إسلام ويب

فضل العمل الصالح أيام العشر من ذي الحجةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العمل الصالح هو وظيفة المسلم في هذه الحياة، وتزداد مسارعته فيه في الأزمنة الفاضلة كالعشر الأول من ذي الحجة التي جاء فضل العمل الصالح فيها: كذكر الله تعالى، وتقديم الأضحية ابتغاء وجه الله، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

    1.   

    أهمية العمل الصالح

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى وكذا مسلم في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله، وماله، وعمله. فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله )، هؤلاء الأصحاب الثلاثة لهذا الإنسان: الأهل، والمال، والعمل، لكن الصاحب الملازم، والذي به سعادة الإنسان وشقاوته هو العمل، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله.

    وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه أن يشغلنا هذان الرفيقان عن الرفيق الملازم، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]، وقد نعى الله عز وجل على المنافقين قساة القلوب، الذين لا يؤمنون باليوم الآخر أن عذرهم هو الاشتغال بالأموال والأهل، فقالوا كما قال الله عنهم: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11].

    حذار حذار من أن ينشغل الإنسان عن هذا الصاحب، فيصلحه، ويتفقد حاله فإنه صاحبك الملازم.

    ومن وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال: يا بني! إن لك بيتاً غائباً، وبيتاً شاهداً، فلا يشغلنك بيتك الشاهد عن بيتك الغائب.

    المقام الطويل إنما يكون بعد الموت، والرحلة الطويلة إنما تبدأ بفراق هذه الدنيا، وهناك يظهر لك جلياً أثر هذا العمل.

    كما قال أحد الحكماء وهو يتكلم عن عقل ابن آدم حينما يضعف فيقول وهو يخاطب هذا الإنسان: لابن آدم بيتان: بيت فوق الأرض، وبيت تحت الأرض، فعمد إلى البيت الذي فوق الأرض فحسنه، وجمله، وزخرفه، وأصلحه، وجعل له أبواباً إلى الشمال وأبواباً إلى الجنوب، وأصلح فيه ما يصلح فيه صيفه وشتاءه، ثم عمد إلى بيته الذي تحت الأرض، فخربه وأفسده، فقيل له: كم تمكث في هذا البيت الذي أصلحته فوق الأرض؟ قال: لا أدري، يعني: ربما يكون يوماً، وربما عشرين سنة، وربما خمسين سنة لو طال الأمل، كم تمكث في هذا البيت الذي أصلحته فوق الأرض؟ قال: لا أدري، قيل له: كم تمكث في البيت الذي أفسدته تحت الأرض؟ قال: ذاك مقامي الطويل، يعني: المقام الطويل إنما يبدأ بفراق هذه الدنيا، والدخول في القبر، فقيل له: كيف تقر على نفسك وأنت الإنسان العاقل. يعني: الإنسان العاقل هو الذي يصلح البيت الذي يطول فيه المقام، يطول فيه البقاء، ولذلك سمى الله عز وجل إصلاح العمل للقبر حتى تستأنس به في قبرك، سمى هذا العمل مهاداً، قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:44] المهاد يعني: الفراش، عملك الصالح هو فراشك في قبرك، وهو لحافك الذي تلتحف به، وهو جليسك الذي تأنس به، وبالضد من ذلك العمل الطالح، فإنه عذاب ونكال على صاحبه.

    وقد جاء في الحديث أن ابن آدم إذا وضع في قبره أحاطت به أعماله من جميع جهاته، فكانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخير والإحسان إلى الناس عند رجليه، هذا هو العمل: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:44].

    العمل الصالح هو لب هذا الكون، من أجله خلق الله الأرض بمن فيها، والسماء بمن عليها، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[هود:7]، جعل الله عز وجل الخلق أجيالاً متعاقبة، أمة تخلف أمة، والحكمة في ذلك قال: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]، لهذا العمل خلق الله عز وجل الأرض والسماء، والآدمية وغيره، وخلق الجنة والنار، والموت والحياة: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك:2]، من أجله خلق الله الأموال والثروات، والبنيان، والأوطان، من أجل العمل: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، لا يريد الله عز وجل من هذه الدنيا شيئاً غير الركوع والسجود، والتسبيح، والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة دين الله، فإذا انتهى هذا من هذا الوجود أقام الله القيامة، وآذن بخراب هذا العالم، فتقوم الساعة حين لا يبقى على الأرض من يقول: الله الله.

