إسلام ويب

تفسير سورة الفرقان [4 - 10]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظروف شديدة مع المشركين في دعوته لهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقد واجهوه بأشد أنواع الأذى والكيد والاتهامات الباطلة، فلقد قالوا عنه: أنه مجنون وكاهن وساحر وشاعر وغيرها من التهم الباطلة، بل وقالوا عن القرآن العظيم الذي جاء به: إنه إفك وخرافة وأساطير الأولين، وإنه من قول اليهود، وإنه يعلمه إياه بشر، ثم تعنتوا في طلب الآيات من رسول الله على صدق رسالته، فطالبوه بأن يكون ملكاً، أو يأتي معه ملك، أو أن يكون غنياً، أو صاحب جنات وعيون!! وهذه الآيات تتحدث عن ذلك كله، وتبين ما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد هؤلاء المشركين السفهاء، وتبين ما بهم من كفر وعناد عليهم عضب الله العزيز القوي.

    1.   

    اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن، وأنه استعان بغيره على ذلك

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة الفرقان:

    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا [الفرقان:4-10].

    يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تكذيب الكفار للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وتكذيبهم للقرآن العظيم، فقال تعالى حاكياً قولهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ، والإفك: الكذب، فهم يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعلمون أنه الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، وهم الذين كانوا يلقبونه بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقولون عنه ذلك، وقد كان هذا عند النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً عظيماً، حتى طمأنه ربه سبحانه، فقال: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، يعني: لا يقولون عنك: إنك تغيرت فصرت كاذباً في كلامك، ولكنهم يجحدون بهذا الكلام العظيم الذي جاء من عند رب العالمين.

    والجحد للشيء: التكذيب به مع المعرفة بصحته وصوابه، فالإنسان الذي يجحد الحق الذي عليه، وهو يعرف أن عليه حقاً وديناً، وعندما يأتي صاحب الدين يطالبه بحقه فينكر وهو يعلم في نفسه أن عليه ديناً لهذا المطالب، فهذا يسمى جاحداً، والظالمون والكافرون يجحدون ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً، وهم مستيقنون في أنفسهم أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه، وأنه لا يكذب عليه الصلاة والسلام.

    فقالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ [الفرقان:4]، أي: كذب، افْتَرَاهُ أي: اختلقه وألفه، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ، أي: فليس وحده قال ذلك، وإنما هناك أناس ساعدوه على أن يقول هذا الشيء؛ لأنهم وجدوا في القرآن أخباراً لا يعرفونها، ولا يعرفها إلا أهل الكتاب.

    فادعوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع من أهل الكتاب، وأن أهل الكتاب هم الذين علموه هذا الشيء، والمراد بقوله: قَوْمٌ آخَرُونَ كما قال ابن عباس رضي الله عنه : مجموعة من الناس كـأبي فكيهة مولى بني الحضرمي وعباس وجبر ، وأناس كانوا من النصارى، فقالوا: هؤلاء هم الذين يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم، فكذبهم سبحانه وتعالى بالحجج العقلية، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا [الفرقان:4].

    أي: هؤلاء ظلمة كذابون مفترون فيما يقولونه على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن كنتم صادقين في قولكم هذا (فأتوا بكتاب مثله)، أي: هاتوا قرآناً مثله، كما قال تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، وكما قال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، إذا كنتم تقولون ذلك، والأدوات عندكم فأنتم أهل اللغة العربية، فإذا كنتم تزعمون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختلق القرآن وافتراه فاختلقوا أنتم أيضاً وافتروا وأتوا بمثل هذا القرآن، وإذا كان كما تزعمون قد علمه قوم آخرون فاذهبوا إليهم وتعلموا منهم، وأتوا بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فالأدوات التي يزعمون أنه تمكن بها من الإتيان بالقرآن موجودة عندكم، فأنتم تعرفون اللغة العربية كما يعرف، وأهل الكتاب موجودون، فاذهبوا إليهم وأتوا من عندهم بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فما قدروا على ذلك أبداً، ولن يقدروا أن يقبلوا هذا التحدي ويأتوا بشيء، والذي قبل منهم هذا التحدي بدأ يخرف، ويقول كلاماً هو تخريف، فيضحك عليه الكفار قبل المسلمين عندما يسمعون ما يقول، فعندما يحاول أن يوزن سورة على مثل سورة العصر مثلاً، أو على مثل سورة الهمزة يؤلف أشياء فيسمعه الكفار ويقولون: والله إنك لتعلم أنا نعلم أنك كاذب فيما تقول، ويسخرون منه، أما أن يقبل أحد هذا التحدي، فإنه لا يستطيع ذلك، وقد قال الله سبحانه: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا [الفرقان:4]، أي: ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وظلموا أنفسهم؛ بأن جعلوا أنفسهم من أهل النار، والعياذ بالله.

    فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا [الفرقان:4]، أي: ظلماً من القول ومن الفعل، وَزُورًا [الفرقان:4]، أي: بهتاناً وتزويراً، وتزوير القول هو: أن يأتي بكلام ظاهره الحسن وباطنه القبح والزور، والذي جاءوا به هو كلامهم وقولهم: إن هذا القرآن مختلق ومفترى، وقولهم للناس الذين يأتون من قبائلهم ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمعوا منه، فنحن أعلم بهذا الرجل منكم، فهو كذاب وساحر وكاهن ومفتر، فيزورون القول على الناس، ويتهمونه زوراً وباطلاً صلوات الله وسلامه عليه.

    1.   

    اتهام الكفار للقرآن بأنه أساطير الأولين

    قال تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5]، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من يكتبها له، فأخذ من أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، والأسطورة: الخرافة، والكلام الكثير، والحكايات والأحاديث؛ فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه جمع هذه الأشياء، فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5]، أي: تلقى عليه، أي: أن هناك أحداً يأتي له بهذه الأشياء ويكتبها له، ثم يلقيها عليه صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلاً، والبكرة: أول النهار، من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، والأصيل: بعد العصر وقبل الغروب، فقالوا: هذا هو الوقت الذي لا نراه فيه، بعد الفجر وقبل المغرب عندما تكون الناس منشغلة، فيأتي إليه من يعلمه فيقوله، قال: (فهي تملى)، يعني: ألفوا وزوروا الكلام؛ حتى يصدقهم من يسمعهم، قالوا: فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا .

    1.   

    بيان سعة علم الله عز وجل

    قال الله سبحانه مكذباً لهم: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفرقان:6]، أي: الذي أنزل هذا القرآن العظيم هو الله سبحانه، فقد أنزله من السماء، من عنده سبحانه، ففيه: أن القرآن منزل من عند رب العالمين، جاء به الروح الأمين على النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ ليهدي به الخلق، قال تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ [الفرقان:6]، أي: الله سبحانه الذي يعلم كل شيء، ويعلم السر قبل الجهر، فإن الناس لا يعلمون إلا الجهر، ولكن الخالق الكريم يعلم السر والجهر، كما قال تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6]، فهو بهذا يفتح لعباده باب التوبة ليتوبوا فهو يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم كذبهم وإفكهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وقد كان منهم من يكذب النبي صلى الله عليه وسلم أشد التكذيب، فلما أسلم كان من خيار الناس، كـعمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه ليقتله، صلوات الله وسلامه عليه، فألقى الله في قلبه الإيمان فآمن رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان من خير الناس، ومن خير أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال الله سبحانه: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6]، ففيها: أن الله سبحانه علم من هؤلاء التكذيب، وعلم أن منهم من سيؤمن؛ ولذلك لم يحجب عنهم التوبة والمغفرة، وإنما قال: إنه كان غفوراً ، أي: لمن يتوب إلى الله فيغفر ويستر ذنوبه، رحيماً، أي: يرحم ويتوب على من يشاء.

