إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة طه [7]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى في آخر سورة طه تكريمه وتفضيله لآدم عليه السلام، وأنه أسجد له ملائكته فسجدوا إلا إبليس أبى، وأدخله جنته، وحذره من إبليس، وأمره ألا يأكل من شجرة معينة، فوسوس إليه إبليس فأكل منها، فعاقبه الله بأن أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض ابتلاءً وامتحاناً، ثم تاب الله تعالى عليه وهداه، ثم ختم الله السورة بأمره لنبيه بالصبر، وألا يمد عينيه إلى ما متع الله به غيره من الدنيا، وأمره بأن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، ثم ختمها بذكر كلام الكفار المعاندين الذين طلبوا من النبي آية، مع أن الله قد أعطاهم أعظم آية وهي القرآن، ولكنهم لا يرعوون ولا يؤمنون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً)

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا اله الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    قال الله جل وعلا فيما: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115].

    هذا المقطع من سورة طه يتكلم عن عهد الله جل وعلا لأبينا آدم، وآدم قبل أن نتكلم عن قصته هنا يجب أن نصتصحب ما من الله جل وعلا به عليه، وفائدة هذه الاصتصحاب: أن الإنسان أحياناً إذا رأى كلام الله عن أحد أنه وقع منه خلاف الأولى، أو وقعت منه المعصية؛ يقع في نفسه شيء من دون أن يشعر من ذلك المذكور، فسداً لهذه الباب واتباعاً لسنه النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (لا يقول أحد أنا خير من يونس بن متى) ، من هذا الباب نقول: إن آدم عليه السلام فضله الله بأمور لم يعطها أحداً من الخلق، لا نبينا صلى الله عليه وسلم ولا غيره، هذه الأمور منها: أن الله جل وعلا خلقه بيده، وهذه خصيصة له من دون سائر بني آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وهي أربع خصال لم تعط لأحد غيره عليه الصلاة والسلام .. هذا أمر.

    الأمر الثاني: أن وجه آدم منتهى الكمال البشري، وقد ذكرنا أن يوسف أعطي شطر الحسن، إي: شطر حسن آدم عليه السلام.

    قال الله تعالى هنا: وَلَقَدْ عَهِدْنَا [طه:115]، قوله: (عهدنا) عهد: لفظ يستخدم في التعظيم والتفخيم، ولا أحب أن يقول الفرد من الناس: عهدت إلى فلان أن يفعل كذا، وإن كان مستخدماً في اصطلاحات المؤرخين، لكن أرى ألا يستخدم، وأنه يتعلق بذات الله، لكني لا أجزم أنه لا يجوز.

    يقول الله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه:115] أي: من قبل موسى، من قبل هذا كله الذي قصصناه عليك.

    قال تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115] عبر الله هنا بالنسيان، وقال بعد آيات: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، لا تنسب إليه، مع أن الله صرح بها، لكنني أقول: هناك كلام لـابن العربي في أحكام القرآن جيد عظيم فحواه: أن كلام الله عن آدم غير كلامنا نحن عن آدم، فكلام الله جل وعلا عتاب وفيه شيء من التثريب، لكنه خطاب رب لعبده، أما نحن فنتكلم عن أبينا آدم بالنبي، ونبوة آدم ثابتة فقد جاء في الحديث أنه قيل: (يا رسول الله! أكان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم) والحديث صحيح.

    يقول الله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، ما هو العهد الذي عهده الله لآدم؟ بالاتفاق ألا يأكل من الشجرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ... وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)

    قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [طه:116] ، أي: امتنع كبراً.

    والخطايا أصولها ثلاثة: الكبر، والحسد، والحرص، فوالله ما عصى الله أحد إلا من باب واحدة من هذه الثلاث: الكبر، أو الحسد، أو الحرص، فالحرص باب للشهوات، والحسد باب للبغض، والكبر باب للبغي والشهوات، وباب لرد ما جاء الله جل وعلا به، فكل المعاصي تندرج في هذا الباب.

