إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإجارة [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لابد من معرفة الأجرة في عقد الأجارة ويستثنى من اشتراط معرفة الأجرة؛ أن يكون هناك عرف يحدد الأجرة، كركوب السيارات والطائرات وغيرها، فيسكت العاقدان عن تحديد الأجرة، فعند ذلك يرجع إلى العرف؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، ويجوز استئجار الأجير والمرضعة مقابل طعام أو كسوة.

    1.   

    أركان عقد الإجارة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن عقد الإجارة يقوم على أمور لابد من توافرها، فهناك العاقدان: وهما الشخصان فأكثر، اللذان يتفقان على إبرام عقد الإجارة، ولابد في هذين العاقدين -المؤجر والمستأجر- من أن تتوفر فيهما أهلية الإجارة، وذلك بأن يكونا عاقلين، بالغين، مختارين غير مكرهين، حرين، فلا تصح الإجارة استئجاراً ولا تأجيراً من صبي إلا إذا كان مميزاً وأذن له بالتصرف.

    فمثال ذلك: لو أراد الصبي أن يؤجر عمارة يملكها إرثاً من والده، فإنه لا تصح إجارته، مع أنه هو المالك الحقيقي لها، ولا يصح له أن يؤجرها إلا بإذن وليه، فإذا أذن له وليه صحت الإجارة، وكذلك لو كان عنده مال فأراد أن يستأجر بذلك المال شيئاً فإنه لا تصح إجارته إلا أن يأذن له وليه.

    وإذا كان يشترط في المؤجر أو المستأجر أن يكون بالغاً عاقلاً، فلا تصح الإجارة من مجنون، وكذلك أيضاً يكون حراً، إلا إذا كان عبداً مأذوناً له بالتصرف.

    ومعنى أن يكون كلٌ من المؤجر والمستأجر مختاراً، أي: أنه أقدم على عقد الإجارة باختياره ورضاه، ولم يكن ذلك عن كره، فالإكراه يسقط الاعتبار لعقد الإجارة، فلو أن شخصاً أجبر على تأجير داره أو عمارته أو سيارته فإن العقد لا يصح.

    والعلماء رحمهم الله يقولون: يشترط في العاقدين ما يشترط في البائعين، يعني: من أهلية التصرف.

    كذلك يشترط ملكية المؤجر للشيء الذي يؤجره، فلا يجوز ولا يصح أن يؤجر الإنسان مال غيره إلا إذا كان وكيلاً عن ذلك الغير، أو ولياً قائماً على شئونه، أو يكون القاضي قد نصبه لرعاية مصالح المالك الحقيقي كما في المحجور عليه.. هذا بالنسبة للمؤجر والمستأجر.

    شروط أركان الإجارة

    أما بالنسبة لمحل عقد الإجارة: فمحل عقد الإجارة هو الأجرة والمنفعة، فالعاقدان يتفقان على تأجير شيء لقاء ثمن مدفوع، أو لقاء أجرة معينة، وبناء على ذلك ينصبُّ إيجاب كل من المؤجر والمستأجر على محل، هذا المحل إذا كان المنفعة السكنى -مثل: الفنادق والعمائر والفلل والشقق والغرف- فيقول له: أجرني شقتك سنة بعشرة آلاف. فيقول: قبلت. فهنا: انصب عقد الإجارة من إيجاب وقبول على منفعة هي سكنى الشقة لمدة سنة، وعلى أجرة وعوض وهو العشرة آلاف.

    فإذاً: عقد الإجارة ينصب على المنفعة والعوض المبذول لقاء المنفعة، سواء كانت المنفعة السكنى، أو كانت المنفعة الركوب كركوب السيارات والقاطرات والطائرات ونحو ذلك.

    وأما بالنسبة للمنفعة التي هي محل للعقد فلها شروط، سيبينها المصنف رحمه الله؛ منها أن تكون منفعة مقصودة، وأن تكون مباحة غير محرمة، وأن تكون معلومة غير مجهولة، ونحو ذلك من الشروط التي سيبينها رحمه الله.

    وأما الثمن والأجرة: فكل ما صح ثمناً في البيع صح ثمناً في الأجرة، فيجوز أن تكون الأجرة من النقد، وهو الذهب أو الفضة، فيقول له: أستأجرها منك العمارة بعشرة آلاف ريال. وهذه فضة، أو يقول: أستأجرها بمائة جنيه من الذهب.

    وقد تكون الأجرة من المثمونات، كأن يقول له: أجرني عمارتك هذه سنة بهذه السيارة. فحينئذ يكون العوض وتكون الأجرة من الأعيان.

    هذا محل العقد، وينصب عقد الإجارة على منفعة وعلى عوض مدفوع لقاء هذه المنفعة.

    أما الركن الأخير فهو: الإيجاب والقبول، وهو الذي يسميه العلماء (صيغة عقد الإجارة)، فصيغة عقد الإجارة تقوم على الإيجاب: أجرتك داري، أجرتك سيارتي، أجرتك أرضي... إلخ، ويكون هناك قبول من قوله: قبلت أو رضيت، ونحو ذلك مما يدل على القبول والرضا.

    إذاً: عقد الإجارة يقوم على هذه الأركان التي تشمل العاقدين، ومحل العقد، وصيغة عقد الإجارة.

    ولكل من هذه الأركان شروط لابد من توفرها للحكم بصحة عقد الإجارة، وهذه الشروط هي جملة من العلامات والأمارات التي نصبها الشارع لكي يحكم بصحة عقد الإجارة واعتباره، وقد تقدم تعريف الشرط لغة واصطلاحاً، وإذا قال العلماء: يشترط لعقد الإجارة شروط لابد من توفرها للحكم بصحته؛ فهذا النوع من الشروط يسمى بشروط الصحة، وإذا أردت ضبطها فهي جملة من الأسباب والعلامات والأمارات التي نصبها الشارع للمكلف حتى يحكم بصحة عقد الإجارة أو عدمه.

    فأنت مثلاً: إذا سألك رجلان اتفقا على عقد إجارة، وقالا: اتفقنا على تأجير هذه السيارة بكذا وكذا لمدة شهر أو لمسافة ألف من الكيلومترات، فأنت حينئذٍ تنظر في هذا العقد والاتفاق بين الطرفين هل استوفى شروط الصحة، فإذا وجدت الأمارات والعلامات التي نصبها الشارع، وأنه استأجر منه السيارة شهراً، فالسيارة المراد بها: الركوب، وهذه منفعة، وهذه المنفعة مأذون بها شرعاً، ثم هذه المنفعة معلومة؛ لأنه حددها بشهر أو حددها بالمسافة فقال: ألف كيلو متر، وكذلك وجدت العاقدين على الصفات المعتبرة شرعاً للأهلية، فبعد وجود ذلك كله تقول: عقد الإجارة صحيح، فأنت تحكم بصحة الإجارة من خلال هذه العلامات والأمارات التي نصبها الشرع للحكم بصحة عقد الإجارة.

    هذا هو معنى قول العلماء: شروط صحتها، فكل ذلك يقصد منه أن تبين العلامات التي ينظر الفقيه من خلالها إلى العقد، وكذلك ينظر القاضي والمفتي، فيحكم بصحة عقد الإجارة وعدمه.

    أمثلة توضح شروط صحة العقود

    لو جاءك شخص وقال: عندي عقد إجارة لبيتي أو عمارتي أو سيارتي أو مزرعتي. فأول ما تنظر في شروط الصحة، وعندك شروط تتعلق بالشخصين اللذين اتفقا على هذا العقد، وشروط تتعلق بالمنفعة نفسها والتي هي سكنى الدار، والمقصود هل هذه السكنى مأذون بها شرعاً أو غير مأذون بها شرعاً؟ هل هي معلومة أم مجهول؟ ونحو ذلك من الشروط المعتبرة، فإذا وجدت العلامات والأمارات المعتبرة للحكم بالصحة قلت: العقد في حكم الشرع صحيح. وإن وجدت أي شرط من هذه الشروط قد اختل تقول: العقد غير صحيح.