    ثم ذكر كذبهم أيضاً فقال سبحانه: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان:7]، وهذا من ضمن التضليل عند هؤلاء، يعني: أنت رسول من عند رب العالمين، لم لمَ ينزل علينا ملكاً من السماء؟ وهم يعلمون يقيناً أن الأنبياء من قبله -صلوات الله وسلامه عليه- والرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم كانوا من البشر، ولم يكونوا ملائكة ولا جناً، وهم يعرفون ذلك ويعرفون أن سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي بنى الكعبة التي يطوفون حولها لم يكن ملكاً من الملائكة، وإنما كان بشراً وهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، بل ويعرفون أن إسماعيل كان رسولاً، وكان من البشر.

    فمن أين جاءوا بهذا القول، وهو أن الرسول لا بد أن يكون ملكاً من الملائكة؟ ما هذا إلا افتراء على الله عز وجل، وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام.

    قال تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ [الفرقان:7]، أي: يعجبون من ذلك مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان:7]، يعني: أنه لا بد أن يكون الرسول ملكاً من السماء لا يأكل الطعام، حتى يكون رسولاً.

    وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]، وهذا من تواضعه صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يقضي حوائجه بنفسه، فيذهب إلى السوق ويشتري ويبيع، صلى الله عليه وسلم، وكان يفعل حوائجه التي يحتاجها بنفسه عليه الصلاة والسلام، فلما لم يعجبهم هذا الشيء اجتمع كما يقول ابن إسحاق سادات منهم، ومنهم عتبة بن ربيعة وغيره، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! إن كنت تحب الرئاسة وليناك علينا ..) ، في حديث طويل وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يريدون أن ينتهوا من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم بأي شيء.

    فقالوا له: ماذا تريد منا؟ أتريد أن تكون الرئيس علينا؟ وإن كنت تحب المال جمعنا لك ما شئت من أموالنا، وإن كان بك لمم جمعنا لك من أموالنا وعالجناك، ونظرنا في الطب والأطباء فداويناك، فلما أبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أنه رسول من عند رب العالمين سبحانه، فإن آمنوا فهذا خير لهم، وإن لم يؤمنوا فأمرهم إلى الله سبحانه رجعوا إلى باب آخر من أبواب الاحتجاج على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما بالك وأنت رسول من الرسل، تأكل الطعام؟ فما هو الذي جعلك تأكل الطعام وأنت رسول من الرسل؟ ونسوا أو تناسوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يكنى بأبي الضيفان؛ لأنه كان عندما يحب أن يأكل يجمع الضيوف ليأكلوا معه، عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل الطعام ولم يكن ملكاً من الملائكة، فقالوا له: ما بالك وأنت رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، تأكل الطعام، وتقف بالأسواق؟ فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكاً، وعيروه بالمشي بالأسواق وقالوا له: إن الأكاسرة والقياصرة في بيوتهم، ويجيئ إليهم الطعام إلى قصورهم وأنت تقول: إنك رسول الله، وخيرته من خلقه، عليه الصلاة والسلام، وتذهب لتشتري طعامك من السوق، وتتعب نفسك بذلك، والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم صلى الله عليه وسلم، ويذهب إلى الوفود التي تأتي إلى مكة في الحج؛ ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فلما أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول من رب العالمين، وأنه ليس ملكاً، عليه الصلاة والسلام، رفضوا ذلك فأنزل الله سبحانه: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20]، أي ما من نبي من الأنبياء، ولا رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام إلا كانوا من البشر، فأبوكم آدم عليه السلام كان من البشر، عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل الطعام كما تأكلوا منه أنتم، وكان كل الأنبياء والرسل يمشون في الأسواق كما يمشي النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من الآية: لا تغتم بما قالوه يا محمد! فإنهم كذابون.

    1.   

