إسلام ويب

تفسير سورة الزمر [38 - 42]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الله عز وجل نبيه أن يقول للمكذبين من قومه: استمروا على ما أنتم عليه من الضلال والتكذيب فإني مستمر على ما أنا عليه من التوحيد والهداية، وستعلمون إذا رجعنا إلى ربنا سبحانه من الذي يستحق العذاب المخزي والمقيم المستمر الذي لا ينقطع؟ نحن الذين عبدنا الله ووحدناه أم أنتم الذين عصيتموه وأشركتم به؟ والله سبحانه قد أنزل الكتاب المشتمل على الحق من عنده، فمن تمسك به اهتدى، ومن لم يتمسك به ضل وغوى، ونبيه ليس وكيلاً على العباد، وإنما هو رسول إليهم يبين لهم طريق الحق ليتبعوه، ويحذرهم من طريق الشر ليجتنبوه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعملون)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة الزمر:

    قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ * اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:39-42].

    يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن قدرته العظيمة سبحانه وتعالى في الخلق وفي الإحياء وفي الإماتة، ويدل عباده على أنه وحده الذي بيده مقاليد كل شيء، بيده الخير، يرسل لمن يشاء ويمسك عمن يشاء سبحانه وتعالى، فما أرسل فلا أحد يقدر أن يمنعه، وما أمسك فلا أحد يقدر أن يرسله، فبيده الخير وحده لا شريك له، والذين يدعون من دون الله سبحانه َلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا [الفرقان:3]، فقال الله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، لقد أقر المشركون أن الذي خلق السموات والأرض هو الله سبحانه وتعالى، فقال لهم: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الزمر:38] أي أخبروني عن هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله، من الأصنام والأوثان والأحجار، هل تملك مع الله سبحانه وتعالى في ملكه شيئاً؟

    إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ [الزمر:38] أي: إذا أراد الله عز وجل أن يبتلي العبد ببلاء من عنده، أو بمصيبة من المصائب هل تقدر هذه الأصنام أن تكشف هذه المصيبة عن هذا العبد؟

    أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر:38]، والجواب: لا تقدر الأصنام على ذلك، إنها لا تملك لنفسها شيئاً ولا لغيرها شيئاً، فكيف تنفع وتضر مع الله سبحانه وتعالى؟

    قل لهؤلاء: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر:38] أي: يكفيني طالما أنكم اعترفتم أن هذه الأصنام لا تلمك لنفسها ولا لغيرها شيئاً، فلا أعبد ما تعبدون من دون الله، يكفيني أن أعبد الله سبحانه وتعالى، فهو يكفيني وهو الذي يدفع عني ويحميني، وهو الذي أعبده وأتوجه إليه وحده لا شريك له.

    حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38] أي: إنني أتوكل على الله مع المتوكلين عليه، فهو الذي يرزقني، وهو الذي يعطيني، وهو الذي يمنحني من فضله سبحانه ومن رحمته.

    يقول سبحانه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الزمر:38]، يقول لهؤلاء مخاطباً عقولهم: أفرأيتم هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وهم يعرفون تماماً أنهم هم الذين صنعوها بأيديهم، ومع ذلك عبدوها من دون الله سبحانه، فيقول: أخبروني عن هؤلاء؟ ما الذي تملكه؟ وما الذي نفعتكم به حتى عبدتموها من دون الله سبحانه، وحتى أصررتم على ذلك؟ هم لا يجاوبون بالعقل، وإنما الجواب: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]! يضحك عليهم الشيطان، ويخدعهم بمثل ذلك، حتى إن أحدهم يقول: أبي أعلم مني، وأبي كان يفعل ذلك، فأنا أفعل كما فعل أبي! فالله سبحانه يعجب الخلق من هؤلاء، أين عقول هؤلاء حين عبدوا هذه الأصنام؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ...)