    يقول ربنا: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا [طه:116-117]، أي: إبليس عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه:117]، ولم يقل: ولزوجتك، والأفصح أن يقال في المرأة: زوج، فيقال: زوجه، ولا يقال: زوجته، إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا [طه:117]، آدم وحواء مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، وقول الله: (من الجنة) إحدى الأدلة على أن المقصود بها جنة عدن؛ لأنه لا يستقر في الذهن هنا إلا جنة عدن، وقوله: (فتشقى) جاءت (فتشقى) بلفظ الإفراد، وهذا يدل على أن المرأة تبع للزوج، وأن الرجل هو المكلف بالسعي والكد.

    ومعنى الآية: أن الجنة يا آدم كفيت أن تعمل فيها وتكد على أهلك، فخروجك منها سيدفعك الى الكد والسعي في طلب الرزق، وقوت أبنائك وأهلك، وتصبح تبحث عن الرزق كما يقال بعرق الجبين، وتذهب وتكد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حق جليبيب : (اللهم لا تجعل عيشهما كداً وصب عليهما الخير صباً).

    والمقصود:لم يقل الله: فتشقيا؛ لأن الرجل هو المكلف بالكد.

    قال الله جل وعلا: يرغب آدم في الجنة: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، الجوع معروف وهو عدم الأكل، والعطش قرين له، يقال: فلان جائع وفلان عطشان، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى [طه:118]، بعد الجوع أتى بالعري، قال: وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا [طه:119]، أي: لا تعطش، وَلا تَضْحَى [طه:119] ضحي الإنسان بمعنى: برز للشمس، ولهذا يقال لوقت ظهور الشمس واشتدادها: ضحى.

    وهذا عند البلاغيين يسمى: تطابق تضاد، والمعنى أنهم يقولون: إن الله عدل عن قول: ألا تجوع فيها ولا تظمأ، فما قال: لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولم يقل: تعرى مقابل الظهور للشمس، قالوا: لأن العري جوع الظاهر، وعدم الأكل جوع الباطل، وعدم الشرب حر الداخل، والظهور للشمس حر الظاهر، فهذا يسمى: تطابق تضاد.

    وأهل اللغة إذا ذكروا هذا في القرآن يعرجون على بيتين للمتنبي ، والمتنبي شاعر عباسي كان مشهوراً بالإغراق في الغرور والكبر عياذاً بالله، وهو القائل عن نفسه:

    أي عظيم أتقي وأي مكان أرتقي

    وكل ما خلق الله وما لم يخلق

    محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

    ومن دون له سيرته -ولا أتحمل وزره- قال: إنه لم يسجد لله قط، فلا يعرف أن هذا الرجل كان يصلي؛ بل كانت به أنفة عجيبة، فكان ينشد شعره بين يدي سيف الدولة الحمداني وهو جالس، فودعه بقصيدة بعد أن اشتد عليه خصومه يقول فيها:

    واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم

    ما لي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم

    إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم

    والآن هو يتكلم بين يدي الأمير، فبدلاً من أن ينصرف الكلام إلى مدح الأمير صرفه إلى نفسه فقال:

    أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

    أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم

    الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

    ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم

    هذه جملة أبيات قالها بين يديه ثم ترك حلب وبني حمدان، واتجه إلى مصر أيام حكم كافور الأخشيدي وكان كافور فطناً سياسياً، وهذه الفطنة جعلت كافوراً يقرب المتنبي بالقدر الذي يستفيد منه، وكان المتنبي يلح عليه ويطلب منه الولاية فلم يعطه، فلما سأل بعض خواص كافور عن سبب منعه الولاية للمتنبي قال: انظروا ماذا يراه في نفسه وهو شاعر، فكيف لو أعطي ولاية، ماذا سيفعل؟ سيطغى، والمتنبي هو القائل:

    ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا

    والعاقل لا يستخدم من هو أعظم منه؛ لأنه قد ينقلب عليك فيأكلك.

