إسلام ويب

طرق الشيطان المريد في إضلال العبيد [2]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم وأشد طرق الشيطان لإضلال بني الإنسان: طريق الشرك والكفر بالله تعالى، وقد سلك الشيطان هذا الطريق لأنه أسهل طريق يوصل الإنسان إلى نار جهنم والعياذ بالله تعالى، وللشرك صور ومظاهر يزينها الشيطان للإنسان حتى يقع فيها، منها: عبادة الحجر والشجر ونحو ذلك من دون الله تعالى، ومنها: الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، والتحاكم إلى القوانين الوضعية التي تصادم شرع الله تعالى وتلغيه.

    1.   

    الصورتان الأساسيتان للكفر والشرك

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! الشرك والكفر مهما تعددت أصنافه وأنواعه له مظهران لا ثالث لهما، فلنفتش حالتنا في هذه الأيام: هل فينا مظهر الشرك الأول أو الثاني أو اجتمع الأمران؟ نسأل الله العافية وحسن الختام.

    شكل الكفر والشرك إما أن يكون بصورة ساذجة غبية، وإما أن يكون بصورة ماكرة رديئة، لا يخرج الشرك والكفر عن هاتين الحالتين وعن هاتين الصورتين:

    الصورة الساذجة: عبادة الحيوان والشجر والحجر ونحوها

    أما الصورة الساذجة الرديئة الغبية: أن يعبد الإنسان شجراً وحجراً وبقراً، وهذا كان يوجد في العصر الأول في الجاهلية الأولى قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، يخبرنا عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه في صحيح مسلم ، يقول -وهذا قبل أن يسلم-: (رأيت رجلاً من تيماء، وهو يهودي، فقلت له: إنني من العرب ونحن نعبد الأصنام، فقال له: إنه قد آن أوان بعثة نبي جديد يأتي بأفضل دين، فإذا أدركته فاتبعه، يقول عمرو بن عبسة : وكنا إذا سافرنا نأخذ أربعة أحجار فنضع ثلاثة للقدر -ليطبخوا الطعام على القدر وينصبوه على هذه الحجارة- ثم نعمد إلى الرابع فنعبده ونسجد له ). سبحان الله! أربعة أحجار، ثلاثة جعلوها تحت القدر، ورابع جعلوه إلهاً يسجد له ويعبد، يقول: ( فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما بعث وهو في مكة وما وصلت إليه إلا بكلفة وجهد؛ لأنه كان مختفياً عليه صلوات الله وسلامه، فسلمت عليه وقلت: من أنت؟ قال: أنا نبي، قلت: وما معنى النبي؟ قال: بعثني الله جل وعلا، قلت: بأي شيء بعثك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وعبادة الله وحده لا شريك له، فقلت: من معك على هذا الأمر؟ فقال: حر وعبد، وكان قد آمن به في ذلك الوقت أبو بكر وبلال فقط رضي الله عنهم أجمعين، فقلت: أكون معك؟ فقال: إنك لا تطيق هذا الأمر، فإذا سمعت بظهوري فهاجر إلي، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة هاجر إليه عمرو بن عبسة وقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الذي رأيتني في مكة، ثم كان بينهم ما كان رضي الله عنه ).

    هذا كان حال العرب إذا سافروا يلتقطون أربعة أحجار، ثلاثة منها يضعونها تحت القدر، والرابع يعبدونه من دون الله! وهذا كعب بن عجرة ، وهو من الأنصار، عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بقي هذا الرجل على صنمه وعلى وثنه يعبده من دون ربه، وما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان عبادة بن الصامت رضي الله عنه صديقاً لكعب، فلما خرج كعب من البيت دخل عبادة إلى بيت أخيه وصديقه كعب فكسر الصنم، فلما جاء كعب رأى صنمه وإلهه مكسوراً، ففكر بالأمر ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    وهكذا أبو رجاء العطاردي ، وهو من المخضرمين، أدرك الجاهلية وبعثة النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يؤمن به أيام بعثته، إنما آمن به بعد موته صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان مع قومه الذين يعبدون الحجارة والأوثان، يقول أبو رجاء العطاردي : كنت من العرب، وكان قومي شر قوم، فضاع صنمي، فالتمسته فما وجدته، فرجعت أبحث عنه وإذا به قد غيب في الرمل، أي: نزل وسقط في الرمل، فقلت: إله يتغيب في الرمل؟ إن العنز تستر حياها بذنبها، وأما هذا ما يستطيع أن يمنع نفسه من شيء؟ ثم بعد ذلك شرح الله صدره للإسلام وآمن بنبينا عليه الصلاة والسلام.

    هذه هي الصورة الأولى للشرك، صورة ساذجة، وهذه الصورة موجودة في هذه الأيام، أهلها يزيد عددهم على أربعمائة مليون في هذا الوقت يعبدون البقر، البشر يعبد البقر، فصورة الشرك الساذجة السطحية الرديئة الغبية الموجودة في هذا الوقت، أهل تايلاند يزيد عددهم على خمسين مليوناً يعبدون الأصنام، بوذيون، وفي معابدهم صورة الفرج وصورة الذكر يتمسحون بالذكر ويسجدون للفرج -فرج المرأة- من دون الله! هذا في تايلاند، وهكذا في أرجاء العالم، وهكذا في البلاد التي تدعي الإسلام في هذا الوقت، الشرك انتشر فيها بهذه الصورة الساذجة في كثير من الأماكن، عبادة القبور والطواف حولها والالتجاء إليها والتمسح بها والسجود لها، وقد رأيت بعيني -علم الله- في كثير من الأماكن من يسجد للقبر ويستدبر القبلة، لو جعل القبر بينه وبين القبلة لقلنا: لعله يتأول.