    مثلاً: جاءك رجلان وقالا: اتفقنا على أن أؤجره سيارة بعشرة آلاف لمدة سنة، فلما اتفقنا دفع المال، وبعد أن أحضرت السيارة رجع عن العقد وامتنع من قبول السيارة، فتقول له: هل السيارة كانت معلومة ومعروفة عند المستأجر؟

    فإن قال: لا.

    قلت له: هل وصفت السيارة صفة تزول بها الجهالة؟

    فإن قال: لا.

    قلت له: انصب عقد الإجارة على شيء مجهول الذي هو السيارة، ومن حق المستأجر حينما نظر إليها فلم تناسبه أن يرجع؛ لأنه يريدها لمنفعة قد يرى في غالب ظنه أن مثلها لا يقوم بهذه المنفعة.

    إذاً: فأنت حكمت بفساد هذا النوع من العقد لجهالة العين المؤجرة.

    ولو قال له: أؤجرك شقة في داخل مكة بعشرة آلاف، فيها أربع غرف، بصفات هي كذا وكذا وكذا.. لكن لم يحدد مكانها، فاتفق معه ودفع له جزءاً من الأجرة، فلما مضى لكي يريه الشقة وإذا بها نائية أو بعيدة عن الحرم، فقال له: أنا لا أرضى بهذه الشقة.

    فإذا اختصما إليك فإنك تقول: اتفقتما على إجارة شيء فيه جهالة، وكان المنبغي أن تحدد مكان الشقة وأن تحدد مكان العمارة.

    ولو أنهما اتفقا على تأجير عمارة أو سكن، ووصف هذا السكن فقال له: أؤجرك عمارة بجوار الحرم بعشرة ألف، وهذه العمارة من صفاتها كذا وكذا وكذا، ووصف العمارة وصفاً تاماً، فلما جاء إلى العمارة وجد أن هناك صفات لم توجد، وأنه ذكر له صفات لم يرها في العين المؤجرة، فقال له: لا أريد. فإنك تقول: نعم، هذا من حقه؛ لأن الإجارة لا تصح إلا على شيء معلوم، ولما وصف لك المؤجر العين المؤجرة واختلفت الصفة فلك خيار الرؤية مثلما تقدم معنا في البيع.

    فإذا أجر شيئاً حاضراً ناظراً، وقال: أؤجرك هذه العمارة، وأشار إليها، أؤجرك هذه السيارة؛ فحينئذ إذا استطاع أن يستجديها ويعرف صفاتها فإنه يستجديها ويعرف صفاتها، ولذلك فإنه لابد من معرفة العين المؤجرة، وخلو العقد من الجهالة في العين المؤجرة معتبر، فإذاً لابد من وجود صفات.

    حينما يذكر الفقهاء هذه الشروط ينبغي لطالب العلم قبل أن يدخل في الشروط -حينما يقرأ: يشترط لصحة عقد الإجارة، يشترط لصحة الحج، يشترط لصحة الصوم- ينبغي أن يعلم أن هذه الشروط يقصد منها أمران:

    الأمر الأول: رفع الظلم عن العباد في الحقوق والمعاملات التي تقع بينهم.

    والأمر الثاني: معرفة ما أذن الله به من العقود وما حرمه.

    فإذاً: هذه الشروط في الأصل لا تأتي من فراغ، ولا تأتي إلا بدليل شرعي أو أصل شرعي يدل على اعتبارها، مثلاً: لو قال لك قائل: لماذا تشترط أن تكون العين المؤجرة معلومة؟ تقول: لأن الشريعة شريعة عدل، ولا تجيز للمسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، فالمستأجر إذا استأجر شيئاً مجهولاً فتح الباب لأهل الفساد أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، فيأتيه ويقول له: أؤجرك عمارة بمائة ألف. قال: قبلت. فظن أنها بمكان طيب، فظهر أنها في مكان غير طيب، وقد قررنا هذا وبيناه، وبينا وجه اشتراط الشريعة وتشديدها في عقود المعاوضات عند كلامنا على شرط العلم بالثمن والمثمن في البيع.

    فالحاصل: أن شروط الصحة هي: جملة من العلامات والأمارات التي نصبها الشارع للحكم بصحة العقد، وبناء على ذلك؛ فهذه الشروط التي سيذكرها العلماء تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: شروط ورد النص بها وبينها نص الكتاب والسنة.

    والقسم الثاني: شروط فهمت من أدلة الشريعة أو مقاصدها العامة، أو نبه الشرع بالنظير على نظيره، والله عز وجل جعل الأشياء معتبرة بعللها إذا كانت معللة، وهذه العلل يقصد منها الإنقاص، ويلحق بها ما هو شبيه بها في تلك العلة، فإذا وجدنا عقد الإجارة آخذاً حكم عقد البيع؛ لأن المستأجر دفع المال لقاء المنفعة، والبائع والمشتري دفع كل منهما ما بيده لقاء الآخر، فأصبحا من عقود المعاوضة، فكما أن الشريعة اشترطت في البيع العلم وانتفاء الجهالة، ونهى صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن بيع الغرر، نقول: لا تصح الإجارة إذا كانت على وجه الغرر.

    وكما أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا أن نأكل أموال الناس بالباطل، فنبيع التجارة على سبيل الكره أو على سبيل الغش الذي يؤكل به المال كله أو بعضه بالباطل، كذلك لا يجوز للمؤجر أو المستأجر أن يأكل مال أخيه بالباطل، فهو إذا أجره عمارة على أنها موصوفة بصفة كاملة، فدفع له عشرة آلاف -وهذا المال هو أجرة مثلها في الكمال- فتبين أنها ناقصة وأن مثلها يستحق الخمسة الآلاف -التي هي نصف الأجرة- فيكون قد أكل النصف الباقي بالباطل.

    فإذاً: هذه الشروط إما أن تكون منصوصة كقوله عليه الصلاة والسلام: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) فبين أنه لابد من العلم بالأجرة، وإما أن تكون ملحقة بالمنصوص عليه؛ لأن الشريعة قواعدها كلية وأصولها عامة، والفرع تابع لأصله، وكذلك يلحق النظير بنظيره عند وجود العلة المقتضية للإلحاق.

    1.   

    شروط صحة الإجارة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [تصح بثلاثة شروط: معرفة المنفعة: كسكنى دار].

    قرن الشروط بقوله: (تصح) فتقول: هذا شرط الصحة. لأن هناك شروط صحة وهناك شروط وجوب، فشروط الصحة: تكون في العبادات وتكون في المعاملات:

    تكون في العبادات فتقول: لا تصح الصلاة إلا من العاقل، ولا تصح الصلاة إلا بطهارة الثوب والبدن والمكان.

    ويكون شرط الصحة في المعاملة مثل أن تقول: يشترط لصحة البيع العلم بالثمن والمثمن، فمتى وجد حكم بصحة البيع، ومتى فقد حكم ببطلانه.

    الشرط الأول: معرفة المنفعة

    وقوله: [أولها: معرفة المنفعة].

