إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الوكالة [7]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المقصود من عقد الوكالة هو الإرفاق، ولهذا كانت يد الوكيل يد أمانة لا يد ضمان، فلا يضمن إلا في حال التفريط أو التعدي، ثم إن وكالته لا تقبل إلا ببينة، وهذا حفاظاً على الحقوق من الضياع وحتى لا يحصل النزاع بين الناس.

    1.   

    بعض الأحكام المترتبة على الوكالة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    يد الوكيل يد أمانة لا يد ضمان

    فهذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لبيان بعض الأحكام والآثار المترتبة على الوكالة، فقد توكل شخصاً لكي يدفع مالاً أو يحفظ طعاماً أو أي شيءٍ آخر يقوم به، ثم يأخذ ذلك الشيء منك ويتلف عنده قبل أن يقوم بأدائه إلى شخصٍ آخر.

    فمثلاً: إذا أعطيته مالاً على أن يدفعه إلى زيد، فأخذ المال منك بالليل على أن يدفعه صباحاً، فسرق منه في الليل، أو جاءت آفة سماوية وأتلفت هذا المال، فالسؤال حينئذٍ: هل نقول: إن هذا الوكيل أخذ شيئاً ويجب عليه ضمانه حتى يؤديه؟ أو نقول: إنه رجلٌ متبرع، وصاحب فضلٍ وإحسان: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91] وعقد الوكالة لا يستلزم تضمينه فنسقط الضمان عنه؟ أو نفصل ونقول: إذا كان قد فرط وتساهل أو تعدى على المال فإننا نضمنه، وإذا حفظ المال وقام بحقوق رعايته على الوجه المطلوب فإننا لا نضمنه؟

    ومن أمثلة ذلك في عصرنا: لو أن رجلاً أعطى لآخر سيارةً يبيعها أو أعطاه سيارةً لكي يوصلها إلى شخصٍ آخر، وقال له: وكلتك أن تأخذ هذه السيارة وتعطيها إلى زيد أو إلى فلان، قال: قبلت: فأخذ مفاتيحها، ثم ركب هذه السيارة وأوصلها إلى منزله، فجاءت آفةٌ فأتلفتها أو أتلفت شيئاً فيها، أو أخذ السيارة وركبها وصار يقضي بها مصالحه إلى أن تعرض لحادثٍ أتلف السيارة أو أتلف جزءاً منها، أو أخذ السيارة من عندك وفي طريقه إلى بيته أصابها ضررٌ وعطل، ففي جميع هذه الصور كلها تسأل الناس: ما حكم هذا الوكيل؟ هل يجب عليه ضمان هذه الأعيان أو لا يجب عليه؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء تحت مسألة: يد الوكيل هل هي يد أمانة أو يد ضمان؟

    فعند العلماء: يدٌ تسمى يد الأمانة، ويدٌ تسمى يد الضمان، فإذا قلت: اليد يد أمانة، فإما أن يحصل منها تعدٍ أو يحصل منها تفريط، فإذا حصل منها التعدي أو حصل التفريط تقول: يجب عليها أن تضمن السلعة وأن تضمن المتاع والطعام والسيارة والأرض، ويجب عليها أن ترد ما أخذته على الوجه المطلوب، وإذا قلت: إن اليد يد ضمان فإنه يضمن سواءً فرط وتعدى أو لم يفرط.

    وعلى هذا يرد السؤال في الوكيل: هل يده يد أمانة، أو يد ضمانة؟

    قال بعض العلماء: يد الوكيل يد أمانة إلا إذا تعدت أو فرطت، وبناءً على هذا: فإننا لا نضمن الوكيل إلا في حالة التعدي أو في حالة التفريط، فعند أصحاب هذا القول: اليد يد أمانة من الوكيل مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض، والوكالة بعوض سبق وأن ذكرناها، مثل أن تقول لشخص: خذ سيارتي وأعطها فلاناً، أو وكلتك سيارتي هذه أن تبيعها بعشرة آلاف ولك ألف أو مائة أو خمسمائة، فهذه وكالة بجعل، وحينئذٍ يكون الوكيل وكيلاً في مقابل مالٍ أو منفعةٍ يأخذها.

    فبعض العلماء يقول: الوكيل أمين مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض.

    وبعض العلماء يقول: الوكيل يعتبر أميناً إلا إذا كانت الوكالة بجعل، فإذا كان يأخذ أجرة على وكالته كالمحامي أو نحو ذلك فهذا يده يد ضمان وليست بيد أمانة، فيد الضمان توجب أن يضمن الشيء، بغض النظر عن كونه فرط أو لم يفرط، فالشيء الذي يأخذه يرده حتى ولو غصبه الغاصب، كما لو ذهب بالسيارة ونزلت عليها آفة سماوية أو اجترفها السيل أو نهر بدون تعد وبدون تفريط منه نضمنه؛ لأنه حينما اعتدى وأخذها تحمل المسئولية، فيصبح ملزماً بردها بعينها، فإن تعذر العين وجب عليه رد المثل، وإن تعذر عليه رد المثل وجب عليه رد القيمة، فإذاً: يد الوكيل عند المصنف رحمه الله وطائفة من العلماء -وهو الصحيح- يد أمانة، لكن يضمن الوكيل إذا تعدى أو فرط.

    فقال رحمه الله: [والوكيل أمين]، هذه الجملة تستلزم على الوكيل أموراً وعلى الموكل أيضاً أموراً، أما بالنسبة للأمور التي تتعلق بالوكيل إذا قلنا: إن الوكيل أمين: فالواجب عليه أن يحفظ الأمانة، ونحكم بكونه أميناً متى ما أدى وكالته على الصفة التي اتفق عليها، فإذا قيل له: خذ هذا المال وأده إلى فلان في العصر أو الظهر؛ فإنه أمين متى ما أخذه وحفظه بحفظه وحرزه، وأداه في الوقت المطلوب، فإن خرج عن هذه الحدود بتفريط أو بتعدٍ خرج عن الأمانة، ويعتبر في هذه الحالة متحملاً للمسئولية كما سنبين -إن شاء الله- مثال التعدي ومثال التفريط.