    ورأيت في بعض البلاد ما يعمل حول القبور، والله ما أظن أن أصحاب السامري عُبَّاد العجل وصلوا إلى شركهم، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الشرك بهذه الصورة الساذجة الغبية سيقع، ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء بني دوس عند ذي الخلصة)، وذو الخلصة صنم الدوس في بلاد اليمن.

    يقول الحافظ ابن حجر في شرحه الحديث: والمراد من ضرب النساء بإلياتهن حول هذا الصنم: إما أنهن يركبن لزيارته، وإما أنهن يزدحمن عند عبادته بحيث تلتصق عجائزهن ببعض. هذا سيقع في هذه الأمة.

    وفي صحيح مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة ولا يذهب الليل والنهار حتى يعبد الناس اللات والعزى).

    وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر آخر الزمان، وكيف يكون الناس فيه في أحلام السباع وخفة الطير، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (فيدعوهم الشيطان في ذلك الوقت إلى عبادة الأوثان).

    الصورة الماكرة: الاحتكام إلى القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله

    الصورة الثانية: هي التي وقع فيها في هذا الوقت المحتالون المكارون أصحاب الشهادات الطويلة العريضة إلا ما رحم ربك وقليل ما هم، فاسمعوها إخوتي الكرام، وعوها واحذروها، وحذار حذار من الوقوع فيها، وهي صورة شركية كفرية، لكنها ليست بصورة ساذجة غبية، إنها صورة منطوية ماكرة رديئة وهي: التحليل والتحريم بالقوانين المخالفة لشرع الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، قوانين تنتشر في هذا الجيل في بلدان المسلمين كما كان ينتشر هذا الشرك اللعين في الجاهلية، ففي الجاهلية صورتان للشرك يوجدان في هذه الأيام: صورة ساذجة رديئة، وصورة ملتوية رديئة، يذكر المفسرون في تفسير قول الله جل وعلا: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37]، يقول ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية في الجزء الثاني في صفحة ثلاثمائة وست وخمسين: كان جنادة الكناني المكنى بـأبي ثمامة يحضر الموسم كل عام، موسم الحج الذي يشهده المشركون، فكان إذا اجتمع الناس قام فنادى بأعلى صوته: أنا الذي لا أعاب ولا أهاب، أي: لا أهاب أحداً. أنا الذي لا أعاب ولا أهاب ولا راد لما قضيت، أنا الذي نسأت شهر المحرم، وأخرته وجعلت مكانه صفر، فيصبح الصفر من الأشهر الحرم، ويصبح شهر الله المحرم ليس من الأشهر الحرم، وكل سنة يخترع لهم نظاماً، ويحل ويحرم ما يريد.

    وهكذا الاحتكام إلى القوانين وإدخال العقول في التحليل والتحريم، هذا كفر بالله العظيم، وهذه الصورة الشركية الرديئة الملتوية الماكرة كانت موجودة في العصر الأول، وهي موجودة في هذا العصر.

    إخوتي الكرام! إن دين الرحمن يقوم على ثلاثة أمور، من صرف واحداً منها لغير العزيز الغفور فهو كافر مرتد مشرك بالله، اصطاده الشيطان في أول الطريق: يقوم على العقائد، (لا إله إلا الله) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51]، فمن جعل لله شريكاً فهو مشرك، وهذا لا يخالف فيه أحد.

    ويقوم دين الله جل وعلا على العبادات، على تعظيمه بما شرع لنا، فمن ترك شيئاً من ذلك لغير الله فهو مشرك كافر، من صلى وصام لغير الله فهو كافر.

    ويقوم دين الله جل وعلا على التشريع، على تشريع المعاملات والعقوبات والأخلاق والآداب، ودين الله يحتوي على هذه الأمور الخمسة: عقائد وعبادات وتشريع فيه ومعاملات وعقوبات وآداب، فمن ترك شيئاً من ذلك لغير الله فهو كافر، وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:51]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فالعبادة له، وهكذا الحكم له، يخبر ربنا جل وعلا أنه لا يشرك في حكمه أحداً: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26].

    وقرأ ابن عامر إمام أهل الشام، وقراءته متواترة ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (ولا تشرك في حكمه أحداً)، فإذا أدخلت التحليل والتحريم وسن القوانين، أدخلت هذا في هذه الحياة، أخذت به من غير شرع الله العظيم؛ فقد كفرت بالله، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].

    1.   

    التحاكم إلى القوانين الوضعية وترك حكم الله تعالى

    حكم التحاكم إلى القوانين الوضعية

    إخوتي الكرام! وبلية القوانين في هذه الأيام فشت وعمت وطمت، والذين اتبعوها لا يحصون، وكل من تحاكم إلى غير شرع الله جل وعلا، وحكم غير شرع الله جل وعلا، واستحسن غير شرع الله، فهو كافر بالله مشرك.

