إسلام ويب

الغيرة على الوقتللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القرآن والسنة وآداب الشريعة وأحكامها كلها توحي بأهمية استغلال الوقت في النافع والمفيد، والتحذير من ضياعه فيما لا ينفع المسلم في دينه ودنياه، وهو مطالب بالغيرة على الوقت كنعمة يحصل فيها الكثير من التهاون والغفلة، خاصة عند حلول الإجازات الصيفية للأبناء.

    1.   

    خلق الغيرة

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! توقفنا مع موقف من مواقف نبي الله سليمان عليه السلام، قال الله عز وجل عنه في وصف ذلك الموقف: فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:33]، لكن ما السبب الباعث لهذا النبي الكريم على اتخاذ هذا القرار، لماذا ذبح تلك الخيل وعقرها؟

    إن الباعث لذلك غيرته عليه السلام على ما مضى من وقته، لقد أخذته الغيرة لساعات من عمره ذهبت وهو يتمتع بالنظر إلى المال، واشتغل بها عن ذكر الله، فبعثته الغيرة على الانتقام، فانتقم من تلك الخيل بأن ذبحها وتصدق بها وجعلها سبباً للقربة.

    حديثنا اليوم عن هذا النوع من الغيرة، الغيرة خلق محمود، وأصحابها أصحاب الجنان، ومن فقدت الغيرة من قلبه فهو ميت القلب.

    ونحن إذا تحدثنا عن الغيرة فإن كثيراً من الناس إنما يتبادر إلى أذهانهم الغيرة على الأعراض، الغيرة على النساء، وهذه غيرة محمودة، من فقدها فإنه محروم من دخول الجنة، إما أولاً وإما مؤبداً بحسب حاله، قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عمن فقد الغيرة على نسائه: ( لا يدخل الجنة ديوث )، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما يبين فيه عليه الصلاة والسلام خلق الغيرة.

    الغيرة عبارة عن تغير في القلب، يتغير القلب ويثور حين يجد الإنسان أن شيئاً عزيزاً نفيساً عليه سلب، أو أن شيئاً نفيساً عليه نافسه فيه غيره، وحاول غيره أن يعتدي عليه، هذا معنى الغيرة في حق الإنسان.

    الغيرة خلق محمود، وهي تكون على الأموال، وتكون على الأعراض، وهناك غيرة هي أعز من ذلك كله: الغيرة على الأعمار، الغيرة على الأوقات، الغيرة على الأنفاس أين تذهب وفيما تقضى.

    في الحديث الصحيح يبين عليه الصلاة والسلام بأن الغيرة خلق الأنبياء، بل هي خلق من أخلاق الله، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أصحابه ويبين لهم بأن الرجل إذا وجد امرأته تفعل الفاحشة والعياذ بالله، فعليه أن يأتي بشهود، فقال سعد رضي الله تعالى عنه: أذهب وآتي بالشهود؟ يعني: هل لدي من الصبر ما يمكنني من أن أتغاضى عن هذا وأذهب فأجي وأطلب الشهود ليشهدوا ويروا؟ لا والله، لأغرسنه في صدره حتى أوصله إلى بطنه، يتحدث عن سيفه، فضحك الناس بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: ( أتعجبون من غيرة سعد ؟ فوالله إني لأغير منه، والله أغير مني ).

    الغيرة خلق الكرماء، خلق الشرفاء، حينما ينزل الإنسان إلى سفاسف الأمور فلا يبالي بالنفيس، لا يبالي بالعزيز، لا يبالي بالغالي، لا يبالي بعرضه، لا يبالي بماله، لا يبالي بعمره، هذا خلق من أخلاق الانتكاسة في القلب.

    1.   

    حقائق مهمة عن الوقت

    نتحدث عن الغيرة وأهم أنواع الغيرة: الغيرة على الوقت، الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم سماه (مدارج السالكين) الناس في طريقهم من هذه الدنيا إلى جنة الله، ينزلون بمحطات، محطات معنوية ليست محطات حسية، منازل هذا الطريق .. محطات هذا الطريق الذي تمضيه أنت وتقطعه من أول رحلتك إلى خاتمتها .. هذه الطريق الطويلة فيها محطات، ذكر من أهم هذه المنازل منزلة الغيرة، أن يتمتع الإنسان بغيرة، لكن غيرة على وقته، غيرة على عمره، فيستشعر الأسف والندم على ما فات من الوقت من غير منفعة، ويعزم على استغلال ما بقي من العمر، الغيرة على الوقت، هذه أهم ما ينبغي أن نحييه في قلوبنا.

