إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة
  6. شرح كتاب الإبانة - احتجاج آدم وموسى وقول النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى

شرح كتاب الإبانة - احتجاج آدم وموسى وقول النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسىللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في الحديث النبوي الذي حكى محاجة آدم وموسى عليهما السلام إثبات للقدر، وأن العبد لا يقع منه عمل من خير أو شر إلا بقدر الله الكوني الذي لا يتخلف، ولا يلحقه التغيير أو المحو، وأن العبد ليس له أن يحتج بالقدر على المعائب، وإنما يحتج به على المصائب، أو على الذنوب بعد التوبة منها.

    1.   

    حديث احتجاج آدم وموسى وقول النبي الكريم: فحج آدم موسى

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أما بعد:

    فلا يزال الكلام موصولاً في ذكر حديث احتجاج آدم وموسى، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليه، بأنه غلب موسى بالحجة، والحديث نذكر به سريعاً، ثم نسرد مذاهب أهل العلم مع الترجيح.

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى).

    وفي رواية: (تحاج آدم وموسى، فحج آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء - أي: علم كل شيء في التوراة- واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق).

    وفي رواية (احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: هل وجدت فيها: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).

    موقف المعتزلة من حديث: (احتجاج آدم وموسى)

    قد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة، وهم أول ناس ردوا هذا الحديث؛ لأنهم دائماً يقدمون العقل على النقل، إذ إن هذا أصل من أصولهم، ولا شك أن النقل الصحيح دائماً يوافق العقل الصريح، وهذه قاعدة وأصل عند أهل السنة والجماعة.

    بينما هؤلاء المعتزلة يقولون: النقل يوافق العقل، لكن القضية ومحل النزاع بين أهل السنة والمعتزلة عند التعارض، أي: إذا تعارض العقل مع النقل فأيهما نقدم؟ أهل السنة يقدمون النقل، أما المعتزلة فيقدمون العقل، ويحكمون على النقل بالبطلان والرد، ولذلك لما قصرت عقولهم عن فهم هذا الحديث ردوه.

    قال: [ وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كـأبي علي الجبائي ] وأبو علي الجبائي شيخ الاعتزال، وهو زوج أم أبي الحسن الأشعري ، وكان يعتمد في الاعتزال على أبي الحسن الأشعري أيما اعتماد، فلما ترك أبو الحسن الأشعري مذهبه في الاعتزال وتبنى مذهباً جديداً وهو مذهب الأشاعرة، أفلس المعتزلة في ذاك الزمان.

    قال: [ ومن وافقه على ذلك، وقال: لو كان هذا الحديث صحيحاً لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي ]، وفي ظنهم أن آدم عليه السلام احتج بالقدر على المعصية، وأن هذا الأمر المقدر مكتوب قبل خلق السماوات والأرض، ولا بد للإنسان أن يعمله، فحينئذ ما قيمة النبوة والرسالة والكتب إذا كان المقدر قبل ذلك سيكون لا محالة؟! وهذا بلا شك يساوي عندهم إهدار النبوات.

    قال: [ فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذ صحت له الحجة بالقدر -يعني: إذا صح له أن يحتج بالقدر- السابق ارتفع اللوم عنه ].

    ثم قال: [ وهذا من ضلال فريق الاعتزال، وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبينا صلى الله عليه وسلم قرناً بعد قرن، وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم، وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة، ومن عرف بعداوتها، وعداوة حملتها، والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة وحشوية وهذا الشأن؟! ] أي: ما بال أصحاب الاعتزال وهذا الحديث ليس من صنعتهم، وإنما هو من صنعة المحدثين، وهو ثابت باتفاق البخاري ومسلم على إخراجه، وبتلقي الأمة لهذا الحديث بالقبول، وبتوفر شروط الصحة في هذا الحديث، فما بالهم يردونه لمجرد أنه يخالف عقولهم؟!

    قال: [ ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام ].

    وهذا كلام جميل جداً، إذ إنه ما من مبطل في زمن من الأزمنة، أو في قرن من القرون إلا وعمدته رد الأحاديث؛ لأنها لا تتفق مع عقله.

    قال: [ ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة، وعقائدهم الفاسدة، كما ردوا أحاديث الرؤية -رؤية الله عز وجل- وأحاديث علو الله عز وجل على خلقه، وأحاديث صفاته القائمة به سبحانه، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث نزوله إلى سمائه، ونزوله إلى الأرض للحكم بين عباده، وأحاديث تكلمه بالوحي كلاماً يسمعه من شاء من خلقه حقيقة، إلى أمثال ذلك ] من الأحاديث التي جحدها هؤلاء المبتدعة الضالون، وكلهم ينضوي وينطوي تحت فرقة المعتزلة.

    قال: [ وكما ردت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها ]، إذ قالوا: كل صاحب كبيرة مخلد في النار.

    قال: [ وكما ردت الرافضة -الشيعة- أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكما ردت المعطلة أحاديث الصفات، والأفعال الاختيارية لله عز وجل، وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.

    وكل من أصل أصلاً لم يؤصله الله ورسوله قاده قسراً إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلاً غير ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها يرجعون ]، إذاً كل أصل ليس له دليل في الكتاب أو السنة فهو أصل باطل.

    مذهب الناس في مفهوم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فحج آدم وموسى)

    وبعد هذه المقدمة فقد اختلف الناس في فهم هذا الحديث إلى مذاهب شتى؛ وأهل العلم لهم نظر آخر ثاقب لهذا الدليل، واستنباط الأحكام والفوائد منه، ولهم في ذلك مذاهب:

    المذهب الأول: أنهم قالوا: إنما حجه لأن آدم أبوه، يعني: يريدون أن يقولوا: عيب على موسى وهو ابن آدم أن يحاجج أباه، وهذا لا يتناسب مع منزلة النبوة، فحجه كما يحج الرجل ابنه، وهذا الكلام لا محصل فيه ألبتة، وليس له قيمة في التحقيق العلمي فهل مرتبة الأبوة تجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً؟! لا؛ لأن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن، أو العبد، أو السيد، أو المرأة، أو الرجل، ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة، وعليه فهذا الرأي باطل من جهة التخصيص العلمي؛ لأنه يجب المصير إلى الحجة والدليل، سواء كانت مع الأب، أو مع الابن.