    إخوتي الكرام! وقد قرر شيخنا المبارك عليه رحمة الله هذه المسألة بتفصيل طيب جميل سديد في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، واستغرق إيضاحه لهذه المسألة في هذا المكان عشر صفحات في الجزء السابع من صفحة مائة وثلاثة وستين إلى مائة وثلاث وسبعين، وتعرض لهذا المبحث في تفسير سورة الإسراء عند قول الله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

    وأذكر لكم ملخص ما ذكره في المكان الثاني وهو في تفسير سورة الشورى في الجزء السابع صفحة ثلاث وستين ومائة إلى ثلاث وسبعين ومائة عند قول الله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:10-11].

    يقول الشيخ نور الله قبره ورحمه: إن أخص خصائص الربوبية التشريع والتحليل والتحريم، وهذا لا يكون إلا للخبير الحكيم سبحانه وتعالى، فالله يقول في هذه الآية: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ [الشورى:10]، في حله وحرمته، في كونه قبيحاً أو حسناً محموداً، فالحكم في ذلك هو رب العالمين، لا عقل أحد من المكلفين.

    وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الشورى:10-11]، هذا الذي يشرع، الذي خلق هذا الخلق هو الذي ينظم سيرهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهل لأحد من المخلوقات هذه الصفات حتى يكون له التشريع والتحليل والتحريم؟!

    يقول الشيخ عليه رحمة الله: ومما يدل على هذا: إجماع العلماء قاطبة أن الله جل وعلا أنزل آية في سورة الأنعام، وفيها فتوى سماوية من ربنا العلي سبحانه وتعالى، بكفر من أدخل عقله في تحليل أو تحريم، يقول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، يقول شيخنا عليه رحمة الله: والآية بإجماع العلماء نازلة في قصة المناظرة التي جرت بين الموحدين والمشركين في زمن نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه، فالمشركون احتجوا على الموحدين وقالوا لهم: ما بالكم ما ذبحتموه تأكلونه، وما ذبحه الله وهو الميتة لا تأكلونه؟! الله عندما يميت الشاة وعندما يميت البقرة لماذا لا نأكلها؟ إذا ذبحناها بأيدينا الملوثة نأكلها، وإذا أماتها الله هو ذبحها لا نأكلها! فأنزل الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ [الأنعام:121]، في أن الميتة حلال وتؤكل، إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

    قال شيخنا عليه رحمة الله: ومما يزيد هذا إيضاحاً: أن الله جل وعلا يخبرنا عن إبليس أنه يقول يوم القيامة: أنه كفر بمن أشرك به، يقول: والشرك الذي حصل من قبل الناس أنهم أطاعوه فقط فيما زين لهم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، فمن دعاه الشيطان لتحكيم العقل والرأي فاستجاب له فليعلم أنه مشرك بالله.

    والشرك الذي حصل منهم في هذه الحياة طاعتهم له في التحليل والتحريم، والاحتكام إلى الآراء ونبذ شريعة رب الأرض والسماء، فمن حكَّم غير شريعة الله جل وعلا فهو كافر.

    عباد الله! وهذا الأمر الواقع نص الله عليه نصاً واضحاً جلياً لا لبس فيه بقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].

    ولا يشكلن عليك -أخي المسلم- الوصفان الآخران: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، فهذا كما قال أئمتنا: اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله كافر مرتد مشرك، لكن إذا نظرت إلى كونه تجاوز الحق وخرج إلى الشطط فهو ظالم، وإذا نظرت إلى كونه خرج من الهدى إلى الردى فهو فاسق، وإذا نظرت إلى كونه ترك الحق وجحده فهو كافر، فالكفر والظلم والفسق هنا بمعنىً واحد: الظالمون هم المعتدون المتجاوزون لحدود الله، الفاسقون الخارجون من الهدى إلى الردى، من شرع الله إلى شرع الشيطان، كما قال الله في وصف الشيطان: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، فإياك أن تفهم من الفسق هنا المعصية والكبيرة التي هي دون الكفر، وهذا الخروج يوجب له الخلود في النار، وهنا كذلك: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، بمعنىً واحد، اختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله ظالم؛ لأنه وضع الأمر في غير موضعه، فتجاوز العدل إلى الجور والظلم، وهو فاسق؛ لأنه خرج من الهدى إلى الردى، وهو كافر؛ لأنه كفر الحق وجحده.

    يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله كما في مجموع الفتاوى: من استحل أن يحكم بما يراه عدلاً من غير اتباع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، يقول: وإنه ما من أمة إلا وتدعي أنها تحكم بالعدل، وقد يكون العدل فيها ما يقترحه خبراؤهم ورؤساؤهم وكبراؤهم وطواغيتهم، فإذا حكم الإنسان بأمر وقال: هذا عدل؛ نقول: أخذته من شريعة النبي عليه الصلاة والسلام أو من عقلك الرديء، أو من سلطانك الغوي؟ فإذا قال: هذا ليس منصوصاً عليه في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وقال: هو عدل استنبطه ووصلت إليه، فنقول له: هذا كفر، من استحل أن يحكم بما يراه عدلاً من غير اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر.

