إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (32)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يؤدب الله عز وجل عباده المؤمنين ناهياً لهم عن سب آلهة المشركين من الأصنام والأوثان؛ لأن ذلك قد يحملهم على سب الله عز وجل، ظناً منهم أنهم بسبهم له تعالى قد انتصروا لآلهتهم، كما أن أهل الإيمان ليسوا سبابين ولا شتامين، ولا يتعاملون مع أهل الجهل بجهالتهم، وإنما هم يستقون تربيتهم الإيمانية من كتاب ربهم جل وعلا، ومن سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة بضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) .

    وها نحن مع سورة الأنعام المكية ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا نصغي نستمع إلى تجويدها وترتيلها من أحد الأبناء ثم نشرع في دراستها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:108-110].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]. ‏

    سبب نزول الآية الكريمة وبيان حكم سب الله تعالى وسب نبيه صلى الله عليه وسلم

    سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتصر في مكة وخرج من ذلك الحصار وكثر الأصحاب أصبح بعض المؤمنين يسبون ويشتمون آلهة المشركين، فما كان من المشركين إلا أن أتوا عم النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب وقالوا: إن ابن أخيك يسب آلهتنا، فإما أن يترك أو نسب إلههم.

    هذا معنى قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]،

    ودل هذا على أن سب الله عز وجل وشتمه كفر، ومن سب الله أو شتم أو انتقص أو قال فيه ما هو منزه عنه فقد كفر بذلك، كما أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو قال فيه كلمة سوء فقد كفر وخرج من الإسلام.

    وأما من سب غير النبي كأصحابه والمؤمنين فقد أثم وقارف ذنباً وارتكب جريمة يجب أن يتوب منها أو يهلك؛ لأن سباب المسلمين فسوق وقتالهم كفر.

    دلالة الآية على أصل سد الذرائع

    وهنا سد الذرائع، وهذا باب معلوم عند أهل العلم، الطريق الذي يوصل العبد إلى ارتكاب محرم يجب أن لا يسلكه، إذا سببت أو شتمت امرءاً سبك أو شتمك، فلا يحل لك أن تسب وتشتم، وقد جاء في الحديث تحريم شتم الآباء: ( لعن الله من سب أبويه. فقالوا: يا رسول الله! ومن يشتم أبويه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه )، وقلَّ من يقوم ويسب أمه وأباه، ولكن يسب أباء الآخرين فيسبوا أباه.

    الشاهد عندنا أنه إذا كان المسلك يؤدي بك إلى فعل محذور وارتكاب منهي فينبغي ألا تسلكه، ومن هنا نهينا عن مجالسة الفساق والفاسدين خشية أن يتسرب إلينا فسادهم، نهينا أن نتزيا بزي غير الصالحين خشية أن نصبح مثلهم، وهكذا هذه الآية تدل على سد الذرائع.

    وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:108] أي: لا تسبوا آلهتهم أو لا تسبوهم هم فيسبون إلهكم؛ لأنهم حمقى وجهلة، ويكفيهم أنهم كفار لا يؤمنون بالله، فأنت إذا سببته أو سببت اللات أو العزى أو صنمه فسوف يسب الله، فمن هنا حرم الله على المؤمنين أن يسبوا آلهة الكافرين.

    الآن لو سببت عيسى عليه السلام لنصراني فإنه يسب محمداً صلى الله عليه وسلم، فلا يحل أن تسبه، ولو سببت شيخ فلان سب شيخك، فالطريق السليم أننا لسنا بسبابين ولا شتامين، لا نشتم أحداً ولا نسب أحداً خوفاً أن يسب من لا يستحق السب أو يشتم من هو بريء من الشتم.

    دلالة الآية الكريمة على إطلاق الدعاء على العبادة

    هذا معنى قوله جل ذكره: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:108]، أي: يعبدون غير الله، وأطلق الدعاء على العبادة لأنه مخها، الدعاء هو العبادة، الدعاء مخ العبادة، وقد بينت للصالحين غير ما مرة كيف كان الدعاء هو العبادة.