    إذا عدم العمل الصالح فلم تبق ثمت حكمة لبقاء هذا الكون، من أجل هذا العمل، من أجل الركعات والسجدات، والتسبيحات، والتهليلات، والصدقات، من أجل هذه الصالحات خلق الله عز وجل هذا الخلق بما فيه.

    1.   

    بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بعشر ذي الحجة

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    عدم أخذ المضحي شيئاً من شعره إذا دخلت العشر

    إخوتي في الله! من الأحكام الفقهية في العشر من ذي الحجة: عدم أخذ المسلم المضحي لشيء من شعره أو من أظفاره إذا دخل شهر ذي الحجة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً )، هذا الحديث يتكلم عمن يريد الأضحية، والأضحية هي ما يذبح في أيام الذبح من أول أيام النحر وهو يوم العيد إلى ثالث أيام التشريق، ابتغاء التقرب إلى الله تعالى بالذبيحة في سائر الأمصار، وليس في مكة، أما ما يذبحه الناس في مكة فهو الهدي، فمن كانت له أضحية يريد أن يذبح فقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يأخذ شيئاً من شعره أو من أظفاره، لكن جاء حديث آخر عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل بالهدي إلى مكة، ثم لا يحرم عليه شيء مما يحرم على الحاج)، يعني: كان يبعث بالهدي، ومع ذلك يقص ظفره، ويقص شعره، ولا يحرم عليه ما يحرم على الحجاج.

    وهذا فيه دلالة على أن الهدي هو ما بعث به الإنسان من بلده. وأكثر العلماء يقولون: الهدي مثل الأضحية في هذا الحكم، فاستدل به أكثر أهل العلم على جواز أخذ الشعر والظفر في أيام ذي الحجة، ولكن الأولى للإنسان أن يتجنب ذلك، أما فقهاء الحنابلة فوقفوا عند الحديث الأول، وقالوا: من كانت له أضحية فلا يجوز له أن يقص شعره، ولا أن يقص ظفره في العشر من ذي الحجة، عملاً بالرواية الأولى. والأحوط للإنسان اجتناب مواطن الخلاف بين أهل العلم، فيتجهز إذا أراد أن يأخذ شعره أو أظفاره قبل ذلك، فإذا أهل هلال ذي الحجة أمسك عن ذلك حتى يذبح ما يريد ذبحه.

    من أحكام الأضحية

    الحكم الثاني: الأضاحي: الأضاحي من أجل الأعمال التي تقرب إلى الله، وهي مستحبة في قول جماهير العلماء وليست بواجبة، فمن ضحى أجر، ومن لم يضح فلا إثم عليه، ولكن لا ينبغي للإنسان الواجد القادر على الأضحية أن يتراجع أو يكسل عن هذا العمل الجليل، وإذا أراد الإنسان أن يضحي فعليه أن يختار ما يجزئ في الأضحية، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربعة عيوب لا تجزئ معها الأضحية: (المريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقي)، وألحق بها العلماء كل العيوب التي تنقص من الذبيحة، كالعماء، أو نقص بعض الأجزاء منها، أو نحو ذلك، فيتخير الإنسان أطيب ما يجد ليتقرب به إلى الله.

    ومن أحكام الأضحية: تحري سن الأضحية، فإنه لا يجزئ إلا ما بلغ ستة أشهر فصاعداً من الضأن، أو سنة فما زاد من المعز، أو سنتان فأكثر من البقر، أو خمس سنين فأكثر من الإبل، وإذا ضحى المضحي بدون هذا السن إنما هو لحم قدمه إلى أهله.

    ومن أحكام الأضحية: أنها لا تذبح إلا بعد صلاة العيد، فإذا ذبح الإنسان قبل صلاة العيد فإنما هو لحم قربه إلى أهله.

    والأضحية ينبغي أن تكون في البلد الذي يوجد فيه جسد المضحي، لكن إذا دعت الحاجة إلى أن يضحي في بلدان أخرى كحاجة المسلمين وفاقتهم فلا مانع من إرسال الأضاحي إلى غيرهم.

    ومن أحكام الأضحية: الأضحية عن الميت، فقد اختلف العلماء في مشروعية التضحية عن الميت، هل تشرع أو لا تشرع؟ وأكثر أهل العلم -فيما أحفظ- على مشروعيته، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ضحى عنه وعن أمته، يعني: من وجد منهم ومن لم يوجد، عليه صلوات الله وتسليماته.