    خلط وضلال بعض المنتسبين للعلم والدين في مسألة التحاكم للقوانين الوضعية

    إخوتي الكرام! وهذا الأمر الذي هو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، التبس على الناس في هذا الوقت، وتلوثت كثير من الكتب بتحريف كلام الله عن مواضعه، فهذا صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا الذي كتبه بروح شيخه نقلاً عن محمد عبده ، ونسأل الله أن يحفظنا من العمالة والخيانة والمتاجرة بدين الله وتحريف كلام الله عن مواضعه، يقول هذا نقلاً عن شيخه في تفسير هذه الآية: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، كلام والله الذي لا إله إلا هو! لو أردنا أن نعرضه على الحمير لاستحوا من الله جميعاً! إلى هذا الحد وصل بكم التلاعب بكلام الله جل وعلا! فعند هذه الآية في تفسير المنار، انظروا إخوتي ما في تفسير هذه الآية من ضلال وبوار تحت عنوان بارز: الحكم بالقوانين الإنجليزية، ثم ذكر أنه وجه سؤال للأستاذ الإمام -يقصد به محمد عبده - من أحد الهنود من بلاد الهند عندما كان الاستعمار البريطاني ممثلاً لتلك البلاد، فوجه بعض المسلمين سؤالاً إلى محمد عبده ، فقال له: هل يجوز لنا أن نلي القضاء عند الإنجليز، وأن نحكم بالقوانين الإنجليزية؟ يقول محمد رشيد رضا : فأحال الأستاذ الإمام -أي: محمد عبده - هذا السؤال لأجيب عليه، فأجبت عليه وكتب جوابه في تفسير هذه الآية.

    يقول: ظاهر هذه الآية لم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، ظاهر الآية ما قال به أحد من أئمة الفقه المشهورين، وأنا أقول له: لعل الكلام تصحف عليك، فلم يقل بهذا أحد من أئمة الفسق المشهورين، نعم. ما قال أحد من أئمة الكفر: إن الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفار، أما أئمة الفقه فمجمعون على أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر.

    يقول: ظاهر الآية لم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد قط.

    نعم، لم يقل به أحد قط، أي: من الضالين أتباع الشيطان الرجيم، أما المهتدون فأجمعوا أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر.

    ثم أصدر فتوى حاصلها: أنه يجوز أن نحكم بالقوانين الإنجليزية، فهذا الأمر من باب الرخصة إن لم يكن من باب العزيمة، وختم الفتوى بقوله: لا سيما والقوانين الإنجليزية أقرب إلى الإسلام من غيرها. سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! وإذا أردنا أن ننصف هذا الرجل، وأن نرد كلامه دون بحث في محتواه، فيكفينا أن نقول: ينبغي أن نقلب تاء الفتوى سيناً، فهذا تلاعب بكلام الله جل وعلا، فنحن نقول: هذه ليست فتوى، إنما هذه شيء آخر ينتن منه المجلس، والإنسان يمسك على أنفه ويخرج منه نتن هذا البلاء وهذا الضلال.

    القوانين الإنجليزية أقرب إلى الإسلام من غيرها؟! سبحان ربي العظيم! القوانين الإنجليزية -إخوتي الكرام- هي أحط القوانين على الإطلاق، وكل قوانين الكفر منحطة، فماذا بعد الحق إلا الضلال! إلا أن ضلال القوانين الإنجليزية أشنع وأخبث من غيرها، لا يوجد في هذا الوقت دولة على ظهر الأرض تبيح اللواط بالقانون إلا بريطانيا، فلك الحق أن تستأجر الذكر لتلوط به شهراً، وتسجل هذا في المحكمة الشيطانية في بريطانيا، أهذه أقرب إلى الإسلام من غيرها؟! سبحان ربي العظيم! كفار صاروا أقرب لنا، وصار بيننا وبينهم صلة لا مانع أن نحكم بقوانينهم؟! والله من حكم بالقوانين الإنجليزية أو بالقوانين الفرنسية أو بالقوانين الأمريكية أو غيرها فهو كافر بالله مشرك، ويسلك طريق الشرك الذي زينه له الشيطان.

    إخوتي الكرام! هذه المهادنة والملاينة بيننا وبين أعداء الرحمن إن دلت على شيء فتدل على أننا على شاكلتهم، وأن قلوبنا أخبث من قلوبهم، وإلا كيف يجتمع الموحد والملحد؟! ولكن لما ألحدت القلوب، وتسترت بعد ذلك بأسماء مسلمة فقط، ما لها من الإسلام إلا الاسم؛ هان عليها موالاة اليهود والنصارى، بل هان عليها الترضي عنهم والأخذ بأحكامهم وقوانينهم.

    وأذكر لكم قصة تفري الأكباد:

    عندما كنت في العقد الثالث من عمري، جاوزت العشرين قليلاً، كنت أدرس في بعض المتوسطات في بلاد الشام، وكان عنوان الدرس في تلك السنة الثالثة المتوسط: الجهاد في سبيل الله، فقلت: إخوتي الكرام! الجهاد عمل مشروع، لا ينال الإنسان عليه الأجر عند الله إلا بشرطين:

    الشرط الأول: أن يكون مؤمناً؛ لأن من كان كافراً حبط عمله، ولا يقبل الله منه عملاً، وهو مخلد في نار جهنم.

    والشرط الثاني: أن يريد بعمله وجه الله؛ لأن كل عمل لا يقبل عند الله إلا بثلاثة شروط:

    أولها: أن يكون صالحاً، مشروعاً، فالجهاد في سبيل الله مشروع، لا تنال الأجر عليه إلا إذا آمنت وأردت بجهادك وجه ربك وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى.