    المذهب الثاني: قالوا: إنما غلب آدم موسى لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة أخرى، فالذنب وقع من آدم في شريعة آدم، واللوم وقع من موسى في شريعة موسى، فقالوا: آدم غلب موسى لأن الذنب وقع في شريعة آدم، واللوم وقع في شريعة موسى، وهذا أيضاً أفسد من الذي قبله، إذ لا تفسير بهذا للحجة بوجه من الوجوه، وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة كلها، يعني: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام تلوم جميع الأمم السابقة لها، واللوم هذا يقع في شريعتنا والذنب قد وقع في الشرائع السابقة، ولذلك لما أخرج البخاري قال: (يجيء بنوح يوم القيامة فيقول الله تعالى له: يا نوح هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب! فيؤتى بأمته فيسألهم: هل بلغكم نوح؟ قالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيؤتى بنوح مرة أخرى فيقول الله تعالى: يا نوح من يشهد معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: فذلك قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143])، إذن اللوم يقع يوم القيامة في دار أخرى لا في شريعة أخرى، فيقع بعد الحياة والممات والبعث ويوم القيامة وفي عرصات القيامة، والذنب قد وقع في الدنيا، فلا بأس أبداً أن يقع الذنب في شريعة واللوم في شريعة أخرى، ولذلك هذا المذهب كسابقه من المذاهب الفاسدة.

    المذهب الثالث: قالت فرقة ثالثة: إنما حجه لأنه قد كان تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يصح أن يوجه إليه اللوم؛ لأنه قد تاب، والذي يتوب من الذنب كأنه لم يفعله أصلاً، إذاً فعلام اللوم؟ وآدم هنا ما احتج بالقدر إلا بعد التوبة لا قبل التوبة، وهذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصح لثلاثة أوجه، ذكرها الإمام ابن القيم في كتاب: شفاء العليل، يقول:

    الوجه الأول: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه، ولا جعله حجة على ابنه، أي: أن آدم لم يقل لموسى: أتلومني على ذنب قد تبت منه.

    الوجه الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله، واجتباه بعده وهداه، فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلاً عن موسى كليم الرحمن سبحانه وتعالى.

    الوجه الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة، واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه، وأنا شخصياً لست مقتنعاً بهذه الأوجه الثلاثة، وابن القيم عليه رحمة الله تبعاً لشيخه ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: هذا مذهب مرجوح أو لا يصح، وذكر الثلاثة الأوجه، وأنا شخصياً ليس عندي أدنى قناعة ولا بوجه واحد، لكن أرجوا أن تذكروا هذا المذهب؛ لأننا سنحتاجه بعد ذلك.

    المذهب الرابع قالوا: إنما حجه لأنه لامه في غير دار التكليف، وقد قلنا فيما مضى: إن موسى عليه السلام طلب من ربه أن يحيي له آدم فيكلمه، فأحيا الله تعالى آدم فكلمه فلامه على ذلك، وفي أثناء الكلام لامه على الذنب، أو على المعصية التي جعلته يخرج من الجنة وتخرج ذريته إلى الأرض، فقالوا: هذا لوم ليس في دار التكليف، والأصل أن المرء يلام في دار التكليف، وإرجاع آدم وإحياؤه مرة أخرى للمحاجة والمناظرة بينه وبين ولده موسى عليه السلام لم تكن بالنسبة لآدم دار تكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه، قال ابن القيم : وهذا أيضاً فاسد من وجهين:

    الأول: أن آدم لم يقل له: في غير دار التكليف، وإنما قال: (أتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)، فلم يتعرض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق.

    الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة، والشاهد أن ابن القيم عليه رحمة الله أبطل هذا المذهب كذلك.

    المذهب الخامس: إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، وتفرد الرب سبحانه بربوبيته، وأنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا راد لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ومشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة؛ لأنه شهد نفسه عدماً محضاً، والأحكام جارية عليه معروفة له، وهو مقهور مربوب مدبر لا حيلة له ولا قوة له، ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم.

    لكن هو يقول: إن هذا المذهب يقول: إن الله تعالى أظهر لآدم عليه السلام ما يمكن أن يكون من أفعاله وأقواله حتى يقبض الله تعالى آدم، فاطلع آدم على ما سيكون منه قبل أن يكون، وهذا الذي أسماه الصوفية: علم المشاهدة الغيبية، فالله تعالى أطلعه على غيب ليس من الغيب الخاص بالله تعالى؛ لأن الغيب غيبان: غيب استأثر الله تعالى بعلمه، وغيب أطلع الله عز وجل عليه من شاء من عباده، فهذا الغيب المكتوب المقدر أجلاً أطلع الله تعالى عليه آدم حتى شهد الحكم، فهو يقول له: أنا كنت موقناً أن ذلك لا بد أن يكون؛ لأني قد شاهدت الحكم يا موسى، وأن ذلك مكتوب، ولذلك أنت تراه في التوراة التي بين يديك، أي: أنه موجود في التوراة: (وعصى آدم ربه)، وهذه النصيحة أنا أعلمها، وأعلم أن الله تعالى إنما كتب التوراة التي أنزلها عليك قبل أن يخلقني بأربعين سنة، إذاً ما علمي بها إلا أن الله أطلعني على الحكم الغيبي، ولذلك انظر إلى هذا القول مرة أخرى، قال: إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، كما شهد تفرد الرب سبحانه بربوبيته، وأنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته.

    يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: وهذا المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث.

