛ فإننا سنحصل على أنواع متعددة من المناسبات، يندرج تحتها أمثلة كثيرة من مناسبات القرآن.

    أمثلة أنواع المناسبات

    ثم ذكر بعد ذلك أمثلة في قضية التضاد في مثل قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، هذا مرتبط بقضية تقسيم المتضادات. وتقسيم المتضادات هذا في الآية الواحدة.

    ثم ذكر ما يتعلق بالتنظير، قال: [فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء كقوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال:5]، عقب قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]]، وهذه الآية، التي هي قوله تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال:5]، وقع بين المفسرين خلاف في ربطها بقصة الأنفال، يعني ربط قصة بقصة، فعلاقة قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ [الأنفال:5] بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1]، يعني: كأنه قال: كما أراك الله سبحانه وتعالى في الأنفال وحكم لك بها بالحكم الواضح كذلك أخرجك ربك من بيتك بالحق، ذكر هذا التنظير المضاد في مثل قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6] مقابل صفات المؤمنين في أول سورة البقرة، وهذا كثير جداً في القرآن من نوع المناسبة المضادة.

    لطيفة في قضية المناسبات

    وأيضاً أشار إلى مسألة لطيفة جداً فيما يتعلق بقضية المناسبات في الآيات، لما ذكر قضية التعلق قال: [بل يكفي التعلق على أي وجه كان، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا؛ لأن القصد تأكيد أمر القرآن والعمل به والحث على الإيمان..] إلى آخر كلامه، وكأنه إشارة إلى مسألة وهي أن قضية الروابط قد تكون روابط خفية وقد تكون روابط معلولة عند بعض العلماء في كونها روابط ضعيفة، فهو يقول: نكتفي بالمناسبة ولو كانت بوجه من التعلق قد يكون ضعيفاً وفيه كلام، لكن المقصد أنه وجه من وجوه المناسبات، بل يكون هناك أحياناً أكثر من وجه مناسبة بين آية وآية، أو بين جملة وجملة، وفي قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، في هذه الآية الواحدة مناسبة قوله تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] مع قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف:26] هذا مما ناقشه العلماء وكأنه لما ذكر اللباس الحسي الذي في قوله: أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ[الأعراف:26]، حسن أن يتبع باللباس المعنوي ولذلك قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، فهذا نوع من الروابط قد يخفى فيكون ورود قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، من باب الاستطراد لما ذكر هذا النوع من اللباس ذكر النوع المقابل به.

    وكذلك مما خرج على نفس سبيل الاستطراد قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ [النساء:172] قال: وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ [النساء:172]، مع أن الحديث كله عن المسيح، فكأن فيه إشارة إلى قضية عبادة المسيح وعبادة الملائكة، فكما أن المسيح لن يستنكف أن يكون عبداً فكذلك الملائكة الذين تعبدونهم يا كفار مكة، أو تزعمون أنهم بنات الله لن يستنكفوا أن يكونوا عباداً لله سبحانه وتعالى؛ فهذا وجه من الربط في الآية.

    حسن التخلص وكيفيته

    ثم ذكر بعد ذلك قول أبي العلاء محمد بن غانم وهو من أعلام القرن الخامس يقول: [لم يقع منه في القرآن شيء لما فيه من التكلف]. وهذا يقصد به قضية حسن التخلص؛ لأنه ذكر أنه مما يقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان، يعني: أن الاستطراد هو أن يذكر موضوعاً استطراداً لذكر موضوع آخر بينهما مناسبة.

    فحسن التخلص نوع آخر، وهو كما قال: [أن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاساً، قال: دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني؛ لشدة الالتئام بينهما]، فهذا النوع وهو نوع مناسبة قال عنه ابن غانم أن فيه تكلف ومنعه في القرآن، والصحيح أنه موجود، بل إن هذا يعتبر عند البلغاء من محاسن البلاغة في قدرة الشاعر من الانتقال من موضوع إلى موضوع دون أن يكون هناك نوع من الفصل الذي لا معنى له؛ ولذلك بعض الشعراء إذا انتقل من موضوع إلى موضوع أحياناً تجده يقطع الكلام بكلام يشعرك بأن تدع هذا الكلام وتنتقل إلى كلام آخر، أي: انقطاع واضح جداً. مثل أن يعدي عن هذا، ثم بدأ يذكر أوصاف هرم بن سنان بعد أن كان يذكر أوصاف حبيبته، وهذا ظاهر في شعر زهير بن أبي سلمى ؛ فهذا نوع من الانتقال يشعر بأنه أعطاك قفلاً للموضوع الأول وانتهى، ونقلك إلى الموضوع الثاني، لكن مع حسن التخلص لا تشعر بأنك انتقلت من موضوع إلى موضوع؛ لسلاسة الانتقال بين هذين الموضوعين.

