الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه ليلة السبت التاسع عشر من ذي القعدة من سنة (1422هـ).
هذه الليلة بإذن الله تعالى سوف نأخذ ما يتعلق بباب دخول مكة .
ومكة هي البلد الحرام ولها أسماء كثيرة أوصلها بعض العلماء إلى مائة اسم أو نحو ذلك.
ومما ورد في القرآن الكريم من أسمائها: مكة في قوله: بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح:24]، وكذلك بكة: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]، وأيضاً أم القرى: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام:92]، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والبلد : لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، والبلد الأمين .. وغير ذلك من الأسماء، وذكر بعضهم لها أسماء أخرى: كـالناسة والباسة وكوثى .. وغيرها.
ومكة هي أفضل البقاع على القول الراجح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الترمذي حديث عبد الله بن الحمراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والله إنك لخير بلاد الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت )، وقد أقسم الله تبارك وتعالى بها في قوله: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، وهذا دليل على شرفها، وكذلك كثرة أسمائها، وفيها الكعبة المشرفة المقدسة، ومن أسمائها أيضاً: المقدسة ؛ لأن لها قداسة وعظمة وفيها المسجد الحرام، وهو أول بيت وضع للناس.
ولها خصائص كثيرة جداً، منها: الطواف بها، فإنه لا يطاف ببقعة غيرها، وأي طواف في غير الكعبة فهو بدعة شنيعة، كالذين يطوفون بالمشاهد وغيرها.
وكذلك أن العمرة والحج يكون إليها، وأنها تستقبل في الصلاة.. وغير ذلك من الفضائل.
قال المصنف رحمه الله: [ ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها ]، وقبل هذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل مكة بات بـذي طوى واغتسل ثم دخل مكة، وذو طوى هو موضع تقريباً إلى الشمال من مكة ويسمى اليوم بـالزاهر، ودخول مكة يقولون: من أعلاها من الثنية العليا، وهو ما يسمى بـكداء، بفتح الكاف والمد، فهذه الثنية هي التي يستحب الدخول منها، وهي تسمى اليوم أيضاً بـالحجون، فيستحب الدخول من هذه الثنية أو من هذا الموضع.
وهل هذا الاستحباب لكل الناس أو لمن كان قادماً من المدينة وما كان على جهتها؟
جمهور الفقهاء يرون أنه مستحب لكل قادم، قالوا: لأن هذه الثنية أو الحجون أو كداء ليست في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، بل واضح أنه قد صمد وقصد إليها، فدل على استحبابها لكل أحد.
وقال آخرون: إنه يختص الحكم بمن كان آتياً من المدينة، أو كانت هذه في طريقه أو قريباً من طريقه، فأما الذين يشق عليهم وقد أتوا من مناطق بعيدة كمن أتى من مناطق الجنوبي أو الشرقي أو الغربي، فإنه لا يلزمهم أو لا يستحب في حقهم ذلك، وهذا له وجه، وهو قول عند الشافعية وسواهم.
وهذه المنطقة في الجملة من أسرار استحباب القدوم منها، قالوا: لأن القادم إليها يكون الحجر الأسود وباب الكعبة أمامه -قبالته-؛ ولهذا قالوا: إنه يدخل المسجد من باب بني شيبة، فإذا دخل من الحجون أو من كداء واتجه إلى الكعبة إلى المسجد الحرام، فإنه يكون الباب أمامه ويكون الحجر الأسود أمامه.
إذاً: هذه المنطقة هي إلى الشرق من باب الكعبة، يعني: تشكل المنطقة الشرقية بالنسبة إلى الكعبة، فالداخل إليها يكون الباب قبالته، وقالوا: إن الإنسان عادة إذا جاء إلى بيت فإنه يقصده من بابه، وإذا قصد إلى شيء فإنه يتجه إلى أصله وأساسه، وهو ما يتعلق بهذه المسألة.
أما الخروج من مكة إذا انتهى فإنه يخرج من الثنية السفلى، وهي تسمى كدى بضم الكاف وبالقصر، يعني: ليس فيها همزة، وهذه المنطقة هي قريبة مما يعرف الآن بـالشبيكة، وهي أيضاً قريبة من منطقة الشاميين، كانت تعرف بالشاميين، ولذلك يقول بعض الفقهاء: افتح وادخل، يعني: افتح الكاف كداء وادخل إلى مكة، وضم الكاف كدى واخرج.
إذاً: هذا ما يتعلق بدخول مكة.
وقد جاء في هذين الحكمين أحاديث، منها ما ذكرناه من حديث جابر في صحيح مسلم، وكذلك جاء من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى ) وهكذا عن ابن عمر وغيره.
بالنسبة لرفع اليدين، هنا المصنف رحمه الله قال: [ إذا رأى البيت قبل أن يدخل ]؛ وذلك لأنه حسب البناء القديم ربما كان البيت يرى من خارج المبنى -من خارج سور المسجد-، فلذلك تحدث عن رؤية البيت قبل أن يتحدث عما يقوله عند دخول المسجد أو ما ينبغي أن يقال عند دخول المسجد، فإذا رأى البيت: [ رفع يديه وكبر ]، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو المنقول عن الأئمة الثلاثة.