    وإليكم الصورة لتعرفوا هذه الحقيقة: سأقول لأحدكم: قف أنت هنا واستقبل القبلة وارفع يديك.

    هذا الآن كيف نقرأ وقفته؟ إن هذا العبد فقير محتاج؟ ما الدليل على فقره واحتياجه؟ أنه رفع كفيه يتكفف ويسأل، فهو فقير محتاج.

    ثانياً: الذي رفع إليه كفيه فوق سماواته، ما هو عن يمينه ولا عن شماله ولا تحته، وإنما عرف أنه فوقه فرفع كفيه إليه، فهل هذه قراءة سليمة لهذا الموقف أم لا؟ والله إنها قراءة صحيحة.

    ثالثاً: هو يدعو وبصوت خافت لا يسمع، حتى من إلى جنبه لا يسمعه، هذا يعلم أن من يدعوه يسمع صوته متى تحركت بالكلمات شفتاه ونطق لسانه، مؤمن بأن الله يسمع صوته.

    رابعاً: عرف أنه لا يوجد في الخليقة من يقضي حاجته حتى يقبل إليه ويمد كفيه إليه، عرف أنه لا يقضيها إلا الله، فهو رافع يديه إلى الله.

    فهذه كلها تدل على أن الدعاء هو العبادة، فمن دعا غير الله فقد ألهه وآمن بكمالاته ولا كمال له، آمن بأنه يسمع وهو لا يسمعه، وأنه يبصر وهو لا يبصره، وأنه يقدر على أن يعطيه وهو لا يعطيه، فهو في ضلال كبير، ولهذا لا أضل من مشرك يترك الله ويستقبل غير الله يدعوه ويسأله.

    الدعاء هو العبادة، والعبارة القائلة: (الدعاء مخ العبادة) لا بأس بها؛ لأن الإنسان يحيا بمخه، فلو فسد المخ هلك، ولو ترك العبد الدعاء بطلت العبادة وما بقي لها معنى.

    فالله تعالى يقول: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:108] أي: يعبدونهم، وهم الأصنام والأحجار وغير الأصنام والأحجار من كل المعبودات المؤلهة، فلا نسب إله مشرك ولا بوذي ولا هندوسي ولا مسيحي ولا يهودي إلى يوم القيامة حتى لا يسب الله عز وجل ونكون السبب في ذلك، والمسلم ليس بسباب ولا شتام، والسب والشتم ليس من صفات المؤمنين أبداً.

    معنى قوله تعالى: (فيسبوا الله عدواً بغير علم)

    وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا [الأنعام:108] أي: ظلماً واعتداءً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]؛ إذ لو علموا ما سبوه، لو عرفوا الله وكماله وصفاته فهل سيسبونه؟ لو يقطعون ويحرقون ويصلبون لا يسبون الله، لكن لا علم لهم.

    لو كانوا عالمين ما سبوا الله عز وجل، فشخص قوي ذو إرادة وقدرة تعرف أنه لو سببته لضربك لن تسبه، لن تقدر على أن تسبه بين الناس خشية أن يعذبك، فكيف بالله عز وجل؟! فلو عرفوه ما سبوه.

    معنى قوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم)

    ثم قال تعالى وقوله الحق: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108] كهذا التزيين، وهو أن المشركين ينتصرون لآلهتهم ويقدسونها ويمدحونها ولا يسمحون بسبها ولا انتقادها،لم؟ كهذا التزيين زين الله تعالى لكل أمة عملهم، كل جماعة يقومون بعمل زينه الله لهم بحسب سنته في أن الشخص إذا أقبل على الشيء ورغب فيه وأخذ يزاوله العام بعد العام يصبح ذلك الشيء أحب شيء إليه، ولا يرى الجمال إلا به ولا الخير ولا الحسن إلا فيه.