    ثم ذكر كلاماً إنشائياً فيما يتعلق بهذا، وذكر أمثلة.

    ونلاحظ من الأمثلة ما في سورة الكهف إذ كان يتكلم عن سد ذي القرنين قال: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]، ثم دخل بعد ذلك في أحداث آخر الزمان؛ فهذا الانتقال من قصة ذي القرنين إلى أحداث آخر الزمان الرابط بينهما هو قوله تعالى: وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]، فنلاحظ هذا الدخول وأنت تقرأ لا تشعر بأنك انتقلت من قصة إلى قصة؛ لسلاسة الترابط بين القصتين، فهذا يسمى حسن التخلص.

    الفرق بين التخلص والاستطراد

    ثم ذكر ما ذكره بعضهم من فرق بين التخلص والاستطراد أي: حسن التخلص والاستطراد فقال: [تركت ما كنت فيه بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت عليه]، لكن في الاستطراد قال: [تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مروراً كالبرق الخاطف، ثم تتركه وتعود إلى ما كنت فيه]، إذاً: الاستطراد معناه: أنه أشبه ما يكون ببعض الجمل الاعتراضية، التي تذكر شيئاً ثم تنتقل وتعود إلى ما كنت عليه قبل، وفي هذا وذاك - وأنت تقرأ - لا تكاد تشعر بنبؤ في السياق إطلاقاً، لكنه يستوقفك أحياناً فتتأمل كيف ذكر هذا ثم رجع إلى ما كان فيه أولاً.

    أيضاً مما ذكره فيما يتعلق بحسن التخلص قال: [ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر؛ تنشيطاً للسامع مفصولاً به، كقوله في سورة ص بعد ذكر الأنبياء قال: هَذَا ذِكْرٌ [ص:49]]، يعني: هذا ذكر وما سبق من أخبار الأنبياء، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص:49]، ثم بدأ يذكر ما للمتقين، ومثل قوله لما فرغ من هؤلاء قال: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص:55]، لكن هذا يدخل في باب التضاد أو المقابلة التي سبق أن ذكرت في بداية الحديث.

    ثم ذكر أمثلة كثيرة فيما يتعلق بهذا؛ ذكر آية: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وفي آية: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] وقوله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، وكل هذا مما يتعلق بحسن التخلص.

    وذكر قاعدة فيما يتعلق بالمناسبات عن بعض المتأخرين، يقول: [الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام أو اللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف في الوقوف عليها؛ فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا فعلته تبين لك وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة.

    وهذا هو الذي طبقه البقاعي في "نظم الدرر" وهي القاعدة الكلية التي ذكرها السيوطي رحمه الله تعالى.

    أقوال العلماء في مناسبة قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك ...) لما قبله

    وتكلم عن الآية التي سبق أن ذكرت في سورة القيامة، وهي قوله سبحانه وتعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، قال: [من الآيات ما أشكل مناسبتها لما قبلها] وذكر هذه الآية التي قد نقف عليها اليوم إن شاء الله فيما يتعلق بسورة القيامة، يقول: لو أخذنا ما يقوله صاحب الكلام المتقدم من الغرض الذي سيقت له سورة القيامة وهو الحديث عن يوم القيامة.

    قوله سبحانه وتعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، فهذا مرتبط بتلقي الوحي، فلما تتأمل الآيات وتنظر لا تجد هناك أي رابط بين ما يتعلق بكيفية تلقي الوحي وقضية الآيات التي قبلها، هذا أوقع بعض العلماء مثل القفال فيما حكاه الرازي عنه أنه تكلف في أن المراد بالآيات هو: الإنسان في قوله: يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13]، وقال: [يعرض عليه كتابه فإذا أخذ في القراءة تلجلج؛ خوفاً فأسرع في القراءة فيقال له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16].. ] الآيات، طبعاً هذه مناسبة لطيفة لو كان صح أن هذه الآيات لم تنزل في قضية الوحي؛ ولهذا رد عليه قال: [وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي صلى الله عليه وسلم لسانه حالة نزول الوحي عليه]، فهذا خبر يخالف ما ذكره القفال ، ثم ذكر بعد ذلك أقوال الأئمة في تخريج المناسبة بين آيات: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ [القيامة:16]وما قبلها مما يتعلق بيوم القيامة.