    نعود إلى قضية التضاد في التطابق فنقول:

    وقف المتنبي ذات يوم في حرب تسمى: الحرب الحمراء، لـسيف الدولة الحمداني ، وانتصر فيها، فقال قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

    على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

    وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

    حتى وصل إلى بيت يمدح ممدوحه فقال:

    وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم

    تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم

    فقالوا: إن الحمداني استدرك على المتنبي هذا البيت، فأفهمه المتنبي بمراده الذي هو بين أيدنا الآن بما يسمى: تطابق التضاد، فجعل كل مصرع بيت بما يلائمه، وهذا مأخوذ من نسق القرآن، حتى يعلم أن القرآن في المرتبة الأعلى من الفصاحة، وما جاء أحد بأسلوب ولن يأتي أحد يرقى على أسلوب القرآن، فكلهم أصلاً مغترف من أسلوب القرآن سواء أنكر ذلك أو اعترف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فوسوس له الشيطان ... فتاب عليه وهدى)

    يقول الله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، وهذا حرص؛ لأن كل ثمار الجنة أباحها الله جل وعلا لآدم ما عدا شجرة، فدخل إبليس على أبينا آدم من باب الحرص فقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، فوافق آدم؛ لأن ما بعدها يدل عليها، قال الله: فَأَكَلا [طه:121]، ألف التثنية أي: آدم وحواء، مِنْهَا [طه:121] أي: من الشجرة، فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [طه:121]، وتسمى العورة سوءة لأنه يسوء المرء إظهارها، الإنسان العاقل لا يرضى بظهورها، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا [طه:121]، (طفق) بمعنى: بدأ، وهو من أفعال الشروع عند النحويين، وهي تعمل عمل كان، إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون جملة فعلية.

    قال الله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، فهذا نص خلاف الأول، وقد خرجه بعضهم على أنه قبل أن ينبأ، وقال بعضهم: إن صغائر الذنوب تقع من الأنبياء، وبكل قال العلماء، وأنا أجنب نفسي.

    لكن أقول: إذا تكلمنا عن الأنبياء نتكلم بنفس طريقة القرآن، ولا نقحم أنفسنا في الكلام عن أنبياء الله جل وعلا إلا بما حكاه الله جل وعلا عنهم، تأدباً مع أبينا عليه الصلاة والسلام ومع غيره من إخوانه وأبنائه من الأنبياء.

    ثم قال الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122] هنا لا تفهم أن الأمر بالهبوط عاقبة للتوبة، وإنما قدم الله التوبة حتى يبين لك ألا تسترسل فيما بعد، فإن هذا النبي قد تاب الله عليه.

    قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [طه:123] [طه:123] ليس مفره على التوبة مفره على المسألة، لكن جعل الله التوبة قبلها والإجتباء والهداية حتى يريحك في تلقي الخبر، وأن هذا النبي الصالح تاب الله عليه، كمن تريد أن تخبره بأن قريباً له أصابه مكروه، فقبل أن تخبره أن ابنه دهته سيارة مثلاً قل له: ابنك بخير وعافية ولله الحمد الآن، ثم يمكن أن تقص عليه كيف دهته السيارة، لكن لا تبدأ بإخباره بالحادث، فإن هذا يجعله في رعب وينتظر النتيجة.

    فأسلوب القرآن قدم النتيجة، فالله يقول لنبيه: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ [التوبة:43]، ثم أعطاه العتاب: لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، لكن لا تخشى من هذا العتاب فقد قدمنا عَفَا اللَّهُ عَنْكَ [التوبة:43]، وهنا قال: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122]، فرفع الله مقامه وغفر الله خطيئته، وقبل الله توبته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً ... إن في ذلك لآيات لأولي النهى)

    قال الله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124]، ضيق في العيش يكون في الحياة الدنيا، فلا يشعر بلذة ما هو فيه لو كثر أمواله وأولاده.

    وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا [طه:124-125]، وقد ذكر الله أنهم يحشرون عمياً وصماً وبكما: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا [طه:126]، أي: بتركها وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126] أي: بأن تترك، وإلا فإن النسيان لا يجوز على الله تعالى، لكن هذا يسمى عند البلاغيين: مشاكلة.

    قال تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127]، وهذه ظاهرة المعنى وقد مرت معنا كثيراً.

    ثم أمر الله بالتدبر فيما سبق فقال: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128] والخطاب في المقام الأول لكفار قريش، يقول الله عن قوم لوط وحجر وصالح: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [الحجر:79]، وقال: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76]، ما زالت آثاراً باقية تدل على أصحابها حتى يتعظ الخلق وحتى يتنبه من كتب الله جل وعلا له النجاة، ولهذا قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128].