    وهذه قاعدة لن تنخرم ولن تسقط إلى يوم القيامة، كل من زاول عملاً وباشره وروض نفسه عليه يوماً بعد يوم وشهراً بعد آخر وعاماً بعد عام يصبح في فطرته وغريزته يسري مع دمه.

    يقول الخالق جل جلاله: كَذَلِكَ [الأنعام:108] التزيين الذي شاهدناه في المشركين، حيث شكوا أن المسلمين يسبون آلهتهم، مع أن آلهتهم ملعونة وباطلة، لكن بما أنهم عبدوها والتفوا حولها وتوالدوا من أجلها وكانوا وكانوا أصبحت مؤلهة عندهم مقدسة، ما يسمحون لأحد أن ينالها بسوء، يموتون ولا يعصون الآلهة.

    إذاً: يقول تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108]، كهذا التزيين زين لكل أمة من الأمم وجماعة من الجماعات وفرد من الأفراد، الذي زين له الأغاني والضرب على العود والصوت هل تستطيع أن تقنعه بأن هذا لا يجوز وباطل؟ لا تستطيع، فقد أحبه، والذي ألف لعب الورق أو الكيرم ما يستطيع أن يجلس يوماً أو يومين دون أن يلعبه، انطبع في نفسه وأحبه أم لا؟ لو نهيته أو سببته يسبك ويشتمك.

    والذي أقبل على الخير وأحبه وروض نفسه عليه فأصبح مفطوراً على حب الخير ما يقوى على فعل الشر أو حتى سماعه، هذه سنة من سنن الله في الخلق من باب ربط المسببات بأسبابها.

    كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108] الذي يعملونه، إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، إن كان إيماناً وتوحيداً فإيمان وتوحيد، وإن كان شركاً أو كفراً فهو كذلك، أما خرجوا يقاتلون من أجل عاداتهم ودينهم الباطل؟

    فهذه قاعدة نأخذها ونعمل بها ونعرف أن من اعتاد شيئاً فسوف يتأثر به ويصبح لا يرى فيه شيناً ولا قبحاً ولا سوءاً، فإن أردت أن تصلحه وتهديه فلا تسب ذلك، ولكن حاول أن تقنعه بأن هذا العمل لا يفيده ولا ينتج له خيراً، هكذا على دعاة الإسلام أن يعرفوا هذه الحقيقة: لا نسب ولا نشتم آلهة المشركين ولا غيرهم حتى لا يسبوا إسلامنا ويسبوا نبينا وديننا.

    وهكذا يقول تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108] الذي يعيشون عليه ويعملونه خيراً أو شراً، هذا التزيين حسب سنته تعالى أن من ألف الشيء وروض نفسه شيئاً فشيئاً يصبح مفطوراً عليه لا يحب غيره، هل لأن الله أكرهه وألزمه به؟ هذا يتنافى مع دين الله وشرعه، ولكن الإنسان إذا أقبل على شيء باطلاً كان أو حقاً، خيراً أو شراً، ومشى وراءه زمناً يصبح في فطرته، ويصبح في قلبه ونفسه، فإن كان قبيحاً يراه أزين ما يكون، أليس الكفرة الآن يسخرون من الإسلام ويرون أنه دين رجعي ودين تخلف، لم؟ هذا هو عملهم: الكفر والإلحاد والعلمانية والباطل، ثبتوا عليه زمناً فأصبحوا لا يرون الدين شيئاً، بل يرونه معوقاً للكمال ومانعاً من السعادة في الدنيا.

    معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)

    كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ [الأنعام:108]، ما هم بمهملين ضائعين من شاء اهتدى ومن شاء فليكفر، من شاء فليؤذن ومن شاء فليقل الباطل.

    ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:108] خالقهم ومالك أمرهم الذي وهبهم حياتهم وكلأهم حتى استوفوا آجالهم وانتهوا إلى عالم الدار الآخرة، هذا ربهم يرجعون إليه، هل هناك من لا يرجع إلى الله؟ والله لا يتخلف أحد، ما هي إلا أن تدق الساعة وتفنى هذه البشرية ثم تمضي فترة من الزمن وينفخ إسرافيل نفخة البعث فإذا هم قيام ينظرون، ويساقون سوقاً إلى ساحة فصل القضاء والحكم الإلهي، ثم يحكم الله عليهم بحسب عملهم: الخير بالخير والشر بالشر.

    ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108] ينبئهم: يخبرهم، أنت فعلت كذا وفعلت كذا وتركت كذا، والله سريع الحساب، وإن كانت الفترة خمسين ألف سنة، واقرءوا قول الله تعالى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، والبشرية قائمة خمسين ألف سنة.

    إذاً: فينبئهم التنبئة الصادقة أنه يوم كذا وساعة كذا فعلت كذا وكذا، هذا ثم الأشرطة المسجلة المدونة تنطق بكاملها، وإن حاولت أن تخفي شيئاً يقول الله تعالى للسان: اصمت وانطقي يا جوارح. فوالله تنطق الجوارح جارحة بعد أخرى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24].

    فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108]من خير وشر. إذاً: قوله عز وجل: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108]، ويتم الجزاء في الدار الآخرة بحسب العمل، إن كان خيراً فدار السلام، وإن كان شراً فدار البوار والعذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها...)

    ثم قال تعالى في الآية الثانية: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا [الأنعام:109]، من الذين أقسموا؟ طغاة المشركين وضلالهم من أبي جهل إلى عقبة بن أبي معيط إلى النضر وفلان وفلان.

    المشركون كلهم قالوا: لو جاءتنا آية تشهد لمحمد بالرسالة آمنا به، وطالبوا بهذا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37]، وقال تعالى في بيان هذه الحقيقة: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7] كما في أول السورة.

    ومن سورة الحجر: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14] رحلة إلى الملكوت الأعلى والباب مفتوح، اطلع أنت وزوجتك وأولادك، ويبقى طول النهار في السماء ويرجع إلى الأرض لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا [الحجر:15]، مستحيل أن يقع هذا ! كيف تفتح أبواب السماء لنا؟ كيف يعقل أننا نطلع إلى السماء ؟ سحركم الرجل وأعمى أبصاركم.

    هذا إخبار العلام الحكيم: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14] طول النهار هابطين طالعين لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15]، فلعلمه تعالى -وهو خالقهم وخالق قلوبهم وغرائزهم- أنهم لا يؤمنون بالآية إذا أعطاهم إياها لذلك لم يسمع قولهم ولم يستجب لهم، وإلا فلو أتاهم بآية فسيقولون غداً: نريد آية ثانية! ما يريدون أن يسلموا، ما يريدون أن يدخلوا في هذه الرحمة الإلهية، أصروا على شركهم وباطلهم، إذاً فالآية ما تنفعهم، مع أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم وأقصاها.

    قال العلماء: المشركون يحلفون بآلهتهم إلا إذا كان الأمر عظيماً فإنهم يحلفون بالله عز وجل، فأيمانهم العادية في مسائلهم: واللات والعزى، لكن إذا كان الأمر ذا خطر وشأن يحلفون بالله عز وجل، لأن العرب المشركين ما كانوا ملاحدة علمانيين لا يؤمنون بالله ولقائه، بل كان يؤمنون بوجود الله عز وجل ويحجون بيته ويحترمون الأشهر الحرم ويحترمون مكة ومن فيها، يؤمنون بالله لكن ما عرفوا الله معرفة حقيقية تكسبهم الخوف منه والخشية والحب فيه حتى يعبدوه؛ لأنهم توارثوا الجاهلية وتوارثوا تلك العادات والشركيات أباً عن جد إلى أن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وإلا فهم يحلفون بالله، وخاصة في المسائل المهمة، ولهذا قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا [الأنعام:109] أنها من عند الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق والنار حق والدار الآخرة حق، هنا لما حلفوا هكذا لا شك يقيناً أن بعض المؤمنين أحبوا أن يعطيهم الله آية، ما دامت المشكلة استعصت وزاد البلاء ثم هم يلحفون بأقصى الأيمان أنه لو جاءت آية لآمنوا، فيا رب! أعطهم الآية حتى نستريح من الحرب والفتنة، وهذا يخطر بالبال أم لا؟ هذه طبيعة الناس.

    وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا [الأنعام:109]، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [الأنعام:109] قل لهم: الآيات ليست عندي أنا فمتى شئتم أعطيتكم، ومتى أردتم إنزالها أنزلناها، الآيات عند الله تطلب من الله، لا تطالبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بها فهو لا يملكها ولا هو قادر عليها، هذا بيد الله عز وجل.

    مضي السنة الإلهية بهلاك المكذبين بآيات الله تعالى بعد مجيئها

    ولنعلم أن أمماً سبقت هذه الأمة وأوتيت الآيات العظام وما آمنوا فهلكوا، على سبيل المثال: هل قوم نوح ما شاهدوا الآيات؟ أما كان يسخرون منه وهو يصنع السفينة؟ هل آمنوا؟ ما آمنوا، هل بقوا أم دمروا وأهلكوا؟ لقد أهلكوا إلا ثلاثاً وثمانين نسمة نجت في السفينة.

    وقوم هود عليه السلام جنوب الجزيرة في حضرموت وما حولها إلى الشحر كانوا أعظم أمة على الأرض قوة وقدرة وصناعة، واقرءوا: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8].

    كان طول أحدهم ثلاثين ذراعاً أو ستين ذراعاً، هذه الأمة جاءتهم الآية وشاهدوها أم لا؟ واستهزءوا بها وسخروا منها، فأهلكهم الله ونجى هوداً ومن معه من المؤمنين.

    وآية صالح لا أعظم من تلك الآية، قالوا: يا صالح! إن كنت كما تزعم أنكك رسول الله ونبيه إلينا فادع ربنا يخرج لنا ناقة من هذا الجبل. من جبل أمامهم في الحي أو في تلك المدينة، وبالفعل قام صالح يصلي ورفع كفيه إلى الله وما زال يدعوه حتى انشق الجبل وخرجت الناقة من أعظم النوق في هيئتها وشكلها، وشاهدوها، وزين لهم الشيطان فعزموا على قتلها وقتلوها، وكان قدار بن سالف عليه لعائن الله قد أخذ الموافقة من أهل المدينة كلهم ووافقوه على عقرها فعقرها، فأمهلهم الله ثلاثة أيام فقط وأصبحوا على الركب جاثمين، هل هناك آية أعظم من هذه؟

    وآيات موسى تسع آيات: العصا تتحول إلى حية تأكل كل ما في الساحة من تلك الصور الخيالية التي أحدثوها بالسحر، ويدخل يده فتخرج بيضاء كأنها فلقة من قمر، هل نفعت الآيات؟ هل آمن فرعون وقومه؟! والله ما آمنوا، تسع آيات: أرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل، أكلهم القمل والضفادع والدم، الماء تضعه الإسرائيلية في فم القبطية فيتحول إلى دم، ومع هذا ما آمنوا.

    فلو أعطى الله رسوله آية لقريش فهل سيؤمنون؟ والحكمة مردها إلى الله عز وجل؛ لأنه خلقنا ليمتحننا فيعمر بنا الجنة دار السلام والنار دار البوار، لا بد من الامتحان فمن آمن وعمل صالحاً وزكى نفسه وطهرها وأصبح محبوباً لربه مقبولاً عنده ما إن تفيض روحه حتى ترقى إلى الملكوت الأعلى، ومن كفر بالله ولطخ نفسه بالشرك والمعاصي واسودت وتعفنت تخرج نفسه فتنزل إلى أسفل سافلين، فهذه الفترة التي في حياتنا ثم يجمعنا الله مرة ثانية، فأهل السلام في الجنة وأهل العذاب في النار.