    فـالرازي وهو الذي ينقل عنه أنه قال: [ذكر الأئمة لها مناسبات، منها أنه تعالى لما ذكر القيامة وكان من شأن من يقصر عن العمل لها حب العاجلة، وكان من أصل الدين أن المبادرة إلى أفعال الخير مطلوبة، فنبه على أنه قد يعترض على هذا المطلوب ما هو أجل منه وهو الاصغاء إلى الوحي وتفهم ما يرد منه والتشاغل بالحفظ قد يصد عن ذلك، فأمر بأن لا يبادر للتحفظ لأن تحفيظه مضمون على ربه وليصغي إلى ما يرد عليه إلى أن ينقضي فيتبع ما اشتمل عليه، ثم لما انقضت الجملة المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبتدأ بذكره ومن هو من جنسه، فيقال: كلا، وهي كلمة ردع..] إلى آخر كلامه، وهذا نلاحظ أن فيها نوعاً من بعد.

    وآخر يقول: [إن من عادة القرآن إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد حيث يعرض يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدين التي تنشأ عن محاسبة عمل]، وذكر مثالاً: [ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:49] إلى أن قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الإسراء:89]، وذكر في قوله سبحانه: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ [الإسراء:71]..] إلى آخر الآيات التي ذكر في هذا، فكأنه الآن يريد أن يربط بين أنه إذا ذكر ما يتعلق بعمل العبد الذي يعرض يوم القيامة ذكر الكتاب، فكان في مناسبة بين يوم القيامة وبين الكتاب، فناسب أنه لما ذكر يوم القيامة يذكر الكتاب الذي فيه قول: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ [القيامة:16]، والذي هو القرآن، وهذا أيضاً فيه نوع من بعد.

    التخريج الثالث: الذي ذكره، قال: ومنها وهذه تحتاج إلى معرفة أنه بالفعل التاريخ وقع هكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه سورة القيامة؛ فكان يحرك لسانه بالآيات فنزل عليه وهو يحرك لسانه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ [القيامة:16]، وهذا يفتقر إلى الأثر في أنها نزلت في هذه الحال، وكأنها لو نزلت في هذه الحال فمعنى ذلك أنها حكاية حال، لأنه لو صح هذا لقلنا أن المناسبة: هي حكاية الحال.

    منها أيضاً قال: [إن النفس لما تقدم ذكرها في أول السورة عاد إلى ذكر نفس المصطفى صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: هذا شأن النفوس وأنت يا محمد نفسك أشرف]، وهذا أيضاً فيه نوع من التكلف أو نوع من البعد، يعني هذه الآية لا زالت مع هذه التخريجات الأربعة التي ذكرها العلماء، والطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى اختار الثالث، الذي هو حكاية الحال، لكن كما ذكرت: إن هذا يفتقر إلى الأثر، ولا زالت تحتاج في نظري إلى بحث وبإمكاننا أن نبحث في العلاقة بين قصة تحريك النبي صلى الله عليه وسلم لسانه حال تلقي الوحي وما قبلها من الآيات المرتبطة بيوم القيامة؛ لأنا لو تأملنا خصوصاً الآيات المتأخرة مثل قوله سبحانه وتعالى: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ * لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة:14-17]، هل هناك ارتباط بين ما يتعلق بقضية المعاذير وقضية بصيرة الإنسان على نفسه وبين هذا الكتاب الذي يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لو قلنا: إن هذا الكتاب هو أحد الحجج على الإنسان، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15]، يعني: ألقى أعذاره، من الأعذار التي يلقيها أشياء مرتبطة بالوحي مثل أنه لم يأته الوحي أو يقول: قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، فيحتمل أن تكون مناسبة فهي تحتاج إلى تأمل ونظر، لكن أذكرها كفكرة لعله يخرج فيها شيء، نتركها إن شاء الله للتفسير إذا تكلمنا عنها بإذن الله.

    ونقول: هذا وجه، ولكن يحتاج إلى تأمل.