    قال الله سبحانه: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ أي: استمروا على ما أنتم فيه، إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [الزمر:39] قراءة الجمهور: واعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ، وقراءة شعبه عن عاصم : (على مكاناتكم) والمعنى على طريقتكم التي أنتم عليها، وليس المعنى أنه يبيح لهم أن يعبدوا غير الله، ولكن كأنه يقول لهم: اعملوا وستجزون، ففيها تهديد لهؤلاء، فطالما أنكم ترفضون ما أنا عليه من التوحيد وما أنا عليه من الحق، مع علمكم بأن هذا الكتاب كتاب من عند رب العالمين، وأنه الكتاب الحق، وأنما أنتم فيه هو الباطل؛ فاستمروا على ما أنتم فيه حتى تلقوا ربكم فيجازيكم على ما تصنعون، والمكانة والمكان بمعنى الجهة التي تمكنت عندكم، اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ أي: على جهتكم، وعلى طريقتكم، وعلى ما أنتم فيه، وهذا فيه تهديد لهؤلاء.

    إِنِّي عَامِلٌ أي: على مكانتي، وعلى جهتي، وعلى ما مكنني فيه ربي سبحانه، فأنا عامل على التوحيد، وعلى عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا تهديد ووعيد لهؤلاء، مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ [هود:39] أي: من هو الذي سينزل عليه عذاب من عند رب العالمين فيخزيه، ويقهره ويذله، ويذيقه الهوان، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ والذي يستحق هذا العذاب، هو الذي ألغى عقله، وعبد غير الله سبحانه، أقر بأن الله سبحانه هو الرب ومع ذلك وجه العبادة إلى غيره، فيحل عليه عذاب مقيم، لا يصرف عنه بل هو ملازم له ملازمة الغريم في نار جهنم والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق ...)

    قال الله عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر:41]، الكتاب هو القرآن العظيم، وعبر بنون العظمة، ليدل على أنه كتاب عظيم يستحق من التعظيم ما يستحقه، إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ، وفي سورة النساء، قال: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، فالله أنزل الكتاب من السماء، وهذا دليل من الأدلة على علو رب العالمين سبحانه، وأنه فوق سمواته مستو على عرشه سبحانه، وقد نزل الكتاب مع روح القدس جبريل الأمين، نزله ربه سبحانه على قلب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لينذر به، وليهدي به من شاء الله سبحانه.

    وقوله: (الكتاب) أي: الكتاب المعهود المعروف، وهو القرآن العظيم.

    (للناس بالحق) أي: إنزاله من السماء حقاً ونزل مشتملاً على الحق، ففيه الحق من عند رب العالمين، وفيه أحكام الشريعة، ليحكم بين الناس بالعدل وبالحق، فنزل حقاً من عند رب العالمين، ونزل مشتملاً على كلام رب العالمين، وعلى الشريعة الحقة من الله سبحانه.

    (فمن اهتدى فلنفسه) أي: من أخذ بهذا القرآن وتمسك به فلنفسه النفع، ولنفسه الرحمة من الله سبحانه وتعالى، فالإنسان هو الذي ينتفع بتلاوة القرآن وبالعمل به، ولن ينفع ربه شيئاً سبحانه وتعالى، بل إن النفع يرجع على من يؤمن برب العالمين، ويصدق بكتابه ويعمل به.

    (ومن ضل) أي: من انحرف عن طريق رب العالمين، وترك العمل بما جاء من عند رب العالمين، من جعل كتاب الله وراءه ظهرياً.

    (فإنما يضل على نفسه) أي: وبال الضلال على نفسه، وشؤم ضلاله على نفسه، فهو الذي تتنزل عليه العقوبة من عند رب العالمين بسبب ضلالة.

    قال: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر:41]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه سبحانه أن يتوكل عليه فقال: حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38]، وأخبره أنه ليس وكيلاً على الخلق، فليس مفوضاً إليه أمر الخلائق عليه الصلاة والسلام، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:23-24].

    إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم منذر، ومبشر، ورسول من عند رب العالمين، (ما على الرسول إلا البلاغ)، أما أن يكون وكيلاً على الخلق، ومراقباً وحفيظاً عليهم ومغيراً ما هم فيه إلى شيء آخر فهذا لا يملكه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول له ربه سبحانه، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وهذا موافق لهذا المعنى، ولما يقول: وََإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فهو موافق له، فهو يهدي بمعنى: يدل عليه الصلاة والسلام، ولا يهدي بمعنى لا يغير ما في القلوب عليه الصلاة والسلام.