    إذا اتفق العاقدان على إجارة فلابد من أن يحددا المنفعة التي اتفقا على الإجارة من أجلها، وعقد الإجارة ينبغي على طالب العلم أن يعلم أنه ينصب على المنافع المباحة والمأذون بها شرعاً كلها، فيشمل أي منفعة مباحة فيجوز أن تستأجر شخصاً من أجل أن يحمل المتاع، ويجوز أن تستأجره لتنظيف الدار، ويجوز أن تستأجره للحدادة والنجارة، وأن تستأجر الخادمة للطبخ، وأن تستأجر لبناء الدار، وأن تستأجر لإصلاح المزرعة، وأن تستأجر لرعي الغنم، وأن تستأجر لكل شيء من المنافع المباحة.

    إذاً: لابد أن نعلم أن عقد الإجارة ينصب على المنفعة، أي أن محل العقد مصلحة ومنفعة يريدها أحد العاقدين لقاء مبلغ وعوض يدفعه، فإذا كان عقد الإجارة ينصب على المنفعة فينبغي فقهاً أن نقول: لا نصحح عقد الإجارة حتى تحدد المنفعة.

    وهناك قاعدة: أي اتفاق بين طرفين في شيء متردد بين أشياء عديدة غير متكافئة وغير متساوية فإن الشرع لا يأذن به؛ والسبب في هذا: أنه لو اتفق الطرفان على شيء محتمل لأشياء متعددة متفاوتة؛ فإنك لا تأمن الخصومة بين الطرفين، وهذا ذكرناه في البيع حينما يقول له: بعتك سيارة من سياراتي. والسيارات فيها الجيد وفيها الرديء، فإذاً لا يصح البيع؛ لأنه يحتمل أن يدفع العشرة الآلاف لقاء سيارة جيدة فيقول له: خذ هذه الرديئة، فيقول له: كيف تبيع لي هذه الرديئة؟ يقول: أنت اتفقت معي على سيارة، فألزمك بأي سيارة.

    فإذاً: لو اتفق العاقدان في عقد الإجارة على منفعة مجهولة، حيث قال أحدهما للآخر: تأتي وتعمل عندي؟ فقال له: ماذا أعمل؟ قال: الله أعلم، أي: عمل أطلبه منك فعليك أن تعمله. فتقول: هذا لا يجوز؛ لاحتمال أن يكون ظن الأجير في شيء يعلمه ويحسنه، فإذا به في شيء لا يحسنه، واحتمال أن يكون في شيء يظنه خفيفاً عليه فإذا به ثقيل عليه.

    فإذاً: لا يصح أن يقع عقد الإجارة إلا على شيء معلوم، وهذا يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وأنها تريد العاقد -وهو الأجير- أن يدخل للإجارة مطمئن القلب مرتاح النفس والبال، يعرف ما الذي له وما الذي عليه.

    ثم انظر إلى حكمة الشريعة: أنه لو اتفق الطرفان على شيء مجهول لا يستطيع العامل أن يقدر أجرته لأنه لا يعلم مدى العمل المطلوب منه، فهو يقول له: أستأجرك يوماً لتعمل عندي بمائة. فحينئذٍ لا يستطيع أن يعلم هل العمل الذي يطلبه منه يستحق المائة أو لا يستحق، فلربما ظن أن العمل يستحق المائة، فإذا به عمل يستحق المائتين، فإذاً: لا يجوز أن يغرر أحد العاقدين بالعاقد الآخر في شيء محتمل للسلامة وعدمها، أو في شيء محتمل للجودة والرداءة، بل لابد من التحديد.

    فقوله: (معرفة المنفعة) المنافع عامة، تشمل: سكنى الدار، وركوب الدواب، وغير ذلك.

    حينما تؤجر سيارة (تاكسي) أو نحوها من أجل الركوب، ونحن نمثل بأشياء معاصرة؛ لأن طلاب العلم إذا ضربت لهم الأمثلة بالدواب وبالأشياء القديمة لا يستطيعون تطبيقها على ما يعيشون، فالمنافع الموجودة والتي يمارسها كثير من الناس اليوم هي: إجارة السيارات للركوب، إجارة الباخرات للركوب، إجارة القاطرات والطائرات، فكلها إجارة؛ لأنك لا تريد شراء الطائرة بنفسها، ولا الباخرة بنفسها ولا القطار بنفسه ولا السيارة بنفسها، وإنما أردت مصلحة معينة ومنفعة معينة تأخذها من هذه العين.

    فإذاً: لو قال له: أريد منك أن تؤجرني سيارتك. كانت المنفعة معلومة، وهي: تأجير السيارة للركوب.

    الشرط أن تكون المنفعة معلومة، فلا يصح بمنفعة مجهولة، فلو قال له: أستأجرك على أن تعمل عندي كل شهر بألف.

    قال: ماذا أعمل عندك؟

    قال: أي عمل.

    فقوله: (أي عمل) منفعة مجهولة، فهل هو عمل بناء أو عمل حدادة أو خياطة أو نجارة أو غير ذلك؟ إذاً: المنفعة مجهولة فلا تصح الإجارة، فلابد من العلم بالمنفعة.

    قوله: [كسكنى دار].

    هذا تمثيل، وينبغي أن ننتبه أن عندنا ترتيباً في الشروط، فأولاً: معرفة المنفعة، وبعد معرفة المنفعة هناك أيضاً شروط في المنفعة نفسها، وبعد ذلك نستطيع أن نحكم هل العقد يصح على هذه المنفعة أو لا يصح، فالعلماء ذكروا المنفعة من أجل أن يحدد طالب العلم الشروط المتعلقة بالمنافع، وعندنا شروط تتعلق بالعاقدين كما بينا.

    وبدأ رحمه الله بشرط المنفعة؛ لأن الأصل في عقد الإجارة المنفعة، ولذلك إذا سألك سائل: ما الفرق بين البيع والإجارة؟

    تقول: البيع ينصب العقد على الذات، والمنفعة تتبعه.

    فأنت تشتري عين السيارة وذاتها، وتملك ركوبها والانتفاع بها، وتشتري العمارة والأرض لذاتها، وتملك التصرف في منافعها من سكنى ونحو ذلك.

    أما في الإجارة فإن العقد ينصب على المنفعة، ومن هنا لا يصح أن نقول: عقد الإجارة ينتهي إلى التمليك؛ لأن هذا لا يعرف في الشريعة، إما عقد إجارة واضح بين، وإما عقد تمليك واضح بين، أما أن تقول: عقد إجارة ينتهي بالبيع، فيجمع عقد بين بيع وإجارة.. فلا يصح، ولابد وأن تحدد: فعقد البيع للذات، والمنفعة تبع، وعقد الإجارة للمنفعة دون الذات، وسنبين هذا ونقرره إن شاء الله ونوضح كلام العلماء رحمهم الله في مثل هذا، إذ لو فتح الباب للتلاعب بالحقائق والمصطلحات الشرعية لأحدث الناس ما لا يحصى من العقود الفاسدة، وتذرعوا وخلطوا؛ لذلك كان العلماء يقولون: إنما يخشى من نصف الفقيه؛ لأنه يضبط شيئاً ولا يحسن تخريجه، فهو يأخذ عقد الإجارة -وهو مشروع- وعقد البيع وهو مشروع؛ فيقول: إذاً يجوز أن تنتهي الإجارة بالبيع، لأن الإجارة مشروعة والبيع مشروع.

    لكن الله أذن بالإجارة لوحدها، وأذن بالبيع لوحده؛ فإذاً لا يصح أن يركب الشخص شيئاً ثالثاً لا يعرف في الشريعة وهو عقد خليط بين العقدين.

    فإذاً: لما قال: معرفة المنفعة فمعناه: أن عقد الإجارة منصب على المنافع ولا ينصب على الذوات، وسيقرر هذا في الفصل الثاني إن شاء الله، وسيأتي الكلام على ذلك ونبين لماذا فرق العلماء بين هذين النوعين من العقود.