    وجه الرابط بين أحكام الأهلة وإتيان البيوت

    نلاحظ أيضاً في قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، يقول: أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت، الرابط هنا مرتبط بسبب النزول، أي: سبب النزول يكشف عن الرابط؛ لأن إتيان البيوت من ظهورها كانت هذه عادة مرتبطة بالإحرام، فلما قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [البقرة:189]، فالمناسبة فيها نوع من التناسق، لما سألوا عن الأهلة قال الله سبحانه وتعالى في الجواب: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، لو وقف عند هذا تم الجواب وخص من المواقيت الحج بالذات؛ لأنه الميقات الذي حدث فيه النسيء، فبدأ النسيء في هذا الحج، فاختل الحج عندهم، أي صار وقت الحج في غير وقته، وكذلك سيكون محرم في غير وقته وصفر في غير وقته.. وهكذا، ولذا أحد تفاسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الزمان قد استدار.. ) أنه عاد وترتب بعد أن مر عليه من النسيء ما مر إلى أن رجعت الأشهر كما هي، فالمقصد من ذلك أن الحج جزء من المواقيت، فلما خص من هذه المواقيت الحج وهو تخصيص بعد التعميم، ناسب أن يذكر قضية مرتبطة بالحج وهي القضية التي كان يعمل بها الكفار من أن الإنسان إذا أحرم لا يأتي البيت من بابه وإنما يأتيه من ظهره أو ينقب له في ظهره نقباً، فيدخل، فإذاً فيه تناسق يعرف من سبب النزول.

    وهنا قول أنهم سألوا عن أمر عن الأهلة، وهو قول بعض اللغويين، لكن الصحيح أنهم سألوا عن الأهلة نفسها، يعني لماذا يبدوا القمر دقيقاً ثم يكبر؟ فهم قصدوا أن هذه حالة غريبة في القمر، فالله سبحانه وتعالى بيّن لهم أن الحكمة من هذا هو ضبط المواقيت، ولهذا لو كان القمر بدراً دائماً أو كان هلالاً دائماً ما تتبين المواقيت، فالمقصد هو ضبط المواقيت، فلما ذكر هذه المواقيت ناسب أن يذكر أهم ميقات وقع فيه خلل عندهم وهو ميقات الحج، ثم قال: وَلَيْسَ الْبِرُّ [البقرة:189]، فترابطت الآية بعضها ببعض.

    ولو قال قائل: إن هذه زيادة فتكون من باب الاستطراد، يعني يدخل فيه استطراد من نوع وحسن استخلاص من نوع آخر، هذا أصل ونحن قلنا: إن كون الترتيب بالتوقيف فهذا أصل في صحة البحث عن المناسبة.

    1.   

    الأسئلة

    المناسبة العامة في ترتيب الآيات

    السؤال: [هل هناك نظرة أخرى للمناسبات وذكرها]؟

    الجواب: بعض من تعرض للمناسبات خصوصاً من المعاصرين نظر إلى نظرة أخرى، وهي: أن هذا تنبيه إلى أن الشريعة لحمة واحدة لا ينفصل بعضها عن بعض، فنقول: هذا مناسبة عامة، لكن تبقى المناسبة الخاصة في تخصيص هذا النوع من الشريعة بعد هذا النوع، فالكلام الذي يذكره بعض المعاصرين من هذه الجهة نقول هو صحيح من جهة العموم، لكن يبقى من جهة الخصوص، فلما يذكر الصلاة فقط في موطن لماذا لم يذكر الزكاة كعبادة أو لم يذكر الصيام وإنما خصت الصلاة في مثل هذه المواطن، الذي مثلاً هو موطن الطلاق؟ أو لماذا ذكر الربا في قصة أحد ولم يذكر غيره من المناهي؟ فإذاً دل على وجود مناسبة قطعاً، أي: مناسبة خاصة.

    ارتباط الوقف والابتداء بالمناسبات

    السؤال: [هل للوقف والابتداء ارتباط بعلم المناسبات]؟

    الجواب: لا يبين لي شيء في كونه مرتبط، أو له جزء ارتباط بما يتعلق بالوصل والفصل، له ارتباط بهذا وهو أشار إلى طرف منه، إذا كان في مقام الوصل فهو واضح جداً، وإذا كان في مقام الفصل الذي هو استئناف مثل ما ذكرت سابقاً ونحن نتكلم عن وقف الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لـابن مسعود قال: ( حسبك الآن )، وقف على قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] وقال: (حسبك الآن ).

    وقوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:42] مرتبطة بما قبلها وهذا واضح جداً؛ لأن قوله (يومئذ) مرتبطة، لكن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] الآية التي بعدها هذه تحتها استئناف؛ فهذا يسمونه فصلاً، والبحث هنا في مواطن الفصل في المناسبات أكثر من مواطن الوصل؛ لأن مواطن الوصل في الغالب تكون واضحة، لكن مواطن الفصل هي التي تحتاج إلى بحث.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756911742