    فهو عليه الدلالة يدل الناس، هذا طريق الحق فاتبعوه، لكن هل يملك أن يقهرهم على التغير عما هم فيه إلى شيء آخر؟ لا، الذي يحول القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فليس النبي صلى الله عليه وسلم موكلاً بتغييرهم من حال إلى حال، وهو كقوله سبحانه: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] أي: لا تملك السيطرة على القلوب، إنما يملك ذلك الله سبحانه وتعالى، فالله يغير القلوب، والنبي صلوات الله وسلامه عليه يدل على الخير الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، قال: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر:41] يعني: لم نوصك عليهم، ولست مسيطراً عليهم، مغيراً لما في قلوبهم، فأنت لا تملك ذلك، وإنما يملكه الله سبحانه فهو نعم المولى، ونعم الوكيل، ونعم الحفيظ سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ...)

    يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام وللناس: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، في هذه الآية دليل على قدرة الله سبحانه العظيم، فهو يذكر لنا في هذه الآيات شيئاً وراء شيء، يذكر أنه الذي خلق السماوات والأرض، والسور المكية فيها كثير من ذلك، ففيها بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق، وأنه الرب، فيخاطب العقول، هل الذي يخلق كمن لا يخلق؟ هل يستوي من يخلق ومن لا يخلق؟ هل يستوي العبد مع ربه، حاشا لله سبحانه وتعالى.

    فالله الذي خلق السماوات والأرض، والله هو الذي خلق هذه الأنفس، والله هو الذي يتوفى هذه الأنفس، فهل تملك آلهتكم من ذلك شيئاً؟

    يقول الله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى [الزمر:42] أي: يقبضها وافية سبحانه وتعالى، و الأَنْفُسَ أي: الأرواح، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فالله يقبض نفوس خلقه إذا ناموا، والنوم أخو الموت كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام أهل الجنة؟ فقال: لا، النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون)، فلا ينام أهل الجنة، والنوم يحتاجه الإنسان ليستريح، فإن الدنيا دار عناء وتعب ومشقة، فيحتاج الإنسان للنوم ليستريح من تعبه ومشقته، أما الجنة فهي دار السعادة، ودار الراحة، والإنسان مستريح فيها لا يحتاج إلى أن يجدد نشاطه بنوم، بل عمره كله في الجنة في استمتاع وراحة ونعيم مقيم.

    فيقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا أي: إذا جاء وقت الموت قبض الله نفوس خلقه، والتي لم تمت يتوفاها في منامها، فهذا نوع من الوفاة، والله أعلم به وبحال عباده فيه، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.

    خلق الله عز وجل الأرواح قبل أن يخلق هذه الأجساد وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، وغفل العباد عن ذلك، ولكن أوجد الله عز وجل في قلوبهم الفطر التي تدلهم على أن الله هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فالله هو الذي خلق أرواح عباده، فيقبض هذه الأرواح في وقت وفاتها، ويقبضها أيضاً في وقت نومها، فتخرج الأرواح في وقت نوم الإنسان بطريقة الله أعلم بها، ولكنها ليست كالطريقة التي تخرج حين يموت العبد، وإن كان هذا نوع من الخروج، وتلتقي الأرواح كما يشاء الله سبحانه، ويتعارف بعضها مع بعض، فما تعارف منها ائتلف، فتجد الإنسان يرى غيره أول مرة، وما رآه قبل ذلك، ومع ذلك يستريح إليه ويحبه ويتحدث معه، فيقول: (ما تعارف منها ائتلف)، أي: ما تعارف منها حين قبضها الله سبحانه وتعالى ائتلف، (وما تناكر منها اختلف)، فهنا يخبرنا ربنا سبحانه أنه يقبض الأرواح في حالين، في حال الوفاة، وهو القبض الذي لا رجوع فيه للروح إلى الجسد مرة أخرى في هذه الدنيا، وإنما ترجع إليه حين تقوم الساعة، وقبض آخر لكن الروح ترجع فيه إلى الجسد.

    قال: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] يقبضها الله سبحانه في وقت نومها قبضاً يعلمه الله سبحانه، وليس كقبض الروح الذي تخرج فلا ترجع إلى الإنسان.