    فرفع بعض الطلاب يده وقال: يا أستاذ! ما تقول في جورج جمال -النصراني الملعون، لعنة الله عليه وعلى سائر أهل ملته من النصارى وإخوانهم من اليهود القرود- ما تقول في جورج جمال ، هل هو شهيد؟ قلت: سبحان الله! إنه نصراني، وهذا الذي ضرب الباخرة أيام الاعتداء الثلاثي على مصر وغرق ومات، فقال لي: إنهم يدرسوننا أنه شهيد وأنه كذا، قلت: هذا شهيد الوطن، لكنه ليس بشهيد عند الله، فالوطن يكرمه ويعززه بما يريد، ولكن إذا أفضى إلى الله فمآله جهنم وبئس المصير.

    انتهى الأمر إلى هذا الحد، واستأذن بعض الطلاب وما علمت أين سيذهب، وبعد أن انتهت المحاضرة وخرجت، ما جاوزت باب الفصل بمترين أو ثلاثة، وإذا بالمراقب يناديني ويقول: المدير يريدك، قلت: خيراً، قال: يريدك في موضوع هام، فذهبت وقلت: ماذا حصل؟ وماذا تريد؟ فقال: أنت تقول: جورج جمال في النار؟ قلت: سبحان الله! وعندك شك في ذلك؟! إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، إذا سئلنا عن الكفار ماذا نقول؟ قال: يا أستاذ! لا أسمح لك أن تقول هذا الكلام، قلت: إذا استأذنتك تسمح أو لا تسمح، إنما أنا أتكلم بحسب شريعة الله، وما لأحد من خلق الله معي كلام إلا إذا خرجت عن شريعته فيقال: قف عند حدك.

    ثم قلت له: يا أستاذ! أنت تصلي أم لا؟ قال: أنا أصلي قبل أن تولد، وحقيقة! إذا كان صادقاً فقد كان يقارب الستين، وأنا كنت قد جاوزت العشرين بسنة أو سنتين، فصحيح هو يصلي قبل أن أولد، واسمه كمال الدين ، ولكن كما قال أئمتنا وذكر هذا الإمام القرطبي في شرح أسماء الله الحسنى في تحريم هذه الأسماء: من كمال الدين وفخر الدين ونصير الدين وغير ذلك من الألفاظ المنكرة التي تطلق على صعاليك البشر:

    إني أرى الدين يستحي من الله أن يرى وهذا له فخر وذاك نصير

    فقد كثرت في الدين ألقاب عصبة هم في مراعي المنكرات حمير

    وإني أجل الدين عن عزة بهم وأعلم أن الذنب فيه كبير

    عز الدين، صلاح الدين، جلال الدين، بهاء الدين، لم هذه الأسماء الأعجمية؟ لماذا لا نتسمى بالأسماء الإسلامية؟ ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه غير اسم برة إلى زينب ، وكما ثبت في الصحيح أنه غير اسم برة إلى جويرية ، وهما من أمهات المؤمنين، وقال: (برة تزكي نفسها)، وهكذا بهاء الدين، كمال الدين لكنه كمال الشيطان الرجيم.

    قلت: تصلي؟ قال: أصلي قبل أن تولد، قلت: يا أستاذ! ماذا تقرأ إذا صليت؟ أما تقرأ الفاتحة؟ قال: نعم، قلت: وأنت تقول في كل ركعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، من هم الضالون؟ هم النصارى عليهم لعنة الله. قال: يا أستاذ! هذه صلاة، وأما نحن هنا فمدرسة، قلت: سبحان الله! الله في المسجد والصلاة، وأما في المدرسة فتجول بالمال والشيطان، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

    ثم قلت: يا أستاذ! لم تنفعل هذا الانفعال؟ الله هو الذي خلق الجميع، هو يقول: من كفر لا أدخله الجنة، فأنتم إذا كان في وسعكم أن تؤسسوا جنة أخرى، وأن تدخلوا إليها أبا جهل وأبا لهب ، وجورج جمال ، وكارتر ، ومن تريدون فأدخلوهم، من يمنعكم؟ إنما نحن نتكلم عن حكم الله وفعله، وعن جنة الله، جنة الله لا يدخلها كافر، فإذا ما أرضاكم هذا فأسسوا جنة أخرى وأدخلوا إليها من شئتم، وستظهر لكم الحقائق عما قريب.

    وهذا الرجل يقول: الحكم بالقوانين البريطانية جائز للضرورة إن لم يكن جائزاً من أجل العزيمة، لا سيما والقوانين البريطانية أقرب إلى الإسلام من غيرها.

    حكم الله تعالى بالكفر على أناس حكموا بغير شرع الله

    والله الذي لا إله إلا الله هو! لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير من أن يلقاه بهذا البهتان والافتراء والإفك، وأنا أسوق لهذا ولأمثاله ممن يسيرون على شاكلته في هذا الوقت بأن الله جل وعلا حكم بالكفر على أناس حكموا بغير شريعة الله.

    يقول جل وعلا في كتابه في سورة براءة التوبة، في سورة الفاضحة: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، ثبت في تفسير ابن جرير وسنن الترمذي وطبقات ابن سعد وسنن البيهقي ، والحديث في معجم الطبراني وهو بسند حسن إن شاء الله، نص على تحسينه عدد من أئمتنا، وحوله كلام يزول بشواهده، كما ذكر هذا الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول، فذكر له شواهد من حديث حذيفة وحديث ابن عباس رضي الله عنهما.