    منازل الناس تجاه استغلال الوقت والتفريط فيه

    أيها الإخوة! لما نتكلم عن الغيرة ينبغي أن نذكر بحقائق مهمة، أول هذه الحقائق: أن ندرك جيداً أن الناس يوم القيامة يتفاوتون في منازلهم، وينقسمون في مصائرهم إلى أبرار وفجار، إلى منعمين ومعذبين بسبب ما شغلوا به هذه الأوقات، هناك فريقان من الناس يوم القيامة: فريق يوبخ، وفريق يمدح ويثنى عليه، أما الفريق الذي يوبخ فيقال له بكلمة واحدة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]، أي: متعناكم، وطولنا في أعماركم، وأمددناكم بالسنين، وأعطيناكم أعماراً طويلة، يتمكن الإنسان فيها من التذكر ومن الاتعاظ والاعتبار، فإذا مضى عليك يوم جاء بعده ليل، وإذا ذهب ذلك الليل جاء بعده ليل، وإذا ذهب ذلك الليل جاء بعده نهار آخر، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]، (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، وهذه الحكمة من تعاقب الأوقات: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]، وحينما يغفل الناس عن هذه الحقيقة يوبخون بهذا التوبيخ يوم القيامة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]، ضاعت الأعمار، يتمنون الرجوع ولكنهم لا يعطون هذه الأماني.

    وفي المقابل فريق آخر ينعم بالكلام كما ينعم بالنعم الظاهرة الحسية، فهو يتقلب في نعم الله، ويتمرغ في عطايا الله، في جنة الله، ومع هذا يقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، هذا الذي تتقلبون فيه اليوم إنما هو ثمرة لما قدمتموه ولما ملأتم به الأيام الخالية، الأيام والليالي الفائتة التي مضت عليكم ومرت عليكم في الدنيا: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].

    إذاً: الناس لا يخرج الواحد منا عن أن يكون مع أحد هذين الفريقين: إما ممن يوبخ بسبب عمره ووقته، وإما ممن ينعم بسبب استغلاله عمره ووقته.

    الوقت أمانة

    هناك حقيقة مهمة أخرى، وهي: أن يتذكر الإنسان بأن ليله ونهاره وساعته من جملة الأمانات التي وكل الإنسان بحفظها، وائتمنه الله عز وجل عليها، وهو محاسب ومسئول عنها، الوقت ليس ملكاً لك، تتصرف فيه كما تريد، وتنفقه حيث تشاء، الليل والنهار ليس ملكاً لك تتصرف فيه كما تريد، هذه حقيقة ينبغي أن تتذكرها دائماً، وأنت مسئول عن هذه الأعطية التي أعطاك الله عز وجل إياها، وفي الحديث العظيم: ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه )، فالوقت أخذ سؤالين من الأسئلة الأربعة الأساسية، فهو يسأل الإنسان عن عمره كله، ثم يسأل سؤالاً آخر عن فترة الشباب خاصة، (وعن شبابه فيما أبلاه)، أنت ستسأل عن الليل والنهار، أين أمضيت نهارك، وأين قطعت ليلك، ليس باختيارك، ليس كما ترى الإعلانات التي تعلق على الشوارع: صيف كما تحب، أو صيفك كما تريد، لا، أنت مسئول عن عمرك، وينبغي أن تعد لنفسك جواباً عن هذه الأسئلة حين تسأل عنها، أين قطعت الليل والنهار.

    خصائص وصفات الوقت

    أيها الإخوة! من الحقائق المهمة أن يتذكر الإنسان خصائص الوقت، وصفات الوقت.

    الوقت سريع الانقضاء، سريع الذهاب، يذهب منك وأنت لا تشعر به، صحيح أن بعض الناس يشعر بطول الوقت لأسباب عارضة، ليس لأن تلك هي الحقيقة، يشعر بأن الوقت طويل إما لأنه يعيش هموماً، والهموم تطول القصير من الأزمان، وفي المقابل السعادة والفرح والسرور يشعر الإنسان بأن السنوات الطويلة ما هي فيه إلا أيام، هذه عوارض لكنها ليست الحقيقة، الحقيقة أن الزمن سريع الانقضاء، سريع الذهاب، فالليل والنهار يمشيان ويجريان جرياً، فهل تذكرت هذه الحقائق وبادرت إلى العمل في الليل والنهار.