    وقد مر معنا أن كلمة (أولي النهى) لم ترد في القرآن إلا مرتين كلاهما في سورة طه: هذا موضع، والموضع الذي قبله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:54]، ذكر الله جل وعلا إنزال المطر من السماء، وأخبر أن في ذلك آيات لأولي النهى.

    وهنا تكرر نفس المعنى، وأولو النهى هم أهل العقول، وهذا يدل على أن الإسلام عني كثيراً بالعقل البشري، ومن أعظم الدلائل على عناية الإسلام بالعقل أن الله جل وعلا ذكر العقل مغيباً ومؤقتاً ومغيباً تغيباً جزئياً، فالمغيب كلياً يسمى: مجنوناً، والمغيب عارضاً هو النائم، والمغيب المؤقت هو الصغير الذي لم يصل عقله إلى النضج، وفي كلا الثلاثة الأحوال رفع الله قلم التكليف.

    إذاً: مناط التكليف هو العقل، والعقل أصلاً يدل على وجود الله، لكن لا تقوم الحجة بالعقل وحده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون ...)

    ثم قال جل وعلا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، التسبيح هنا الأظهر أنه بمعنى الصلاة، وقد ذكر الله في هذه الآية المواقيت الخمسة، وقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه:130]، الصبر قرين الصلاة في كلام الله، فقد قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال عند)، ولهذا أمر الله نبيه بقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه:130]، أي: من تكذيبك ورد رسالتك وقدحهم في إلهك، وزعمهم أن الأصنام تنفع وتضر، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه:130] متى؟ (قبل طلوع الشمس)، وهذه صلاة الفجر، (وقبل غروبها) صلاة العصر وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ [طه:130] صلاة العشاء وَأَطْرَافَ النَّهَارِ [طه:130]، للنهار طرفان: بعد زوال الشمس عندما تتوسط في كبد السماء، وعندما تجب وتسقط وقت الغروب، فالأول يتعلق به وقت صلاة الظهر، ووقت سقوطها يتعلق به وقت صلاة المغرب.

    فإن قال قائل: كيف عبر الله بأطراف ولم يعبر بطرفي؟

    قلنا: إن هذا أسلوب عربي معروف، وإن العرب إذا أمنت اللبس تعبر بالجماعة عن الأفراد أو عن التثنية إذا أمن اللبس، كما في هذه الآية، ونظيره قول الله جل وعلا: إِنْ تَتُوبَا [التحريم:4] بالتثنية إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، فجمع (قلوب) وليس لـعائشة وحفصة إلا قلبان، لكن هذا أسلوب عربي، ولهذا نقول: إن من أهم الطرائق إلى معرفة كلام الله معرفة أساليب العرب في كلامهم.

    لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، يحسن الوقوف عندها، والمعنى: أن هذه الصلوات سبب في رضوان الله عنك، فإذا رضي الله عنك أرضاك، ولهذا قال بعض أهل الفضل: ليس الشأن في أن نحب ربنا، فهذا حق له، ولكن الغاية والمطلب أن يحبنا ربنا جل جلاله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ...)

    ثم أدب الله تعالى نبيه فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]، هذه الآية تبين أن من أعظم ما يحال بين العبد وبين ربه النظر في ملذات الدنيا، وهذه الدنيا من حقارتها على الله أنه لم يأذن بالمعصية إلا فيها، ولو كانت تزن عند الله جل وعلا جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهي على اسمها دنيا، أي: نازلة، والتعلق بها تعلقاً تاماً وجعلها في القلب من أعظم ما يحول بين العبد وبين ما يريد عند الله من الشرف العظيم والجنة والمعالي الكريمة.

    وقد حمى الله جل وعلا أنبياءه ورسله منها، فمن أعطاه الله منها كسليمان وداود عليهم السلام جعلها لهما عوناً على طاعته، كأصحاب المال والثراء من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، لكنها في الجملة لا ينبغي أن تستقر محبتها في القلب، ونبينا عليه الصلاة والسلام خير ما بين أن يكون نبيناً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار الثانية، واختياره للثانية يعني أنه سيبتلى فيلتزم بها، فلما كانت تأتيه الغنائم لم يكن له منها حظ ولا نصيب صلوات الله وسلامه عليه إلا بقدر ما يقوت به أهله، وكان يقول: (أجلس كما يجلس العبد) ، وعندما كان يأكل كان يأخذ الذراع فينهسها نهساً فعل من هو متشوق إليها لا من هو متعود عليها، ويدخل عليه عمر وقد أثر الحصير فيه فيحزن شفقة عليه، ويذكر كسرى وقيصر وما هو فيه، فيقول له: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! أولئك قوم عجلت لهم طلباتهم في الحياة الدنيا) .