    ومن أحكام الأضحية أيها الأخ الكريم! أن تهتم بأن توزع بعضها وتهدي بعضها، وتأكل بعضها، ولا حرج في أن يأكل الإنسان جميع أضحيته، أو يتصدق بجميعها، أو يهدي جميعها، لكن السنة جرت على أن يهدي منها، ويأكل، ويتصدق، والإهداء يكون للأغنياء، والصدقة تكون للفقراء، والأكل له ولأهل بيته.

    ومن أحكام الأضحية: أن يعلم الإنسان بأن صحابة رسول الله كان الواحد منهم يضحي عنه وعن أهل بيته، كما قال أبو أيوب : كان الواحد منا يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، حتى أصبح الأمر كما ترى. يعني: تفاخر بعض الناس وزادوا، وكان صحابة رسول الله يضحون بالشاة الواحدة عن الواحد منهم وعن أهل بيته.

    ولأهل العلم كلام طويل في من هم أهل البيت الذين يضحي عنهم الإنسان وتكفيهم أضحيته عنه وعن أهل بيته، وأقوى الأقوال وأكثرها شهرة: أن أهل البيت هم الذين ينفق عليهم الإنسان ولو تبرعاً، فكل من كنت تنفق عليه طوال الأيام فهذا من أهل بيتك، وإذا ضحيت عنه كفته أضحيتك، وسقط عنه طلب الأضحية بتضحيتك أنت. أما إذا اجتمع الناس في بيت واحد، ولكن انفردوا بالنفقات، فكان كل واحد ينفق عن نفسه، أو ينفق عن نفسه وعن أولاده، فتبقى الأضحية مطلوبة من كل منفق على كل أسرة، فأهل البيت من يدخلون في نفقته.

    والأضحية كغيرها من الأعمال، عبادة تقرب إلى الله، فحقها أن يخلص فيها الإنسان لوجه الله، وأن يؤديها على ما شرع رسول الله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه، ووافق شرعه.

    نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة

    ومن رحمته سبحانه أن جعل أياماً ومناسبات يتضاعف فيها الأجر، وتزيد فيها الحسنة، ويعظم فيها الثواب، رحمة بالعبد، ورفقاً به، ولطفاً بحاله، فإنه يحتاج إلى الكثير حتى يرث جنة الفردوس التي قال الله عز وجل عنها: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، بمثقال الذر ينال الإنسان نعيماً لا يبيد، وبمثقال الذر يتصلى الإنسان ويتقحم ناراً وقودها الناس والحجارة، الأعمال الصالحة وحاجتنا إليها قضية أبدى القرآن فيها وأعاد، حديث القرآن كله عن العمل الصالح: إما حديث عن العقائد وما تضمره القلوب من الإقرار بالتوحيد، ومعرفة الله، والشهادة له بالوحدانية، وإما حديث عن أعمال اللسان، وإما حديث عن الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والهجرة في سبيل الله.

    عمل الإنسان هو موضوع القرآن، يعرفه الله بالإله المعبود الذي يعمل له، ويعرفه مراضي هذا الإله المعبود، ما الذي يقربه إليه، وما الذي يبعده عنه؟ هذا هو موضوع القرآن، هداية للناس.

    مضاعفة الحسنات في عشر ذي الحجة

    نحن نستقبل أياماً تضاعف فيها الحسنات، كما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: ( ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بأهله وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ).

    العمل الصالح في هذه العشر بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من العمل في سائر أيام السنة، إلا حالة واحدة فقط وعمل واحد لا يفضله عمل، ولا يزيد عليه عمل، وهو: أن يخرج الإنسان مجاهداً باذلاً نفسه وماله، ثم يتلف المال ويموت هو، فلا يرجع من ذلك بشيء، فهذا عمل لا يفضله شيء، ولا يزيد عليه شيء.

    العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أحب إلى الله من العمل في سائر الأيام )، ومعنى: (أحب إلى الله)، هو ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى عند البيهقي قال: ( ما من عمل أزكى )، يعني: أكبر وأعظم، وأطهر وأطيب، ( ما من عمل أزكى ولا أعظم أجراً من العمل في عشر ذي الحجة )، العمل في عشر ذي الحجة أزكى الأعمال وأطيبها، وأعظمها ثواباً وأجراً، والسعيد منا من بلغ هذه الأيام ووفق لأن يجاهد نفسه في عمل ينفعه عند الله، وإلا فعيش الإنسان بلا عمل إنما هو استكثار من حجج الله سبحانه وتعالى عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة ).