    من الحقائق المهمة أن الليل والنهار يعملان فيك أيها الإنسان، فإن الليل والنهار يقربان الشيء البعيد، ويبليان الشيء الجديد، وكما قال الشاعر:

    إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أدنياه للبلا

    أنت بالأمس شباب واليوم شيخ، وغداً ستكون في جملة الأموات، الليل والنهار يعملان فيك، ينحتان من قوتك، ويأخذان من صحتك، ويأخذان من حواسك، فإن لم تعمل فيهما أنت فإنهما يعملان فيك، ولذلك قال بعض الحكماء: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

    ومن الوصايا العظيمة التي رويت عن عيسى عليه السلام أنه قال: الليل والنهار خزانتان، فلينظر كل واحدٍ منكم بم يملأهما. هذه الخزانة بماذا تملأها أنت، ستفتح هذه الخزانة يوماً ما، وسيبعثر ما فيها، وسيخرج كل ما فيها، فأنت تتفكر لنفسك بماذا ملأت هذه الخزائن؟ وبماذا استعددت للقاء الله تعالى؟

    الوقت لا يعود

    أيها الإخوة! من الحقائق المهمة التي ينبغي أن نتذكرها دائماً ونحن نعيش مع الوقت: أن الوقت الذاهب منه لا يعود، وما ذهب منه لا يمكن أن تعوضه مهما بذلت في سبيل تعويضه، ولذلك يقول العلماء: شغل الأوقات بالحسرات على ما مضى من الأوقات آفات، لا تشغل نفسك بالحسرات على ما مضى من الأوقات فإن الوقت الماضي لا يعود، الوقت الذي ذهب لا يمكن أن يسترجع.

    ومن الحكم التي دارت على الألسنة قول الناس: الوقت من ذهب، والحقيقة كما يقول العلماء: الوقت أغلى من الذهب، الذهب إذا فات يمكنك أن تشتري منه أضعافَ أضعافٍ، قد تكون اليوم فقيراً فيخرج ما في يدك من المال، ثم يتغير الحال عن قريب فتصبح من أثرى الناس، أما الوقت فما ذهب منه لا يمكن أن يستعاض، ولا يمكن أن يشترى، ولا يمكن أن يعود، والناس لا يعرفون هذه الحقيقة، الناس لا يعيشون هذه الحقيقة إلا في حالتين: في موقفين يتبين للإنسان أهمية الدقيقة الواحدة، يتبين للناس أهمية اللحظة الواحدة، وفي الوقت ذاته يتبين له أنه لا يستطيع أن يعطي نفسه دقيقة واحدة ولو بذل ماله كله، الموقف الأول: حين تأتيه ملائكة الموت لقبض روحه، ويتمنى حينها أن يمهل لحظة ليعمل عملاً صالحاً، فيقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] والجواب: كَلَّا [المؤمنون:100] أي: ليس لك ذلك: إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، حين يأتيه ملائكة الموت يقول كما قال الله في آخر سورة المنافقون: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون:10] أريد أن تؤخرني إلى أجل وليس إلى أجل طويل، وليس إلى أجل بعيد، أريد أن أؤخر لحظة واحدة إلى أجل قريب: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ[المنافقون:10].

    والجواب: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، لو يتمنى الإنسان يوم القيامة أن يبذل ما في السماء وما في الأرض ذهباً وفضة، من أجل أن يعطى عمراً لينفقه في الأعمال الصالحات، فإن هذه الأماني باطلة، لن تستجاب له.

    هذه حقيقة مهمة: ما ذهب من الوقت لا يعود، ما مضى من الوقت لا يمكن أن يسترجع، وكم قرأنا وسمعنا الأدباء وهم يتألمون ويتأسفون على ما مضى من الشباب:

    ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

    لكنه لا ولن يعود أبداً، ما ذهب من الوقت ذهب، فبادر أنت قبل أن يذهب منك ذلك الوقت، وقبل أن تفوت عليك تلك الدقائق والساعات واللحظات.