وعند المالكية خلاف في هذه المسألة، فعندهم قول: أنه لا يستحب رفع اليدين عند رؤية البيت، وفي تقديري: أن هذا أجود؛ لأنه لا توجد نصوص صريحة صحيحة في استحباب رفع اليدين عند رؤية البيت، وإنما ورد في ذلك مراسيل عن مكحول وعن ابن جريج وفعله عمر رضي الله عنه، وفيه آثار عن بعض الصحابة وبعض السلف.
فنحن لا نقول: إن هذا العمل بدعة أو مخالف للسنة أو منكر، ولكن لا يوجد أدلة شرعية على استحباب رفع اليدين عند رؤية البيت، وكذلك ما يتعلق بالتكبير والحمد، وإن كان نقل آثار كثيرة جداً فيها أدعية متنوعة ويصعب حصرها، مثل حديث: ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من شرفه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً ) فهذا نقل مرفوعاً ولا يصح، ونقل موقوفاً ونقل أدعية كثيرة، مثل: ( اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام ).. وغير ذلك.
هذه كلها أدعية نقول: من قال بشيء منها فحسن، ولكن ليس شيء منها يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث نقول: إن هذا الدعاء بعينه سنة أو ينبغي للحاج أو المعتمر أن يقوله، وكبر وحمده ودعا.
يستحب له عند دخول البيت أن يقول ما يقوله عند دخول المسجد، وهو: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، هذا يقال في المسجد الحرام من باب أولى كما يقال في غيره من المساجد.
ويبتدئ بعد ذلك بطواف العمرة، والطواف على أربعة أنواع:
أولها: طواف العمرة كما أشار إليه، طواف العمرة إن كان معتمراً.
والثاني: طواف الحج، -وهو طواف الركن- يسمى طواف الركن، ويسمى طواف الإفاضة، ويسمى أيضاً طواف الصدر.
الثالث من الأطوفة: طواف الوداع، ويسمى طواف الصدر أيضاً؛ لأنه يصدر من مكة ويخرج منها.
والطواف الأول الذي هو طواف العمرة يسمى: طواف العمرة، ويسمى طواف الركن أيضاً؛ لأنه ركن في العمرة.
وطواف القدوم، ويسمى طواف القادم، وطواف الورود، وطواف الوارد، وطواف التحية أو اللقاء، تقريباً له ستة أسماء.
فالمصنف رحمه الله ذكر طواف العمرة، يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمراً، فبالنسبة للمعتمر ليس عليه طواف قدوم؛ لأنه أول ما يدخل سوف يطوف للعمرة، وأما من لم يكن معتمراً، يعني: ليس محرماً بعمرة، وإنما هو حاج كالمفرد أو القارن، فإنه لا يطوف طواف الحج، حينئذٍ طواف الحج مكانه بعد الوقوف بعرفة تقريباً بإجماع العلماء، أن طواف الحج بعد الوقوف بـعرفة وإنما يطوف الحاج حينئذٍ طواف القدوم، هنا يأتي طواف القدوم هو للقارن والمفرد، إذا أتى البيت فإنه يطوف للقدوم؛ ولهذا قال العلماء: إن تحية البيت هي الطواف، وربما يصح أن يقال: إن الطواف تحية الكعبة وأما تحية البيت فهي مثل غيره من المساجد، لو أن قادماً أتى إلى المسجد الحرام وأراد الجلوس فإنه يصلي ركعتين؛ لحديث أبي قتادة : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ).
لكن القادم لنسك حج أو عمرة فإنه يستحب له أن يطوف أو يجب عليه بحسب الحال، إن كان معتمراً وجب عليه طواف العمرة، وإن كان مفرداً بالحج أو قارناً للحج والعمرة فإنه يستحب له أن يطوف طواف القدوم.
وبناء عليه نقول: إن طواف القدوم سنة على القول الراجح، وهو مذهب الأكثرين.
وخالف في ذلك الإمام مالك فرأى أن طواف القدوم واجب، والواقع أنه لا دليل على وجوبه؛ لأن مجرد فعله من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه كما يقرر الأصوليون لا يدل على الوجوب وإنما يدل على السنية، ولم يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك أيضاً طواف خامس وهو طواف التطوع، أن يتطوع الإنسان في أي وقت بسبع أو أسبوع، ولم يرد فيه حديث صحيح يثبت مرفوعاً في فضله، وإنما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أن: (من طاف بهذا البيت أسبوعاً كان كعدل رقبة)، وهذا لا بأس به، ويمكن هو أصح ما ورد في الباب.
إذاً: يطوف المعتمر طواف العمرة، وغيره يطوف طواف القدوم إن كان مفرداً أو قارناً.
فصفة الاضطباع: هو أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر.
يعني: يأتي بالرداء من تحت إبطه الأيمن بحيث يكون منكبه الأيمن مكشوفاً، ويضع طرفي الرداء على منكبه الأيسر، هذا يسمى بالاضطباع.
وهو مشروع باتفاق العلماء، لكن ليس في كل طواف، وإنما في هذا الطواف الذي ذكره المصنف، وهو مشروع في جميع الطواف، يعني: في الأشواط السبعة كلها عند جمهور العلماء، وهو أيضاً الصحيح عند الحنابلة.
وعند الحنابلة قول آخر: أنه يضطبع في الأشواط الثلاثة الأول التي يرمل فيها، فإن الرمل مشروع أيضاً في هذا الطواف.