    والتعلق بالدنيا يحول بين المرء وبين معالي الأمور؛ لأن من يروم مجداً لا ينبغي له أن يتعلق بالدنيا؛ لأن التعلق بالدنيا يورث أمرين: يورث الجبن، ويورث الحرص، وهو الطمع، ومن كان حريصاً أو جباناً لا يمكن أن يسود، قال القائل:

    لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال

    لكن من طلب معالي الأمور لا بد أن ينزع الدنيا من نفسه ويجعلها مطية لما يريد ولا يجعلها في ذاتها غاية، وانظر لمن عبد الدينار والدرهم وتعلق بهما كيف صارت أحوالهم، وانخفاض سوق الأسهم في الزمن القريب أكبر دليل على تعلق فئام كثير من الناس بالدنيا، صحيح أن الإنسان لا يتحمل الخسارة، وإذا وقعت لا يلام الناس لوماً وعتباً قاسياً، لكن لا ينبغي للعاقل أن يتعلق بها تعلق من يصل في مراحل حياته إلى أن الرزق له طريق واحد، والله يعلم عباده ويؤدبهم فيقول: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك:21]، ومن عرف الله جل وعلا حق المعرفة علم أن أسباب الرزق والعطاء ليست أبداً محصورة في طريق واحد؛ لكنها من رازق واحد هو الله، فالله يقول لنبيه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه:131]، وهذا يلزم من خلاله ألا يقلب الإنسان طرفه كثيراً في متاع أهل الحياة الدنيا قدر الإمكان، وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا [طه:131]، ولماذا قال الله: (زهرة)؟ لأن الزهرة يراها السامعون التالون للقرآن، فيرون أنها ما تلبث أن تظهر قليلاً ثم تذبل وتنتهي.

    وقد قال بعض الصالحين: إنما الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة، حائلة أي: تحول إلى ذوبان وذبول، ونعمة زائلة، وهذا أمر مشاهد محسوس.

    قال تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]، ولا ريب أن الرزق كله من الله، لكن الإضافة هنا إضافة تشريف، والمقصود برزق ربك: أن الرزق قسمان: رزق لأهل الكفر، وهو من الله لكن لا يضاف إليه إضافة تشريف؛ لأنهم يشوبونه بطرائق محرمة، أهل الكفر والفجور والمعاصي يشوبون رزقهم بطرائق محرمة، فلا ينسب إلى الله، وأهل الصلاح وفي مقدمتهم نبينا صلى الله عليه وسلم إنما رزقه مباح حلال طيب، فلذلك أضيف إضافة تشريف إلى الله: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ...)

    بعد أن طمأن الله جل وعلا نبيه على الرزق، وأن ما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك قال له: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، الاصطبار: حبس النفس على شيء معين، ومن أعظم ما يمكن أن تراه عيناك شخص قد احدودب ظهره، وظهر الشيب في مفرقه، يتكئ على عصاه يطوف في حيه أو في مقر سكنه يأمر أهله بالصلاة.. هذا المنظر إذا رأيته يفيء إلى ذهنك قول الله جل وعلا عن نبي الله إسماعيل : وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55]، وقد كان هذا المنظر يرى كثيراً في الأحياء القديمة وفي المشايخ الكبار سناً، فليس شيخ علم ولكنك تراه يذكر من حوله بالصلاة في غدوه ورواحه، وهذا فيه دلالة وأمارة على القرب من الرب تبارك وتعالى.

    وقوله جل وعلا: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] فيه أن الصلاة تحتاج إلى نوع من المصابرة، ولهذا قال الله: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

    قال تعالى: لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا [طه:132]، نحن نسألك العبادة، فقد كلفناك بأن تعبدنا ووعدناك بأن نرزقك، فلا تنشغل بما وعدناك به عما طلبناه منك، وإنما انشغل بما يعينك على آخرتك -وهي العبادة- عما تكفل الله جل وعلا لك به، ولا يعني هذا أن الإنسان يبقى قعيداً في بيته، لكن إذا سعى يسعى بقدر، وإذا أعطي من الدنيا لا ينبغي أن تقع في قلبه موقعاً متأصلاً جداً يخرجه عن طاعة الله جل وعلا.