    وأنا فقط أبين أن هذا مذهب من المذاهب، ثم الحكم أن هذا من أفسد وأبطل المذاهب في هذه القضية. ثم قال: وهو شر من مسلك القدرية في رده، وهم إنما ردوه إبطالاً لهذا القول ورداً على قائليه، وأصابوا في ردهم عليهم وإبطال قولهم، وأخطئوا في رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا المسلك لو صح -انظر إلى علة فساد هذا المذهب- لبطلت الديانات جملة، وكان القدر حجة لكل مشرك وكافر وظالم، ولم يبق للحدود معنى، ولا يلام جان على جنايته، ولا ظالم على ظلمه، بل لا ينكر منكر أبداً، ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في كتابه: (إشارات في الطب): العارف لا ينكر منكراً، أي: أن العالم النحرير لا يجب عليه ولا يستحب له أن ينكر منكراً؛ لاستبصاره بسر الله تعالى في القدر، وهذا بالضبط مثل ما أقول هذا الوقت: إنه شاهد الحكم آنفاً، وكأن الله تعالى أطلع العارف على ما يكون من العباد، فعلم ما هو واقع منهم وما هم إليه صائرون، إذاً أمر أم لم يأمر، أنكر أو لم ينكر، سيقع من العباد ما قد قدر عليهم، ولذلك يقول: العارف لا ينكر منكراً لاستبصاره بسر الله في القدر، أي: لرؤيته ومشاهدته الحكم الغيبي، وهذا بلا شك إلحاد، وكلام لا يخرج من إنسان إلا وقد انسلخ من الملة، وانسلخ من متابعة الرسل، وأعرف خلق الله بالله هم رسله وأنبياؤه، وهم أعظم الناس إنكاراً للمنكر، فتصور أن هذا العارف أعظم منزلة عند الله من الأنبياء والمرسلين! أو هو أعلم بأحوال الخلق من الأنبياء والمرسلين! فالأنبياء والمرسلون هم أعظم الناس إنكاراً للمنكر، وأمراً بالمعروف، والعارف أعظم الناس إنكاراً للمنكر لبصيرته بالأمر والقدر، فإن الأمر يوجب عليه إنكار، فهذا هو العارف الحقيقي، والقدر يعينه عليه، وينفذه له، فيقوم في مقام إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، من باب العبادة لله تعالى، والاستعانة به، وفي مقام: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، فنعبده بأمره وقدره، ونتوكل عليه في تنفيذ أمره بقدره، فهذا حقيقة المعرفة، وصاحب هذا المقام هو العارف بالله حقاً.

    1.   

    مواضع احتج فيها المشركون بالقدر وإنكار الله عز وجل عليهم في ذلك

    وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم: أن هؤلاء القدرية أو هؤلاء الملاحدة كـابن سينا وغيره حجتهم بلا شك إنما هي حجة المشركين أعداء الرسل الذين قالوا: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، إلى قوله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] أي: أن هذا شرك وقع بإرادة الله تعالى، وأن الله تعالى يحب أن نشرك، وهذا كلام باطل، وقال تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]، وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]، أليس الله قادراً على أن يطعم الفقراء والمساكين وابن السبيل؟ بلى، فنحن لن نطعمهم ما دام هو قادراً على أن يطعمهم، وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:20]، فهذه أربع مواضع حكي فيها الاحتجاج بالقدر من أعدائه، وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس، حيث احتج على الله تعالى بقضائه فقال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]، أي: أنت الذي أغويتني.

    فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول -هذا الكلام مهم جداً- صحة قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، وفعلاً صحيح، أليس الشرك وقع في الكون بإرادة الله تعالى الكونية القدرية؟ بلى، إذاً الفخ الذي وقع فيه أهل البدع أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية، إذ إن الإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا والأمر، أي: أمر الله تعالى، والإرادة الكونية القدرية لا يلزم فيها المحبة والرضا، إذ منها ما هو محبوب إلى الله، ومنها ما هو مبغض كالمعاصي والذنوب، وكل يقع بإذن الله تعالى وقدره.

    فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا [النحل:35]، لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20]، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] -وهذا على الوجه الأقرب- لكن هم فعلوه، إذاً شاء الله لهم أن يفعلوه، لكنها مشيئة كونية قدرية، وقال: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، إذاً: الله تعالى هو الذي شاء غوايتهم وإضلالهم، قال: فكيف أكذبهم، ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الكذب فيما هم فيه صادقون، وأهل السنة والجماعة جميعاً يقولون: لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر، ولا عصاه أحد من خلقه، فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون؟ وهذا السؤال مهم جداً.

    قيل: أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقاً ولا حقاً، نعم الشرك وقع منهم بمشيئة الله، فلم أنكر الله تعالى عليهم ذلك؟

    قال: بل أنكر عليهم أبطل الباطل، فإنهم لم يذكروا ما ذكروه -أي: لم يحتجوا بالقدر على معاصيهم إثباتاً لقدرة الله تعالى وربوبيته ووحدانيته وافتقاراً إليه وتوكلاً عليه واستعانة به لأمره، ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين، أي: هم لم يحتجوا بالقدر على المعصية، أو بالمشيئة على الشرك الذي وقعوا فيه من باب الذل والافتقار والخضوع لله تعالى، وإثبات أنه لا يكون شيئاً في الكون إلا بمشيئته وإرادته، وإنما قالوا معارضين لشرعه ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر، وأيضاً فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه، فجمعوا بين أنواع من الضلال، معارضة الأمر بالقدر ودفعه به، والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم، أي: أنهم قالوا: لو كان الله لا يحب الشرك لم يكن يجعلنا مشركين، قال: ويرضاه حيث شاءه وقضاه -أي: لكونه شاءه وقضاه وقدره وأذن في خلقه وإيجاده، إذاً هو يحبه، هكذا قالوا- وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.

    1.   