    الوقت عمار أو دمار

    أيها الإخوة! الوقت عمار أو دمار كما قال العلماء، عمار تنتج به خير الدنيا والآخرة، أو دمار تجني به لنفسك الخسار والحسرات والندامة حين لا ينفع الندم، الساعات والليل والنهار مراحل تقطعها، والغاية التي تصل إليها: إما الجنة وإما النار، وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بقوله في الحديث العظيم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، الغبن هو البيع بخسارة، لو أن أحدنا باع مالاً نفيساً بسعر بخس زهيد، لاتخذه الناس أضحوكة المجالس، ولكن الناس لا ينكرون ولا يستأنفون ولا يتألمون، ولا يعيبون من يرونه سفيهاً في عمره يمضي ليله ونهاره في غير ما خلقه الله عز وجل له.

    1.   

    استغلال وقت الإجازة

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    حاجة الإنسان إلى الراحة

    إخوتي في الله! الدافع إلى اختيار هذا الموضوع والتكلم إليكم بهذا الحديث إنما هو ما نقبل عليه من زمن الإجازة وقت الفراغ، وكثير منا ينظر إلى أوقات الإجازة على أنها أوقات فراغ، والحقيقة أن المسلم ليس في وقته فراغ، المسلم مشغول دهره، مشغول عمره بما ينفعه! صحيح أن المسلم ينبغي له أن يتقلب بين أوقات الجد وأوقات الراحة، وهذه سنة الله في الخلق، فإن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى أوقات الراحة، ومن حكمة الله أن جعل لنا النوم قطعاً لأوقات العمل، قطعاً لأوقات الجد كما قال سبحانه وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا [النبأ:10]، وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47]، وَالنَّوْمَ سُبَاتًا [الفرقان:47] والسبت يعني: القطع، فالإنسان يحتاج إلى ساعات يقطع فيها الجد، ويقطع فيها العمل، ويخلد فيها إلى شيء من الراحة، ومن حكمته: أن جعل ساعات النوم لتحقيق هذا المقصود.

    الإنسان لا يمكن أن يمضي عمره كله جداً، ولا يمكن أن يمضي ساعاته كلها إنتاجاً، فهو يحتاج إلى ساعات الراحة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الإنسان تغير أحواله، وأنه في حال يتغير به عن حال سبق، جاء إليه الصحابة حنظلة و أبو بكر ، وكان حنظلة يحضر مجالس النبي عليه الصلاة والسلام فيسمع وصف الجنة والنار والدار الآخرة، فكأنه يعيش في تلك الدار، فإذا خرج من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم قال: وعافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، خالطنا النساء والأموال تغيرنا، فشكوا هذا إلى رسول الله، فقال لهم: ( لو أنكم تدومون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على الطرقات، ولكن ساعة وساعة )، هذه طبيعة الإنسان لا يمكن أن يدوم على ساعةٍ واحدة، الإنسان بحاجة إلى ساعات الراحة ليقطع ساعات الجد والعمل والجهد، ولكنه بحاجة ماسة أيضاً إلى أن يتدبر ويتفكر كيف يمضي ساعة الراحة، بماذا يمضيها؟

    كثير من الناس يعاني ما يعاني من الأمراض بسبب الراحة، وكثير من الناس يعيش أنواعاً من الهموم وأنواعاً من القلق وحالة نفسية متدنية بسبب الفراغ؛ لأنه لا يجد العمل.

    شغل الفراغ بالنافع والمفيد

    من أعظم النعم أن يمن الله عز وجل عليك بشيء نافع تملأ به وقتك، وتطرد به السآمة والملل على نفسك، حتى المفكرين، المفكرون الغربيون الذين لا يعرفون الإسلام يتكلمون عن حقيقة نفسية موجودة لدى الناس، فهذا ديل كارنيجي يتساءل سؤالاً فيقول: الناس لا يزالون يتساءلون عن السر في أن الانهماك في عمل بسيط يطرد عن الإنسان السآمة والملل، لماذا يعيش الإنسان حالة من السعادة؟ ويطرد عن نفسه الهموم والسآمة حين يستغرق جهده ووقته في عمل وإن كان هذا العمل بسيطاً، ثم يجيب هو بنفسه، ويقول: إن السر وراء هذا أن الذهن البشري لا يمكن أن يشتغل بأمرين معاً في وقت واحد، وهذه حقيقة قرآنية، قال الله عز وجل عنها في سورة الأحزاب: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، الإنسان حينما يعيش فارغاً لا شيء يملأ به الوقت، لا شيء يشغل به الطاقة، فإنه سيقع في جملة من الآفات، كان يبغي لنفسه السلامة، يبغي لنفسه الراحة فوقع في شر مما فر منه، ولهذا نحن بحاجة أن نتذكر هذه الحقيقة أولاً لأنفسنا، وثانياً ونحن نعالج أبناءنا ونملأ أوقاتهم في ساعات الإجازة.