    قال رحمه الله: (كسكنى دار).

    فالعمارة أو البيت إذا أجرت فإنها تؤجر لأغراض متعددة، فيمكن للشخص أن يؤجر العمارة للسكن، ويمكن أن يؤجرها مستودعاً يحفظ فيه أشياءه، ويمكن إذا أجرها للسكن أن يؤجرها لنفسه، ويمكن أن يؤجرها لولده؛ فإذاً لابد من تحديد محل العقد، فمثلاً تقول: أنا أستأجر منك هذه العمارة للسكن؛ لأنه لو استأجرها لوضع متاعه فيها ربما كان ذلك أضر بالعين المؤجرة -يعني: يضر العمارة- فهو إذا جاء يستأجر فإنه لابد أن يقول: أستأجر هذه العمارة للسكنى.

    فلو أنه استأجرها وسكت، ثم فوجئ مالك العمارة بعد أن أجرها وتم العقد بينهما، أنه قد جاء بأمتعة وأدخلها في العمارة، وجعل العمارة كالمستودع لأغراضه، فقال له مالك العمارة: إنما أجرتك العمارة من أجل السكنى.

    قال: لا، أنا استأجرت العمارة ودفعت العشرة الآلاف، والعمارة ملك لي.

    فنقول: هل اتفقتما على أن تؤجر للسكنى أو تؤجر من أجل حفظ المتاع الذي هو الاستيداع؟

    قال: ما تكلمنا على شيء.

    نقول: إذا لم تتكلما على شيء، فهل هناك عرف وبيئة موجودة جعلت مالك العمارة يسكت؟ ففي بعض الأحيان قد تسكت؛ لأن الأمر شائع وذائع بأنك إذا أعطيت العمارة أنها للسكن.

    فإذا قالوا: نعم، العمائر تؤجر للسكنى. فنقول للمستأجر: قد اعتديت وخرجت عن العرف، وبناء على ذلك: لابد من رضا صاحب العمارة بإجارتها على هذا الوجه، وإلا فسخ العقد بينكما.

    إذاً: معرفة المنفعة كسكنى دار، لابد أن يقول له: أستأجر منك هذه العمارة للسكنى، وكذلك أيضاً الدكاكين، إذا أجرت هذه الدكاكين، فيقول: أستأجر هذا الدكان من أجل أن أفتح محلاً، أو أستأجرها من أجل أن أحفظ حوائجي فيه، فإذاً: لابد أن يحدد المنفعة، وهذا كما ذكرنا كله من باب فصل الأبواب المفضية للنزاع؛ لأنه ربما استأجر الشخص بطريقة وانتفع بطريقة أخرى، وهذا يضر بأعيان الناس.

    أي: لو فرض -مثلاً- أنه استأجر سيارة، فقال: أستأجر منك هذه السيارة يوماً بمائة. كما هو موجود الآن في إجارة السيارات، وإجارة السيارات على طريقتين: إما أن يقول لك: خذ هذه السيارة اليوم بمائة، أو خذ هذه السيارة كل مائة كيلومتر بمائة. وكله جائز، سواء جعل العقد عن طريق المسافة أو جعل العقد عن طريق الزمان، مثل العامل حين تقول له: اعمل في بناء هذا الجدار اليوم بمائة. فيجوز إذا قدرت عمله بالزمان، أو تقول له: اعمل في هذا الجدار وأعطيك على كل متر خمسين.

    فلو أخذ السيارة واستأجرها بمائة ريال يوماً، ثم أخذ السيارة فحمل فيها -مثلاً- أمتعة وحمل فيها أغراضاً شخصية تؤثر على السيارة وتضر بها -والسيارة معدة للركوب- فقال له مالك السيارة: ما هذا؟ قال: أنا استأجرت السيارة، ومن حقي أن أنتفع بها يوماً كما أشاء.

    نقول: يشترط معرفة المنفعة.

    إذاً: حينما يحددان المنفعة ينتفي الضرر وتنتفي الخصومة، لكن إذا لم يحددا المنفعة أضر أحدهما بالآخر، وأفضى ذلك إلى خصومة الطرفين، فلابد من معرفة المنفعة.

    في القديم: سكنى الدار، أما في زماننا: استئجار الفلل والعمائر والشقق والغرف والفنادق، وكل هذا يعتبر آخذاً حكم سكنى الدار.

    فمسائل الفنادق المعاصرة وإيجار الفنادق تتخرج على ما ذكره العلماء في إجارة وسكنى البيوت؛ لأن المراد بها منفعة السكنى، فجنس المنفعة ونوع المنفعة واحد، وبناءً على ذلك نقول: يجوز أن يستأجر منه العمارة للسكنى، أو يستأجر الدار والفلة للسكنى، أو يستأجر الغرفة مثل الاستراحات في السفر، فلو قال له: أؤجر لك هذه الغرفة لكي تستريح فيها أنت وعائلتك الساعة بعشرة ريال، فهذه إجارة جائزة ومشروعة؛ لأنه حدد المنفعة وهي السكنى، وبناءً على ذلك: إذا حصل الاتفاق بين الطرفين على منفعة معلومة فلا بأس.

    قال رحمه الله: [وخدمة آدمي].

    بعد أن ذكر مثالاً من منافع العقارات، شرع في منافع الحيوان، والحيوان: المراد به الحي، سواء كان من الآدمي أو غيره؛ لأن الله وصف بالحيوان مطلق الحياة فقال: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] يعني: لهي الحياة الحقيقية.

    أي: يشترط أن تكون المنفعة معلومة كخدمة الآدمي، فتقول لرجل: أستأجرك يوماً بمائة على أن تخدمني أو تخدم والدي المريض. أو تستأجر امرأة لخدمة الوالدة أو الزوجة باليوم أو بالشهر أو بالسنة، وتحدد لها أعمالها، فتقول: تخدمين في هذا البيت بالطبخ، أو برعاية مصالح البيت.

    وإذا استأجر الآدمي لمزرعة فيقول له: أستأجرك شهراً بألف على أن تقوم بسقي النخل وتنظيفه ورعايته. أو يقول له: أستأجرك على أن ترعى غنمي أو إبلي أو بقري، كل شهر بثمانمائة ريال، فهذا جائز، فيقوم على رعاية الغنم ويصلحها ويرتفق بها، ونحو ذلك من مصالحها المعروفة بالعرف.

    إذاً: خدمة الآدمي، سواء كان في خدمة المنازل، أو في خدمة قيادة السيارة، أو يكون في خدمة الدواب أو خدمة مصالحك كالزراعة ونحوها، فكل ذلك جائز، أو تأتي به في ورشة أو منجرة أو مكان حدادة، تقول له: اشتغل عندي اليوم بمائة أو الشهر بألف. فتحدد له عمله وتحدد له أجرته، وهذه منفعة معلومة.

    أما لو قلت له -كما ذكرنا-: اشتغل عندي وأعطيك ألفاً في الشهر، أو تأتي عندي خادماً وأعطيك ألفاً في الشهر. فهذا مجهول، فلابد أن يكون على علم بما يطلب منه حتى يكون على بصيرة من عقده للإجارة.

    وقوله: [وتعليم علم].