    هكذا يقول تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ [الأنعام:109] مطلق آية، ليس آية أكبر من آية، فلو حول الله تعالى لهم جبلاً من جبال مكة إلى ذهب فهل سيؤمنون؟ والله ما يؤمنون، سيقولون: هذا سحر، كيف يتحول الجبل إلى ذهب؟!

    تكذيب الكفرة والمنافقين بالمعجزات الجارية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ثم إن المعجزات التي أعطاها الله للرسول شاهدها المنافقون بالمدينة وما آمنوا، فذات مرة أذن للعصر وأرادوا أن يتوضئوا لصلاة العصر فما وجدوا ماء، فكيف يفعلون؟ جيء بإناء فغمس الرسول أصابعه فيه ففاض الماء فتوضأ منه قرابة ثمانين شخصاً، الماء يفيض من الكفين، وفي غزوة في الحديبية كذلك أدخل يده في ركوة من الماء ففاضت وتزود ألف وأربعمائة شخص من الماء، فهذه معجزات.

    عين قتادة في أحد سالت حين ضرب من قفاه فسالت عينه على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم الله فكانت -والله- أحسن من عينه الأولى، لكن الذين ما أعدهم الله لدار السلام لا بد أن يصروا على الشرك والكفر والذنوب والآثام ليلقوا جزاءهم ومصيرهم.

    وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:109]؟ من يعلمكم من يدريكم أيها المؤمنون الذين ترغبون في الآية؟ تظنون أنه إذا أعطاهم الله آية دخلوا في الإسلام وانتهت الحرب والفتنة، من يعلمكم بهذا؟ فالله أعلم منكم أنهم لا يؤمنون، فلهذا ما استجاب لهم، وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:109].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون)

    قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام:110] الأفئدة: القلوب التي تعي وتفهم، يعني: يقلبها فتنتكس فما تصبح ترى الآية آية أبداً، بل تصفق وتضحك، أبصارهم التي يشاهدون بها يقلبها، فيبصر الحوراء فيظنها بغلة أو حماراً.

    وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110] كما لم يؤمنوا بالقرآن وبالبعث والجزاء وبالرسول صلى الله عليه وسلم أول مرة قبل الآية، فالآيات تنزل فهل هناك أعظم من آيات القرآن؟

    ولهذا ما من نبي من الأنبياء إلا وقد آتاه الله آية معجزة، وكان الذي أوتي رسولنا القرآن الكريم، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وذلك هو القرآن الكريم.

    وقد تعهد الله تعالى بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلولا أن الله ما حفظه بالرجال والنساء إلى اليوم فهو مكتوب في السطور محفوظ في الصدور؛ لارتدت هذه الأمة منذ زمن، فالإنجيل كتاب الله أم لا؟ وعيسى رسول الله أم لا؟ فكم سنة عبد الله النصارى بالعبادة الشرعية التي تزكي النفس؟ فالذين آمنوا به عبد الله سبعين سنة، وتدخل اليهود وزادوا ونقصوا وبدلوا وغيروا وكفروا المسيحيين.

    لكن هذه الأمة تعهد الله بحفظ كتابها إلى يوم القيامة، وسر ذلك حتى لا يقول جيل من الأجيال: يا ربنا! ما عرفناك، ما وجدنا من يعرفنا بك. فتقوم لهم الحجة على الله، أو يبعث الله رسولاً من جديد، وقد أعلمنا أنه ختم الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فسوف يبقى هذا الدين ظاهراً حجة لله على البشرية إلى يوم القيامة.

    وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110] مثلما كانوا قبل وَنَذَرُهُمْ [الأنعام:110] ونتركهم فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756196775