    الترغيب في استغلال عشر ذي الحجة بالأعمال الصالحة

    مرور الأيام حجة عليك، تعاقب السنوات إعذار من الله إليك، إما إن تتدارك، وإما أن تعيش سادراً في غفلتك، كما قال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً[الفرقان:61-62]، ليل يذهب، ويأتي النهار، ونهار يذهب ويأتي الليل، الليل والنهار خلفة: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]، إذا فاتك شيء من عمل الليل فبادر بإصلاحه في النهار، وكذا إذا فاتك شيء من عمل النهار بادر إلى إصلاحه في الليل، وكن على ثقة بأنك ربما تمسي ثم لا تصبح، وربما تصبح ثم لا تمسي، والله عز وجل يخبر عنه نبيه بأنه (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل): خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].

    ومن حكمة الله أن جعل هذه المواسم مفرقة، ليست متوالية في زمن واحدٍ من السنة، فيأتي رمضان فيتزود الموفق منه ما قدر الله له، ثم يذهب، وتجيء عشر ذي الحجة بما فيها من الفضائل ثم تذهب، ويأتي محرم بما فيه من الفضائل ثم يذهب، وهكذا تتوالى الأيام ويأتي يوم الجمعة، وتتوالى ساعات الليل وتأتي الساعات الأخيرة منه، ويطلع النهار وفيه أول الساعات أعظمهن بركة فيه، حتى يأخذ الإنسان لنفسه ليس لغيره: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا[فصلت:46].

    هذه الصحيفة التي نعمرها اليوم نخطها نحن بأعمالنا، أعمالنا تكتب، الجليل منها والصغير، العظيم منها والحقير: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، هذه الصحيفة توضع لكل واحد منا يوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا[آل عمران:30]، سيقف كل واحدٍ منا على حصيلة عمله، وسيقرأ صحيفته بنفسه، كما قال أحد الحكماء: قد أنصفك من قال: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]. تدفع إليك الصحيفة، أنت تقرؤها، وأنت تحاسب نفسك بنفسك: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، حينها يقول المجرمون، يقول المسرفون، يقول المفرطون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، كل ما نعمله سنقف عليه، فالسعيد من عمر هذه الصحائف بمرضاة الله، والشقي: من شغله الأهل، من شغله المال، من شغلته النفس عن الاستعداد للقاء الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

    نوعية الأعمال الصالحة من عشر ذي الحجة

    هذه العشر حقها يا مؤمن يا حريص! أن تغتنم بما ينفعك عند الله، فربما لا تعود عليك ثانية.

    الأعمال الصالحة فيها كثيرة، وأحب العمل إلى الله وأقربه إليه: أن يبادر الإنسان بأداء ما افترض الله عز وجل عليه، هكذا قال الله في الحديث القدسي: ( وما تقرب إليّ عبدي بأفضل مما افترضته عليه )، حاسب نفسك على الفرائض، الصلوات الخمس، والزكاة إن كانت عليك زكاة، وهكذا سائر الفرائض، ابدأ بفرائض الفعل والترك، فهناك فرائض أوجب الله عز وجل عليك أن تجتنبها، حاسب نفسك: هل وقفت عند حدود الله؟ هل تجنبت ما حرم الله؟ هل اعتزلت ما حظر الله؟ أم أنك والغ فيه، متجاوز لحدود الله، فتب وسارع بالتوبة.

    ( وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه )، ثم بعد ذلك تأتي النوافل: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )، حفظه الله من جميع منافذه، وفي جميع جوارحه، حينما استكثر من الأعمال النافلة، ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ).

    حب الله إنما ينال بالعمل الصالح، ليس بيننا وبين الله قرابة ولا رحم، إنما نتفاضل عنده بأعمالنا: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].

    ولما تفاخر بعض الناس بأموالهم، وظنوا بأن الله سيحسن إليهم في الآخرة كما أحسن إليهم في الدنيا، وأنهم سيوسع عليهم في الآخرة كما وسع عليهم في الدنيا، قال لهم: لا، ليست الأمور هكذا، هذه الدنيا نعطيها للبر والفاجر، ونمنحها المؤمن والكافر، نعطيها من نحب ومن لا نحب، أما الآخرة فلا نقرب إلا من نحب، قال لهم سبحانه وتعالى في سورة سبأ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ:37]، القربى بيننا وبين الله الإيمان والعمل الصالح، الشريف عند الله هو صاحب الإيمان، المعظم عند الله هو صاحب الأعمال الصالحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه )، النسب يوم القيامة لن يفيدك شيئاً، وثراء الدنيا ومقامك الرفيع فيها لن يغني عنك يوم القيامة من الله شيئاً، إنما تنفعك أعمالك التي قدمتها: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، هذا هو ميدان التسابق، هذا هو ميدان التفاخر، ولا فخر إلا بما يقدمه الإنسان مما يرضي ربه.