    قال الله جل وعلا: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وعاقبة كل شيء مآله، لكنها تذكر في كلام الله في الغالب في الخير، ومعنى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] أي: أن التقوى سبيل للعاقبة الحسنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ...)

    قال الله جل وعلا: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133] ، (لولا) هنا بمعنى: هلا، وليست امتناع لوجود، وهذا قاله الكفار -عياذاً بالله- وكأنه لم يكفهم القرآن، ولهذا قال الله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت:51].

    والمقصود: أنهم يقولون: نريد بينة، فالله جل وعلا يقول: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133]، ما هو الذي فيه بينة ما في الصحف الأولى؟ هو القرآن، فالله جل وعلا جعل القرآن مهيمناً على الكتب التي سبقت، فكلها أخبرت بنزوله، والقرآن حوى مجملها وما دلت عليه وما أرشدت إليه، وهو المهيمن عليها، فإذا كان لم يكفيهم القرآن فلن يكفيهم شيء أبداً، وإنما يقولون هذا تعنتاً؛ بل القرآن هو خاتم الكتب السماوية المنزلة، وهو المهيمن عليها، نعته الله جل وعلا بقوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133]، والصحف الأولى هي ما سبق من التوراة والإنجيل والزبور، وبينتها والحجة المهيمن عليها هو القرآن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ... ومن اهتدى)

    قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]، هذه الآية تبين أن الحجة في بعث الرسل، وأنه لولا أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لكان للناس حجة على ربهم، ولهذا قطع الله المعاذير، وأقام الله جل وعلا الحجج بإرساله للرسل وإنزاله للكتب.

    قال تعالى: لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]، فطالبوا بالرسل قبل أن يقع عليهم الذل والخزي، وقد أرسل الله الرسل فلم يبق لهؤلاء القوم أي حجة.

    ثم قال الله على لسان نبيه ليختم هذه السورة المباركة: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه:135]، هذه الآية من أعظم دلائل التوحيد، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل نفسه ومن آمن معه مثل هؤلاء في الانتظار: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ [طه:135]، أنا وأنتم ننتظر، أنا وأنتم متحفز للنهاية، أنا وأنتم مترقب لما سيكون، ولا يترقب لما سيكون ويتحفز لما سيقع إلا من كان لا يملك من الأمر شيئاً، وإلا لو كان يملك من الأمر شيئاً لقضاه وانتهى، فأنت تدخل داراً أنت ورفقتك وليس مع أحدة منكم مفتاح، فكلكم مشتركون تنتظرون صاحب الإذن صاحب المفتاح ليدخلكم، ولو كان مع أحدكم مفتاح لفتح الباب وانتهى الأمر.

    فهذا النبي يقول: أنا عبد مثلكم، أنا بشر مثلكم، أنا انتظر كما تنتظرون، وذلك حتى يبقى الكمال المطلق لله جل جلاله.

    قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا [طه:135]، فإذا انتظرتم وانتظرنا (فستعلمون) يقيناً مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه:135]، ولا يفهم أن أصحاب الصراط السوي مغاير لمن اهتدى، فإن الله لا يتكلم عن فريقين، إنما يتكلم عن طريق وسالكين لذلك الطريق.

    والمعنى: أحياناً يوجد طريق سالك صحيح مستقيم، ولا يوجد سالكون له، فالله جل وعلا يقول لهؤلاء الكفار على لسان نبيه: ستعلمون الطريق السوي الحقيقي الذي هو طريق الإيمان، والسالكين لهذا الطريق الحقيقي الذين هم أهل الإيمان، فـ(من) يعبر بها للعاقل، وإنما كسرت هنا وَمَنِ اهْتَدَى كسرت لالتقاء الساكنين؛ لأن الهمزة التي بعدها همزة وصل، والهاء ساكنة.