    قال رحمه الله: (الوكيل أمين) بناءً على مسألة: (إن الوكيل أمين)، فإن الوكيل ينزل منزلة الموكل، والسبب أننا جعلنا الوكيل أميناً: أن الشخص إذا قال لآخر: خذ هذه السيارة أو خذ هذا الطعام وبعه أو أعطه لفلان فقد نزل الشخص منزلته وحينئذٍ إذا نزله منزلته، فإن الإنسان لا يضمن نفسه؛ لأنه من الناحية الفقهية أصبح الوكيل منزلاً منزلة الأصيل فلا يضمن، فلو أعطاه السيارة وقال له: اذهب بها إلى المعرض وبعها بعشرة آلاف، فكأنه نزل هذا الوكيل منزلة نفسه في بيع هذه السيارة بعشرة آلاف، فلو حصل تلف بآفة سماوية ليس في مقدور الوكيل أن يحفظ السيارة عنها، نقول: لا يضمن الوكيل؛ لأن الوكيل كالأصيل وكأنهما كالشيء الواحد، والإنسان لا يضمن نفسه، لكن حينما يتعدى الوكيل على السيارة فيأخذ فيها أولاده ويذهب يقضي بها حوائجه، أو يأخذ السيارة ويستخدمها استخداماً سيئاً، فالسيارة -مثلاً-: تحمل بطاقة معينة وحدود معينة، فحملها فوق طاقتها فتعدى، أو -مثلاً- أخذ السيارة وأوقفها في مكان معرض للحوادث فقد فرط، ففي هذه الحالة تقول: خرج الوكيل عن الأمانة وعن المعروف، فيتحمل المسئولية؛ لأنك حينما وكلته وكلتَه أن يقوم بهذا الأمر على المعروف، فإذا خرج عن المعروف فهو غير أمينٍ في خروجه عن المعروف المألوف، وعلى هذا قالوا: الوكيل أمين؛ لأنه مع موكله كالشيء الواحد، وضامنٌ إن خرج عن حدود الوكالة والمعروف.

    الحالة التي يضمن فيها الوكيل ما تلف بيده

    قال رحمه الله: [لا يضمنُ ما تلف بيده بلا تفريط].

    قوله: (لا يضمن) حينما قال: (الوكيل أمين) فتفسرها وتقول: الوكيل يده يد أمانة، لا يضمن ما بيده إلا إذا فرط أي: فينتقل من يد الأمانة إلى يد الضمان إذا فرط، وقلنا: الفرق بين يد الأمانة ويد الضمان يحدث في حالة حدوث شيء سماوي، أي: آفة سماوية مثل المطر، والسيل الجارف، والصواعق، فمثل هذه الكوارث إذا نزلت فليس في مقدور المكلف أن يدفعها، فإن قلت: اليد يد أمانة فلا تضمن في هذا الشيء، وإن قلت: اليد يد ضمان يضمن، فمثلاً: لو قال له: وكلتك أن تقوم على مزرعتي أو تقوم على هذا الحد فتحصده ثم تبيعه، فجاء إعصار فأحرق الحبوب، فيده يد أمانة لا يضمن شيئاً، إذ هذا قدرٌ من الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ لا يضمن؛ لأنه منزل منزلة من وكله، لكن لو كانت الحبوب قد آن حصدها فتأخر في حصادها أسبوعين، كان المفروض أن تُحصد وتوضع داخل المخازن وتحفظ، فجاءت الريح أو جاءت الآفة خلال الأسبوع أو الأسبوعين الذين تأخر فيهما؛ فحينئذٍ نقول: قد فرط بمجرد زيادته عن المدة المعروفة والحد المعروف فدخل في الضمان، وخرجت يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، وعلى هذا نقول: إنه يضمن بهذا التفريط، فقرر رحمه الله: أن الوكيل أمين، ولا يضمن ما بيده إلا إذا فرط، والتفريط في الشيء هو: التساهل، والله عز وجل جعل الأشياء حقوقاً وجعل لها أقداراً، وإذا وضع المكلف الأشياء في حدودها وفي أقدارها دون أن يجاوز تلك الحدود ودون أن يقصر فإنه قد أولاها ما تستحقه، فإن قصر بها وأنزلها عن حقها فقد ضيع هذه الحقوق مثل ما ذكرنا: إذا أعطاه -مثلاً- طعاماً وقال له: أنت وكيلي، مثل العامل في المزرعة تقول له: وكلتك أن تأخذ هذا التمر وتبيعه في السوق، وهذا التمر من العادة يحفظ في المخازن بطريقة معينة، فهذا العامل إذا أخذ التمر وكان صاحب المزرعة عنده تلك المخازن وأمكنه أن يضعها في المخازن ولم يضعها فقد فرط، ومثلاً: لو أعطاه طعاماً في فصل شتاء ينبغي حفظه وتبريده، فقصر ولم يحفظه ولم يبرده حتى تلف الطعام فإنه قد فرط، ويلزم بعاقبة تفريطه.

    أيضاً مثلاً: لو أعطاه سيارةً وقال له: هذه السيارة تأخذها وتبيعها، فأخذ السيارة وكان المفروض أن يدخلها أو يوقفها أمام بيته، فأخذها وأوقفها في مكان عُرضة للسرقة، فسرق من السيارة شيءٌ أو حتى سرقت السيارة كلها فإنه قد فرط، وهذه الأحوال كلها فيها تفريط.

    وفي الشريعة أصل وقاعدة: أن المفرط يلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن تساهله في الأمور وتعاطيها على غير الوجه المعروف يعتبر إخلالاً بالأمانة وإضاعةً للمسئولية، وكأنه قد تقحم ذلك الضرر على بصيرةٍ وبينة، ومن تقحم الضرر على بصيرة وبينة فقد رضي بكل ما ينجم عنه من ضرر، فيتحمل المسئولية، قال رحمه الله: (لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط).

    المفروض أن يضاف إليها: (وتعدى)، يعني: إما أن يفرط وإما أن يتعدى، والتعدي: هو أشبه بالجناية على الشيء، أو مجاوزة الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها الوكيل، فالآن -مثلاً- حينما يقول له: خذ السيارة وبعها غداً في المعرض، فأخذ السيارة وأخرها يومين فإنه في هذه الحالة قد تعدى بتأخيره عن الوقت المعتبر.

    كذلك من التعدي أن يقول له: خذ السيارة وأوقفها في المعرض، فأخذها وقضى بها حوائجه فقد تعدى باستعمالها لحوائجه الخاصة.

    فنحن الآن نمثل بأمثلة واقعية؛ لأننا وجدنا أن الأمثلة القديمة بمعزِل عن حياتنا، ولربما لا يستطيع السائل أن يفهم ما يلزمه في المسألة، فالآن -مثلاً- بعض العمال الشركة توكله بقيادة سيارة معينة لحمل المتاع بين بلدة وأخرى، وهذه السيارة طاقتها حمل ألف كيلو، فالعرف يقتضي أن يكون تحميله لها في حدود طن مثلاً، فحملها زيادةً على الطن، هذا تعدٍ.