    ونص الحديث: عن عدي بن حاتم قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنهم ما عبدوهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عدي! أوما كانوا يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال فيطيعوهم؟ قلت: بلى، قال: فهذه عبادتهم)، هذا التشريع، وهذا التحليل والتحريم هو عبادة، وهذا من خصائص الألوهية، ومن خصائص الربوبية، ولا يجوز أن يصرف لأحد من البرية.

    والله جل وعلا يخبرنا عن المنافقين الذين سيخلدون يوم الدين في نار الجحيم، أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهما يتولوا وهم معرضون، يقول الله جل وعلا في سورة النور: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:47-52].

    وقد حكم الله بالردة في سورة محمد عليه الصلاة والسلام على أناس قالوا للكفار: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ [محمد:26]، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:25-28].

    وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أن الإيمان لا يتحقق في الإنسان حتى يحكم شريعة النبي عليه الصلاة والسلام، يقول ربنا جل وعلا في سورة النساء: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، والآيات التي قبلها تتحدث عن فريق إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم يعرضون: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:60-65].

    وكنت ذكرت سبباً روي في تفسير هذه الآية، وفيه شيء من الضعف، واعتمده أئمتنا، ونصوص الشرع المطهر تشهد له، وكنت ذكرت هذا السبب في موقف العقل البشري من الوحي الإلهي، وحاصله: أن رجلاً من اليهود اختصم مع رجل من المنافقين فاحتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي، فلما خرجا قال المنافق لليهودي: تعال حتى نذهب إلى أبي بكر ، فذهبا إليه رضي الله عنه فعرضا عليه القصة، فقال اليهودي: يا أبا بكر ! ذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بأن الحق لي، فقال أبو بكر : الأمر ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فخرجا وذهبا إلى عمر فلما عرضا عليه القصة قال اليهودي: يا عمر ! ذهبنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقضى بالحق لي، فقال للمنافق: أصحيح ما يقوله هذا؟ قال: نعم، قال: انتظرا حتى يأتيكما القضاء، فدخل إلى بيته وسل سيفه ثم خرج وضرب المنافق فقطع رقبته، وولى اليهودي شارداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد! إن عمر قتل صاحبي، ولولا أن نجوت لقتلني، فنزل قول الله مؤيداً فعل عمر : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فلا بد من هذا السيف العمري لإقرار الهدي المحمدي بقطع رقاب كل من لم يحكم بما أنزل الله، وبقطع رقاب من يتحاكمون إلى غير شرع الله.

    يقول الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين في الجزء الأول صفحة خمسين وعشرين وثلاثمائة: فهذا حكم عمر، وإقرار النبي عليه الصلاة والسلام له فيمن لم يرض بحكم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقدم رأيه على ذلك، فكيف لو رأى زمننا؟ وأنا أقول: فكيف لو رأى حالنا؟ لقد قدمت الآراء على نصوص الشريعة الغراء، واحتكم الناس إلى القوانين، وتركوا شرع أحكم الحاكمين.

    تحليل ما حرم الله والتشريع من دون الله في هذا الزمان

    عباد الله! اسمعوا إلى قضية عرضت على مجلس البرلمان، مجلس الحكم، مجلس الوزراء، مجلس الشعب، لتقر فيه في بعض البلاد العربية، عرضت قضية في تلك البلاد: أن يكون في كل ثكنة من ثكنات الجيش مومسات، زانيات، عاهرات على حساب الدولة بالمجان، الجيش يزني بلا فلوس ولا كلفة، والأمر أقر من قبل المجلس في تلك الدولة؛ لأن الحكم في هذا الوقت ليس لشريعة الله، إنما للديمقراطية الملعونة، حكم الشعب بالشعب، لا علاقة للرب في شئون عباده، الله جل وعلا محصور في المسجد، وقد أراد بعض الطواغيت أن يبني مسجداً وكنيسة وبيعة في هذا الوقت متجاورات، وإن شاء الإنسان أن يدخل البيعة التي لليهود أو الكنيسة التي للنصارى أو المسجد الذي للمسلمين فلا حرج عليه، أما خارج هذه الأماكن الثلاث فالحكم للأدمغة المسوسة، للبرلمان، لمجلس الشيوخ، لمجلس الشعب، لمجلس الوزراء، هؤلاء الذين يقررون مصالح العباد والحكم في البلاد، ولا دخل لله في شئون عباده.

    وكاد الأمر أن يقر وينفذ لولا أن بعض الناس من الحاضرين عنده شيء من الحمية، قال: يا عباد الله! استحوا من الله، أما يكفي أننا نبيح الزنا في بلادنا؟ نريد أن نجعله أيضاً في مؤسساتنا ودوائرنا حتى نكون فضيحة بين الناس؟ فعدلوا عن اتخاذ القرار بذلك من أجل العار والكلام، لا من أجل حكم الرحمن.

    ولعله في هذا الوقت -إخوتي الكرام- تظهر الردة المكشوفة في هذه الأيام، ومبطنة أيضاً ومكسوة بلباس الإسلام، فقد قال بعض الطواغيت على ملأ يجعجع في وسائل الإعلام: بأنه ماركسي مسلم. سبحان الله! هو شيوعي ومسلم، يريد أن يجمع بين الإيمان والكفر، يريد أن يجمع بين الشيطان والرحمن، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً. وهذا ماركسي مسلم!