    أي: يستأجره من أجل أن يعلم العلم، ومن أمثلته في زماننا: أن يستأجر المعلم لتعليم ولده، أو يستأجر المدرسة -المدارس الأهلية الموجودة الآن تعتبر إجارة- يدفع للمدرسة أجرة شهرية على أن تقوم هذه المدرسة بتعليم الطالب على ما هو متبع ومعروف في أعراف المسلمين، بحيث لا يكون هناك تقصير ولا إخلال، فإذا اتفقا على تعليمه فينبغي أن يحددا العلم، فيقول له مثلاً: أريدك أن تحفظ ولدي القرآن. فإذا أراد أن يحفظه القرآن فيحدد القراءة التي يريد أن يحفظه عليها، ويحدد له القراءة نفسها هل هي بالتجويد أو بدون تجويد، ويحدد له ما يطلب منه بالعرف، يعني: أن يقوم بتعليم ولده بالعرف.

    فإذا اتفقا على ذلك قال: أعطيك في اليوم مائة، أو أعطيك في الشهر ألفاً، فإذا اتفق معه على ذلك فهذا -على القول بجواز الإجارة على تعليم القرآن- تصبح المنفعة معلومة وهي تعليم القرآن.

    كذلك أيضاً يقول له: تعلم ولدي علم الفرائض، أو علمني علم الفرائض، أو أتعلم عندك علم الفرائض الساعة بمائة. فهذا لا بأس به، وهكذا على القول بجواز الإجارة على العلوم الشرعية، وكذلك أيضاً علم الحساب، لو قال له: علم ولدي علم الحساب. وحدد له مستوى الطالب، وحدد له الكتاب الذي يريد أن يقرأه، وحدد له الساعات والمدة، واتفقا على ذلك، فلا بأس، هذا تعليم العلم.

    المهم أن يكون العاقدان -المؤجر والمستأجر- على علم وبينة وبصيرة، وتوضع هذه الشروط، ونحن نقول: لابد أن تكون المنفعة معلومة، حتى يعرف ما الذي له وما الذي عليه، فإذا وقع أي خلل من المعلم، فنستطيع أن نعرف حق الطالب وحق المعلم، ويمكننا عندها أن نقول: يجب على المعلم كذا أو يجب على الطالب كذا، ونحو ذلك سواء كان الإخلال من الطالب أو كان من المعلم.

    إذاً: لابد وأن تكون المنفعة معلومة، كتعليم علم، والعلم قد يكون علماً شرعياً وعلماً دنيوياً مباحاً كعلم الطب وعلم الحساب، وإن كان بعض العلماء يقول: علم الحساب قد يكون علماً شرعياً؛ لأنه يستعان به بعد الله على الفرائض، ونحو ذلك من العلوم الغير محرمة والمباحة شرعاً، فيجوز الإجارة بتعليمها.

    قال رحمه الله: (وتعليم علم). أي: وتكون المنفعة معلومةً كأن يقول له: أستأجرك شهراً بألف لتعليم ولدي كل يوم ساعة من علم الحساب أو علم الفرائض أو علم الفقه أو نحو ذلك. ولابد وأن يحدد تلك المنفعة كما سيأتي.

    الخلاصة أن الشرط الأول: معرفة المنفعة. وقلنا: إن هذا الشرط بلا خلاف بين العلماء رحمهم الله، فكل العلماء يجمعون على أنه لا تصح الإجارة على شيء مجهول أو على منفعة مجهولة، فإذا كانت المنفعة مجهولة فلا تصح، وعلى هذا: لابد من تحديد نوع المنفعة، ويكون كل من العاقدين على علم بالشيء الذي تدفع الأجرة في مقابله.

    الشرط الثاني: معرفة الأجرة

    قال رحمه الله: [الثاني: معرفة الأجرة].

    من المعلوم أن هناك منفعة وهناك أجرة في مقابل المنفعة، والأجرة مأخوذة من الأجر، وأصل الأجر: العوض عن الشيء، سواء كان عوضاً من الدنيا أو كان عوضاً من الآخرة، ولذلك سمى الله ثواب الآخرة أجراً.

    وأما بالنسبة للأجرة هنا فالمراد بها: ما يدفع لقاء المنفعة، وهذه الأجرة إما أن تكون من النقدين الذهب أو الفضة، أو تكون من غير النقدين، فيقول له مثلاً: اعمل عندي يوماً بمائة ريال. هذه أجرة بأحد النقدين، أو اعمل عندي شهراً بعشرة جنيهات من الذهب.

    وقد تكون الأجرة من غير الذهب والفضة، مثل: أن يجعل الأجرة من المنقولات كالأطعمة كما يقول له: اعمل عندي يوماً وأعطيك صاعاً من التمر من نوع كذا وكذا.

    إذاً: الشرط الثاني: أن تكون الأجرة المدفوعة لقاء المنفعة معلومة، فلا تصح الإجارة على أجرة مجهولة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) أي: ليعلمه ويبين له حقه؛ وذلك ليتحقق العدل، فينظر العامل هل الأجرة التي تدفع لقاء عمله مناسبة أو غير مناسبة، هل يرضى بها أو لا يرضى، وهل تعبه وعرق جبينه وكده ونصبه يستحق هذا الأجر أو لا يستحقه، فإن شاء رضيه وإن شاء طالب بالأكثر.

    فإذاً: الأجرة لابد وأن تكون معلومة، فمثلما حفظت الشريعة حق المستفيد والآخذ بالمنفعة حفظت أيضاً حق الأجير وحق مالك العين بأن يكون على علم بالثمن والمال المدفوع لقاء المنفعة التي يبذلها.

    فيشترط أن تكون الأجرة معلومة.

    فلو قال له: اعمل عندي شهراً وأعطيك أجرة.

    قال: كم أجرتي؟

    قال: أرضيك، فلا يصح؛ لأن (أرضيك) هذه جهالة، فقد يكون رب العمل الذي طلبه بخيلاً شحيحاً، وقد يكون العامل شرهاً طماعاً، فليس هناك قاسم مشترك يمكن من خلاله معرفة الحق، فإذاً: الشريعة لا تجيز هذا.

    ومن الخطأ ما يقع بعض الأحيان عندما يأتي إنسان ويركب السيارة ويستأجرها دون أن يعلم الأجرة، وفي بعض الأحيان تأتي وتقول له: كم الأجرة؟ يقول: ما يهمك، المال مالك، والحلال حلالك. نقول: هذا لا ينفع، ولذلك كثيراً ما تقع المشاكل بهذا الأسلوب، ويقع الإنسان في نوع من الحرج.

    وقد يقول لك العامل: ما يهمك، يعني: إن شاء الله أنت كريم وأنت كذا. فإذا جاء يشتغل عندك وأعطيته أجرة مائة ريال التي هي أجرة مثله قال: قد ظلمتني. ثم تقول له: خذ حقك. فيقول: لا آخذ، والشخص الذي يخاف الله قد يُستغل بمثل هذا، فيقول له: لا آخذ منك إلا يوم القيامة. وهو نوع من التلاعب بعواطف الناس وأذية لهم، فهذا يفتح باباً لضعاف النفوس أن يستغلوا الغير، فالشريعة لا تجيز هذا.

    وهذا يجعلنا نعلم أن هذه الشروط ما جاءت من فراغ، وطالب العلم أو من لا يحسن فهم الشريعة حينما يقرأ هذه الشروط يقول: لماذا تشددون على الناس بقولكم: يشترط.. يشترط؟ نقول: هذه حقوق، وينبغي أن تعلم ما الذي لك وما الذي عليك، ويدخل الأجير والمستأجر إلى عقد الإجارة على بينة وبصيرة وطمأنينة قلب، فالعامل يعلم ما الذي له وما الذي عليه، ورب العمل يعلم ما الذي له وما الذي عليه فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فالآية جاءت تبين أن مقصود الشرع ألا يَظلم العبد ولا يُظلم. فلا يجوز للشخص أن يأتي إلى عقد إجارة مجهولة ويقول له: سنتفق ولن نختلف إن شاء الله، وأنت طيب وكريم. وهكذا العامل إذا جاء قال له: كم ستعطيني؟ يقول: ما يهمك. ويقول: أبشر، إن شاء الله أرضيك. ويستغل ضعفه، فهذا كله لا يجوز.