والدليل على مشروعية الاضطباع ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه وما رواه الخمسة إلا النسائي عن يعلى بن أمية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف وهو مضطبع )، وألفاظ الحديث مختلفة، لكن هذا معناها.
فيشرع له حينئذٍ أن يطوف مضطبعاً بهذه الصفة التي ذكرها المصنف.
قال: [ ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ].
الاضطباع ينتهي بنهاية الطواف على القول الراجح، وهو مذهب الجمهور؛ ولهذا يستحب له أن يزيل الاضطباع قبل أن يصلي؛ لأن من السنة أن يستر منكبيه في الصلاة، وذكر هذا أبو الوفاء ابن عقيل وغيره من الحنابلة.
الحجر الأسود معروف، وقد ورد في فضله أحاديث كثيرة وآثار، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه البيهقي وغيره وسنده جيد: (إن الحجر الأسود يمين الرحمن في الأرض فمن استلمه أو قبله فكأنما صافح الرحمن) أو نحو هذا، وورد فيه آثار أخرى: (أنه كان أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم).
فيبدأ بهذا الحجر فيستلمه، والاستلام هو بمعنى السلام، أن يضع يده عليه أو قد يكون من السَلام بفتح السين، أو من السِلام وهي أيضاً الأطراف والمفاصل.
فيستلمه، واستلام الحجر ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً معروف حديث عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاري وغيره: ( أنه أتى الحجر وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك )، فيستلم الحجر بيده ويقبله إن استطاع ولم يشق عليه ذلك.
وقال بعضهم: يسجد عليه، وهذا ورد عن الإمام أحمد وعن جماعة من العلماء، وجاء فيه أحاديث عدة، ولكن كلها معلولة، فمن سجد على الحجر فليس عليه في ذلك بأس، وليس هذا العمل ببدعة؛ لثبوته عن جماعة من السلف.
وأما الأحاديث المرفوعة فيه فهي لا تخلو من ضعف.
كلمة (باسم الله)، جاء فيها أثر عن بعض الصحابة رضي الله عنهم عن ابن عمر رضي الله عنه وغيره، أنه سمى، ولكن في هذا الأثر ضعف.
وأما (الله أكبر) التكبير ثابت كما في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير كلما حاذى الحجر كبر وأشار بمحجنه ) أو نحو ذلك.
أما التسمية أن يقول: باسم الله، فكما ذكرت جاء عن ابن عمر وقد رواه الطبراني في معجمه الأوسط ورواه الأزرقي في تاريخ مكة وفيه ضعف؛ ولهذا نقول: التسمية ليست ثابتة، ولا يشرع له أن يسمي في كل شوط، وإنما قال بعضهم: يسمي في بداية الطواف، أما التكبير فيكبر عند كل بداية شوط منها.
المصنف رحمه الله ذكر البداءة بالحجر الأسود واستلامه وتقبيله، ولو لم يتيسر ولم يتسن له ذلك فإن العلماء يقولون: يستقبل الحجر الأسود ببدنه، يستقبله استقبالاً ثم يشير إليه بيده إن استطاع، ولا يقبل ما أشار إليه بيده أو بعصا أو نحوه، والعصا فيه نظر أيضاً للإشارة إليه ولم يثبت، وإنما الثابت هو الإشارة إليه باليد، فلا يقبل يده إذا أشار إليه بها.
ثم ينصرف إلى يمينه؛ لأنه يفترض أنه مواجه للحجر الأسود في البداية، ثم ينصرف إلى يمينه بحيث تكون الكعبة عن يساره ويبدأ بذلك الطواف.
وهنا أشير إلى ما يتعلق بموضوع الخط الأسود الموضوع إزاء الحجر الأسود في مكة .
بطبيعة الحال أن هذا الخط ليس له أصل، لكن الملاحظ أن هذا الخط وضع في مواجهة ومسامتة الزاوية التي فيها الحجر الأسود، بينما كلام الفقهاء أو كثير منهم وخصوصاً الحنابلة يرون أن الطواف يبدأ من بداية الحجر، يعني: هكذا؛ بحيث أنه يحاذي الحجر بكل بدنه، فهمتم أو لا؟
يعني: إذا تصورنا أن هذه هي زاوية الحجر الأسود الخط موضوع بهذا الاتجاه، يعني: متعامد مع زاوية الكعبة، بينما كلام كثير من فقهاء الحنابلة يرون أنه يفترض أن يكون هكذا الخط، بحيث يبدأ من أول الحجر ويدور على الحجر كاملاً، لكن في تقديري أن هذا الأمر لا داعٍ إلى التشديد فيه، والأمر كله مبني على السعة وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
ولهذا كان فقهاء الأحناف يرون أنه لو فاته من الشوط شيء يسير أنه لا يضره، وهذا غالباً ما يقع من الحاج؛ أنه قد ينصرف قبل محاذاة الحجر بيسير، أو يدفعه الزحام، أو يبدأ بعده بيسير.. أو ما أشبه ذلك، فمثل هذه الأشياء مما لا ينبغي التشديد فيها والأمر فيها على التوسعة ؛ ولهذا جاءت النصوص القرآنية والنبوية في مثل هذه المسائل فيها سعة وفيها عموم، وإنما أقوال الفقهاء أحياناً يكون فيها تدقيق ربما لا يكون لازماً لعامة الناس.