    وبعض الطواغيت أيضاً على شاشة التلفزيون في نهار رمضان يشرب الخمر، وهو مسئول عن بلاد المسلمين يشرب الخمر، ثم يدعو الرعية إلى الفطر متعللاً بأن الصوم يتعب أذهان الناس، وبالتالي يؤخر اقتصاد البلاد.

    أسأل الله أن لا يزيدكم إلا فقراً وعاراً وذلاً، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].

    فالدعوة إلى الفطر في رمضان بهذه الحجة كفر وردة عن شرع الرحمن. والردة في هذا الوقت منتشرة انتشار النار في الهشيم، فحصنوا أنفسكم من هذا الأمر الوخيم، فمن سلم من الشرك برب العالمين في هذا الحين فليحمد الله، أول عقبة صاد الشيطان فيها أمماً كثيرة وناساً كثيرين، يقول ربنا جل وعلا مخبراً عن هؤلاء الذين صادهم في هذه العقبة صادهم الشيطان: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ:15-21]، اللهم اجعلنا ممن يؤمنون بك يا أرحم الراحمين.

    1.   

    كثرة أتباع الشيطان في الكفر والشرك بالله تعالى

    عباد الله! أتباع الشيطان في هذه العقبة كثيرون، تدرون ما نسبتهم؟ من كل ألف من المكلفين تسعمائة وتسعة وتسعون، لا ينجو من كل ألف إلا واحد، وليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا! الشيطان يصيد الناس في العقبة الأولى من الألف يصيد منهم تسعمائة وتسعة وتسعين، ولا ينجو منهم إلا واحد فقط، يشير ربنا إلى هذا في سورة الأنعام: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128]، أضللتم أمماً وأناساً كثيرين، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:128-131].

    ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: يا آدم! قم فابعث بعث النار، فيقول: يا رب؟ وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وواحد إلى الجنة، فعندئذ يشيب الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد).

    هذا الأمر الواضح الرشيد، وهو أن من احتكم إلى غير شرع الله المجيد فهو كافر، صار في زمننا من الأمور المبهمة، صار من الأمور المشكلة، صار من الأمور الخفية، صار أصحاب الشهادات الطويلة يقولون: لا مانع من الحكم بالقوانين البريطانية؛ لأنها أقرب إلى الإسلام من غيرها.

    1.   

    ضرورة زجر ومنع من يشرع من دون الله تعالى

    وكما ضللنا في مسألة القوانين ضللنا وزغنا وتهنا وانحرفنا في مسألة من يسن هذه القوانين، فبدلاً من أن نأخذ على يديه، وأن نأطره على الحق أطراً؛ عبدناه من دون رب العالمين، قانون كفر وجعلنا من شرعه معبوداً، وقد صرح بعض علماء السوء في هذا الوقت عن طاغوت بلاده بأنه وصل إلى درجة من لا يسأل عما يفعل. سبحان الله! من الذي لا يسأل عما يفعل؟ هو مالك الملك، هو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، هو الذي على كل شيء قدير وهو بكل شيء عليم، لا يسأل عما يفعل! أما يكفي أنكم أشركتم في القوانين فأشركتم أيضاً بعبادة الطواغيت والمجرمين! وبدأتم تطلقون هذه الألفاظ التي لا تطلق إلا على الله جل وعلا!

    1.   

    نصح السلف للخلفاء والأمراء وزجرهم إذا رأوا منهم مخالفة

    وقد كان أئمتنا عليهم رحمة الله يضعون الأمور في نصابها، فكما كانوا لا يحتكمون إلا إلى شرع الله، فكانوا أيضاً يقفون مع الحاكم وقفة يرضاها الله، فالحاكم في زمن الخلافة الإسلامية سواءٌ كان عدلاً أو فيه شيء من الجور؛ أئمتنا كانوا يقفون معه موقفاً شرعياً، فما وصل إمام من أئمة المسلمين في زمن الخلافة الإسلامية إلى إمام كفر.

    استمعوا إلى بعض الحوادث لنرى كيف كان المسلمون يسيرون مع من ينفذون القوانين كما كانوا يسيرون مع القوانين، فلا يحتكمون إلا إلى شرع رب العالمين، وهذا المسئول لهم معه معاملة يرضاها أحكم الحاكمين؛ لأن الله يغار إذا صرف شيء من التعظيم لغير وجهه الكريم سبحانه وتعالى، العبادة له لا تصرف لأي مخلوق كان.

    يروي ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة العبد الصالح أبي مسلم الخولاني ، وقد أطلق عليه وعلى صحابي أيضاً وهو أبو الدرداء : حكيم هذه الأمة، أما أبو الدرداء فصحابي، وأما أبو مسلم الخولاني فتابعي، دخل على معاوية رضي الله عنه أيام خلافته فقال: السلام عليك أيها الأجير! فقال الحاضرون: قل: السلام عليك أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقال الحاضرون: قل: السلام عليك أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير! فقال معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أدرى بما يقول، ثم التفت إلى معاوية وقال: أيها الأجير! إن الله قد استرعاك هذه الرعية، فإن أنت قمت نحوها بما أوجب عليك أثابك وإلا عاقبك، والسلام. وخرج، يقول هذا لخليفة، لصحابي، هذا كان حال المسلمين مع المسلمين، والتعظيم لا يصرف إلا لرب العالمين، لا يصرف التعظيم إلا لأحكم الحاكمين سبحانه وتعالى.

