بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وموت كثير من حفظة القرآن من الصحابة بسبب حروب الردة، رأى الصحابة جمع القرآن، وقد كان صحفاً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وجمع صدراً وسطراً في عهد أبي بكر ، والجمع الصدري موجود منذ أن أنزل القرآن وإلى أن تقوم الساعة، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]، والتعويل دائماً في ضبط القرآن على ما في الصدور لا على ما في السطور، وهذا من مزايا هذه الأمة ومنزلة كتابها، وأن دينهم أفضل دين.

إذاً جمع في عهد أبي بكر فصار في المصحف بعد أن كان في صحف.

الجمع الثالث: في عهد عثمان رضي الله عنه، كان المصحف عند أبي بكر ، فلما توفي رضي الله عنه وأرضاه بقي عند أمنا عائشة ، فلما توفي أبو بكر أخذ عمر رضي الله عنه المصحف فكان في بيته، فلما طعن رضي الله عنه وأرضاه عهد بهذه الصحف إلى أمنا حفصة رضي الله عنهم أجمعين، حتى يكون للمؤمنين خليفة منهم؛ لأنه لا يوجد خليفة تنقل إليه هذه الصحف وتكون في بيته، فلما جاءت الخلافة إلى عثمان ترك الصحف عند حفصة إكراماً لها فهي أم المؤمنين وزوجة النبي الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

لما حصل ما حصل في غزاة أرمينية وأذربيجان -كما سيأتينا- ومات من مات من القراء في عهد عثمان ، رأى أن تلك الصحف التي صارت إلى مصحف وهي في بيت حفصة لابد من إحضارها، وكتابة القرآن بطريقة تحتمل ما استقر في العرضة الأخيرة من تلاوات وقراءات ثابتة عن خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، ثم توزع نسخ إلى الأمصار فيها هذا القرآن الذي كتب بصورة يحتمل ما بقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، ولذلك لم يكن القرآن منقوطاً ولا مشكولاً، وما لا يحتمله الرسم لا يمكن أن يكتب في الحاشية؛ خشية أن يظن أن هذا من باب التصحيف، فكتب في بعض المصاحف من أجل أن يعلم المسلمون أن هذا منقول عن نبيهم، وهذا في كلمات محصورة أحصاها الأئمة في اثنتي عشرة كلمة، كقوله: وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:15] (فلا يخاف عقباها)، لا يمكن أن تكتب الواو والفاء في مصحف واحد، تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100]، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة:25]، فحذفت من بعض المصاحف، وكتبت في بعضها إشارة إلى أن كل هذا منقول عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وكتب المصحف بصورة تحتمل ما استقر، وبقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، وما يقال من أن عثمان رضي الله عنه أبقى حرفاً ونسخ ستة أحرف، فهو كلام باطل! ولا دليل عليه، وإن قال به بعض علماء المسلمين، فلا يمكن لـعثمان أن يهمل ستة أحرف وسع الله بها على أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن كتب القرآن بصورة تحتمل ما بقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة التي شهدها زيد بن ثابت رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام، وهذا هو رأي المحققين من أئمة القراءات كشيخ الإسلام أبي الخير بن الجزري وغيره، وسيأتينا تفصيل الكلام إن شاء الله عند جمع القرآن.

عهد إلى زيد في عهد عثمان أيضاً، وجعل معه لجنة ثلاثة هو رابعهم، ومعهم اثنا عشر صحابياً لجنة عامة، وهذه لجنة رئيسة، والرئيس زيد بن ثابت ، وقالوا: إذا اختلفتم في الرسم فاكتبوه بلغة قريش، فإنه نزل القرآن بلغتهم.

عبد الله بن مسعود ما راق له هذا الأمر؛ لأنه كان يرى أنه أولى بأن يعهد إليه من زيد بن ثابت كما سيأتينا، فانفعل وغضب: (وكل بني آدم خطاء)، وأمر بغل المصاحف وكتمانها وعدم تسليمها إلى الخليفة الراشد، وأن يبقى كل إنسان على الصحف التي معه، وكلمه حذيفة في ذلك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فما استجاب، ثم قال: -كما في السنن الكبرى للإمام النسائي وصحيح أبي عوانة ، والأثر رواه ابن أبي داود في المصاحف، كما نقل عنه ذلك أبو وائل شقيق بن سلمة- يقول: رقى منبر الكوفة وخطب، يعني: ما كفاه أنه غل مصحفه وكتمه، وقال: اكتموا مصاحفكم -يدعو على المنبر بالكتمان وغل المصاحف- قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، نأتي يوم القيامة ومعنا المصاحف، غلوا مصاحفكم، وانفعل، (وكل بني آدم خطاء)، وأثر الانفعال سيزول كما ستعلمون إن شاء الله بعد حين.