    علينا أن ندرك جيداً بأن الطاقة التي في الإنسان إذا استثمرت في الخير، وإذا استغلت في النافع فلن يجد الباطل سبيلاً، ولن يجد الباطل قوة، ولن تجد الرذيلة جهداً يستثمره الإنسان فيها، لكن حين يجد الباطل وقتاً فارغاً لدى الإنسان ماذا تريد منه، كما قال الشاعر:

    إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة

    إذا كان فراغ الفقراء فساداً فكيف بفراغ الأغنياء؟ إذا كان فراغ المعدم فساداً وهو لا يجد مالاً، ولا يجد آلات بين يديه، فكيف بفراغ الغني الذي يتمكن من شراء ما يريد، ويتمكن من استخدام ما يريد، وقد قال الحكماء قديماً: من الفراغ تأتي الصبوة. يعني: الزلة والخطيئة والجريمة إنما تنشأ من فراغ، فراغ الروح وفراغ الوقت، فإذا ملأه الإنسان بالخير، وسخر طاقاته، وسخر جهده في النافع فلن يجد الباطل بعد ذلك سبيلاً إلى حياته.

    أيها الإخوة! نحن بحاجة أن نتذكر هذه الحقائق ونحن نستقبل الإجازات الصيفية فنحاول ملأها بالنافع وطرد الضار.

    الواقع السيئ للأبناء في الإجازات

    كثير منا ونحن نكرر هذا في كل عام -لكن المكرر أحلى- يترك الحبل على الغارب لأبنائه أيام الإجازة الصيفية، وأمامهم شبكة النت يتصفح فيها ما يريد، وينظر فيها إلى ما يشاء، ويتواصل عبرها مع من يريد، فماذا تنتظر من شاب قد ملئ شهوة، وملئ حيوية، وملئ طاقة، وسخرت بعد ذلك أسباب المنكر، وسخرت أسباب المعصية بين يديه، ماذا تنتظر منه إلا أن يقع فريسة سهلة للرذيلة ولدعاة الرذيلة.

    نحن في الصيف نتغافل عن أبنائنا فيسهرون طوال الليل، فإذا جاء الصباح ناموا قبل الفجر ولا يستيقظون إلا بعد العصر، وكأنهم ليسوا من عداد المسلمين، ليست هناك صلوات مكتوبة، ولا فرائض محتومة، ليست هناك واجبات سيسألون عنها، بل وسنسأل عنها نحن.

    أبناؤنا في الصيف يتسكعون في الشوارع والطرقات يملئون الأسواق، وقد أثبتت كثير من الدراسات أن من أعظم الأخطار التي يتعرض لها الشباب خطر البلوتوث، يمشي في السوق فتأتيه الرسائل من اليمين ومن الشمال، فيقع فريسة سهلة لأعداء الفضيلة، يقع فريسة سهلة لدعاة المنكر، وأنت في غفلة عن ذلك كله، نحن لا نريد أن ننمي في النفس سوء الظن بالأبناء والبنات، لكن نريد أن نقيم في أنفسنا مراقبة الأبناء والبنات، فإنهم مسئولية في أعناقنا، نحن مسئولون عنهم، لا سيما وقد مكناهم من كل ما يريدون، وبذلنا لهم كل ما يحبون، وأعطيناهم كل ما يشتهون، سخرنا لهم كل الآلات، فحري بنا بعد ذلك أن نقوم عليهم بدور المراقب والمحاسب، والمربي، والمؤدب.