يبقى أن هذا الخط الموضوع الآن يقع به حرج عند كثير من الناس؛ لأن بعضهم يرون أن هذا الخط هو بداية الطواف ويتزاحمون عليه وآخرون يقفون عنده، ويطيلون الوقوف والدعاء وما أشبه ذلك.
ومثل هذا وإن كان ورد عن بعض السلف أنه كان يقف ويدعو، إلا أنه في مثل أوقات الزحام في مكة في رمضان وفي الحج وفي غيرها، يكون الوقوف ضرراً على الناس وربما يترتب عليه ازدحام وأذية كبيرة للناس، والرسول عليه الصلاة والسلام -حتى فيما يتعلق في تقبيل الحجر الأسود- ورد عنه أنه كان يقول لـعمر وإن كان الحديث فيه ضعف، يعني: (إنك رجل قوي فلا تؤذ الضعيف، فإن وجدت سعة فقبل وإلا فامض).
فينبغي مراعاة مثل هذه الأشياء.
ثم قال: [ اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ].
هذا من الدعاء الذي ليس له أصل كما ذكرنا ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما قال به بعضهم، وربما يكون فعله بعض السلف، لكن فعلهم له ليس على سبيل السنية بحيث يتناقل الناس مثل هذه الأدعية ويلتزمون بها، وقد يوضع بعضها في كتب، ويوضع لكل طواف أدعية معينة يرون عدم الإخلال بها، وهذا كله مما ليس له أصل.
بل نقل عن بعض فقهاء الحنفية أنهم يقولون: إن ترسيم الدعاء يضعف الخشوع، وهذا مشاهد، فإن الناس إذا رتبوا أشياء من هذا القبيل، ربما تعودوا أن يقرءوا أشياء أو يرددوها دون أن يستحضروا بقلوبهم معنى ما يقولون ومعنى ما يدعون، فينتبه لهذا.
قال: [ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره]؛ لأننا افترضنا أنه في بداية الطواف استقبل الحجر الأسود ببدنه وبوجهه، ثم قبله أو استلمه أو أشار إليه، وليست الإشارة كما يظن بعض الجهلة أنها مثل إشارة الصلاة؛ أنه يرفع يديه ويكبر! لا، وإنما يشير بيده اليمنى فقط إشارة هكذا.
فيشير إلى الحجر، ثم يتجه إلى يمينه هو، إلى يمين الطائف، بحيث يكون البيت عن يساره، وهذا من مواطن الإجماع القطعي عند علماء الأمة أن الطائف يجعل البيت عن يساره ويدور هكذا، ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره.
وهذا أيضاً من حيث الأصل وهو باتفاقهم، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما رواه عنه أصحابه كـجابر وابن عمر وعائشة وغيرهم.
فالرمل إذاً: مستحب في الأشواط الثلاثة فقط، وهنا يختلف الرمل عن الاضطباع، فالاضطباع يكون في الأشواط السبعة كلها على الراجح كما ذكرنا، وأما الرمل فإنه يكون في الأشواط الثلاثة الأول فقط.
والمصنف رحمه الله قال: [ من الحجر إلى الحجر ]، وهذا هو قول الجمهور، وهو المعروف عن الأئمة الأربعة رحمهم الله؛ أن الرمل يكون في الأشواط الثلاثة كلها، يستوعب كل الأشواط الثلاثة.
وهناك قول آخر في المسألة وهو: أنه يرمل في الأشواط الثلاثة ويمشي بين الركنين، والمقصود بالركنين: الركن اليماني والحجر الأسود، فقالوا: في هذه المنطقة التي بين الركن والحجر فإنه يمشي ويترك الرمل، وهذا القول منسوب لبعض السلف كـطاوس وعطاء وسعيد بن المسيب والحسن البصري والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله .. وغيرهم، واحتج هؤلاء بحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي رواه الشيخان: ( أن الصحابة قدموا مكة، وقد قال المشركون: إن هؤلاء يقدمون عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا في الأشواط الثلاثة ويمشوا بين الركنين. قال: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا في الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يعني: رحمة بهم وإبقاء عليهم أمرهم أن يمشوا بين هذين الركنين ليستريحوا من عناء الرمل، وهو المشي السريع، وهو الركض مع تقارب الخطا، هذا هو الرمل، ليس مشياً، وإنما هو ركض مع تقارب الخطا.
فهذا الحديث وهو متفق عليه حجة لهؤلاء بقولهم: إنه يرمل في الأشواط الثلاثة ويمشي ما بين الركنين.
أما مذهب الجمهور وحجتهم فهو ما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه رمل من الحجر حتى عاد إليه)، والحديث في مسلم، وهكذا جاء عن ابن عمر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر ) وهو في صحيح مسلم.
فحديث ابن عمر وحديث جابر كان في حجة الوداع، بينما أثر ابن عباس رضي الله عنه كان في عمرة القضاء كما هو معروف، وحجة الوداع متأخرة.
إذاً نقول: يُعمل بالآخر فالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا أولاً.
كذلك قال العلماء: إن ابن عباس رضي الله عنه كان صغيراً آنذاك، بينما جابر رضي الله عنه وابن عمر كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا طوافه وطواف أصحابه رضي الله عنهم بهذه الطريقة، وهو الذي فعلوه، فيقدم ما رواه جابر وابن عمر على فرض تعارضه مع ما رواه ابن عباس، يقدم ما روياه، خصوصاً أن جابر رضي الله عنه كان له اختصاص ومزية في حكاية صفة حج النبي عليه الصلاة والسلام.