غلوا مصاحفكم كيف تأمرونني أن أقرأ بقراءة زيد بن ثابت ، ولقد حفظت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولـزيد ذؤابتان وهو يلعب مع الصبيان، ومع ذلك يقدم علي، لكن مع تقديرنا لـعبد الله بن مسعود ، هو وجد في زمن يستطيع فيه أن يتكلم، ولو كان في زمن عمر لما حرك ساكناً، فـعثمان رضي الله عنه هو الحيي رقيق القلب الحليم، الذي يتسع صدره لمن أحياناً ينازعه.

كان عمر رضي الله عنه فيما يتعلق بضبط الأمور لا يبالي بكبير ولا صغير، يوقف الأمور عند حدها مهما كان الأمر، ولذلك زيد بن ثابت تولى الرئاسة على الجمع في عهد أبي بكر ، ولم يتكلم عليه عبد الله بن مسعود فهناك يوجد عمر ، لا يمكن لأحد في عهد عمر أن يتكلم، والله لو تكلم لأضجعه عمر ولوطئ على رقبته أياً كان، ولذلك عندما وسع عمر مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ما أحد حرك شفتيه، لا في السر ولا في العلن، فلما وسعه عثمان امتلأت المدينة بالكلام، فقام رضي الله عنه كما في صحيح البخاري ، وهو أحق بأن يستحي منه الناس، لم يعلم أحد من خلق الله خلا بابنتي نبي إلا عثمان رضي الله عنه وأرضاه، تستحي منه ملائكة السماء، قال: أيها الناس! إنكم أكثرتم -كأنه يعتذر إليهم، وأنت الخليفة بإمكانك أن تضرب جلودهم وأن تقطعهم، وإذا فعلت فأنت على هدى- إنكم أكثرتم وإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة)، أنا ماذا فعلت؟ مسجد ضاق بالمسلمين وسعته، وهذا مسجد النبي عليه الصلاة والسلام. ولما وسع في عهد عمر لم يتكلم أحد لا سراً ولا علناً.

فـعثمان أعاد ما كان فقط، قال: هذه الصحف جمعت في مصحف قام على جمعه زيد ، يا زيد ! تعال مرة ثانية، معك الثلاثة هؤلاء لجنة خاصة، واثنا عشر لجنة عامة أنتم تتصلون بالمسلمين، وأنا أشرف عليكم جميعاً، أنت الذي توليت الجمع الأول فاجمعه الآن، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه غضب.

وثبت في مسند الإمام أحمد من رواية خمير بن مالك ، وقد وثقه ابن حبان ، وترجمه البخاري في التاريخ الكبير في الجزء الثالث صفحة اثنتين وعشرين ومائتين، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، ولذلك ترجمته ستكون في تعجيل المنفعة بزوائد الأئمة الأربعة؛ لأن هذا في زوائد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضوان الله عنهم أجمعين، مسند أبي حنيفة وموطأ مالك ومسند الشافعي ، ومسند الإمام أحمد ، والكتاب نافع، فاحرصوا عليه.

خمير بن مالك ، ويقال: خمرة الهمداني الكوفي ، روى عن علي وابن مسعود ، وعنه أبو إسحاق السبيعي وعبد الله بن قيس ، وثقه ابن حبان ، وقال ابن سعد : له حديثان.

يقول الحافظ في تعجيل المنفعة: وهو ثقة عدل رضا من التابعين.

عن خمير بن مالك قال: لما أمر عثمان بالمصاحف أن تغير، والمراد من تغييرها أن تحرق، تجمع لتحرق، وقد أحرقت في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وكان علي رضي الله عنه يقول في خلافته كما سيأتينا عند جمع القرآن: إياكم والغلو في عثمان ، وقولكم: إنه حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا على مشهد منا أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالأمة مجمعة على هذا، فلما أمر عثمان بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: من استطاع أن يغل مصحفه فليغلل؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].