    هذه الأيام هي أيام العمل، أيام التنافس، فليس من العقل ولا من الحكمة أن تكون كغيرها من الأيام.

    من أحوال الصالحين في عشر ذي الحجة

    كان الصالحون من قبلنا إذا دخلت عليهم العشر تغيرت أحوالهم، فهذا سعيد بن جبير أحد رواة الحديث: كان إذا دخلت عليه العشر يجتهد اجتهاداً حتى لا يقدر على مثله، يسابق حتى لا يستطيع أحدٌ من الناس ممن هو في عصره أن يلحق به وأن يسابقه.

    وكان الحسن يوصي الناس، فيقول لهم: لا تطفئوا مصابيحكم في عشر ذي الحجة، أيقظوا النائم، وأوقدوا المصابيح، وأشعلوا الأنوار، وأحيوا البيوت بذكر الله في عشر ذي الحجة، فهي أفضل أيام السنة، أعظم الأيام عند الله عشر ذي الحجة، وأعظمها يوم النحر، ثم يوم القر كما جاء في ذلك الحديث، يوم النحر ويوم الحادي عشر، ويوم التاسع أعظم الأيام عند الله، كيف يليق بك أن تعرض عن شيء فضله الله عز وجل على غيره من المخلوقات، وبلغك إياه، ومنحك الفرصة حتى تصل إليه، من أعرض فإنما يعرض على نفسه.

    الأعمال الصالحة في هذه الأيام كثيرة: الصدقات في ظلها يتظلل الإنسان يوم القيامة، ومن أفضلها: الصدقة في هذه الأيام.

    أفضل الأعمال في عشر ذي الحجة

    وذكر الله أفضل الأعمال وأجله، ومن أجله شرعت سائر العبادات، من أجله شرع الله الصلاة، كما قال تعالى: ((إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ))[العنكبوت:45]، أكبر ما في الصلاة أن فيها إقامة لذكر الله، وكما قال الله في سورة طه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، والحج شرع لإقامة ذكر الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله )، من أجل ذكر الله شرع الله عز وجل الشرائع، وألزم الفرائض والواجبات، وهذه الأيام هي أفضل الأيام لذكر الله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( فأكثروا فيهن من التهليل، والتحميد، والتكبير )، أو كما قال عليه الصلاة والسلام: ( أكثروا فيها من تهليل الله )، فأفضل ما قال الإنسان: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )، و ( من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له في الجنة نخلة)، و(كلمتان ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، و(من صلى على رسول الله مرة صلى الله عليه بها عشراً)، ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له في اليوم مائة مرة كتبت له من الحسنات ما لا يحصيه إلا الله، فباب الذكر واسع، فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد والتكبير.

    فهم السلف هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشغلوا أوقاتهم في أسواقهم، في مجالسهم، في طرقهم، شغلوا لحظاتهم بالتكبير والتهليل، فكان أبو هريرة و ابن عمر وغيرهما من الصحابة يخرجون إلى الأسواق في عشر ذي الحجة فيرفعون أصواتهم بالتكبير، حتى يكبر السوق كله بتكبيرهما، فيرتج السوق بالتهليل والتكبير.

    هذه هي أيام الذكر، فمن العيب على هذا الإنسان أن يصيرها أيام غفلة.

    هذه الأيام شرع الله عز وجل فيها الحج وهو ركن الإسلام الخامس، وشرع فيها الأضاحي وهي مما يقرب إلى الله زلفى، قال سبحانه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وهدد النبي صلى الله عليه وسلم وعنف من كان يجد سعة ثم لا يضحي، فقال: ( من كانت له سعة ثم لم يضح فلا يقربن مصلانا )، الصلوات الخمس أجل الأعمال وعمود الإسلام، علينا أن نحاسب أنفسنا عليها بأدائها في وقتها، بركوعها وسجودها، وإكمال خشوعها وطهارتها، وأن نأمر بها الأبناء والبنات في البيوت، وهكذا سائر العمل.

    نسأل الله أن يقربنا إليه زلفى بأعمالنا، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا.

    اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756612833