    وينبغي على المسلم أن يتفق مع العامل وينظر مدى رضاه، فإنه إذا قال له: سأرضيك. التزم بأن يرضيه والله يعينه، فبعض الناس يرضيه القليل وبعضهم لا يرضيه شيء، وابن آدم لو كان له واديان تمنى الثالث.

    حكم الإجارة والرضاع بالطعام والكسوة

    وقوله: [وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما].

    (الأجير): هو العامل (والظئر): المرأة المرضعة.

    وقوله: (بطعامهما وكسوتهما) إذا قال له: اشتغل عندي وأطعمك وأكسوك، أو اشتغل عندي على طعمة بطنك، فلا بأس؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يعمل عند آل صفوان بذلك، وكذلك أيضاً قالوا: إن الطعام له قيمة، أي: لو قال له: اشتغل عندي على أن أطعمك وأكسوك. فإنه في هذه الحالة يطعمه بالمعروف ويكسيه بالمعروف، فله طعام مثله وكسوة مثله، يكون له طعامه بالمعروف وما درج عليه العرف، وعلى هذا: تجوز الإجارة بالمنقولات مثل الأطعمة.

    ومثل أن يحدد له الأجرة بالمنقولات، فلا تختص بالأطعمة، ويمكن بالكساء، لو قال له: أوصلني إلى الحرم وأعطيك غترتي. فإنه يصح، صحيح أن العرف ما درج بهذا، لكن الشريعة تجيز كل عوض مباح، أي: لا يختص عقد الإجارة بالذهب والفضة، ولا يختص بالطعام ولا بالكساء فقط، وإنما يشمل كل عوض مباح مأذون به شرعاً، فيجوز أن يقول لها: أن ترضع صبيه على أن لها الكسوة، فيكسوها بالمعروف كسوة الشتاء وكسوة الصيف، وهكذا بالنسبة للعامل.

    لكن إذا كان الطعام غير معلوم وفيه جهالة؛ فإنه لا يصح؛ لأنه لا بد من أن يحدد له نوعية الطعام الذي يطعمه، وبناء على ذلك: لو قال له: اشتغل عندي الشهر بثمانمائة ريال وطعامك علي. فحينئذٍ إذا جاءه بطعام كأن يعطيه -مثلاً- الأرز بدون لحم، يكون قد ظلمه؛ لأن العامل يكون عنده أرزه ويرتفق بإدامه إذا جرى العرف بذلك، فلو جاء له بالأرز وقال له: اصنع طعامك، أو جاءه بطعام خفيف مثل المكسرات ونحوها، وقال له: هذا هو طعامك، فهذا لا يجوز.

    إذاً: الطعام لابد من تحديده، لا يقول له: أطعمك. ويسكت، بل يحدد ويقول له: أطعمك -مثلاً- كل يوم دجاجاً، أو أطعمك لحماً. فيحدد له حتى يعرف حق العامل، أما إذا لم يحدد وكانت فيه جهالة فإنه لا يصح ذلك حتى يحدد نوعية الطعام، ويكون ذلك بالمعروف دفعاً للضرر عن العامل.

    الرجوع إلى العرف في قدر الأجرة

    وقوله: [وإن دخل حماماً أو سفينة، أو أعطى ثوبه قصاراً أو خياطاً بلا عقد؛ صح بأجرة العادة].

    (وإن دخل حماماً) يطلق الحمام في زماننا على مكان قضاء الحاجة، لكن في القديم: الحمام كان موضع الاغتسال، وكانت هذه الحمامات على طريقة معينة ولا تزال توجد إلى زماننا، يسخن فيها الماء ويغتسل فيها، فكانت البيوت ضيقة، وكان الناس يصعب عليهم أن يغتسلوا في بيوتهم فيحتاجون إلى هذا النوع من الأماكن يغتسلون فيه ويتنظفون، وخاصة العمال ونحوهم ممن يصعب عليه وجود مكان يغتسل فيه، فهذا النوع من الأماكن كان يؤجر، فيدخل ويستأجر الحمام، فيحدد له الماء ويحدد له الاغتسال، فهذا النوع من الإجارة صحيح وجائز.

    كيف تقرر جوازه؟

    مثلاً: أمامنا الحمام للاغتسال، فأنت تسأل أولاً: ما هي المنفعة المقصودة من الحمام؟ فالجواب: غسل البدن.

    السؤال الثاني: هل غسل البدن مأذون به شرعاً أم لا؟ فالجواب: مأذون به شرعاً.

    ثم تسأل: هل هو منفعة مقصودة أو غير مقصودة؟ فيكون الجواب: إنه منفعة مقصودة يطلبها العقلاء.

    إذاً: هي جائزة ولا بأس بها.

    السؤال: المصنف رحمه الله قرر أنه لا تصح الإجارة حتى نعلم الأجرة، فلو أنه دخل الحمام ولم يحدد الأجرة، أو ركب السيارة ولم يحدد الأجرة، أو نحو ذلك من الأعمال، قالوا: يرجع فيها إلى العرف، فحينما تدخل مع الناس في مكان يؤجر وأنت مع الناس كأنك تقول: مثلي مثل الناس، ويكون عليك أجرة مثلهم، فلو كانت إجارة الحمام، الساعة بعشرين ريالاً، ثم جاء يطالبك بخمسة وعشرين ريالاً، فليس من حقه ذلك، ومن حقك أن تقول: لا أدفع إلا العشرين. ولو جاء المستأجر يدفع خمسة عشر وبقية الناس يدفعون عشرين، فليس من حقه ذلك، بل يجب عليك دفع العشرين.

    إذاً: إذا سكتا عن الأجرة رجع في ذلك إلى العرف، وكان بعض السلف -كما جاء عن ابن سيرين كما ذكره الإمام البخاري - أنه استأجر دابةً من رجل واتفق معه قبل أن يأخذها، فلما مضى حمل له متاعه وأعطاه الأجرة، فجاءه بعد أيام وأخذه إلى نفس العمل ولم يتفق معه، لأنه قد حصل قبل أنهما اتفقا بالأجرة، فسكت رب الدابة؛ لأنه راض بالأجرة المعروفة، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

    فإذاً: إذا سكت الطرفان عن شيء معروف مثل السيارة يركبها أحدهما إلى مكان، وهو يعلم أن أجرته عشرة الريال أو خمسة عشر ريالاً فلا بأس، ولكن -كما قلنا- الأفضل والأكمل أن يكون الشخص على بينة من أمره، فتحدد الأجرة، وذلك أضمن لحق الأجير وأضمن لحق مالك العين.

    وقوله: [أو سفينة].

    وهكذا السفينة، وفي زماننا: القاطرة والطائرة إذا جاء وركبها، مثلاً: في القطار الآن يركب ثم يدفع الأجرة، وفي بعض الأحيان تركب القاطرة أو يركب -مثلاً- الباصات الموجودة في زماننا ثم يطالب بدفع الأجرة -وكانت الأجرة ريالين- فقال: لن أدفع إلا ريالاً. فنقول: ليس من حقك ذلك؛ لأنك ركبت، ولما ركبت رضيت بما تعارف عليه الناس، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

    وقد قرر العلماء رحمهم الله القاعدة الشرعية التي تقول: (العادة محكمة)، والمراد بهذه القاعدة -وهي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها فقه الإسلام، ودارت عليها كثير من مسائل الفقه وأحكامه-: أن ما تعارف عليه المسلمون، وأصبح عادة بينهم دون أن يعارض الأصول الشرعية أو يخالف الشرع؛ فإنه يحتكم إليه، فتقدير الأجور وتقدير المستحقات يرجع فيها إلى العرف.