    وخير ما نشغل به أبناءنا الشيء النافع في دين أو دنيا، لا بأس من الترفه في الحلال، ولا بأس من التنعم في المباح، لا بأس من تغيير أجواء الجد والعمل والدراسة بسفرات، ويا ليت أن تكون سفرات في طاعة الله، يا ليت أن تكون في سفرات إلى بقاع تخلو من معاصي الله، لا بأس بذلك كله، لكن علينا ألا نغفل عن مهمتنا الأساسية وهي شغل أعمارنا بما ينفعنا عند الله.

    1.   

    محاسبة النفس على الأوقات

    أيها الإخوة! كثير من الناس يشكو من فراغ في وقته، ولو حاسب نفسه عن الواجبات التي كلفه الله عز وجل بها هل أداها؟ لوجد أنه مقصر فيها، ولو شغل نفسه بأداء هذه الواجبات لم يجد للفراغ بعد ذلك مكاناً، نحن بحاجة أن نحاسب أنفسنا، ونحاسب أبناءنا على الصلوات الخمس، هل صليناها في وقتها، هل أديناها في جماعة، هل أمرنا بها أهلنا وبناتنا في البيوت.

    نحن بحاجة أن نحاسب أنفسنا عن واجباتنا تجاه الآخرين، عن حقوق أبنائنا، وحقوق زوجاتنا، حقوق جيراننا، حقوق آبائنا وأمهاتنا.

    نحن بحاجة أن نحاسب أنفسنا عن حقوق وظائفنا وأعمالنا، وإذا ملأنا أوقاتنا بالسؤال عن الواجبات فلن نجد بعد ذلك وقتاً للبطالة، الموفق من سمع القول فاتبع أحسنه.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يستمع القول ويتبع أحسنه، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    ذكر الوقت والزمن في القرآن

    القرآن والسنة وآداب الشريعة وأحكامها كلها توحي إلينا بمباشرة وبغير مباشرة إلى ضرورة تقسيم الوقت وإجرائه وإمضائه فيما ينفعك عند الله.

    اقرأ آيات القرآن، فإن الله عز وجل في القرآن يقسم بالزمن على أنحاء متفرقة من الإقسام، مرة يقسم بالزمن كله، ليبين لك أهمية هذا الشيء المقسم به، المحلوف به، قال سبحانه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، (والعصر) يعني: والزمان، أقسم بالزمان كله لأهمية الزمان والعمر.

    ثم بعد ذلك يقسم بأجزاء من الوقت، مرة يقسم بالليل، ومرة يقسم بالنهار، ومرة يقسم بالضحى، ومرة يقسم بالفجر، ومرة يقسم بساعات السحر، فيقول: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:17-18]، وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2]، وَالضُّحَى [الضحى:1]، إلى غير ذلك من أنواع الإقسام في آيات الله؛ ليبين لك أهمية أجزاء الوقت، وأن الوقت مهما كان يسيراً فإنه عظيم، عظيم في جلب النفع لك، أو عظيم في جلب الضرر عليك.

    وفي آيات القرآن ما يخبرنا سبحانه وتعالى ويوحي إلينا بضرورة استغلال هذه الأوقات المتفرقة فيما يقربك إلى الله، فيقول في سورة الروم: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، (فسبحان الله) يعني: سبحوا الله، والمقصود عند كثير من العلماء: (فسبحان الله حين تمسون) حين تدخلون في وقت المساء، يعني: حين يدخل وقت الظهر، وَحِينَ تُصْبِحُونَ[الروم:17] يعني: وسبحان الله حين تصبحون، سبحوا الله حين تصبحون، (وعشياً) سبحوا الله وقت العشي وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:18]، هذه الأوقات المتفرقة ينبغي ملؤها بما ينفعك عند الله. وقال في آية أخرى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان:25-26] ويقول: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان:25] إلى غير تلك الآيات التي ينبه فيها سبحانه وتعالى إلى ضرورة اغتنام أوقات الليل والنهار بما ينفعك عند الله.

    وما لم يتذكر المسلم هذه الحقائق فإنه سيقع في الغبن الذي حذر منه المصطفى عليه الصلاة والسلام: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ).

    أنت أيها الإنسان لست بشيء إلا مجموعة من الأيام والليالي ركب بعضها على بعض، هكذا قال الحسن رحمه الله: الإنسان أيام وليال إذا ذهب يومه ذهب بعضه، أنت تذهب قليلاً قليلاً وشيئاً شيئاً فانظر كيف تذهب، وانظر كيف تنتهي، وإلى أين تصير.

    أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756946925