    قال الله سبحانه: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، التي قضى عليها الموت يمسكها، فلا ترجع إلى جسدها مرة أخرى، والتي لم يقض عليها الموت ترجع إلى جسدها، وهذه الآية أجملت ذلك وفصله ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كيفية خروج الروح من البدن في الموت، وأن الله عز وجل يرسل ملك الموت فيأتي ملك الموت إلى من قضى الله سبحانه وتعالى عليه الموت، فيقول: (اخرجي أيتها الروح)، إن كانت روحاً طيبة قال: (اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان)، وإذا كانت روحاً خبيثة قال: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كنت في الجسد الخبيث إلى رب غضبان)، فتخرج هذه وتخرج هذه، كما يشاء الله سبحانه وتعالى.

    فهو سبحانه أجمل في قوله: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:42] كيفية خروجها، وأنه جاء إليها ملك الموت فأخرجها، أما الأخرى فلم يخبر النبي أن ملك الموت هو الذي جاءها ولكن الله هو الذي فعل بها ذلك، ثم ترجع إلى الجسد مرة ثانية كما يشاء الله سبحانه وتعالى.

    قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف : فَيُمْسِكُ الَّتِي قُضَي عَلَيْهَا الْمَوْتُ .

    قال: وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: ويرسل النفس التي لم يقض عليها بالوفاة إلى أن تعمر العمر الذي كتبه الله، إلى الأجل المسمى.

    إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42]، فهذا نائم وهذا ميت، هذا كهذا ولكن الميت له حال والآخر له حال آخر.

    وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا)، ومناسبة هذا أنه (كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في سفر ثم قال لـبلال : اكلأ لنا الفجر)، فقد نزلوا آخر الليل. قبل أن يطلع الفجر، فأرادوا أن يناموا من شدة التعب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـبلال رضي الله عنه (اكلأ لنا الفجر) أي: احرس لنا الفجر، (فجلس بلال رضي الله تعالى عنه، ثم نام بلال ونام المسلمون ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس)، لحكمة من الله سبحانه، فلما قام الصحابة فزعوا لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم طمأنهم بأن الذي فعل بهم ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فقال: (يا أيها الناس! إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء ردها إلينا)، فالله أراد أن يناموا في هذا الوقت حتى يبين لنا حكم من وقع في مثل ذلك: (فالنبي صلى الله عليه وسلم قام وتوضأ، وتوضأ معه أصحابه، وصلى سنة الصبح ثم صلى الفجر) فبين لنا بفعله صلى الله عليه وسلم أن من نام عن صلاة الصبح، فعليه أن يفعل كالذي قام في وقتها، يصلي النافلة قبلها، ثم يصلي صلاة الصبح بعد ذلك.

    وفي الحديث: (إن الله قبض أرواحنا)، وهذا نوع من أنواع الموت، وهو النوم، ثم رد الله سبحانه وتعالى الأرواح بعد ذلك.

    وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).

    من السنة أن تنفض الفراش قبل أن تنام عليه، وإذا نمت فمن السنة أن تضع يدك تحت خدك الأيمن، وتقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا دعاء عظيم من الأدعية التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، (إن أمسكت نفسي)، فالذي سينام بين أمرين إما أن يقوم من نومه وإما أن يموت، (إن أمسكت نفسي) أي: قبضت روحي في هذا النوم (فارحمها) أي: فاغفر لها، (وإن أرسلتها) أي: إن بعثت روحي مرة أخرى وتركتني أعيش، (فاحفظني بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا من الأدعية الجميلة المهمة، ومنه أن يحفظه كحفظه لعباده الصالحين، وهو سبحانه حفظ عباده الصالحين فوقاهم شرور الخلق، ويقيهم الابتلاءات إلا ما شاء سبحانه وتعالى، ويحفظ عليهم دينهم فيذكرون الله ويقرءون القرآن ويعملون الصالحات، فيحفظهم على ما يحب لهم من خير من كل وجه من الوجوه، ويحفظ لهم تقواهم.

    نسأل الله عز وجل أن يحفظنا بما يحفظ به عباده الصالحين.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755991033