    لو كانت السيارة بطبيعتها، وقلت له: خذ السيارة واذهب بها إلى المدينة، وهذا مما جرى به العرف، ويعرف الإنسان: أن السيارة في منتصف الطريق إذا كان طويلاً، ينبغي أن يرفق بها، وأن يريحها، وإذا به قد سار بها مرةً واحدة حتى تلفت السيارة، كل هذه الصور وأمثالها تعتبر تعديات، كذلك البيت حينما تقول له: اسكن هذا البيت أو وكلتك هذا البيت أن تحفظ فيه المتاع أو هذا المخزن تضع فيه المتاع، والمخزن لو فرضنا أنه مكون من دورين، والدور الثاني يتحمل في حدود ألف كيلو الذي هو طن، فحمله ألفاً وزيادة، فهذا تعد، كل هذه الصور وأمثلتها سواءً كانت في السيارات أو العقارات أو المنقولات الأخر فإنها تعتبر من التعدي.

    كذلك أيضاً: التفريط، كأن يكون الواجب على الإنسان أن يحفظ الشيء في حد، فينزله عن ذلك الحد، فمثلاً: لو قلت له: خذ هذا الكتاب واحفظه عندك وأعطني إياه غداً، أو وكلتك في حفظ هذه النقود على أن تأتيني بها غداً، فأخذ الكتاب ووضعه في غرفة فيها أطفال، فقام الأطفال بتمزيق الكتاب، فإن وضع الكتاب أمام الأطفال يعتبر تفريطاً؛ ولذلك قال العلماء: إن من وضع السلاح كالسكاكين ونحوها والآلات الحادة أمام أطفال فقتل الطفل نفسه، فإنه في هذه الحالة يعتبر مسئولاً عن هذا؛ لأنها سببية، وتعتبر هذه الصور من الصور السببية في القتل، وسيأتي -إن شاء الله بيانها- في باب الجنايات.

    ومن التفريط أيضاً: أن تأتي المرأة وتضع طفلها، فتقول لجارتها: خذي هذا الطفل واحفظيه أو أرضعيه، وغداً أحضريه لي، فأخذت طفلها وتركته في مكان فيه خزان أو فيه حُفرة دون أن تستر، هذا تفريط؛ لأن الواجب أن تضع الطفل في مكانٍ يؤمن فيه الضرر، أو وضعته في جوار نار فاحترق، وهو طفل جاهل لا يستطيع أن يعرف مصالحه، هذه كلها صور عند العلماء من صور التفريط التي توجب الضمان، وتوجب تحمل المسئولية سواءً كان ذلك في الجنايات أو في الأعيان أو نحو ذلك من المسائل.

    فقرر رحمه الله أن الوكيل لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.

    يقول بعض العلماء: ومن التعدي: التأخر في الأزمنة -كما ذكرنا- كأن يقول له: أحضر لي المال غداً، فيتأخر إلى بعد الغد، ففي الغد يكون أميناً، وبعد الغد صار ضامناً، فلو أن المال سرق في الغد يعني: قبل انتهاء الغد فإنه لا يضمن، ولو سرق بعد ذلك فإنه يضمن.

    أحوال اختلاف الموكل والوكيل في تلف ما وُكِّل فيه

    قال رحمه الله تعالى: [ويقبل قوله في نفيه والهلاك مع يمينه].

    ذكرنا أنه يضمن إذا تعدى وإذا فرط، لكن المشكلة: لو أن الوكيل والموكّل اختصما، مثلاً: السيارة تلفت، فقال صاحب السيارة: إن الوكيل فرط أو تعدى، وقال الوكيل: لم أفرط ولم أتعدَّ، فهل القاضي يقضي بأن الوكيل ضامن بناءً على قول موكله أم أنه غير ضامن بناءً على ما يدعيه من أنه لم يفرط، ولم يتعد؟

    هذه المسألة تأتي على صور، فمثلاً: فرضنا أنك أعطيت سيارةً لرجل وأخذ هذه السيارة وتلفت في يده، وحينما تلفت السيارة قلت على حسب خبرتك ونظرك: السيارة لا تتلف هكذا، قال: بل إنها تلفت بآفةٍ سماوية قلت: لا، أو تلفت قدراً مثل أن تتعطل السيارة وقلت له: أبداً، أنت استعملت السيارة، ونظراً لأن استعمالك كان مخلاً تلفت، فأصبح قولك أنه ضامن وقوله: أنه أمين، فهل نصدقك أو نصدقه؟

    هذا فيه تفصيل: من حيث الأصل حتى تتضح هذه الصورة يذكر العلماء رحمهم الله أن الوكيل إذا تلفت السلعة بيده، وادعى أنه لم يفرط ولم يتعد فلا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يقيم الشهود والدليل على أنه لم يتعد ولم يفرط، مثاله: لو أنك أعطيته سيارة وأخذ السيارة وأوقفها أمام منزله أو ذهب بها إلى المعرض مباشرةً، ثم جاءك صاحب المعرض من الغد وقال: السيارة التي أرسلتها معطلة، فاحضرت الوكيل وقلت له: يا فلان! السيارة معطلة، ما الذي عطل السيارة؟ قال لك: لا أعرف، السيارة أخذتها من عندك وأوقفتها في المعرض، قل له: أعطني شهوداً، قال: كان معي فلانٌ وفلان، وإذا باثنين كانا معه فقالوا: نعم، ساق السيارة سياقةً لا ضرر فيها، وأيضاً: حفظ السيارة إلى أن أوصلها للمعرض، فلم يتعد ولم يفرط، فحينئذٍ يصدق الوكيل ويده يد أمانة والضمان على صاحب السيارة.

    إذاً: إذا قامت البينة التي تشهد بصدق الوكيل فلا إشكال.

    الحالة الثانية: العكس، لو أن الوكيل قلت له: اذهب بالسيارة إلى المعرض قال: سمعاً وطاعة، فأخذ السيارة وذهب بها إلى منزله وأوقفها عند المنزل، وحصل الضرر في إيقافها عند المنزل، ثم من الغد ذهب بها إلى المعرض وهي مستضرة أو تالفة وأوقفها في المعرض، فجاء الشهود وأخبروك أنه فعل كذا وكذا، وتعدى بالسيارة؛ لأنه كان من المفروض أن يخرج من عندك إلى المعرض، فأخرجها إلى بيته فتعدى، وكان المفروض أن يوقفها في مكان أمين فأوقفها في مكان غير صالح، فاستضرت ففرط، فشهد الشهود من جيرانه أو شهد الشهود الذين رأوه أنه ذهب بها إلى منزله، وشهد رجلٌ أنه رآه أو شهد شهود أنهم رأوه في الموضع الفلاني في الليل مثلاً، فثبت عندك أنه قد تعدى أو فرط، فإذا قال: إنني لم أتعد ولم أفرط فهو كاذب، فتقيم الشهود عليه، ويجب الضمان في هذه الحالة، فالقاضي إذا قال له: هل تعديت؟ هل فرطت؟ قال: ما تعديت ولا فرطت، فأقام الموكل شهوده على أنه تعدى وفرط، فإنه يلزم بذلك ويجب عليه ضمان ما تلف من السيارة.