    ولو سألك سائل: ما هو الدليل الذي يثبت أننا نرجع في تقدير الحق إلى ما تعارف الناس؟

    تقول: إن الله تعالى قال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] فجعل حقوق المرأة، والحقوق الواجبة على المرأة، وكذلك الحقوق التي تدفع للمرأة بالمعروف، فرد ذلك إلى العرف، وبناء على ذلك: فإن الحقوق تقدر بما تعارف عليه الناس، وما جرت عليه عادة المسلمين، فالشخص إذا اتفق مع غيره على إجارة شيء أو تأجير نفسه وسكت الطرفان، فإننا ننظر إلى أهل الخبرة، ونسأل أهل السوق والتجارة والمعرفة بهذه الأمور.

    فلو أن شخصاً ركب سيارة من الموضع الفلاني إلى الموضع الفلاني وسكت الطرفان، فنسأل: كم أجرته؟ يقولون: أجرته -مثلاً- مائة. فنقول: يلزمك أن تدفع المائة. فإذا طالب صاحب السيارة أو العين المؤجرة بأكثر لم يكن من حقه ذلك، ولو أراد المستأجر أن يدفع الأقل لم يكن من حقه ذلك، فيرجع إلى العرف؛ لأن سكتوهما يوجب رد المعاملة إلى الأغلب والأكثر، فما درج عليه الناس في تعاملهم وكان عليه أغلب التعامل فالحكم إليه والمصير إليه.

    ولو استأجر منه بيتاً أو شقةً ولم يتفقا على الأجرة، ثم اختصما في النهاية، فنسأل أهل الخبرة وأهل العقار، ونقول: كم أجرة الشقة التي تكون بهذه الصفات قالوا: أجرتها عشرة آلاف ريال، فنقول للمستأجر: ادفع عشرة آلاف ريال. ولا يجوز له أن ينقص عنها، ولا يجوز لرب الشقة وصاحبها أن يطالب بالأكثر.

    وهكذا لو استأجر العامل وعمل عنده وجلس في عمله سنة، وقال له: أعطيك ما يرضيك، وسنتفق لاحقاً، أو لا يكون إلا الخير... أو نحو ذلك من العبارات، فرضي العامل بذلك، نقول لأهل الخبرة: إذا عمل العامل سنة كاملة في سقي الأرض أو رعي الدواب في هذا الموضع وبهذه الطريقة فكم أجرته؟ قالوا: أجرته -مثلاً- عشرون ألفاً. نقول: يجب عليك أن تدفع عشرين ألفاً. وقس على هذا المسائل.

    وبذلك نكون قد أنصفنا الطرفين، فنحن لم نطالب رب العمل بأكثر مما يجب عليه، ولم نعط العامل أكثر من حقه، ونقول: كون العامل ما طالب بأكثر من العرف، وكون صاحب العمل ما طالب بالأقل، فإن ذلك يوجب البقاء على المعروف والشائع والغالب، وهذا يكون فيما يحتكم فيه من مسائل إلى أهل الخبرة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل أهل الخبرة، أي: يرجع فيها إلى أهل الخبرة والنظر.

    وقوله: [أو أعطى ثوبه قصاراً أو خياطاً بلا عقد صح بأجرة العادة].

    مثلاً: لو دفع ثوباً لغسال لكي يغسله، ثم قال الغسال: أعطني عشرين ريالاً. قال: ما أعطيك إلا عشرة. فسألنا أهل الخبرة فقالوا: أجرة غسل هذا الثواب عشرون. فنطالبه بالعشرين ريالاً، ويدفع هذا المبلغ الذي جرى عليه العرف، وهكذا بالنسبة لبقية المسائل.

    إذاً: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا سكت المتعاقدان رجع إلى العرف، وهذا لا ظلم ولا ضرر فيه، لا على رب المال ولا على العامل.

    لو كان أجرة السيارة في العرف والشائع مائة ريال، ولكن صاحب السيارة قال: أنا لا أؤجرها إلا بألف. نقول: هذا من حقه، أي: لو جاء إلى رب السيارة وقال له: بكم تذهب بي إلى المدينة؟ قال: أنا أوصلك إلى المدينة بألف ريال. قال: رضيت. والأجرة المعروفة مائة ريال، نقول: إذا اتفقتما وتراضيتما على ذلك فيلزمك أن تدفع هذه الأجرة لأنك رضيت بذلك؛ لأن هذا عقد، والله أمر بالوفاء بالعقود، فالشخص قد لا يرضى لنفسه أن يذهب إلى المدينة بمائتين، أو تكون عند صاحب السيارة ظروف أو مصالح، فلو جلس قد يحصل على مائتين ريال بدل أن يسافر ويتعب، فقال له: أنا لا أرضى إلا بثلاثمائة ريال. حتى يضحي بظروفه ويستطيع أن يتحمل مشقة الذهاب ونحو ذلك.

    وكذلك تقدر الأجرة بالمواسم، فمثلاً: لو كان الذهاب إلى الحرم بعشرين ريالاً، لكن في الأيام الحرجة والضيقة يكون بأربعين ريالاً، وركب معه ثم أعطاه عشرين، فمن حقه أن يطالبه بالأربعين؛ لأن ذلك الوقت في شدة الزحام وشدة المواسم لها أجرة تخصها، فهذا الذي جرى عليه العرف وهذا الذي من حقه، كذلك إجارة الدور والبيوت ونحوها تقدر في المواسم بأجرة مثلها.

    1.   

    الأسئلة

    توضيح لمسألة اشتراط معرفة الأجرة في صحة العقد

    السؤال: أشكل علي أن معرفة الأجرة من شروط صحة الإجارة، مع أننا نرجع إلى العرف إذا لم تسم الأجرة، فهل يعني أنه لا يبطل العقد إذا لم تعرف الأجرة؟

    الجواب: معرفة الأجرة تشمل معرفة الجنس والنوع والقدر، فإذا قال له: استأجرتك على أن أعطيك ذهباً أو أعطيك فضة، أو أرضيك بالريالات، أو أرضيك بالفضة. فيرجع إلى التفصيل بالعرف، وبناء على ذلك: إذا كان هناك عرف يقدر به الشيء فلا شك أنه يجوز، فتصبح مسألة العرف في حال وجود الجنس والنوع والقدر في العرف، وتصبح مسألة الشرطية للصحة كأصل عام.

    وتوضيح ذلك أكثر كالآتي: الأصل أن الإجارة لا تصح إلا إذا عرفت الأجرة، لكن إذا كان هناك عرف، ومعلوم أنه ليس كل إجارة فيها عرف، فمثلاً: يمكن أن يستأجره في حمل الحديد في موضع لا يحمل فيه الحديد، ويمكن أن يستأجره في عمل لا يوجد هذا العمل وليس له عرف في موضعه، فالإجارة باطلة من حيث الأصل.

    لكن أجرة المثل تقدر إذا تمت الإجارة وأتم العامل العمل، ثم بعد ذلك طالب بالأجرة؛ فحينئذ تقدر بالمثل، لكن إذا لم يكن لها عرف من حيث الأصل ولم يكن لها تقدير فإن الإجارة باطلة، وبناء على ذلك: لو اتفق معه على إجارة بمجهول فإن العقد باطل. لكن لو أتما هذا العقد الباطل ومضيا فيه وقام العامل بالعمل، فإنه يستحق مالاً ويستحق حقاً، فيقدر بأجرة المثل، وهذا الذي جعل المصنف رحمه الله يخصص سكوت العاقدين، لكن عمم شرط معرفة الأجرة، ولا تعارض بين عام وخاص.