    كلام أبي إسماعيل الهروي في بيان أوجه الفعل والاحتجاج بالقدر

    وفي كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري ما يوهم هذا الكلام، وقد أعاذه الله منه، فإنه قال في باب التوبة من كتاب (منازل السائرين): ولطائف التوبة ثلاثة أشياء:

    أولها: أن ننظر في الجناية والقضية فنعرف مراد الله فيها، إذ خلاك وإتيانها، فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين:

    الأول: أن يعرف عبرته في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته، وهذا كله معنى واحد.

    والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته.

    أوجه فعل العبد

    وقال كلاماً كثيراً جداً مفاده وتلخيصه: أن للفعل وجهين:

    الأول: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره له، وعلمه به، وأن الله تعالى علم أن عبده سيفعل كذا، ويختار الشر على الخير، ويقدم عليه، ويتلبس به، فلما علم الله تعالى من عبده ذلك أزلاً قدره عليه، أي: كتبه، لا أنه جبره على المعصية، وإلا فلو كان العبد مجبوراً على المعصية فلم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً؟ هذا هو الوجه الأول، وهو متعلق بالله تعالى.

    الثاني: وجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال وكسب، وهذه المنزلة هي المنزلة الرابعة من منازل القدر.

    ومنازل القدر أربعة:

    المنزلة الأولى: منزلة العلم، أي: أن العلم الأزلي ثابت لله تعالى، فعلم الله ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون.

    المنزلة الثانية: منزلة الكتابة، أي: لما علم الله تعالى ذلك أزلاً كتبه وقدره، فهو مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، الذي لا يأتيه زيادة ولا نقصان.

    المنزلة الثالثة: منزلة الإرادة أو المشيئة.

    المنزلة الرابعة: منزلة الخلق، أي: أن الأفعال خيرها وشرها بإذن الله تعالى وإرادته، ومشيئته من جهة الخلق والإيجاد، أما من جهة الكسب والفعل فإن العبد هو الذي يكسب الخير والشر، فمثلاً: القتل من جهة الخلق والإيجاد فالله تعالى هو الذي خلق وأوجد، والفعل فعل هذا العبد، وذلك لما أخذ السكين وانطلق إلى غريمه فقتله، وكل ذلك ما وقع إلا بعلم الله، وإرادة الله، ومشيئة الله، وإيجاد الله لهذا الفعل، وإلا فلا يستطيع أحد أن يتحرك حركة إلا بإذن الله، ولا يسكن سكنة إلا بإذن الله تعالى، لكن من الذي باشر القتل؟ من الذي أراق الدم؟ إنه العبد، إذاً هذا الفعل سواء كان خيراً أو شراً حتى لو كان صلاة التي هي رأس العبادات، لو شاء الله لك ألا تصلي، لكنك لو تركت الصلاة فإنما يقول: إنما ذلك وقع منك بقدر الله الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه في الشرع وفي الدين أمرك بالصلاة، وأنت اقترفت النهي وارتكبت الإثم بترك الصلاة، وكذلك القتل، فقد وقع منك من جهة الكسب والفعل، فأنت الذي باشرت هذا القتل، لكنه من جهة الخلق والإيجاد والإذن في الوقوع في الكون كل ذلك من الله عز وجل.

    ولذلك يقول هنا: فكل فعل له وجهان: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره، وعلمه به سبحانه وتعالى.

    ووجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال، والعبد له ملاحظتان كما سيأتي.

    إذاً: اتفقنا أن ما يقع في الكون من أقوال وأفعال لها وجهان: وجه متعلق بالرب تبارك وتعالى، ووجه متعلق بالعبد، من أجل ألا تقول بعد ذلك: أنا مسير في فعل هذا الفعل، والسؤال هذا دائماً يطرح كثيراً: هل أنا مسير أم مخير في أقوالي وأفعالي؟

    اختلاف العباد في نظرهم إلى الوجه القائم بالرب والوجه القائم بالعبد وأهمية الجمع بينهما

    العبد له ملاحظتان:

    ملاحظة للوجه الأول، أي: القائم بالرب تبارك وتعالى، وملاحظة قائمة بفعله هو، فمن غلب النظر إلى الوجه الأول إنما يعتمد على القدر، وأنه مجبور على الأفعال، فيقول: الله هو الذي خلق كل شيء، وهو الذي جبرني على هذا، إذاً فلم يلومني؟ وملاحظة للوجه الثاني، والكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته، وطاعته ومعصيته.

    فانظر إلى هذا الكلام الجميل، فهو يريد أن يقول لك: إذا أردت أن تؤمن بالقدر فلا بد أن تنظر إلى أن الفعل الذي فعلته جانب منه متعلق بالله تعالى، وجانب منه آخر متعلق بالعبد، فلا ترم الحمل كله على القدر؛ لأنك لو رميته كله على القدر فلن ترى نفسك مذنباً قط، بل تستمر في المعصية وتنتقل من معصية إلى ثانية وثالثة ورابعة وهكذا، وحجتك في ذلك: أن هذا مقدر لك في اللوح المحفوظ، وإلا لما كان قد وقع منك أبداً، فأنت لا ترى نفسك مجرماً، ولا مذنباً، ولا عاصياً أبداً، وإنما ترمي بثقلك ومعاصيك على القدر، ولا تنظر أبداً إلى نفسك، ولا بد للعبد من هاتين الملاحظتين: أن ينظر إلى كل فعل وقع منه على أن له ملاحظتان وبابان: باب منه متعلق بالسماء، أي: متعلق بالله تعالى، وباب منه متعلق بالأرض، أي: بفعل العبد، ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الآخر، ولو غاب أحد الأمرين عن الآخر لحمل العبد على الضلال وفساد الاعتقاد، ولذلك الكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته. فيشهد الربوبية والعبودية، فيجتمع في قلبه معنى قوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، مع قوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فأثبت الله تعالى لنفسه مشيئة، وأثبت للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة المولى عز وجل، وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:54-56]، حتى الذكرى بمشيئة الله تعالى.

    فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين- أي: الملاحظتين- ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه، وضعف المحل، أي: بالقدر، وهذا متعلق بفعل العبد -كلام جميل- ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الثاني، وإلا هلك العبد وضل وساء اعتقاده في الله تعالى.

    وبعد ذلك يقول لك هنا: ومن الناس من يتسع قلبه لهاتين الملاحظتين فيراهما جميعاً، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما؛ لقوة الوارد عليه وضعف المحل، أي: أن صدره يضيق، فلا يستطيع أن يستوعب مسألة القدر؛ لقوة الشبهة الواردة عليه وضعف المحل، أي: ضعف القلب والعقل، ومثل ابن القيم لذلك بمثال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء يرد القضاء)، قال: ومن العباد من يقول: ومع هذا ندعو الله ولا يرد عنا القضاء، فلم؟ قال: لأن البلاء النازل من السماء، والدعاء الصاعد إلى السماء يلتقيان في السماء، فإذا كان الدعاء أقوى وبحرارة وبحضور القلب رفعه، وإذا كان البلاء أقوى من الدعاء نزل البلاء، وإذا كانا في مستوى واحد فهما يعتلجان إلى قيام الساعة، أي: يتصارعان مع بعضهما البعض، وكلما هذا يغلب يرجع هذا مرة ثانية، فهما يعتلجان، أي: يتصادمان في السماء فلا يقوى البلاء على الدعاء ولا الدعاء على البلاء، إذ كل منهما في قوة صاحبه، فكذلك هنا قال: إنما يضيق صدر العبد عن متابعة أن الفعل له ملاحظتان: الأولى: متعلقة بالقدر بفعل الله تعالى، والثانية: متعلقة بفعل العبد، فيضيق صدره لقوة الوارد، أي: لقوة الشبه مثلاً وضعف المحل، مثل أن تأتي برجل طيب ودائماً يغير رأيه فتقول له: فلان هذا يعد لك كميناً وسوف يعمل فيك كذا وكذا، فانتبه حتى لا يغلبك، وأنا لك ناصح، ثم هل جربت علي كذباً وغشاً من قبل؟ فيقول: لا، إذاً أنا أحذرك منه، وأنا لا أغتابه وإنما أقول: احذر، فإنه يعد لك كذا وكذا، وقد أخبرني بنفسه أنه يعد لك كذا وكذا، وبذلك تكون الحجة قد قامت عليه والعلم قد بلغه، ثم يقابله هذا الذي كان يعد له هذه البلية فيكلمه بأدب واحترام، فينسى الذي مضى ويشرب المقلب؛ لأن العلم وإن توفر إلا أن المحل ضعيف، ولذلك عمر بن الخطاب قال: لست بالخب ولا الخب يخدعني، أي: أننا لا نخادع أحداً ولا نسمح لأحد قط أن يخدعنا، فإذا أتى شخص ليخدعنا فنحن نفهم ذلك سلفاً، ولا نمكنه من ذلك؛ لأن المحل قوي، فلا يستطيع أحد أن يغلبنا، ولذلك إبليس نفسه لما كان يرى عمر يسلك فجاً يسلك هو فجاً آخر؛ لقوة المحل، فـابن القيم عليه رحمة الله يقول: ومن الناس من يضيق قلبه عن اجتماع الملاحظتين، لقوة الوارد عليه وضعف المحل، فيغيب بشهود العبودية والكسب، وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالله، أي: لو أن شخصاً يقول: المسألة هذه ليس لها علاقة بالقدر، وأنا الذي وقعت في هذه المصيبة وهذا الذنب! فنقول له: أنت لابد أن تؤمن بأن هذا أيضاً كان مكتوباً ومقدراً عليك، بينما في المقابل تجد شخصاً يقول لك: أنا ليس لي علاقة بالذنب، وأنا قد قتلت لكن لو لم يكن الله تعالى كتب علي ذلك ما قتلت، فلا تقيموا علي حد القتل؛ لأن الله تعالى هو الذي قدر علي ذلك، فأنا مجبور ومقهور ومقصور على القتل، فهل أنتم ستردون قدر الله؟! لما فهم هذا أحد الناس في خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وجيء به إلى عمر ليقام عليه الحد، قال: أتقيم علي الحد لأمر قد قدره الله علي؟ قال: نعم، نقيم عليك الحد بقدر الله، يعني: أنت وقعت في الذنب بقدر الله، ونحن أيضاً نقيم الحدود بقدر الله، بدليل أن عمر حده، ولا شك أنه مكتوب في اللوح المحفوظ أن عمر سيحد فلاناً، وإلا لو لم يكن مكتوباً فإن الدنيا لو اجتمعت على أن تحد هذا ما فعلت، ولا استطاعت، ولا قدرت.

    ولذلك قال هنا: وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائماً في قلبه.

    ثم قال: فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه؟ أي: أنه يقول: إن هذا الكلام بعيد جداً، إذ ما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا من هو أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه.

    وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149].

    فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم، وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول، فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه، ثم قرر تمام الحجة بقوله: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلهاً غيره؟

    فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد، فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك -انظروا إلى هذا الكلام- فكانت حجة الله البالغة وحجتهم الداحضة، وبالله التوفيق.

    تعليق أبي إسماعيل الهروي على حديث احتجاج آدم وموسى

    وبعد هذا البيان والتفسير كله يقول: إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، والمعلوم يا إخواني! أن القضاء والقدر إنما يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، فيحتج المرء بالقدر على المصيبة التي تنزل به، فمثلاً: إذا سئل المريض: لماذا أنت مريض؟ فيرد عليك قائلاً: يا أخي! هذا قدر الله، ومثله: يا فلان! لماذا أنت أعمى؟ لأن الله كتب وقدر علي العمى، فهذا احتجاج بالقدر في باب المصائب، وهذا محل إجماع، أي: أن القدر يحتج به في باب المصائب، ولا يحتج به في باب المعائب التي هي الذنوب، وهذا الكلام مطلق، أي: قولهم: يحتج بالقدر في باب المصائب ولا يحتج به في المعائب، لكن الخلاف هل يحتج بالقدر في باب المعائب بعد التوبة منها أم لا؟ هذا تحرير المسألة.