    إذاً: عندنا صورتان في البينة: بينة تشهد بصدق الوكيل أنه لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، وبينةٌ تشهد بصدق الموكل أن الوكيل تعدى أو فرط فحينئذٍ يجب الضمان.

    وإذا لم توجد بينة وليس هناك دليل في حكم البينة فيضمن الوكيل إذا أقر على نفسه أنه تعدى أو فرط، يسأله الموكل: هل تعديت في السيارة؟ قال: نعم حملتها فوق طاقتها، أخذت السيارة إلى خارج المدينة في زمان الحر أو في الظهر فاستضرت، أو نحو ذلك من التعديات، فحينئذٍ يحكم بكونه ضامناً، إذاً: إذا قامت البينة أو الاعتراف فإنه يضمن، والإقرار من البينات ويعتبر دليلاً؛ لكن ذكرناه كصورة.

    الحالة الثانية: أن لا توجد بينة، امرأة قالت لرجل: خذ هذا الذهب وبعه لي بعشرة آلاف أو بعه بسعر السوق، فأخذ الذهب في الليل على أن يغدو من الصباح ويبيعه، فسرق هذا الذهب من منزله، لما سرق قالت له المرأة أو قال له موكله: هات الذهب الذي أخذته، قال: سرق مني، نقول: هل حفظته في مكان أمين؟ قال: نعم، وضعته في خزنتي أو في مكانٍ أمين، وجاء السارق وكسر الخزنة قهراً وأنا نائم، فهذا فيه شيء من الغلبة وهو لم يفرط؛ لأنه وضعها في خزنة، فإذا قال هذا، وادعى أنه لم يفرط ولم يتعد، فإن استوفت القرائن أو كنت تثق به وصدقه فلا إشكال، بأن يكون رجلاً أميناً وتعرفه في الأمانة، وأنه يقول الحق ولو كان على نفسه، فقال لك: يا فلان! أخذت الذهب منك ووضعته في صندوقي أو الخزنة وجاء السارق وكسر الخزنة والغرفة مقفلة فكسر بابها، المهم أن الوكيل لم يفرط، فصورة الحال تدل على أنه لم يفرط ولم يتعد، فإن صدقته فلا إشكال، وإن كذبته وقلت له: لا. ما أصدقك، بل فرطت أو تعديت وأنت ضامنٌ لهذا الذهب والمال، فرّط كأن يكون وضع الذهب في مكان ليس بأمين، أو تعدى على الذهب فسرقه -والعياذ بالله- أو نحو ذلك، فإذا لم تصدقه فإن بعض العلماء يقول: يقبل قول الوكيل مطلقاً، يعني: إذا قلت له: إنه تعدى أو فرط فإنهما إذا اختصما عند القاضي وقال الموكل: إنني أعطيته الذهب لكي يبيعه في السوق ففرط فيه حتى سرق منه، فسأل القاضي الوكيل وقال له: هذا الذهب الذي أخذته من فلان حفظته أو ضيعته أو تعديتَ فيه أو فرطت؟ قال: حفظته حفظاً تاماً، ولم أتعد ولم أفرط، فالسؤال حينئذٍ: هل القاضي يحكم بقول الموكل أو يحكم بقول الوكيل؟

    قال العلماء: يطالب القاضي الموكل بالبينة والشهود على أن الوكيل قد فرط أو تعدى، فإن لم يقم البينة وقال: ما عندي شهود يشهدون على أنه تعدى أو فرط نقول: القول قول الوكيل، ولذلك طالبنا الموكل بالبينة؛ لأننا نطالب بالبينة من قوله خلاف الأصل، وبناءً على ذلك: لا نطالب الوكيل بالضمان، والقول قول الوكيل.

    فإذا كان القول قول الوكيل وقال الموكل: لا أصدقه، فحينئذٍ نقول للموكل: أحضرْ البينة، فإن عجز عن إحضار البينة قلنا للوكيل: احلف اليمين على أنك لم تتعد ولم تفرط؛ ولذلك يقول العلماء: القول قول الوكيل مع يمينه إن كذبه موكله.

    فيقبل الوكيل في نفي التفريط والتعدي، فنحن نحكم بأنه لم يتعد ولم يفرط حتى يقوم الدليل على أنه تعدى أو فرط، وهذا مفرع على قاعدة في باب القضاء وستأتينا: (أن الأصل براءة المتهم حتى يقوم الدليل على إدانته)، وهذا ما يعبر عنه العلماء بالقاعدة المشهورة: (الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها)، فأنت إذا وكلت شخصاً ليقوم بأمرٍ، وحكمنا بكون الوكيل أميناً فلا نوجب على الوكيل الضمان، ولا نوجب على الوكيل تحمل المسئولية إلا إذا ثبت أنه فرط أو تعدى، فذمته خالية حتى يدل الدليل على أنها مشغولةٌ بالضمان.

    (والهلاك مع يمينه).

    يقبل قوله في نفي التعدي والتفريط ونفي الهلاك مع يمينه؛ لأن الأصل -كما ذكرنا- براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها.

    1.   

    دعوى الوكالة في قبض الحقوق وأحوالها

    قال رحمه الله تعالى: [ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه].

    هذه المسألة من مسائل الوكالة: لك على رجل عشرة آلاف ريال أخذها منك ديناً، ولنفرض أن اسمه: زيد، فزيدٌ مديون لك بعشرة آلاف، فوجئ زيد برجل اسمه خالد وقف عليه وقال له: أريد العشرة الآلاف التي لعمرو عليك، وكلَني أن آخذها منك، (ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو).