    نعود فنقول: إن الله جل وعلا لا يتحدث عن فريقين، إنما يتحدث عن طريق ومن سلكه، وقد يأتي في أنفس الذين يقرءون القرآن -وهذا من ربط سور القرآن بعضها ببعض- قد يأتي في أنفسهم: متى ينتهي هذا التربص؟ إلى متى هذا الانتظار؟ متى سيكون؟ أسئلة ترد .. فستعلمون متى سوف نعلم؟ وقد ورد الجواب في أول سورة الأنبياء: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، هذا هو الجواب فليس ببعيد هذا التربص وهذا التحفز، ولهذا قال الله بعده في الأنبياء: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، وهذا من التناسب ما بين سور القرآن الكريم.

    1.   

    فوائد مستنبطة من سورة طه

    هذا جملة ما يمكن أن يقال إجمالاً عن هذه السورة المباركة، وجملة الفوائد فيها: أن يعلم أن القرآن معجز في ذاته، وهذا الإعجاز ذكره الله جل وعلا هنا تشويقاً في ثلاث مراحل، فذكره في أول السورة: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]، وذكره قبل النهايات: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [طه:113]، وذكره هنا أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133] ، ففي هذه الثلاثة المواضع ذكر الله جل وعلا القرآن ليبين رفيع قدره وعظيم شرفه، وقد قال في شرف القرآن: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] أي: وشرف لك ولقومك وسوف تسألون عنه .. هذه واحدة.

    الثانية: ذكر الله جل وعلا في هذه السورة المباركة إجمالاً خبر كليمه موسى ونبيه آدم عليهم الصلاة والسلام، ولم يذكر الله في هذه السورة قصة أحد من الأنبياء غير موسى وآدم ، والعجيب أنه ليس في القرآن سورة اسمها سورة موسى، رغم أن موسى عليه السلام ذكر في أكثر من موضع.

    وهذا -إن صح التعبير- يدخل فيما قلناه سابقاً: أن الله جل وعلا لا يعطي أحداً كل شيء، إنما ذكر يونس؛ لأنه عاتبه عتاباً شديداً فسميت سورة باسم يونس، وذكر موسى كثيراً في القرآن لكن لم تسم سورة باسمه عليه السلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم سميت سورة باسمه: سورة محمد، وتسمى أحياناً: سورة القتال، وتسمية سور القرآن تسمية توقيفية مبنية على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مبنية على أمر الله من حيث الجملة، لكن عموماً ثمة ملحوظات يقع عليها المرء تبين له كيف أن الله جل وعلا يوازن بين عباده، والله يقول: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشورى:27].

    والمقصود: أنه حتى الناس لو تأملتهم فستجد من أعطي عافية ومالاً يحرم من أشياء أخر قد لا تظهر لك، ومن أعطي قلة مال قد يعطى أولاداً، وقد يوجد أحد عنده أموال ويتمنى الولد، وقد يوجد مبتلى لكنه معطى أموراً أخر غير التي فيها بلاؤه، وقل أن ترى عبداً إلا وفيه أثر النعمة وأثر الابتلاء، ولا نقول: نقمة، بل يبتليه الله جل وعلا به، فإن لم يحسن التعامل مع ذلك الابتلاء انقلب إلى نقمة، وإن أحسن التعامل انقلب إلى عافية ورفع درجات.

    لكن من العبد الخالص الذي يستحق أن يفوز بجائزة مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] ؟ هو من كان قلبه -بصرف النظر عن ماله وولده ومسكنه وجامعه وعلمه- من كان قلبه معلقاً بالله، لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً، يتفاوت الناس في المال وفي الولد وفي العلم وفي الطول والقصر، لكن لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً.

    إننا نريد منا جميعاً أن نعلم أن الغاية من خلقنا أن تعترف قلوبنا بخالقها وتذعن له وتعبده وحده: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلهيَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    فلا يوجد أحد ساد وعنده ما ليس عندك، فعنده قلب وعندك قلب، وهو مقام التحاكم وموئل العبادة، وهو موضع محبة الله وبغضه عند أهل الكفر، وطاعته ومعصيته عند العصاة، فكل الأمور معلقة بمدى اتصال هذا القلب بالخالق، وما الجوارح إلا شواهد ودلائل وقرائن على مدى اتصال القلب بالخالق سبحانه.

    علمنا الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا الله وإياكم بما علمنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، وأرجو أن يكون فيما قلناه في سورة طه نفعاً لمن سمعنا وشاهدنا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974299