فإن قيل: ما الدليل على أنه رجع؟ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما تقدم معنا هو معلم الناس في الكوفة، والقراء الكوفيون الأربعة، ثلاثة من سبعة وواحد من القراء العشرة، وهم: حمزة ، وعاصم ، والكسائي وخلف كانت قراءتهم تنتهي إلى عبد الله بن مسعود إلى نبينا المحمود على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقراءتهم متواترة، والذي ينكر حرفاً منها فهو كافر، فهذا برهان يقيني متواتر لا شك فيه بأن قراءة عبد الله بن مسعود هي قراءة الجماعة، وهذا قرره الإمام أبو الخير بن الجزري في كتابه النشر في القراءات العشر، فقراءة هؤلاء الأربعة تنتهي إلى عبد الله بن مسعود ، وهذا برهان يقيني قطعي منكره ضال كافر، في أن قراءة عبد الله بن مسعود هي قراءة المسلمين أجمعين.

والقراء العشرة الذين قراءتهم متواترة ما خرج عنها فهو شاذ، وينبغي أن تضبط أسماؤهم كما ينبغي أن يضبط الإنسان أهل الكتب الستة، والأئمة الأربعة، هؤلاء نور الدنيا وبهجتها، يعني: والذي لا يعرف أسماؤهم فهذه بلية من البلايا كيف لا يعرف الأئمة الأربعة؟

مرة في بعض الجامعات في الجزيرة العربية وفي السعودية سأل بعض إخواننا طلابه في المصطلح يقول: عَدِّد الكتب الستة وترجم لمصنفيها، فقال: الكتب الستة هم الوضاعون الستة، وغدا يذكر أسباب الوضع الستة، ونماذج من كل صنف من الوضاعين الزنادقة.

علم التجارة هذا لا يؤهل الإنسان لن يركب حماراً، وبعد أن يأخذ الشهادة يقول: هم رجال ونحن رجال، أخبرني بعض الإخوة أن رجلاً نوقش لمنح العالمية التي يسمونها الدكتوراه بالفرنسية الردية، يقول: بعد أن نوقش وشتموه بأشنع ألفاظ الشتم، وهو صابر لئلا تلغى رسالته، فلما قررت اللجنة منحة الدكتوراه جاء إلى من كان يشتمه وقال له: استوت الرءوس فإن تكلمت علي رددت عليك، ليس لك علي سلطة ولا ميزة، أنت دكتور وأنا دكتور.

هذه سفاهتنا في هذه الأيام، وكان شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهو آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية، يقول: إن الشهادات تحتاج إلى شهادة في هذه الأوقات؛ لأنها لا قيمة لها.

إذاً: القراء العشرة وأهل الكتب الستة والأئمة الأربعة نذكرهم دائماً معنا في الحديث، فهؤلاء نور الدنيا وبهجتها، فلابد من معرفتهم، أئمة المذاهب الأربعة لعل نساء البادية تعرفهم.

وأصحاب الكتب الستة: البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، ما أظن أحداً يجهلهم إلا إذا كان يشتغل بالهذيان.

أما أئمة القراءة فكثير من الناس لا أرى عندهم دراية وعلماً بهم، وهذا تقصير، هؤلاء هم الذين قراءتنا لا تخرج عن قراءتهم، ونسبت إليهم من أجل بروزهم واجتهادهم وألمعيتهم في ذلك الحرف، مع أنه يقرؤه الألوف المؤلفة والملايين من المسلمين، لكن أبرز من يقرأ بهذا الحرف هم، والقراءة ليست أحادية، فنضبط هؤلاء الأئمة العشرة؛ لأن ما خرج عن هذا فهو شاذ.

المدنيان، وأئمتنا يبدءون بهم دائماً إجلالاً لمدينة نبينا عليه الصلاة والسلام، والمدنيان: نافع ، وهو من السبعة، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع ، وهو من العشرة، أو من الثلاثة المكثرين، وقراءة الثلاثة كقراءة السبعة متواترة فرشاً وأصولاً كما حقق ذلك أئمتنا الكرام.

المكي: واحد فقط وهو عبد الله بن كثير ، وليس هو صاحب التفسير فانتبه لذلك، هذا مكي.

الشامي: واحد وهو عبد الله بن عامر وهو من السبعة.