    إذا ادعى شخص أنه وكيل لشخص في قبض مال أو قبض أي حق من الحقوق فالسؤال: هل من حق هذا المديون أن يدفع المال إلى هذا الرجل الذي ادعى أنه وكيل؟

    فرغ المصنف من أحكام الوكالة وآثارها، وشرع في مسألة دعوى الوكالة، فإذا ادعى شخصٌ أنه وكيلٌ عن شخص فلا يخلو من حالتين:

    دعوى الوكيل الوكالة مع وجود بينة الشهود

    الحالة الأولى: أن يقيم الشهود، جاءك رجل وقال لك: العشرة الآلاف التي لزيد عليك وكلني أن أقبضها منك، قلت له: يا أخي! لا أعرفك وأحتاج إلى دليل، أو أثبت لي أن زيداً قد وكلك، فقال: فلانٌ وفلان يشهدان أن زيداً وكلني أن أقبض منك العشرة الآلاف فجيء بالشهود وشهدوا أن زيداً وكله، فالحكم حينئذٍ أنه يجب على المديون أن يدفع المبلغ للوكيل، وقد ثبتت الوكالة، ويحكم بها في مسألتين: في تقاضي الأفراد مع بعضهم، ويحكم بها في مجلس القضاء، فالقاضي إذا ثبت عنده بالشهود أن محمداً وكل زيداً في قبض حقه عند عمرو، فإنه يلزم عمراً بدفع ذلك المال والحق إلى الوكيل.

    لكن لو ظهر في المستقبل أن هؤلاء الشهود كذبوا، وأنه غير صادقٍ، واغتر القاضي بظاهرهم وكانوا يعرفون بالعدالة والزهد على الظاهر، ثم تبين أنهم كذبوه، فإذا تبين كذبهم فإنهم يتحملون المسئولية عن الضرر الناتج عن هذه الوكالة المكذوبة.

    فعندنا الحالة الأولى: أن يثبت عند القاضي أو يثبت عند المديون أن صاحب الحق قد وكّل، فالحكم أنه يجب دفع المال إلى الوكيل، ويجب العمل بهذه الوكالة؛ لأن صاحب الحق قد رضي بهذا الوكيل وأقامه مقامه، فاستحق أن يطالبه وأن يدفع المال إليه.

    دعوى الوكيل الوكالة دون بينة ولا دليل

    الحالة الثانية: أن يدعي أن زيداً وكله في قبض حقه منك وليس عنده شهود ولا دليل، فإذا لم يكن عنده شهود ولا دليل فأنت على صور:

    الصورة الأولى: إما أن تثق في الرجل وتعرف أن الرجل صادق، أو تعرف أن زيداً دائماً يوكله وأنه وكيل عنده، مثلاً: حينما يأتيك العامل الذي يعمل عنده دائماً في محله ويوكله دائماً، وجرت العادة أنه يتولى أموره الخاصة، فعندك غلبة ظن أنه صادق، أو تعرف هذا الرجل الذي جاءك بالأمانة والصدق والعدالة وأنه لا يكذب، هذه صورة.

    الصورة الثانية: أن يقوم ذلك الشخص بدعوى الوكالة ولا تعرفه لا بصدقٍ ولا بكذب، فلا إشكال.

    الصورة الثالثة: أن يكون ذلك الشخص معروفاً بالكذب عندك.

    هذه ثلاث صور: إما أن تثق في الرجل وتعرف صدقه، وإما أن يكون العكس فتعرف الرجل بالكذب والخيانة وأنه دائماً يأكل أموال الناس ويكذب عليهم، وإما أن لا تعرف صدقه ولا كذبه.

    فإن عرفته بالصدق فأنت لست بملزم بدفع المال إليه، حتى ولو عرفته بالصدق، ما دام أنه لم يقم بينة على أنه وكله فمن حقك أن تمتنع؛ لأن صاحب الدين ربما أنكر الوكالة في أي يوم من الأيام، فكأنك إذا دفعت المال تخاطر بنفسك، وليس عندك دليل ولا مستند تستند إليه، فليس هناك ما يدل على ثبوت الوكالة شرعاً، والأصل عدم الوكالة حتى يدل الدليل على ثبوتها من كونه صادقاً، هذا أمر يرجع إليك، فإن شئت دفعت إليه، وإن شئت لم تدفع تدفع إليه.

    وأما إن ظهر كذبه أو أنت تعلم كذبه، أو لا تعرفه لا بصدق ولا كذب -وهما الصورتان الباقيتان- فلا إشكال أنه لا تدفع المال إليه، ومن حقك الامتناع، ولا يجب على القاضي أن يلزمك بالدفع.

    قال رحمه الله: (ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه).

    (لم يلزمه) يعني: لم يلزم الذي عليه الدين والذي عليه الحق أن يدفعه، أي: لهذا الذي يدعي الوكالة، لم يلزمه يعني: لا يجب عليه، فهو بالخيار إن شاء دفع وإن شاء امتنع.

    (لم يلزمه دفعه إن صدقه).

    الضمير عائد إلى الحق الذي هو العشرة الآلاف، (لم يلزمه دفعه)، أي: دفع الحق، (إن صدقه)، فمن باب أولى إن كذبه أو لم يصدقه ولم يكذبه، فأصبح عندنا ثلاث صور: لم يلزمه إن صدقه، ومن باب أولى إن كذبه، أو إن شك في صدقه وكذبه.

    ومفهوم قوله: (لم يلزمه) يعني: هو بالخيار، ونبني على قوله: (لم يلزمه)، أنه: ليس من حق القاضي أن يلزمه بدفع ذلك المال أو إعطائه الوكيل؛ لأنه سيتحمل المسئولية؛ والسبب في هذا: أنك إن أعطيت رجلاً ديناً عشرة آلاف ريال، فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يضمن، وتعرفون يد المديون يد ضمان، له غُنم المال وعليه غُرمه، فإذا كان ضامناً للمال فإنه في الأصل يبرئ ذمته بإعطاء المال لصاحبه، فإذا كان هناك طرف آخر يدعي أنه وكيل فينبغي أن تكون هناك بينة حتى أدفع المال وأنا مطمئنٌ من وصوله إلى صاحبه، فإذا لم تقم البينة على الوكيل فإنني لا أستطيع أن أتحمل المسئولية فأدفع المال ولو كنت أعرف أنه صادق، لأن معرفتي الشخصية لا تسقط عني الحق؛ لأنه ربما كان صادقاً في حقيقة الأمر فيكذبه صاحب الحق، فأنت تعرض نفسك للخطر.

    وافرض أن الشخص صادق وأمين ونزيه، وليس عليه أي غبار، ولكن صاحب الدين رجلٌ مماطل أو كذاب أو متلاعب بحقوق الناس، فيرسل لك أميناً تثق به وتدفع المال إليه على أنه صادق، فإذا أخذ المال والعشرة الآلاف أنكر الوكالة من أصلها وقال: لم أوكله فإذاً لم تسئ لو وثقت به، فإن هذه الثقة لا تستلزم أن تخاطر بالمال ولا تستلزم أن تخاطر بالحق؛ ولذلك قال رحمه الله: (لم يلزمه دفعه إليه، وإن صدقه).

    (ولا اليمين إن كذبه).