ولهذا نقول: إن القول الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور: أن الرمل يكون في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر.
قال: [ ويمشي في الأربعة الأخر ].
هذا هو المأثور من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يستلم الحجر الأسود ويكبر ويهلل، ويستلم الركن اليماني، لكن لو لم يستطع استلام الركن اليماني فإن الصواب أنه لا يشير إليه ولا يكبر.
ومما ينبغي أن ينبه إليه في مثل هذا: أن كثيراً من الحجاج قد يقعون في مثل هذه الأمور في شيء من اللبس، وهناك أقوال للفقهاء في التكبير ومحاذاة الركن اليماني وفي الإشارة إليه، وإن كانت أقوالاً مرجوحة وأحياناً ضعيفة.
لكن ينبغي أن يلحظ أن الحجاج تتنوع مشاربهم ومذاهبهم في هذا، وكثيراً منهم هم من العامة الذين ليس لديهم بصر بالدليل، ولا اطلاع على كتب أهل العلم ولا تمييز للراجح والمرجوح، وإنما يأخذون عن فقهاء عندهم في مثل هذه الأمور.
فإن استطاع الإنسان أن يعلم برفق ولين فلا بأس، وإلا فلا يشق على الناس، فإني رأيت بعض الإخوة في مثل هذه الأمور، قد يفحش الواحد منهم ويغضب وينفعل ويبدأ يتكلم على الناس بطريقة فظة، وهو ربما ليس عنده أيضاً معرفة وبصر بالمسألة بقدر ما هو تلقى شيئاً، وأراد أن يحمل الناس عليه دون أن يكون لديه معرفة.
ولذلك الذي لديه معرفة وعلم وبصر الغالب أنك تجده رفيقاً بالناس؛ لأنه يدري أن المسألة ليست قولاً واحداً وأن فيها آراءً لبعض الفقهاء ولو كانت مرجوحة إلا أنه ينبغي الرفق بالعامة فيها؛ لأن المقصود هو إيصال الخير إليهم وهدايتهم، وليس المقصود التسلط عليهم أو الأخذ بهم بالقوة والبأس.
من المعروف أنه لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني.
أما الركنان الآخران الشاميان، فإنه لا يشرع استلامهما عند الجمهور، عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهذا منقول عن الصحابة كـابن عباس وسواه، وهو فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنه لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وهو أيضاً منقول عن ابن عمر وجابر وغيرهم.
ويقول بين الركنين هذا الدعاء: ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) وهذا الدعاء ربما هو الدعاء الثابت، يعني: ربما لم يثبت غير هذا الدعاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي، ورواه أحمد في مسنده من حديث ابن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الدعاء، وهذا الحديث قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان وغيره.
ربما هو أصح ما ورد في الأدعية التي تقال في الطواف بالبيت باستثناء التكبير كما ذكرنا .
وله مع ذلك أن يقرأ القرآن، وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل: أن يقرأ القرآن أو أن يدعو في الطواف؟
فمنهم من قال: إن الدعاء أفضل؛ لأنه هو المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم وعن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل شيء من القراءة.
ومنهم من قال: إن القرآن أفضل؛ لأنه أفضل من الدعاء، فهو أفضل الذكر.
والأقرب: أن التنويع في ذلك واسع، فإن الإنسان قد يخلط بين الدعاء وبين القراءة وغير ذلك، وقد يحفظ القرآن فيراجعه كما إذا كان يطوف طواف نافلة، أو يكون محتاجاً إلى الدعاء فيدعو به، ولهذا أيضاً بحث العلماء: أيهما أفضل الاستغفار أم القراءة والذكر؟
فقال بعض العلماء: إن الثوب الخلق الوسخ يحتاج إلى تنظيف وإلى غسل، فمن كان هذا حاله فالأفضل في حقه أن يكثر من الاستغفار، ومن كان بخلاف ذلك فتكون القراءة ويكون الذكر أفضل له.
يعني: بعدما ينتهي من الأطوفة أو الأشواط السبعة، ويراعى أنه في الشوط السابع لا يشير ولا يكبر؛ لأن التكبير والإشارة تكون قبل الشوط وليست بعده، فالسابع ليس بعده شيء، وإنما ينصرف إذا حاذى الحجر الأسود ويذهب خلف المقام ليصلي ركعتين، وهذا مما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث جابر : أنه ذهب إلى المقام وقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، ثم صلى خلفه ركعتين قرأ فيهما بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ولو أنه صلى في أي مكان آخر أجزأه ذلك، فإن عمر رضي الله عنه كما ذكره البخاري في صحيحه معلقاً وهو صحيح: (طاف ثم لم يصل الركعتين إلا بـذي طوى) وهو الزاهر كما ذكرنا أو قريب منه.
فلا يلزم أن تكون خلف المقام، وخصوصاً إذا كان هناك زحام، فإنه يلزم الإنسان أن يبتعد عن الزحام وعن أذية المسلمين أو مضايقتهم، فيصلي في أي مكان كان من البيت أو من الحرم، ولو صلى خارجه فالأقرب أنه يجزئه ذلك كما إذا نسيها مثلاً وصلاها خارج مكة .