    قال: بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، وهذا رأي عبد الرزاق وابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين على الجميع رحمة الله.

    ولذا فموسى كان يلوم آدم على المصيبة لا على الذنب؛ لأن موسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم أحداً على ذنب قد تاب منه، وهو يعلم أن من تاب من الذنب كمن لا ذنب له، وكذلك آدم لا يمكن أن يكون محتجاً بالقدر على الذنب، لكن ما هي القصة؟ نحن متفقون على أن هناك لوماً، فما مصدر هذا اللوم؟ قالوا: بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيهاً على سبب المعصية، والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، ولم يقل له: أخرجتنا من الجنة، وإنما قال له: أنت فعلت خطيئة تسببت في مصيبة، وهذه المصيبة لحقتك ولحقت ذريتك، فأخرجت من الجنة إلى الأرض، فهذه مصيبة عظيمة جداً، ومصدر هذه المصيبة الذنب، فهو ما لامه على الذنب وإنما لامه على المصيبة التي حلت به وبذريته، وأنا غير مقتنع بهذا الرأي أبداً، والذي أقتنع به تماماً أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد التوبة منه، وهذه من مسائل الاعتقاد التي لا يحل لطالب علم يستطيع أن يميز بين أقوال أهل العلم أن يقلد رأياً بغير قناعة؛ لأن هذا دين، ودين الله تبارك وتعالى إذا ترجح لدى طالب علم في قضية من القضايا أصبح ديناً في حقه الذي يحاسبه عليه الله يوم القيامة، وفي لفظ: (خيبتنا).

    قال: فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة.

    هذا جواب شيخنا: أبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى.

    1.   

    الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع

    وقد يتوجه جواب آخر -انظر هذا الكلام- وهذا الذي كنت أريد أن أخبرك عنه وأقول لك: احفظ هذا المذهب، أي: المذهب الثالث، فإننا سنحتاجه.

    والمذهب الثالث: أنه إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز له لومه حينئذ، قال ابن القيم : وهذا وإن كان أقرب مما قبله -يعني: الآراء الفاسدة السابقة- إلا أنه لا يصح لثلاثة أوجه، ثم ذكرها، أي: أنه قال: هو أهون من المذاهب الأخرى، لكنه مع ذلك غير صحيح؛ لثلاثة أوجه، ثم قال هنا: وقد يتوجه جواب آخر، أي: قد يكون الجواب الآخر وجيهاً، وكلمة: (يتوجه) من الوجاهة، أي: قد يصير مذهباً آخر وجيهاً.

    قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم. لكن هذا المذهب يقول لك: أنا يستقر في ذهني وينصرف في عقلي أنه مذهب راجح، يقول: وقد يتوجه. لا والله أنا عندي أن هذا الرأي هو الأوجه.

    قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد التوبة منه، وعدم العودة إليه قد يكون وجيهاً في موضع ومذموماً في موضع آخر, ثم قال: وهذا هو الرأي الوجيه، أي: أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك -أي: في هذا التوقيت بعد وقوع الذنب والتوبة منه- من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً علي قبل أن أخلق؟

    فإذا أذنب رجل ذنباً ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.

    وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج بالقدر فيه ففي الحال والمستقبل، أي: أن القدر يحتج به في المصائب التي تنزل بالعبد، والذنوب التي يرتكبها فيما يتعلق بالماضي التائب منه، أما الاحتجاج بالقدر على الذنب الحال، كأن يرى شخص آخر يزني، فقال له: ما هذا يا فلان؟ فرد عليه: لا تتكلم فإن هذا مقدر علي! وأيضاً سأفعل هذا غداً وبعده، والأسبوع الذي سيأتي، والشهر الذي سيأتي وهكذا، وإذا كان مقدر علي فلا بد أن يقع مني! فهل يصح ذلك منه؟ لا، لكن يصح منه في الماضي وبعد التوبة منه.

    قال: وأما الموضع الذي يضر في الاحتجاج بالقدر ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب به باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله تعالى فقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، أي: نحن قائمون على الشرك، وقالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم، وعزم كل العزم على ألا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.

    ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    1.   

    المراد بالتقدير في قول آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي

    المراد بالتقدير في قول آدم عليه الصلاة والسلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)، لا يفهم من كلمة (قدره): أنه مجبور على ذلك؛ لأن الجبرية من الفرق الضالة الهالكة، والمعنى الصحيح لكلمة: (قدره)، أي: كتبه الله علي.

    إذاً: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل أنه قال: أنا أقدم أم الذكر؟ قال له: الذكر، قال: أنت نفسك قرأت في الذكر أنني أفعل هذا قبل أن أخلق بأربعين عاماً.

    قال: وفي صحف التوراة وألواحها، هل كتبه علي قبل خلقي بأربعين سنة؟ وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين سنة)، أي: أن التوراة التي نزلت على موسى قد كتب فيها أن آدم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك بأربعين سنة.

    قال: (قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، فهذه الرواية مصرحة بالمراد بالتقدير، وأنه الكتابة، إذاً (أتلومني على أمر قدره الله علي)، أي: كتبه الله علي، والكتابة مرتبة ثانية متعلقة بالمرتبة الأولى من جهة علم الله، أي: أن الله تعالى علم أزلاً ما يكون من العباد من خير وشر، وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ، ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراد من خلقه أزلي لا أول له؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل أن يخلقهم بأربعين سنة؛ لأن هذا القول يستلزم أن الله كان جاهلاً فعلم، وهذا كفر.