    تعنت المشركين في شروطهم للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

    طلبهم إنزال ملك من السماء

    قال تعالى حاكياً عما اشترطوه لإيمانهم: لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان:7]، فأجابهم سبحانه في سورة الأنعام عن ذلك بقوله: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8]، أي: ولو جعلناه ملكاً لجعلناه بشراً؛ لأنكم لا تطيقون أن تنظروا إلى أي ملك من الملائكة، وقد كنتم قبل ذلك لا تستغيثون بالجن، فقد كان يقول أحدكم: أعوذ برب هذا الوادي -أي: من الجن- لأنهم يخافون منهم، وكانت الجان والشياطين يضحكون عليهم، ويرهقونهم في طريقهم، فيسمعونهم أصواتاً، فيخافون من ذلك.

    فكانت الجن تتلاعب بهم؛ لأنهم مشركون بالله رب العالمين، فإذا كان الجان وهم ضعفاء تخافون منهم فإنكم ستخافون من الملك من الملائكة إذا نزل عليكم، وستصدقون جبراً وكرهاً، والله لا يريد ذلك منكم، وإنما يريد أن تؤمنوا اختياراً وطوعاً، وتستشعرون أنكم تختارون هذا الدين على غيره، حتى يحاسبكم الله سبحانه تبارك وتعالى على ذلك يدخلكم الجنة، فلو جعلناه ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو أنزلنا ملكاً لجعلناه في صورة البشر، فيكون الأمر تحصيل حاصل؛ لأننا سنجعل الملك على صورة البشر، حتى لا تفزعون منه، وإذا كنا سنجعله بشراً فلا داعي لذلك؛ لأن عندكم البشر منكم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوكم إلى رب العالمين، إذاً: فاختياركم أن يكون الرسول ملكاً ينزل من السماء ليس شيئاً وجيهاً ولا سديداً، بل هو كلام من الزور والكذب والتضليل.

    اشتراطهم نزول كنز من السماء على رسول الله

    قال الله سبحانه حاكياً قولهم: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان:8]، وقد كانوا لا يعجبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الطعام، ولا يعجبهم أنه يمشي في الأسواق، وقد سماه الله سبحانه وتعالى: عبداً شكوراً، صلوات الله وسلامه عليه، وكان من صفاته عند أهل الكتاب التي يعرفونه بها كما جاء في صحيح البخاري : أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق عليه الصلاة والسلام.

    يعني: يمشي في الأسواق ولا يرفع صوته بالصخب فيها صلوات الله وسلامه عليه.

    قال المشركون: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ [الفرقان:8]، أي: يريدون أن ينزل عليه من السماء كنز ينظرون إليه نازلاً من السماء؛ حتى يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم.

    اشتراطهم أن يكون لرسول الله جنة يأكل منها

    ثم قال تعالى: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان:8]، يعني: هلا كان لك بستان من البساتين، فلا تشتري حاجتك، وإنما تأخذها من هذا البستان؟ فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له كنزاً من الكنوز، أو يكون له بستان وجنة يأكل منها.

    1.   

    اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالسحر

    ثم قال تعالى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:8]، ومسحور: على وزن مفعول، وهي هنا بمعنى الفاعل، أي: ساحر فكأنهم يقصدون أنه ساحر عليه الصلاة والسلام، فقوله: إن تتبعون ، يعني: ما تتبعون إلا رجلاً مسحوراً، أي: ساحراً متقناً للسحر، أو مسحوراً من السَّحْر، والسحر بمعنى الرئة والصدر، وكأنهم يقولون: إنكم تتبعون رجلاً له سَحْر مثله مثلنا، أي: له رئة وله صدر، يعني: أنه شخص من البشر ليس خارجاً عنهم، قال: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا .

    1.   