ولا يلزم أيضاً أن يقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فمهما قرأ به من القرآن أجزأه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20].
ما حكم هاتين الركعتين؟
هاتان الركعتان سنة عند الجمهور؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلها، وقال: ( خذوا عني مناسككم )، فيستحب للإنسان أن يصلي هاتين الركعتين.
وقال بعض الفقهاء، وهو وجه عند الشافعية: إنها واجبة، وأنه يجب على الطائف أن يصلي هاتين الركعتين؛ وذلك لأنه إذا كان الطواف واجباً فهي من تمامه فيجب عليه أن يصليها، وهذا قول ضعيف عند الشافعية، بل نص الشافعي رحمه الله على خلافه كما ذكره غير واحد.
فلذلك نقول: إن الراجح أن ركعتي الطواف سنة ولا دليل على وجوبهما.
يعني: بعدما يصلي ركعتي الطواف، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث جابر رضي الله عنه، فإنه بعدما صلى الركعتين رجع إلى الركن، والمقصود بالركن هنا هو الحجر الأسود، رجع إليه فاستلمه.
أي: على الصفا، والصفا هي حجارة تقع إلى جنوب المسعى كما هو معروف عن يمين الإنسان إذا صدر عن الكعبة متجهاً صوب المسعى، وهي حجارة كانت عبارة عن درج، قال بعضهم: إنها كانت اثنتي عشرة درجة، وقال كثير من العلماء: إن كثيراً من هذه الحجارة قد طمر في التراب، يعني: ارتفع مستوى المسعى الآن كثيراً عما كان عليه من قبل؛ ولهذا فإن بعض الناس يتكلفون في الوصول إلى الحجارة الباقية على شكل الحجارة الآن، ويرون أن المكان المبلط كأنه ليس من الحجارة أو ليس يكفي، والواقع أن هذا كافٍ، ولا يلزم الإنسان أن يصل إلى الحجارة الموجودة الآن؛ لأن المكان الذي خلف الأعمدة هو من الصفا، وكما ذكرنا أن مستوى المسعى ارتفع عما كان عليه من قبل، وإن كان الإنسان لا بأس أن يستوعب ويحتاط، إلا إذا كان في ذلك ضرر كأن تكون امرأة أو يكون هناك زحام أو ما أشبه ذلك.
[ فيخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه ]، يعني: على الحجارة.
وهل يرفع يديه أم لا يرفعهما؟
الحديث لم يذكر فيه رفع اليدين كهيئة الداعي.
ولكن قال كثير من العلماء: إن رفع اليدين عند الدعاء من المتواتر، يعني: ثبت في السنة رفع اليدين حال الدعاء في مواضع كثيرة جداً تبلغ مبلغ التواتر، فرفع اليدين مع الدعاء مستحب، لكن إن ورد الدعاء بصيغة تدل على عدم الرفع قلنا: لا يرفع، فلو أن إنساناً رفع يديه وهو يدعو بين السجدتين هل نقول: إن هذا العمل مشروع؟ نقول: هذا العمل بدعة لا شك فيه؛ لأنه مخالف لسنة الصلاة في السكون ووضع اليدين على الركبتين أو على الفخذين، وهكذا لو دعا في المواطن التي ورد فيها الدعاء واستفاض ولم يذكر فيها رفع اليدين.
لكن مثل الموضع المسكوت فيه، فقال بعض العلماء: يرفع يديه وعليه أكثر الفقهاء؛ ولهذا نقول: لا بأس، من رفع يديه ودعا فهذا جيد، ومن ذكر هذه الأدعية ودعا دون أن يرفع يديه فلا بأس بذلك أيضاً الأمر فيه واسع.
والعلم كان عبارة عن علامة عمود أو نحوه موضوع على جدار المسعى، وأما اليوم فهو عبارة عن إضاءات خضراء تبين للساعي بدايتها ونهايتها.
وهذا العلم كان في الأصل مهبط ومنحدر بطن الوادي أسفل الوادي، فلذلك كان يستحب الإسراع فيه، وهذا الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه انحطت قدماه في بطن الوادي، الآن يكاد أن يكون المسعى كله مستوياً، لكن السنة تظل باقية كما ذكرنا في الرمل والاضطباع.
فهكذا يشرع للإنسان أن يسعى، يعني: يركض، والسعي هنا يختلف عن الرمل فالسعي هنا أن يركض بشدة ساقيه، يعني: يركض ركضاً دون أن يؤذي غيره بذلك، وبخلاف الرمل، فهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا كما ذكرنا، فالسعي هو الركض بين العلمين.
يسعى من العلم الأول إلى العلم الآخر، ثم يمشي حتى يأتي المروة، وهي الحجارة التي تكون إلى شمال المسعى، ويقال فيها ما يقال في الصفا.
[ ويفعل على المروة كفعله على الصفا ]، يعني: من استقباله للبيت ودعائه وتكبيره وتحميده وتهليله، ولو رفع يديه فهو حسن كما قلناه هناك.