    يذكر أئمتنا في ترجمة يزيد بن المهلب ، وكان من أمراء بني أمة، وحكم بلاد العراق فترة، وكان عنده شيء من الجور وفي نفسه غرور وعنده زهو وكبر، فكان يجر ثيابه ويمشي، فقابله مطرف بن عبد الله بن الشخير من أئمة التابعين، فقال: أيها الرجل! لا تمش هذه المشية ولا تجر ثيابك؛ فإن هذه المشية لا يرضاها الله، فقال: أتعرفني من أنا؟ قال: نعم أعرفك، أنت أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت الآن في جوفك العذرة. أعرفك من أنت، أنت هذا وصفك، أولك نطفة مذرة، من ماء مهين، وآخرك جيفة قذرة، وفي جوفك العذرة، فمن أنت؟!

    وقد حصل مثل هذا مع يزيد بن معاوية ومالك بن دينار ، حينما رآه يمشي هذه المشية فنصحه فقال: أتعرفني؟ قال: نعم، فلما اتفقت القلوب في التقوى اتفقت الألسن في الإخبار، فقال: أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت في حياتك تحمل العذرة، فقال: نعم، إنك قد عرفتني.

    هكذا كان الموحدون يسلكون مع الذين ينفذون القوانين، فالقوانين مأخوذة من شريعة رب العالمين، ويوضع المسئول في النصاب الذي يرضاه رب العالمين سبحانه وتعالى.

    يذكر الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في الجزء الأول في صفحة اثنتين وتسعين ومائة: أن الخليفة المهدي عندما حج وزار المدينة المنورة دخل إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فقام الناس فجلس ابن أبي ذئب وما تحرك، وكان قرين الإمام مالك وفضل عليه في بعض الأمور، فقيل له: ألا تقوم؟ قال: إنما يقوم الناس لرب العالمين. القيام تعظيم، وإذا قام الإنسان لغيره بنية التعظيم فقد ألهه وعبده من دون رب العالمين، لا مانع من القيام للإكرام لا للتعظيم، وتركه أولى كما هو هدي نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه.

    ثبت في سنن الترمذي في كتاب الأدب: باب ما جاء في كراهة قيام الرجل للرجل، بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا دخل علينا لا نقوم له لما نعلم من كراهته لذلك).

    وثبت في سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).

    والحديث مروي عن معاوية ، ولما قام له ابن عامر وجلس ابن الزبير ، قال لـابن عامر: اجلس، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).

    وفي سنن أبي داود بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عصا، فقمنا له، فقال: لا تقوموا كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضاً)، لا يقوم الناس إلا لله جل وعلا تعظيماً له، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

    عباد الله! وكيف يليق بالمخلوق أن يصرف تعظيمه لمخلوق مثله، لا يملك ذلك المخلوق لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً؟!

    يقول الأحنف بن قيس كما في سير أعلام النبلاء في الجزء الخامس صفحة اثنتين وتسعين: عجبت لمن يتكبر وهو يعلم أنه قد خرج من مجرى البول مرتين، كيف يتكبر؟ خرج من مجرى البول مرتين، انفصل من أبيه ثم خرج من أمه كيف يتكبر من هذا حاله؟ كيف يتكبر الإنسان وهذا حاله؟! وكيف يصرف العبادة لغير الله وهذا حاله؟!

    جاء رجل إلى معاوية رضي الله عنهم أجمعين، وقد زاد هذا الرجل على مائة سنة، فقال له معاوية : ألك حاجة؟ قال: نعم، قال: وما هي؟ قال: أن ترد إلي ما مضى من عمري، قال: لا أملكه، قال: أن تدفع عني أجلي، قال: لا أملكه، قال: فكيف يكون لي إليك حاجة؟ حاجتي أرفعها إلى مالك الملك، إلى الذي هو على كل شيء قدير، كيف يكون لي إليك حاجة؟! كل من يعبد من دون الله لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً، وليس له شريك في ملك الله، وما طلب الله منه المساعدة، ولا يقبل الله شفاعته إلا إذا رضي له قولاً، يقول ربنا جل وعلا: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23]، هذا حال من عدا الله، لا يملك واحداً من هذه الأمور، فعلام يعبد؟ وعلام يعظم؟

    قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22]، فأنت تسأل فقيراً مثلك، وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22]، ما شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، ما طلب من أحد معونة ولا مساعدة، وهم ليس لهم اعتبار عند الله على الإطلاق، فلا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذنه، وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23].

    فينبغي أن نعتني بهذا الأمر غاية العناية، وأن نحذر من هذا الطريق غاية الحذر، وهو طريق الشرك، وعقبة الكفر، وهاوية الشرك بالله، من نجا منها فليحمد الله؛ لأنه إن نجا منها وحصل عنده شيء من التخليط والتفريط، فلعل الله يرحمه في الآخرة ومآله إلى الجنة مهما طال الأمد عليه، وأما إذا وقع في هذه الهاوية وأشرك بالله فقد خسر خسراناً مبيناً، قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

    هذه العقبة الأولى إخوتي الكرام، وإنما أفضت الكلام فيها بعض الشيء لشناعتها، ولوقوع كثير من الناس فيها، فلذلك أردت نصح نفسي ونصح المؤمنين والمؤمنات من هذه البلية التي ينصبها لنا عدونا وشيطاننا ليوقعنا فيها وليحصل مأربه منا فيها.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756399331