وأما دمشق الشام دار ابن عامر فتلك بـعبد الله طابت محللا

الكوفيون أربعة: ثلاثة من السبعة، وواحد من الثلاثة المكملين للعشرة: حمزة بن حبيب الزيات ، وعاصم ، والكسائي ، ومعهم خلف ، هؤلاء أربعة، وأربعة تقدموا معنا فصاروا ثمانية، بقي معنا البصريان وهما: أبو عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمي عليهم جميعاً رحمة ربنا القوي.

هؤلاء القراء العشرة، الأئمة الكرام البررة نور الدنيا، مع أصحاب الكتب الستة، ومع أصحاب المذاهب الأربعة رحمة الله عليهم أجمعين، وقراءة عاصم مثلاً يقرأ بها الملايين، نسبت إليه عندما جمعت القراءات؛ لأنه كان أشهر من يقرأ بهذا الحرف ويقرؤه، والأحرف السبعة القراءات العشر بمجموعها تشكل ما استقر وبقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، فليست كل قراءة تمثل حرفاً بعينه، انتبه! لأنه قد يوجد في قراءة عدد من الأحرف ضمن هذه القراءة، لكن هذه القراءات العشر مجموعها يشكل مجموع ما بقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة التي حصلت في آخر حياة نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

إذاً: الكوفيون الأربعة قراءتهم تنتهي ضمن أسانيدهم إلى عبد الله بن مسعود ، وهذا متواتر قطعاً وجزماً، فهذا برهان جلي يقيني بأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه استقر على ما عليه جميع المسلمين، وغاية ما حصل منه انفعال في الأمر الأول من أجل أنه كان يطمح ويتمنى أن يعهد بالرئاسة إليه، فعهد إلى غيره، فلا إشكال في ذلك، والعلم عند الله جل وعلا.

للإمام الذهبي عليه رحمة الله في كتابه سير أعلام النبلاء تعليق على هذا الأمر في الجزء الأول صفحة ثمان وثمانين وأربعمائة، وهو كلام نفيس، فالإمام الذهبي مع أنه جعل كتابه السير تراجم، لكن فيه درر وفوائد، وأحياناً التنبيه إلى أحكام ولطائف في بعض مسائل الشرع، لو رحل الإنسان إلى السند لتحصيلها لكان قليلاً في طلبها.

يقول هنا: قلت: إنما شق على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كون عثمان ما قدمه على كتابة المصحف؛ لأنه كان يتمنى أن يكون هو المقدم، وقدم في ذلك من يصلح أن يكون ولده، هذا له ذؤابتان، وذاك أخذ من نبينا عليه الصلاة والسلام بضعاً وسبعين سورة، وزيد يلعب مع الصبيان، وإنما عدل عنه عثمان لغيبته عنه بالكوفة، ولأن زيداً كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إمام في الرسم، وابن مسعود إمام في الأداء، يقول: كل واحد عنده تخصص، فعندما تؤديه تقرأ القرآن رطباً غضاً كما أنزل يخشع لك الحجر، أما في الرسم، فهذا له اصطلاحات معينة، فإن كنت أقرأ منه، فهو ماهر في ذلك؛ لأنه الذي كان يكتب للنبي عليه الصلاة والسلام، فهو إمام في الرسم، وذاك إمام في الأداء.

ثم إن زيداً هو الذي ندبه الصديق لكتابة المصحف وجمع القرآن، فهلا عتب عبد الله بن مسعود على أبي بكر ، وقد ورد أن ابن مسعود رضي الله عنه رضي وتابع عثمان ولله الحمد.

إخوتي الكرام! وإنما كان يحتاط ويحتاط كثير من السلف في الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام لفظاعة الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، سواءٌ كان الإنسان متيقناً بأن ما حدث به مكذوب أو ظاناً، على الأمرين سيناله الوعيد الشديد.

وقد تواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

وهذا من الأحاديث المتواترة لفظاً ومعنى، وقد رواه العشرة المبشرون بالجنة.

كما رواه تسعون صحابياً بل أزيد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأئمتنا في مبحث الحديث المتواتر أول ما يمثلون للمتواتر يمثلون بهذا الحديث، يقول الإمام العراقي في ألفيته:

ومنه ذو تواتر مستقرا

يعني: متشابه.

في طبقاته كمتن من كذب ففوق ستين رووه والعجب

بأن من رواته العشرة

يعني: رواه فوق الستين، قال الشيخ زكريا الأنصاري في شرح الألفية: بل فوق التسعين، ومنهم العشرة المبشرون بجنات النعيم.