    تخبط الكفار في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

    ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم متعجباً: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ [الإسراء:48]، يعني: انظر لكذبهم وإفكهم وزورهم، فهم يضربون أمثالاً وهم يعرفون أنهم على الباطل فيما يقولون، قال: فَضَلُّوا [الإسراء:48]، أي: تاهوا عن طريق الحق، ولم يصلوا إلى شيء فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء:48]، أي: لا يستطيعون سبيلاً للوصول إلى الطريق القويم أو إلى حق يهتدى به، أو إلى كلام يعقل، وإنما هم يعلمون بأنهم كذابون، ولا يفهمون ما يقولون فكيف يقنعون غيرهم؟! ولذلك كان الكفار يجلسون معاً فيقول بعضهم: ماذا نقول عن هذا الرجل؟ فيقول أحدهم: قولوا: ساحر فيرد عليه آخر: نحن عاشرنا السحرة وعرفناهم، والكلام الذي يقوله ليس بسحر، فيقول الثاني: قولوا إنه كاهن فيرد عليه بعضهم: لقد عرفنا الكهان وأقاويلهم وسجعهم، وليس من سجعهم في شيء.

    فيقول الثالث: نقول عنه: شاعر فيردون عليه: لقد عرفنا الشعر، وما يقوله أهل الشعر، وأهل الرجز وأهل كذا، وليس هذا بالشعر، فكان الكفار أنفسهم يقول بعضهم شيئاً، ويرد عليهم الآخرون بأن هذا ليس صحيحاً فيه، ثم يقولون في النهاية: نقول: ساحر، فإذا سئلنا: لماذا ساحر؟ قلنا: لأنه يفرق بين الأب وابنه، والمرأة وزوجها، يعني: أنه فرق الناس بهذا الدين فجعل هذا مسلماً وهذا كافراً، فنقنع الناس بهذا، إذاً: هو ساحر؛ لأنه يفرق بين الناس، فلما قالوا ذلك قال الله عز وجل عنهم: انظُرْ [الإسراء:48]، أي: اعجب لهؤلاء الجهلة فيما يقولون، كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ [الإسراء:48]، أي: الأمثال الباطلة فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء:48]، أي: لا يعرفون طريقاً إلى الحق، بل تاهوا عن طريق الرشد والصواب وطريق الله سبحانه فلا يستطيعون سبيلاً.

    ثم قال: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ [الفرقان:10]، أي: تبارك وتقدس سبحانه وتعالى، و(تبارك)، أي: كثر خيره وبركته، وثبت وزاد تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ [الفرقان:10]، وقال: (إن شاء)، ولم يقل: لو شاء؛ لأن (إن) حرف تحقيق، فالمعنى: إذا أراد فعل ذلك، وهو قادر وإذا أحببت فعلنا بك ذلك، ولم يقل: لو شاء؛ لأن لو حرف امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط، فيكون المعنى: أنه لن يحصل، فلذلك قال: إن شاء ربك فعل ذلك، وقد خير الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه في ذلك، فقد جاء في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: (ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً)، وقد كان مما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا له: إن بلادنا ضيقة، فلو دعوت ربك أن يبعد عنا هذه الجبال قليلاً، وأيضاً طلبوا منه أن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً حتى يؤمنوا به، فلما قالوا ذلك قال: (وتفعلون؟ فقالوا: نعم، فدعا صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل، فقال: إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت صيرت لهم الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين).

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وكانت آية النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، ولو جاء لهم بالآيات الحسية التي طلبوها كما طلب قوم صالح الناقة، فلو كفروا بعد ذلك لجاءهم العذاب، واستأصلهم أجمعين، فلما خُير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت جعلنا لهم الصفا ذهباً، وإن شئت فتحنا لهم باب التوبة والرحمة)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل باب التوبة والرحمة).

    وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: (لا، بل أستأني بهم) أي: لا أريد الصفا ذهباً، ولكن أصبر عليهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، أي: أن الآيات تخويف وليست تبشيراً، وهذه هي الآيات الحسية.

    وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة لما لم يستجيبوا له وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة ولم يستجيبوا نزل عليه ملك الجبال، وقال: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) وهما جبلا مكة عن شمالها ويمينها، فيهلك الجميع، فجاءه وقال له ذلك، وهو في هذا الوقت العصيب صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان كله حزن على كفر هؤلاء ومع ذلك قال: (لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) قال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، صلوات الله وسلامه عليه.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718655

    عدد مرات الحفظ

    754726156