    أي: ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن الأصل عدم صحة الإجارة بالأجرة المجهولة، لكن لو أنه دخل وهناك عرف، فنقول: صحيح أنها لا تصح، لكن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، هذا بالنسبة للأشياء التي فيها عرف شائع، كأن تأتي وتسحب رغيف الخبز وأنت تعلم أن قيمة رغيف الخبز ريال؛ لأنه شاع وذاع، فلا تأتي وتقول: أشتري منكم رغيف الخبز بنصف ريال، أو بعني رغيف الخبز بنصف ريال. لأن هذا درج به العرف وانتهى الأمر، فإذا وجد للشيء عرف وسكتا من أجل هذا العرف فإنه يصح، أما من حيث الأصل فإنه لا يجوز للعاقدين أن يتفقا على إجارة من مجهول، فلو أتم العامل العمل فإنه يقدر بأجرة مثله كما ذكرنا.

    من شروط استئجار الظئر

    السؤال: هل يشترط عند استئجار الظئر أن تعلم مدة الرضاع ومعرفة عمر الرضيع وموضع الرضاع؟

    الجواب: لابد من هذا، وسيأتي إن شاء الله في تقدير العمل، وإذا كانت هناك إجارة للمرضعة فإنها تجري على سنن الإجارة، فالمرضعات لهن سنن: أن ترضع الصبي في أول النهار، وترضعه في أوسط النهار، وترضعه في آخر النهار، فهذا أمر درج به العرف، وترضعه إذا احتاج إلى الرضاعة، فهذا أمر فيه عرف، ولذلك يحتكم في تقديره وضبطه إلى العرف، والله تعالى أعلم.

    حكم الإجارة على منفعة مجهولة تئول إلى العلم

    السؤال: إذا كانت الجهالة في المنفعة تئول إلى العلم، فهل تجوز الإجارة عليها؟

    الجواب: إذا آلت إلى العلم على وجه لا غرر فيه فلا بأس بذلك، فيجوز أن يستأجر أمراً مجهولاً يئول إلى العلم عند الشروع في العمل أو عند ابتدائه، ويكون ذلك على سبيل الخيار للعامل عند ابتدائه، مثلما يقع الآن، تقول للعامل: عندي عمل في البيت، وأعطيك مائة ريال على أن تعمل هذا العمل. قال: أريد أن أرى هذا العمل. فأخذته إلى البيت ونظر إلى تكسير المحل أو الشيء الذي تريد أن يقوم به، فنظر إلى ذلك وآل الأمر إلى العلم، فلا بأس بذلك، وهكذا إذا كان على سبيل الخيار على الصفة التي ذكرناها في مسألة خيار الرؤية والصفة، والله تعالى أعلم.

    وقت إلزام العاقدين بعقد الإجارة

    السؤال: هل يلزم عقد الإجارة بمجرد الاتفاق والتفرق من المجلس، أما لابد من استلام العين المؤجرة؟

    الجواب: عقد الإجارة لازم، ولزومه بالإيجاب والقبول والافتراق عن المجلس على أصح أقوال العلماء، مخرج على خيار المجلس في البيع، وسنذكر هذا إن شاء الله، ولم يخالف في لزوم عقد الإجارة إلا بعض العلماء رحمهم الله وقولهم مرجوح، واحتج جمهور العلماء على لزوم عقد الإجارة بعموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فإذا اتفقت مع رجل على استئجار شقة، أو اتفقت مع رجل على أن يعمل عندك وقال لك: رضيت. وحددتما الأجرة وتمت الشروط، ثم قال بعدما أوجب: رجعت عن قولي. فليس من حقه الرجوع، ويلزمه أن يتم الإجارة، إلا في أحوال مستثناة سنبينها إن شاء الله، وهي الأحوال التي يجوز فيها رجوع الأجير، وكذلك رجوع رب العين عن إجارتها، والله تعالى أعلم.

    حكم طلب زيادة في الأجرة بعد الاتفاق لظروف طرأت

    السؤال: إذا اتفقت مع الراكب بمبلغ معين، ثم حصل هناك تأخير بسبب زحام شديد أو بعد الطريق غير المتوقع، فهل يجوز لي أن أطلب زيادة على الاتفاق؟

    الجواب: بالنسبة للزحام وما يقع من المشقة هذا ليس من حق صاحب السيارة أن يطالب فيه بالأجرة الزائدة؛ والسبب في ذلك: أنه مما جرى به العادة والعرف أن تكون الشوارع ميسرة وتكون الشوارع مغلقة على حسب أحوال الناس وما جرت به عادة الناس.

    أما أن يقال: إذا ركب معه ثم وجد زحاماً طالبه بزيادة في الأجرة أو نحو ذلك فهذا لا يجوز، وهذا من غرم المنافع التي يتحمله من ربح الأجرة، فله غنمها وعليه غرمها، وبناءً على ذلك: لو كان الطريق فيه عطل وتأخر، فإنه لا يطالب بأجرة زائدة على أجرته؛ لأنه لم يزد على العمل الذي طلب منه.

    مثلاً: أنت استأجرته لسبعة أو عشرة كيلومترات، فأوصلك العشرة الكيلومترات، فكونه يتأخر أو لا يتأخر هذا أمر يختلف بحسب اختلاف الأحوال والظروف، ولا علاقة له بالإجارة، ولست بمتحمل لذلك، وهذا شيء ليس بيدك ولا بيده، وبناءً على ذلك: يتحمل هو المسئولية، فكما أن له غنم الإجارة فعليه غرمها.

    مثلاً: لو أنه اتفق معه على بناء مسكن بمليون، ثم ارتفعت أسعار المواد، فتصبح قيمتها ثلاثة أضعاف، فجاء وقال لك: أنا اتفقت معك والقيمة كذا وكذا. تقول له: لا. نحن اتفقنا على أن تبني، لو أن هذه الأشياء رخصت فليس من حقي أن أطالبك بالنقص، وإذا غلت ليس من حقك أن تطالبني بالزيادة، فلك الغنم وعليك الغرم.

    وهذا أصل شرعي: أنه يتحمل غرمها كما أنه يأخذ غنمها.

    فلو أن الأشياء رخصت والعمال رخصت أجرتهم فلا يأتي ويقول له: خذ الزائد. ولا يمكن أن يقاص أحد أحداً بهذا، فالشريعة لو فتحت هذا الباب لحصل بين الناس من الفوضى ما الله به عليم، ولذلك إذا اتفقا على شيء فلا بد أن يتم ما اتفقا عليه، وله غنمه وعليه غرمه، ولا يتحمل بعد ذلك رب العمل ولا العامل ما يقع من الأمور الطارئة، وذلك مثلما يقع في البيع، فإنه قد يشتري العمارة بمليون، وفي اليوم الثاني بعد أن اتفقا وتم البيع تصبح قيمتها عشرة آلاف ريال، ولو اشترى العمارة وقيمتها مليون، وفي اليوم الثاني جاء مشروع بقيمة عشرة ملايين -مثلاً- فليس من حق أحد الطرفين أن يرجع ما دام أنهما قد اتفقا، وكأنهما حينما اتفقا على أن يبني له عمارته بعد سنة أو بعد شهر يكون قد تحمل مسئولية الثمن وتحمل مسئولية الشهر غرماً وغنماً، وهذا التحمل والتبعة والمسئولية متعلق بالطرفين، فكما أن رب المال ملزم، كذلك العامل والمقاول ونحوهما ملزم بإتمام الصفقة.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756505646