وكما قلت: إذا حدث الإنسان بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ولو لم يجزم بأنه كذب، وهو في شك منه، فيدخل أيضاً في الوعيد إلا إذا تحقق تحقق الشمس من رابعة النهار.

ثبت في مسند الإمام أحمد ومسلم ، لكن في المقدمة، والحديث رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وهو صحيح وإن رواه الإمام مسلم في مقدمته، وليس على شرط الصحيح، لكن الحديث صحيح، وبوب عليه الإمام ابن حبان باباً في منتهى الإحكام فقال: ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالم بصحته، فلا يعلم أنه أيضاً كذب، لكنه غير متحقق من ثبوته، وبوب عليه باباً آخر فقال: ذكر الخبر الدال على صحة ما أومأ إليه الباب المتقدم، من أن من روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجزم بصحته فيجب له النار.

وانظروا هذه الترجمة الظريفة اللطيفة في كتاب الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان في الجزء الأول صفحة سبع عشرة ومائة، ولفظ الحديث: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حدث عني بحديث وهو يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين، فهو أحد الكاذبَين، فهو يُرى، فهو يَرى)، بالبناء للمجهول والمعلوم، والكاذبين بالجمع والتثنية، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده أيضاً، ومسلم في المقدمة، وابن ماجه في السنن، والترمذي في السنن من رواية المغيرة بن شعبة ، هناك سمرة وهنا المغيرة ، ورواه الإمام أحمد في المسند، وابن ماجه في السنن من رواية علي باللفظ المتقدم من رواية سمرة وعلي رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حدث عني بحديث وهو يرى).

قال شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة الله في مقدمة شرحه لصحيح مسلم في الجزء الأول صفحة اثنتين وستين: يرى بضم الياء، أي: يظن، وضبط يرى بالمبني للمعلوم، قال: وتحتمل هذه أمرين: إما أنه يرى بمعنى يظن كمعنى الضبط الأول، وإما بمعنى يعلم، وعليه ضبط يرى إما بمعنى: يظن، وإما بمعنى: يعلم، وهو يرى: يظن أنه كذب، أي: غير متحقق من ثبوته، وهو يَرى: يظن أو يعلم أنه كذب، فهو أحد الكاذبين، يعني: من كذب ذاك الأول، ومن نقل، ولم يتحقق من الثبوت فهو كذاب أيضاً مع من وضع الحديث على النبي عليه الصلاة والسلام.

وكما ترون إخوتي الكرام! في ذلك وعيد شديد لمن حدث ولم يتحقق من صحة ما يحدث به عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك أفتى الحافظ ابن حجر الهيتمي بالتاء المثناة ليس الهيثمي ولا العسقلاني: بأن من يدرس ويخطب إذا روى الأحاديث ولم يعزها إلى من خرجها ينبغي أن يعزر، فعندما يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهذا في الحقيقة عدم تحري، لكن عندما يعزوها تحصل فائدتان:

الفائدة الأولى: أن هذا عندما عزاها إلى المصادر متحقق منها، فليس فيها أشياء من ذهنه.

الأمر الثاني: أنك سهلت الأمر على الباحث، ليذهب ويتحقق تقول له: في سنن الترمذي في صحيح مسلم في مكان كذا، فيفتح وينظر الحديث، هل صحيح أم لا؟ وهل وهمت أنت في ضبطه أم لا؟ لكن يحدث الحديث فتقول له: أين يوجد؟ فيقول: ما علمت، إذا كنت أنت الخطيب لا تعلم فكيف سيكون حال المستمع والمخاطبين! فلابد من وعي هذا، قام مرة بعض خطباء الجمعة وما أكثرهم، فخطب خطبة طويلة فبكى وبكى الحاضرون، ثم بعد أن انتهى من خطبته قال: رواه ابن الجوزي في الموضوعات، فلا يعلم ما معنى ابن الجوزي ولا الموضوعات، ولا شيئاً على الإطلاق، إنما رأى حديثاً في الموضوعات فأعجبه وخطب به، وكثير من الخطباء لا يعرف معنى الحديث الموضوع.