    ولم يزل سبحانه مريداً بما أراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر، (فحج آدم موسى)، أي: غلبه بالحجة، وظهر عليه بها، ومعنى كلام آدم: أنك يا موسى! تعلم أن هذا كتب وقدر علي قبل أن أخلق، فلا بد من وقوعي فيه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لن نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ واللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع لا بالعقل، فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي. لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كأن تقول لشخص يشرب الخمر: يا فلان ماذا تعمل؟ فيقول لك: هذا مقدر علي! فهل تحتج بالقدر على المعصية؟ المتفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، مثل أن يقول شخص لمريض: لماذا يا أخي! أنت مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لأن المرض هذا لا أملكه، ولست سبباً فيه، كما لو حصلت حادثة لأناس فماتوا، فلا نقول: لماذا؟ فهذه مصيبة نزلت بهؤلاء، فيجوز أن يحتج على المصائب والبلايا، والأمراض، والأوجاع، والأسقام بالقدر، أما المعائب والذنوب فلا، لكن كلمة (لا) انتبه منها؛ لأنها محل نزاع، والنزاع فيها متعلق بمن تاب من الذنب، فهل يجوز له أن يحتج بالقدر فيقول: هو قدر الله عز وجل. كأن يزني شخص وهو غير محصن ثم يأتي الإمام فيقول: يا إمام! أنا زنيت، أقم علي الحد، طهرني، فهو أتى تائباً، وأنتم تعلمون أن الحدود كفارات لأهلها، فأقمنا عليه الحد مائة جلدة وتغريب عام.

    فهل يجوز لهذا التائب إذا سئل أو ليم على هذا الفعل أن يقول: هو قدر الله عز وجل؟ أنا أعتقد -المسألة محل نزاع- أن التائب من الذنب يجوز له أن يحتج بالقدر بعد التوبة، أما قبل التوبة وفي أثناء التوبة فلا.

    1.   

    لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي في الماضي والحاضر والمستقبل

    قال: [فإن قيل فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك]؛ لأننا لو قلنا إنه يجوز أن يحتج بالقدر على المعاصي كلها في الماضي والحاضر والمستقبل، إذاً فلا شيء هناك اسمه: حدود؛ لأن ربنا هو الذي أمر بذلك، فهو سبحانه علم ذلك، وكتبه علي، وقدره علي، ولذلك لما أتى هذا الزاني إلى عمر بن الخطاب فاحتج بالقدر على المعصية، ثم أمر به عمر فكتف، قال له: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟ قال: نعم، نضربك بقدر الله، مثلما أنت تقول: إن المعصية وقعت منك بقدر، فنحن نقول: إن الحد أيضاً بقدر، ودليل ذلك: قف مكانك، وجلده مائة جلدة، ولو لم يكن مقدراً أن يضربه مائة جلدة لم يكن يستطيع عمر أن يضربه، فتبين أن المعصية بقدر، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر عليها إلا بعد التوبة منها، وأن الحد من قدر الله عز وجل، ونحن قد قلنا: إن هذا القدر هو ما قدر في الكون من خير وشر، وأن ذلك لا يقع في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته، إذاً الحدود أيضاً من قدر الله وفي قدرة الله تعالى.

    قال: [فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة]، أي: لنا أن نلومه ونوبخه، وأيضاً نعاقبه ونقيم عليه الحد، وإن كان صادقاً فيما قال أن ذلك لم يقع إلا بقدر الله، لكن لا يجوز الاحتجاج به، فالجواب: أن هذا العاصي باقٍ في دائرة الخير، وهذا فرق بينه وبين آدم، فآدم لما وقع فيما وقع فيه وتاب منه، وانتقل بعد الموت إلى دار أخرى، لكن الله بعثه جواباً لطلب موسى: أنا أريد أن أقابل آدم، خلق له آدم مرة أخرى ثم تناقشوا، لكن في الحقيقة لما لام موسى آدم عليهما السلام لامه في دار ليست محل تكليف؛ لأن الأصل في آدم أنه انتقل إلى دار لا لوم فيها ولا تكليف فيها، لكن العاصي الذي وقع في معصية في الدنيا إذا تاب منها بينه وبين الله تاب الله عز وجل عليه؛ لأنكم تعلمون أن الحد لا يجب قيامه إلا إذا بلغ السلطان، وهذا من الأساسيات الجوهرية في قيام الحد، وليس للأفراد أن يقيموه، حتى الوالد على ولده، والسيد على عبده، والرجل على امرأته، فلا يقيم أحد من عامة الناس الحد على أحد، وإنما يقيمه السلطان أو من ينوب عن السلطان، وكذلك إذا بلغ الحد للسلطان فلا يجوز للسلطان أن يقدم فيه ولا أن يؤخر، ولا أن ينزل من قدر العقوبة، ولا أن يزيد فيها؛ لأنها محددة من عند الله عز وجل، أما التعزيرات فهذه للرجل على امرأته، والوالد على ولده، والسيد على عبده وغير ذلك، والتعزير لا يزيد عن عشر جلدات، وما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً في حد أقل من عشر، وما زاد النبي في تعزير أكثر من عشر، وقد تجد شخصاً آخر يعمل نفسه شهماً وهو أصلاً بخيل، فتأتي امرأته فتسقط طبقاً من الكئوس، فيعمل نفسه شهماً -وهو يغلي من الداخل- فيقول لها: أهم شيء سلامتك، وبعد ذلك يخرج ولا يستطيع أن يتحمل، فيذهب إلى المسجد ليصلي، ثم يعود إلى بيته فيسألها عن صلاة الظهر، فترد عليه: أنها لم تصل، فيقوم بتوبيخها وتأنيبها، وهو في حقيقة الأمر أول مرة يسألها عن الصلاة؛ لأنه لا يستطيع أن يبيت، فلا بد أن يأخذ قيمة الكئوس.

    قال: [فهو في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة، واللوم، والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل]، فهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، فإذا مات فلا نظل نوبخه، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف، وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يكن في الوقت المذكور له فائدة، بل فيه إيذاء وتخذيل، والله أعلم.