    افرض -مثلاً- لو أنك في مكة، ولك على محمد الذي في المدينة عشرة آلاف ريال، فوجئ محمد الذي في المدينة بخالد يقول له: ادفع لي العشرة الآلاف التي لفلانٍ عليك، قال له: ما أدفع، إما أن تأتي ببينة وأدفع لك وإما لا أدفع لك المال، بل أدفعه إلى صاحبه، فجاء هذا الرجل الذي هو خالد واشتكاه عند القاضي، فلما حضر الطرفان عند القاضي قال القاضي للمديون: تصدق خالداً؟ قال: نعم أصدقه وأعرفه بالصدق، فهل القاضي يلزمه؟ قلنا: لا يلزمه، فيرد السؤال: الدعوى من خالد أنه وكيل، وأنكره المديون، فهل نقول: البينة على المدعي واليمين على من أنكر؟ هل نطالب المديون أن يحلف اليمين؟

    القاضي قال للوكيل: أحضر البينة قال: ما عندي بينة، ولكن أطالب هذا المديون أن يحلف اليمين، فهل من حقي أن أطالبه باليمين؟

    قال: ليس من حقه أن يطالبه باليمين؛ لأنه في الأصل ذمته متعلقة بصاحب الدين، وليست ذمته متعلقة بشخص آخر، وليس هناك قضاء بالنكول؛ ولذلك قالوا: إنه لو امتنع عن اليمين لم يكن من حقه أن يلزم بدفع المال؛ لأن النكول هنا -كما سيأتينا في كتاب القضاء- لا يعتبر حجةً بهذه الصورة؛ لأن ذمته مستحقة لصاحب المال الأصلي وليست متعلقة بهذا التوكيل.

    وعلى هذا قالوا: لا يلزمه أن يدفعه إليك (ولا اليمين) أي: لا يلزمه اليمين إن كذبه، فلا يحلف اليمين في مجلس القضاء على نفي هذه الوكالة، ولو كلفناه أن يحلف اليمين لكان في ذلك ضرر عليه؛ ولذلك يدفع الضرر ويبقى الأمر على الأصل من أنه ملزم بدفع الدين إلى صاحب الدين، وهذا هو الأصل، حيث لم يقم الدليل على إثبات الوكالة، فإنه مطالبٌ بالبقاء على الأصل وأنه لا يدفع إلى هذا الوكيل المدعي للوكالة.

    مسألة إذا أنكر الموكل الوكالة لمن أخذ الدين

    قال رحمه الله: [فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة حلف وضمنه عمرو].

    هنا مشكلة: لو كان شخص مديوناً لشخص، وجاء من يدعي الوكالة، قلنا: إذا وجدت البينة فلا إشكال؛ لكن الإشكال إذا لم توجد بينة، فالأصل أنك لا تدفع هذا المال إلا لصاحبه الأصلي، فلو أنك خاطرت ودفعت المال، ثم حضر صاحب المال، وقال: يا فلان! أعطني العشرة الآلاف التي لي عليك، قال له: أعطيتها لوكيلك فلان، قال: ما وكلت فلاناً، فأنكر صاحب الحق الوكالة فما الحكم؟

    هل نقول: ذمة المديون برئت، ويجب على صاحب المال أن يكون وجهه على من ادعى الوكالة؟ أم نقول إن وجهه على المديون؟

    قالوا: الحكم كالتالي:

    أولاً: المديون حينما دفع المال لمن ادعى الوكالة بدون بينة قد فرط، وخاطر بالمال وبنفسه، فعرض نفسه لتحمل المسئولية؛ لكن يبقى شيءٌ مهم وهو: أن المديون ادعى أن زيداً -وهو صاحب الحق- قد وكل عمراً، فإن كان زيد ينكر الوكالة فشرعاً نطالبه أن يحلف اليمين أنه لم يوكل عمراً، فإذا حلف اليمين وأثبت بيمينه اعتضدت اليمين مع الأصل؛ لأن الأصل عدم الوكالة، وقلنا: إن اليمين دائماً تعضد الأصل، فيصبح الأصل مع اليمين بمثابة شاهدين، الأصل شاهد، واليمين شاهد، وقد جعل الله الأيمان بمثابة الشهود، ولذلك في اللعان يحلف الرجل أربعة أيمان وشهادات بالله عز وجل حتى يجب الحد على المرأة.

    فإذاً: اليمين تقوم مقام الشاهد والأصل مقام شاهد ثانٍ، وإذا ثبت حلفه وحلف اليمين فإننا نلزم ذلك الرجل بدفع الدين مرةً ثانية، ثم يقيم دعوى عند القاضي أن فلاناً كذب عليه وادعى الوكالة وأخذ منه عشرة آلاف بدون حق، فيحضر هذا الظالم إذا كان كاذباً في أمره، ويؤخذ منه الحق لكن لو أن الكذب كان من الموكِّل والعياذ بالله، فالموكل فعلاً وكل فأخذ العشرة آلاف، ثم أخذ عشرة آلاف ثانية فحينئذٍ نحكم بوجوب دفع العشرة الآلاف الثانية كما ذكرنا؛ لأن المديون فرط، ثم يقوم الوكيل بدعوى ضد هذا الذي كذب وأنكر الوكالة فيطالبه؛ لأن المديون سيطالب الوكيل، والوكيل سيطالب الموكِّل فتجري على هذا الوجه.

    باختصار: نحكم أولاً بوجوب اليمين على الموكِّل أنه ما وكل، فإن حلف اليمين أوجبنا على المديون دفع العشرة آلاف، فأصبح الموكل الكاذب قد حاز عشرين ألفاً، فيكون المديون دفع عشرين ألفاً، والواجب عليه عشرة آلاف فكيف يكون القصاص؟

    قالوا: المديون يقتص من الوكيل الذي ادعى الوكالة؛ لأنه في الظاهر كاذب، فيقيم عليه الدعوى أنه كذب في وكالته ويأخذ منه العشرة الآلاف، ثم الوكيل هذا الذي كُذّب في وكالته، يقيم دعوى أخرى أن فلاناً قد أخذ منه العشرة آلاف، ثم بعد ذلك يقاصصه بها ويطالب باليمين، وعلى هذا يكون قد وصل كل ذي حقٍ إلى حقه.

    (فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة حلف).

    أي: حلف زيد بالله أنه ما وكله.

    (وضمنه عمرو).

    وضمن الدين والحق عمرو وهو المديون.

    مسألة إذا وجد الموكل وديعته أخذها ومسألة الظفر

    قال رحمه الله: [وإن كان المدفوع وديعة أخذها].