حضرت مرة بعض الخطباء، وانظروا كيف انحطت الأمة؟ وهذا تنفير عن دين الله، لكن من وراء ستار، وأنا أعجب غاية العجب مما يحتاط أهل المستشفى في مشفاهم ولا يحتاط أهل ضيوف الله في بيت الله، وهذا سيقوم خليفة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يحتاط، لو ذهب أشد الناس عبقرية وألمعية ليعمل ممرضاً في المستشفى، وليس طبيباً ولا متخصصاً، فلن يقبلوه إلا بشهادة طبية أو ليس كذلك؟ يقول لهم: أنا عندي دكتوراه في العقيدة، وعنده دكتوراه في التفسير، يقولون: الدكتوراه التي عندك ضعها في جيبك واخرج من هنا، عندك شهادة في التمريض تعال حتى نملي عليك يوماً اختباراً، لابد من مؤهل.

أنا أعجب ممن يقوم مقام النبي عليه الصلاة والسلام ولا مؤهل عنده، لا يتقن قراءة كلام الله، ولا يحفظ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا صد عن سبيل الله من وراء الستار. وأنا أعرف بعض من يعمل في المستشفى فراشاً، يعني: إذا كان فراشاً بكلية السلام، يقول: تلقى عن مشايخ الكلية العلم، يخطب الجمعة، وحضرت الخطبة عنده وكلمت بعد ذلك أهل الخير، لكن إلى من نشكو أحوالنا.

يقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام من ورقة: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، يعلم الله أسمعه بأذني وأنا حاضر، قال: (فما زال ذكرتها حتى سكت)، وجاء بعد ذلك بالأحكام الأخرى في الحج وينقل من كتب الفقه، هذا حسب الخطبة المطبوعة، وأما النساء يقول: ما عليها حلق في الحج، إنما عليها تقصير، والمرأة تقصر بمقدار النملة، وهي الأنملة، قرأها نملة، وأكمل البلاء عندما أمنا في الصلاة، قرأ الفاتحة قراءة لعل الجن لا تقرؤها، ثم جاء لقراءة سورة الجمعة، فقرأ: وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائم، يقرأ هكذا في صلاة الجمعة، فنويت المفارقة وصليت ظهراً، وهذا خطيب جمعة، وفي بلاد المسلمين، والله هذا يندى له الجبين، هذا خطيب جمعة؟! هذا يمثل النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهذا سيدعو إلى الله؟! لا إله إلا الله إذا كان أئمتنا عليهم رحمة ربنا يقولون: من يذكر الأحاديث ولا يعزوها إلى كتب من خرجها يعزر، فكيف بمن لم يسمع بتلك الكتب ولا يعرفها؟

إخوتي الكرام! لابد من إعداد العدة، وأما أن الإنسان يتهجم على هذه الأمور لينفر الناس عن دين العزيز الغفور، فوالله إن هذه إحدى الكبر.

فانظروا إلى هذا الصحابي رضي الله عنه وأرضاه عندما يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام العصا منه تزعزع، وثيابه ترتجف.

ثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: قلت لأبي -وأبوه أحد العشرة المبشرين بالجنة حواري النبي عليه الصلاة والسلام- ما لي لا أسمعك تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول: (من كذب عليّ متعمداًفليتبوأ مقعده من النار).

وفي رواية: قال عبد الله لأبيه: ما يمنعك أن تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ قال: يا بُني! أما والله لقد كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه ومنزلة، أي: كنت مقرباً عنده، يعني: لست من البعيدين، لي عنده وجه ومنزلة، وأنا حواريه، لكن الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام شديد، لابد من التأني.

وثبت في صحيح مسلم في المقدمة عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: إني ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعمد علي كذباً فليتبوأ مقعده من النار).

في الرواية هنا كذلك في مقدمة صحيح مسلم : (من تعمد علي كذباً فليتبوأ مقعده من النار).

والحديث رواه الترمذي لكن دون مقدمته، أعني: كلام أنس رضي الله عنهم أجمعين.

التنبيه الثاني: كما كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شديداً في الاحتياط في الرواية، ويقل في روايته عن النبي عليه الصلاة والسلام، كان شديد الاحتياط أيضاً وطويل التوقف في الفتيا، وكانت إذا عرضت عليه المسائل يتوقف ويتوقف، وسيأتينا أنه سئل عن قضية فتوقف فيها شهراً كاملاً، ولما ألحوا عليه، وقالوا: أنت صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنت في الكوفة فمن نسأل؟ قال: أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله من ذلك بريئان، ثم قضى، وسأذكر هذه القصة التي عرضت عليه وقضى فيها في أول الموعظة الآتية إن شاء الله، ثم ننتقل إلى بقية ترجمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبدَ الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.