وفي السعي يدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة، ومما نقل عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في هذا السعي أنه كان يقول: [ اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم ]، ويقرأ القرآن ويذكر الله سبحانه وتعالى، ولا بأس أن يتكلم في الخير والطاعة والأمور المباحة أو يحادث جلساءه وأصحابه، لكن لا يتكلم بإثم ولا غيبة ولا سوء؛ لأنه متلبس بعبادة
[ ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه ]، موضع السعي هو ما بين العلمين، وموضع المشي هو ما سوى ذلك حتى يكمل سبعة أشواط.
[ حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية ]، بخلاف ما يظنه البعض من أن الذهاب والإياب يكون سعية واحدة، نقول: ما بين الصفا والمروة سعية، يعني: واحد شوط، وما بين المروة والصفا هو شوط آخر؛ ولهذا يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة خلافاً لمن نقل غير ذلك عن ابن حزم أو الطحاوي أو غيرهما، وقد غلط العلماء من قال ذلك، وقالوا: لو كانت كذلك لكانت أربعة عشر، ولكان الإنسان يبدأ بالصفا وينتهي بالصفا أيضاً، فلما كان يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة وهذا مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر ومعاوية وابن عمر وعائشة وغيرهم في تقصيره على المروة عليه الصلاة والسلام.
[ حتى يكمل سبعة أشواط يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة ].
من أهم الفروق: أن الطواف قال العلماء: يشترط له الطهارة، وهذا مذهب الجمهور؛ وذلك لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم طاف بالبيت، وكذلك قال لـعائشة كما في الصحيحين أيضاً: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وفي لفظ متفق عليه: ( فإذا تطهرت فاغتسلي وطوفي ).
فلذلك ذهب الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم: الشافعي ومالك وأحمد إلى أن الطهارة شرط للطواف بالبيت بهذه الحجة.
وهناك في المسألة قول آخر للحنفية وهو: أن الطهارة ليست شرطاً، وإنما هي مترددة عندهم بين الوجوب وبين السنية، فعند الأحناف قولان في الطهارة، إما أنها واجبة وإما أنها سنة، فأما إن كانت سنة فليس عليه شيء، يعني: لو طاف على غير طهارة؛ طاف وهو جنب مثلاً أو غير متوضئ محدث، أو طافت امرأة حائض فإنه ليس عليها شيء إذا قلنا بالسنية، وأما على القول بالوجوب فإنهم يقولون: إنه يجبر ذلك على الإعادة وإلا جبره بدم، فإن كان جنباً جبره ببدنة، يعني: الأمر أشد، على خلاف في هذه التفاصيل.
لكن المقصود أن مذهب الحنفية لا يشترط الطهارة، وإنما يقول بسنيتها أو يقول بوجوبها، وعند الإمام مالك قول مثل ذلك، وعند الإمام أحمد أيضاً قول مثل ذلك، حتى أن الإمام أحمد قال: إنه إذا طاف على غير طهارة فإنه ليس عليه شيء، ولم ير عليه هدياً، ولا شيئاً من ذلك، وفي رواية أنه قال: إن كان بـمكة أعاد وإلا فليس عليه شيء، وهذا القول لم ينفرد به أيضاً هؤلاء، وبعضهم نسب إلى أبي حنيفة أنه انفرد به، وهو كما ذكرت قول في مذهب المالكية، وقول عن الإمام أحمد، وكذلك روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن شعبة قال: سألت الحكم وحماداً ومنصوراً وسليمان عن الرجل يطوف على غير طهارة فلم يروا بذلك بأساً.
ولذلك نقول: إن اشتراط الطهارة في الطواف ليس عليه دليل، وهذا ما رجحه الإمام ابن تيمية رحمه الله أيضاً كما في الاختيارات وغيرها، أن اشتراط الطهارة ليس عليه دليل، وإنما الأمر متردد بين الوجوب وبين السنية.
فإن كان الإنسان في سعة فعليه أن يتوضأ، وأما إن كان في ضيق، مثل لو أحدث وهو يطوف، أو كان هناك شدة وحرج وضيق وزحام، أو امرأة احتاجت إلى ذلك.. أو نحوهم، فإنه ليس عليه في ذلك شيء، وهذا أيضاً رأي ابن حزم رحمه الله والظاهرية، ولذلك ذكر ابن حزم عن عائشة أن امرأة معها كانت تطوف فحاضت أثناء الطواف فأكملت مع عائشة رضي الله عنها.
فلذلك نقول: إن الطهارة للطواف بالبيت إما أن تكون واجبة أو تكون سنة، وليس في المسألة أدلة واضحة على ذلك، وأما أمر عائشة بالاغتسال، فلأنها سوف تصلي كما هو معروف والحائض تغتسل لذلك، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دليل فيه على الوجوب أنه توضأ، وإنما دليل على السنية.
احتج بعضهم بما يروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير )، والحديث عند البيهقي وغيره، وليس بصحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الصواب أنه من كلام ابن عباس رضي الله عنه، والطواف بالبيت في معنى الصلاة، لكن ليست له أحكام الصلاة، وهذا ما يتعلق بالطواف فيما يتعلق باشتراط الطهارة له.
أما بالنسبة للسعي، فإنه لا يشترط له طهارة؛ ولهذا المرأة لو طافت بالبيت ثم حاضت فإنها تسعى في ذلك ولا شيء عليها هذا فرق.