    وهذا رأي واحد من أراء كثيرة ومتعددة، يقول: هذا اللوم والتوبيخ الذي وقع من موسى لآدم متعلق برجل خرج من دار التكليف ثم رجع إليها لمهمة وضرورة، فهو في الحقيقة لا يلام ولا يوبخ، ولذلك لما رد عليه آدم الحجة غلبه؛ لأنه ما كان ينبغي أن يلومه موسى عليه السلام.

    1.   

    كلام الإمام الخطابي في حديث احتجاج آدم وموسى

    قال الإمام الخطابي : قد يحسب كثير من الناس أن معنى: القدر من الله والقضاء منه معنى: الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، أي: أنه يقول لك: انتبه أن تفهم قول آدم عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله)، أن هذا فيه لغة الجبر من الله على هذه المعصية، لا، وإلا ستكون جبرياً من الفرق الهالكة الضالة.

    قال: ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كانت من هذا الوجه، يعني: ليس معناه أنه يقول له: أنت تلومني على أمر وأنا مجبور عليه، فليس في المسألة جبر.

    قال: وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه وإنما معناه: الإخبار عن تقدم علم الله في الحال بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم -انظر الكلام الجميل- فهو يقول له: يا موسى! الأمر الذي وقعت فيه قد سبق في علم الله أني سأعمله، وأني سأرتكبه. وهنا آدم أثبت مرتبة العلم لله عز وجل، ومرتبة الكتابة كذلك؛ فآدم كان يؤمن بمراتب القدر.

    قال: وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد ومعاصيهم وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها.

    يقول لك: وصدور هذه الأفعال وإن كانت معاصي لكنها لا تصدر إلا بخلق وإيجاد الخالق سبحانه وتعالى، يعني: هذا الشر الذي وقع إنما وقع بإذن من الله، وإيجاد من الله، وخلق من الله، لكن المكتسب للشر، والذي قارف الشر بيده هو العبد، إذاً الشر يقع في الكون من العباد كسباً، ومن الخالق إذناً وإيجاداً وخلقاً.

    قال: والقضاء في هذا معناه: الخلق، كقوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12] أي: فخلقهن، إذاً: القضاء الذي قضاه الله تعالى على آدم أو قدره على آدم بمعنى: أذن الله تعالى في خلقه وإيجاده، لكن الذي اكتسبه هو العبد.

    ولو كان المكتسب والمباشر لهذا الشر عياذاً بالله هو الله عز وجل لما احتاج آدم إلى التوبة؛ لأنه في الحقيقة لم يفعل شيئاً، فمن ماذا يتوب وهو لم يذنب؟ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]، والمعلوم أن التوبة تكون من الذنب، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، أي: إذا كان علم الله سبحانه وتعالى أزلياً سابقاً، فلا يبقى إلا أن يكتسب العباد أفعالهم وأقوالهم، وحركاتهم وسكناتهم الموافقة لعلم الله الأزلي، فهو يريد أن يقول له: ما فعلت إلا شيئاً وافق علم الله الأزلي وكتابة الله تعالى الأزلية.

    قال: وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها، أي: ومع هذا يلامون، ويوبخون، وجماع القول في هذا الباب -أي: خلاصة الأقوال في هذا الباب-: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه.

    انتبه من هذين الأمرين: أمر يسمى: الأساس، وأمر يسمى: البناء، والأساس هو علم الله عز وجل، والبناء هو أفعال العباد المطابقة لعلم الله الأزلي.

    وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى أن الله سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وأن يبطله بعد ذلك؟

    إذا كان سبق في علم الله الأزلي أن آدم سيأكل من الشجرة فلا بد أن يوافق فعل آدم ما سبق في علم الله أنه سيأكل، ولو تحرى آدم والخلق أجمعون المخالفة لعلم الله الأزلي السابق لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه، ومع هذا فليس لهم حجة في أن يحتجوا بهذا على القدر إلا بعد التوبة.

    قال: وبيان هذا في قوله سبحانه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض، لكن لما خلق آدم، هل خلق في الجنة أو في الأرض؟

    في الجنة، إذاً سبق علم الله عز وجل بأن آدم سيخرج من الجنة إلى الأرض، وأخبر الملائكة بذلك، وعليه فعلم الله أزلي، وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها -أي: إلى الأرض- وإنما كان تناوله من الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها، وليكون فيها خليفة ووالياً على من فيها، فإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه، فهو يريد أن يقول له: عملي هذا ما وافق إلا علم الله، فلم تلومني إذاً؟ ولذلك قال: (أتلومني على أمر قدره الله)، أي: كتبه الله علي قبل أن يخلقني، فإن قيل: فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلاً، لكن إذا كان فعل آدم ليس فيه إلا موافقة علم الله الأزلي السابق، فإذاً لماذا فرض الإسلام؟

    والجواب على ذلك: اللوم ساقط من قبل موسى، أي: أن الذي حصل لموسى ليس من باب اللوم، لكن النص صريح في اللوم: (أتلومني)، يعني: أن آدم فهم أن هذا لوم، قال: اللوم ساقط من قبل موسى، إذ ليس لأحد أن يعير أحداً بذنب كان منه؛ لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء، وقد روي: (لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا إليها كأنكم عبيد)، وهذا النص ضعيف، لكن اللوم لازم لآدم من قبل الله سبحانه.

    إذاً: من الذي يلوم العبد على ذنبه؟ الله؛ لأنه الذي وقع في حقه هذه المعائب وهذه الذنوب، أما عبد مع عبد فلا؛ لأن الكل معرض لهذه الذنوب.

    إذ كان قد أمره الله عز وجل ونهاه، فخرج إلى معصيته وباشر المنهي عنه، ولله الحجة البالغة سبحانه لا شريك له، وقول موسى صلى الله عليه وسلم وإن كان منه في النفوس شبهة وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي قد جعل أمارة لخروجه من الجنة، فقول آدم في تعلقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل أرجح وأقوم، والفلج قد يقع مع المعارضة بالترجيح كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له، والله أعلم. انتهى كلام الخطابي، وهو كلام نفيس جداً.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755781457