    إذا أودعت شخصاً وديعة، فالوديعة تستحق بعينها، بخلاف العشرة آلاف والأموال التي تكون مضمونة بالرمة، فإن كان الشيء الذي حُفظَ عند الشخص وديعة من سيارةٍ أو طعام فإن الحق متعلق بعين السيارة والطعام، فصاحب السيارة الذي يملكها في الأصل يأخذها ممن شاء، سواءً وجدها عند الطرف الأصلي الذي هو المودَع، أو وجدها عند مدعي الوكالة؛ لأن الحق مطالب بعينه، فيأخذ الوديعة من أيهما شاء، سواءً وجدها عند هذا أو وجدها عند هذا، وهذا يرجع إلى مسألة الظفر، وهي مسألة تتعلق بالحقوق، بأن يكون لك حقٌ على شخص، يعني: افرض أن شخصاً سرق منك سيارة، فإن ظفرت بالسيارة تأخذها أنى وجدتها؛ لأن حقك متعلقٌ بعين السيارة، فتأخذ هذه السيارة كيفما وجدتها قالوا: حتى ولو بالسرقة، فمن سرق مالك جاز لك أن تسرق منه المال نفسه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] فإذا جاء وأخذها خفيةً منك كأن أخذ منك ثوباً وعلمت أن فلاناً قد دخل البيت وأخذه بالسرقة وذهب، فدخلت عليه خفية وأخذت الثوب وما ظلمته فيكون رأساً برأس، والبادئ هو الأظلم، وهذه الحالة يسميها العلماء: حالة الظفر أي: من ظفر بحقه أخذه.

    بعض العلماء يقول: ليس من حقك أن تستخدم الحيل المحرمة للوصول إلى حقك؛ لأن الشرع قد أعطاك القضاء ومكنك من القضاء، فلا يجوز أن ترتكب ما حرم الله، فلا تسرق ولا تأخذه على غرضه، وإنما تأخذه بالوجه المعروف.

    وقال بعض العلماء: من حقك أن تأخذ حقك بأي وسيلة ما دام أنك ستصل إلى حقك ولا تظلم الرجل وقالوا: لو أن عاملاً يشتغل عند رجل فظلمه ومنعه من حقوقه، وله عليه عشرة آلاف، فصار يأخذ من ماله في حدود عشرة آلاف فهذه مسألة من ظفر بحقه أو تمكن من حقه دون أن يعلم من ظلمهم، فهل ذلك جائزٌ أو لا؟

    قال بعض العلماء: من حقك أن تأخذه، واستدلوا بأدلة منها: ما ثبت في الصحيحين من حديث هند رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، ولا ينفق عليّ -أي: لا يعطيني مالي- فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فأجاز لها أن تأخذ من ماله حقها فقال: (ما يكفيك وولدك بالمعروف) فقربوا المسألة كالآتي: قالوا: هند وأولادها لها حق على أبي سفيان ، وهذا الحق لم تستطع أن تصل إليه إلا بحيلة، فأجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ماله، وهذا أشبه بالسرقة؛ لأنها في الأصل أخذت من المال دون علم صاحبه، قالوا: لكنها ستصل إلى حقها ولا تظلمه، فقال بعض العلماء: دل هذا الحديث على جواز أخذ الحق إن وجده صاحبه بأي وسيلة.

    وقال بعض العلماء: لا يجوز، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) فقال: (لا تخن من خانك) فمع أنه خانني لم يجز لي الشرع أن أستخدم الخيانة، قالوا: وقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] لا يقتضي فعل السيئة، وإنما سميت سيئة؛ لأنه لا يأمن الحيف، مثال ذلك قالوا: إذا ضربه وأضر به فلا يأمن أن يحيف؛ لأنه عند الانتقام غالباً ما يكون هناك نوع من القوة في الغضب، فلربما زاده في القصاص؛ ولذلك قالوا: سمى الله القصاص سيئة مع أنه ليس بسيئة؛ لأن صاحب القصاص لا يأمن من الحيف، فإذا ضربه -مثلاً- وصفعه على وجهه، وأراد أن يصفعه، فالغالب أنه يصفعه، وعنده حمية فسيزيد؛ فسماها الله سيئةً وقيل: من باب المشاكلة، وأياً ما كان فالمقصود: أن الأقوى أنه لا يأخذه؛ لأن الشرع قد مكنه من حقه بالقضاء، وأما مسألة حديث هند فنقبله ولا نرده، ونعمل به ولا ننكره، لكنه خاص والقاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص)؛ ولأنه لا يأمن العامل ولا يأمن غيره أن يثبت عليه صاحب الحق أنه، اختلس فيقع في ضرر أعظم، ولذلك لا يخاطب الناس على هذا الوجه، والأشبه أنه يطالب بحقه على الوجه المعروف.

    تضمين المودع أو الوكيل إذا تلفت الوديعة

    (وإن كان المدفوع وديعة أخذها فإن تلفت ضمن أيهما شاء).

    فإن تلفت الوديعة إن شاء ضمن الدافع، وإن شاء ضمن المدفوع إليه؛ لأن الدافع للوديعة إذ ا انتقلت الوديعة إلى الشخص الآخر فإنه لا يضمن، ويكون ضمان الوديعة على من ادعى الوكالة، فحينئذٍ إن شاء طالب من دفعت إليه الوديعة، وإن شاء طالب الدافع؛ لأن يد المودع يد أمانة كما بيناه.

    1.   

    الأسئلة

    مسائل الوصايا والحضانة وغيرها متفرعة عن مسألة الوكالة

    السؤال: هل الحكم في قبول دعوى الوكالة مثله في دعوى الحضانة والوصية؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالوكالة والوصايا وكذلك ما يشابهها من المسائل التي فيها محض التبرع تأخذ حكم الوكالة، فمسائل الوصايا والحضانة كلها تتفرع على مسألة الوكالة؛ لوجود محض التبرع والإحسان من الموكل أو الموصى إليه ونحوهم، ولا يدعي هذه الأشياء ولا تقبل الدعوى إلا بدليل وبينة؛ لأن الأصل عدمها حتى يقوم الدليل على ثبوتها، ويتحمل الوصي المدعي للوصايا الموصى إليه، وكذلك غيره ومن في حكمه يتحمل المسئولية إن ظهر كذبه على التفصيل الذي ذكرناه في الوكالة، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسائل خاصةً في باب القضاء، فنبين أحكام الدعاوى سواءً كان في الحقوق العامة أو في الحقوق الخاصة، والله تعالى أعلم.

    الخطابات المختومة من القرائن التي تدل على الوكالة

    السؤال: إذا حمل الوكيل خطاباً بخط الموكل وختمه فهل يقوم مقام الشهود، فيدفع إليه ما للموكل؟

    الجواب: أدلة إثبات الدعاوى تنقسم إلى قسمين: قسمٌ منها بينات شرعية حدد الشرع هذه البينات، وحكم باعتبارها، ونصت نصوص الكتاب والسنة على وجوب العمل بها، ويشمل ذلك الإقرار والشهادة والكتابة الموثقة بالشهود، فأما الإقرار فهو كما يقال: سيد الأدلة وأقواها؛ لأنه ليس هناك أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك إنسان يشهد على نفسه بالضرر إلا وهو صادق.

    أما النوع الثاني من الأدلة فهو: الشهود، كما جعل الله في شهادة الزنا أربعةً، وفي شهادة الأموال وما في حكمها شاهدين من الرجال، أو أربعةً من النسوة، أو شاهداً من الرجال وامرأتين، أو شاهداً ويميناً، وكلها ثبتت بها الأدلة، فالشهادة حجة بالنسبة للأموال، وما يئول إلى الأموال.

    النوع الثالث من الأدلة المعتبرة هو: الكتابة الموثقة بالشهود، كما دلت عليه آية البقرة فيكتب الدين -مثلاً- ويستشهد عليه شاهدين من الرجال أو رجلاً وامرأتين ممن يرضى أو أربع نسوة، وهذا كله نص عليه القرآن ولا إشكال فيه، وأما بالنسبة للشاهد مع اليمين فقد قضى عليه الصلاة والسلام بالشاهد مع يمينه، فجعل اليمين بمثابة شاهد لكن في الأموال وما يئول إليها؛ لأن الصحابي قال: (قضى بالشاهد مع يمينه)، فدل على أن الزنا والحدود والجرائم لا تثبت بالأيمان إلا فيما استثنى الشرع من لعان الرجل مع امرأته، وهذه قضية خاصة، أما من حيث الأصل فالأيمان لا دخل لها في الحدود فهي قرائن ضعيفة، فالقرائن القوية تكون بعض الأحيان في الجنايات، وتكون في غير الجنايات، فمثلاً: المرأة إذا تزوجها الرجل ومكث معها شهرين، وتبين أن حملها لأربعة أشهر أو ستة أشهر، فهذه تعتبر قرينة على أنها قد زنت؛ لأن الزواج لا يمكن في مثله أن يكون الحمل على هذا الوجه.

    بعض الأحيان يدخل بها وبمجرد ما يدخل بها يجد عليها آثار الحمل، فهذه قرينة على أنه ليس من حلال وإنما هو من حرام، لكنها ليست ببينة على خلاف في الحمل: هل يقتضي ثبوت الزنا أو لا؟ وفيه خطبة عمر المشهورة وسيأتي -إن شاء الله- بيانه في باب الزنا والحدود، الشاهد: القرائن قد تكون قرائن في الدماء، قالوا: لو أن رجلاً وجدناه متشحطاً في دمه -أي: مقتولاً- وعند رأسه رجل يحمل السكين ملطخةً بالدماء، وثيابه ملطخة بالدماء، وعليه آثار العنف أو ما يدل على أنه متعاطٍ للجريمة، فهذه ليست ببينة شهود أو إقرار، ولكنها قرينة واضحة، ومثل هذه القرائن يعمل بها في القضاء في حدود؛ لأن الله أوجب علينا الرجوع للبينات، والقرائن لا تثبت الحكم من كل وجه، ومن أقوى الأدلة على أن القرائن لا تثبت في الحكم من كل وجه؛ أننا لو فتحنا باب القرائن لاسترسل الناس في ذلك، وأقوى الأدلة على عدم اعتبار القرينة ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قذف هلال بن أمية امرأته بـشريك بن سحماء وقذف عويمر العجلاني امرأته بالزنا، وقام اللعان بينهما فحلف عويمر وحلفت زوجته، فلما وقعت بينهما أيمان اللعان قال صلى الله عليه وسلم: (حسابكما على الله، الله أعلم، أحدكما كاذب) إما الرجل كاذب وإما المرأة، فأصبحت القضية من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فانتقل حكمها إلى الله عز وجل، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (انظروا إليه -انظروا إلى الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به خدلج الساقين ...)، إلى آخر الحديث، فذكر الصفات (فهو له) يعني: الزوج وهو كاذب (وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي ذكر)، فجاءت به على صفة الرجل الزاني والعياذ بالله، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، مع أن القرينة واضحة على أنها زانية، ولكن لم يحكم بها ولم يستبح دمها ولم يحكم بالجناية؛ لأن الشرع أمرنا أن نقف عند حدود معينة.

    وبناءً على ذلك فالقرائن لو فتح بابها لاسترسل القضاة في العمل بهذه القرائن، لكن قد تكون القرائن في بعض الأحيان مدخلاً للقاضي أن يحلف المتهم، وأن يشدد عليه في الاعتراف إذا تعلق به حقٌ للغير، فالكتابات التي ذكرت والتي عليها الختم في بعض الأحيان يعمل بها كما في كتاب القاضي إلى القاضي، ويعمل بها في سجلات الحقوق، ويعمل بها في سجلات التجار في إثبات الدين على التاجر إذا مات ووجد بخطه أن لفلانٍ عليه ونحو ذلك، لكن لا تكون بينة من كل وجه يعني: لا تأخذ حكم البينات من كل وجه، وإنما يجب الاقتصار على الأدلة التي ثبتت النصوص بها، وباعتبارها، والزائد على هذا يرجع إلى حكمة القاضي، فيتعامل معه في حدود معينة، ونطاق معين يليق بالقرآن والحكم بها واعتبارها، والله تعالى أعلم.

    حكم تحويل المبالغ المالية من بلد إلى آخر

    السؤال: أردت إرسال مبلغٍ من المال إلى أهلي فقال لي أحدهم: أنا آخذ منك هذا المبلغ وأحيلك في بلدك على شخصٍ يعطيك بدلاً منه بعملة بلدك، فهل هذه المعاملة جائزةٌ شرعاً؟

    الجواب: هذه المعاملة فيها ربا النسيئة، عندما تقول له مثلاً: خذ مائة ألف ريال وحولها، على شريطة أن تعطي أهلي عشرة آلاف دولار أو عشرة آلاف جنيه، فأصبح العقد يشتمل على عقدين:

    العقد الأول: عقد الصرف وهو تحويل العملة من الريالات إلى الدولارات أو إلى جنيهات أو غيرها.

    العقد الثاني: عقد التحويل، فالواجب شرعاً أولاً أن تصرف العملة ثم تقبضها؛ لأنه إذا اختلف الذهب بفضة أو فضة بذهب فإنه يجب أن يكون يداً بيد، فتصرفها ولا تحول إلا بعد الصرف.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756008779