الفرق الثاني: أنه يشترط للطواف ستر العورة، بخلاف السعي، فإن الفقهاء قالوا: لا يشترط له ستر العورة، فلو افترضنا جدلاً أنه سعى وهو مكشوف العورة فإن سعيه صحيح، وهذا قد يتصور في حالات معينة، ربما الفقهاء أحياناً يفرضون أموراً نظرية قد لا يكون في المسعى غيره ولا يكون عنده ثوب أو ما أشبه ذلك، فهنا لا دليل على اشتراطه في السعي، بينما في الطواف فأنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك.
كذلك من الفروق بين الطواف والسعي: أن الطواف يستحب للإنسان أن يتنفل أو يتطوع فيه، بخلاف السعي، فإنه إنما يسعى السعي الواجب عليه، وقد يكون هناك الأمر يحتمل أوسع وأطول من ذلك.
هنا افترضنا أنه معتمر, فإنه قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة بقي عليه التقصير.
وقد اختلف العلماء: هل التقصير هنا ركن من أركان العمرة أو واجب؟ وهما قولان في مذهب الإمام أحمد، فالمقصود: أنه يقصر من شعره أو يحلق بطبيعة الحال، ويكون قد حل من عمرته.
قال: [ إلا المتمتع إن كان معه هديه ]، وقد سبق أن بينا معنى التمتع، وهو أن يحرم بالعمرة ويتحلل منها، ثم يحرم بالحج في عامه، فهذا يسمى متمتعاً؛ لأنه جمع النسكين في سفر واحد، جمع العمرة والحج في سفر واحد، ولهذا سمي متمتعاً؛ وكذلك لأنه يترفه بينهما فيحل من عمرته الحل كله، ويأتي النساء ويتطيب ويلبس لباسه ثم يحرم بحجه، فهذا هو المتمتع.
قال: [ إلا المتمتع إن كان معه هديه ]، يعني: المتمتع لو لم يكن معه هدي فإنه يحل أيضاً، يعني: الذين يحلون هم صنفان: من أحرم بعمرة، إنسان ذهب إلى مكة معتمراً فقط وليس في نيته الحج، فإذا طاف وسعى وحلق فإنه يحل.
الصنف الثاني: إنسان ذهب إلى مكة بقصد الحج والعمرة ونسكه هو التمتع، ولكنه لم يسق الهدي معه، يعني: ما جاء معه بإبل أو بقر أو غنم ساقها من الحل إلى الحرم، هذا معنى سوق الهدي.
فهذا الإنسان المتمتع الناوي للعمرة ثم الحج من غير أن يسوق الهدي، هذا أيضاً إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وقصر فإنه يحل من عمرته، وهنا استخدم المصنف لفظ التقصير -والله أعلم- باعتبار التمتع؛ لأن المتمتع يقصر ولا يحلق، لماذا؛ لأنه سيحتاج إلى شعره في الحج حتى يحلقه، لكن إن كان المتمتع معه هدي، يعني: قد ساق الهدي من الحل، فإنه لا يحلق ولا يقصر ولا يحل: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196].
قال: [ وكذلك القارن ] وهو الذي جمع الحج والعمرة في نسك واحد وساق الهدي.
[ أو المفرد ] وهو الذي نوى الإحرام بالحج وحده دون عمرة، فإن القارن سواء ساق الهدي أو لم يسقه وكذلك المفرد فإنهم لا يحلون، ومثلهم المتمتع إذا كان قد ساق الهدي، وإن كان يستحب للقارن والمفرد، يعني: يستحب للقارن إذا لم يكن ساق الهدي، ويستحب للمفرد إذا طاف أو قبل الطواف أن يقلب نسكه إلى عمرة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به أصحابه وألح عليهم، وكان هذا مذهب الإمام أحمد، ولهذا مسلمة بن شبيب قال له: يا أبا عبد الله ! كل شيء منك حسن وطيب إلا مسألة واحدة أنتقدها عليك، قال: ما هي يا مسلمة ؟! قال: تقول بفسخ الحج إلى عمرة، فقال الإمام أحمد : عندي في ذلك ثمانية عشر حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخالفها وأذهب إلى قولك، قد كنت أرى لك عقلاً ورأياً فكيف تقول بهذا وتأخذ علي شيئاً ثبت في السنة؟ وذكر بعض العلماء أنه يبلغ مبلغ التواتر.
فالمقصود: أن القارن وأن المفرد وأن المتمتع إذا ساق الهدي، إذا طافوا وسعوا فإنهم لا يحلون، بل يظلون على إحرامهم حتى يحلوا من حجهم.
يعني: في كل ما سبق من الأحكام.
[ إلا أنها لا ترمل في طواف ]، في الطواف ليس عليها رمل.
[ ولا سعي ] في السعي لا تركض بين العلمين، وإنما تمشي مشياً؛ وذلك لأن هذا الأمر مبناه على الستر والصون والبعد عن التكشف للمرأة، ولهذا ذكر ابن المنذر اتفاق الفقهاء على مثل هذا بخلاف الرجل، فإنه مطلوب منه إظهار القوة كما سبق.
أما بالنسبة للاضطباع فإن المرأة أصلاً تحرم فيما شاءت من الثياب، ولهذا لا يرد هذا في شأنها.
هذا ما يتعلق بباب دخول مكة، يمكن فاتنا بعض المسائل؛ لأنني انشغلت بالأمس كثيراً، ولكن إن شاء الله أن ما ذكرناه هو ما يتعلق بلب المسألة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر