إسلام ويب

تفسير سورة سبأ [23 - 27]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد استخدم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أساليب عدة في دعوته، ومن هذه الأساليب: استثاره عقول المشركين واستنهاض أفكارهم؛ وذلك بسؤالهم أسئلة يقرون في إجابتها بألوهية الله تبارك وتعالى، وهذا الأسلوب ذكره الله في سورة سبأ، فينبغي للدعاة مراعاة هذا الأسلوب الحكيم في دعوتهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة سبأ: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:23-26].

    يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ذلك، والله عز وجل ذكر في مواضع في كتابه أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا بإذنه كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23]، وقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].

    فالله سبحانه تبارك وتعالى لا يأذن لأحد أن يشفع إلا إذا أراد الله في وقت بعينه سبحانه تبارك وتعالى؛ ولذلك ذكر في حديث الشفاعة: (أن النبي صلوات الله وسلامه عليه يخر تحت العرش ساجداً فيدعو لله عز وجل ويثني عليه ثم يأذن له بعد ذلك سبحانه تبارك وتعالى بالشفاعة العظمى).

    قال تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23] أي: إلا لمن أُذن له أن يشفع فيه.

    قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ [سبأ:23] فالخبر ينزل من السماء فتأتي به الملائكة يحملون خبر الرحمن سبحانه تبارك وتعالى، وينزل به جبريل ومن يسمع من الله سبحانه والله سبحانه تبارك وتعالى، ويبعث إلى من يشاء من خلقه بأمره سبحانه، فإذا بأمر الله ينزل، والملائكة تسمع أمر الله وتخر لله سبحانه تبارك وتعالى من هيبته ومن خشيته ويصعقون إذا سمعوا نداء الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فزعين يظنون أن القيامة على وشك أن تقوم، فإذا به يفزع عن قلوبهم أي: يذهب الفزع عن القلوب، قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] أي: أزال الفزع عن قلوبهم سبحانه، وقالت الملائكة تسأل جبريل: ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق، أي: قضى بالحق سبحانه تبارك وتعالى، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، العلي الكبير المتعال سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي وعلوه علو ذات وعلو شأن وعلو في مقداره، وعلوه فوق سماواته على عرشه استوى كما قال سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وكما قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]، وكما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة التي لطمها سيدها وأراد أن يعتقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم ليتبين له إيمانها، فقال لها: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله)، قال: (أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اعتقها فإنها مؤمنة).

    ولو أخطأت في قولها وإشارة يدها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقرها على خطأ، فالقرآن والسنة يدلان على أن الله سبحانه فوق السماوات مستو على عرشه بائن من خلقه سبحانه تبارك وتعالى.

    وكذلك في رفع الأيدي إلى السماء أثناء الدعاء دليل على علو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه أحاديث كثيرة أنه رفع يديه إلى السماء ودعا ربه صلوات الله وسلامه عليه، فالغرض أن الله هو العلي، فهو علي بذاته سبحانه فوق سماواته، وعلي بقهره فوق خلقه، قهر جميع خلقه سبحانه فلا أحد يعترض على الله سبحانه على أمره الكوني القدري، أما إذا جاء قضاؤه وقدره فلا يقدرون أن يفروا من قضاء الله وقدره سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي الغالب سبحانه، غلبهم بقضائه وقدره، وغلبهم بحكمه وحكمته سبحانه تبارك وتعالى، وهو العلي في شأنه، قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].

    وهو الكبير، أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أرانا في خلقه الأشياء الكبيرة فأرانا الجبال وقال لنا سبحانه تبارك وتعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27-33].

    أأنتم أشد خلقاً أم هذه الأشياء؟ فالإنسان ينظر إلى الأرض من حوله، وإلى السماوات ولكنها لا تساوي شيئاً مقارنة بهذا الكون الكبير، والله سبحانه فوق ذلك، فهو العلي الكبير سبحانه تبارك وتعالى.

    فإذا عرف الإنسان أن هذا الكون كبير فإن الذي خلقه سبحانه تبارك وتعالى أكبر منه وأكبر من كل شيء، فهو العلي سبحانه وتعالى أن يدرك، فهو أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض...)

    يقول الله سبحانه تبارك وتعالى مؤنباً المشركين: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض ِوَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] أي: من الذي يرزقكم؟ هل يرزقكم أحد إلا الله؟! فالله عز وجل يقول: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، ويقول سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9] سبحانه تبارك وتعالى.

    فالله هو الخلاق العظيم، وقد أقر المشركين بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم فيستجيرون ويستغيثون به سبحانه أن يعطيهم، وانظر إلى فرعون كيف أن الله سبحانه تبارك وتعالى أرسل إليه موسى يدعوه إلى الله سبحانه فأبى وقال لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] وقال لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال لقومه: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51].

    فكان جزاؤه ما قال الله عز وجل: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، فذهبوا إلى موسى يهرعون إليه يقولون: يا موسى! يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ [الزخرف:49] أي: ادع لنا ربك مثلما أتى لنا هذا البلاء يكشف عنا هذا البلاء.

    فعلموا أن الله سبحانه هو الذي يحكم ولا معقب لحكمه، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]، قال هذا فرعون وقومه لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد أرسل الله عليهم الطوفان لما وجدوا الماء يغرق كل شيء فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك ونحن سنؤمن معك.

    فانتهى الطوفان بدعاء موسى وبدأت الأرض تزرع فرجعوا إلى كفرهم ولم يصدقوا فيما وعدوا موسى وكفروا به، فأرسل عليهم الجراد فأكلت زروعهم جميعها، فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك حتى يكشف عنا ما نحن فيه، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134].

    فذهب عنهم الجراد بدعاء موسى فزرعوا وجمعوا حصادهم وجعلوه في خزائنهم ثم لم يؤمنوا بموسى فأرسل الله عليهم أنواعاً مختلفة من العذاب ولكنهم لم يؤمنوا بما يدعو إليه موسى.

    فحل العذاب على فرعون فأغرقه سبحانه تبارك وتعالى بذنبه وظلمه وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

    فالله سبحانه يقول لهؤلاء الكفار: من يرزقكم؟ فإذا بهم يقولون: الله، فهم لا يقدرون أن ينكروا ذلك وقد أراهم الله عز وجل آية من الآيات فقد دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم! أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، وكان هذا لما آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أشد الأذى، فإذا به يستغيث بربه، وإذا بالله عز وجل يمنع عنهم المطر، وإذا بهم لا يجدون نباتاً ولا طعاماً ولا ماءً يشربونه إلا الشيء القليل، فإذا بهم يجأرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكلوا الجلود وأكلوا الميتة، ثم ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم.

    فعرفوا أن الله هو الذي يرزق سبحانه، فذكر هؤلاء الذين ينكرون ألوهية الله سبحانه تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الذي يستحق العبادة، والذين يقولون بالشرك كاذبين: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، قل لهؤلاء: من يرزقكم من السماوات والأرض؟ والجواب: هو الله سبحانه الذي يرزق في السماوات والأرض، وينزل الرزق بقضائه وقدره من السماء فيرسل السحاب وينزل المطر وينزل ما يشاء من رحمته من السماء، وينبت لهم من الأرض ما يشاء سبحانه من بساتين وجنات ويخرج لهم الحبوب والثمار.

    قال سبحانه: قُلِ اللَّهُ [سبأ:24] إن لم يجيبوا وإذا تعنتوا فقل لهم: إن الله هو الذي يفعل ذلك.

    فالرب الصانع هو الذي يفعل ذلك سبحانه، وهم لم ينكروا ذلك، ولكن أنكروا أن يعبد وحده سبحانه تبارك وتعالى، وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] ولكن الله قال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [سبأ:24] فإذا قالوا: الله هو الذي يرزقنا، فأليس الإله الذي يرزق هو وحده الذي يستحق العبادة؟! وهل أصنامكم هذه ترزقكم أو تعطيكم؟! وكانوا مستيقنين أن أصنامهم لا تعطيهم شيئاً ولا تدفع عنهم ولا عن أنفسها شيئاً، لا تملك نفعاً ولا ضراً، ولكنهم كانوا مصرين على طغيانهم.

    سورة سبأ مكية كما ذكرنا قبل ذلك، وتخاطب عقول المشركين وتدعوهم بلطف وبرحمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيخاطب عقولهم وكأنه يقول لهم: فكروا من الذي يرزقكم؟ فإذا كان الله هو الذي يرزقكم ألا تعبدونه وحده سبحانه تبارك وتعالى؟! وهلا عبدتموه وتركتم ما تشركون من دونه سبحانه تبارك وتعالى؟! فأجاب عنهم وقال: قُلِ اللَّهُ [سبأ:24].

    ثم خاطبهم وقال لهم هذه المقالة اللطيفة: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، وفي هذا تلطف في المخاطبة وفي الدعوة إلى الله سبحانه، أي: أحدنا على هدى وأحدنا على ضلال، ويقيناً نحن على هدى وأنتم على ضلال، ولكن لم يقل لهم ذلك على وجه التنزل في المناظرة مع الخصم.

    والإنسان إذا ناظر خصمه وأراد أن يكسبه يقول له: هب أن كلامك كان صواباً، أليس يكون كذا وكذا، وهو يعلم أن كلامه خطأ مائة في المائة.

    فيقول سبحانه أمراً نبيه أن يقول لهؤلاء: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، على هدى إن عرفنا من الذي خلق السماوات والأرض فعرفنا حقه وقدرنا قدره فعبدناه سبحانه، أو في ضلال مبين إن عرفنا أنه الخالق الرزاق الكريم سبحانه فعبدنا غيره سبحانه تبارك وتعالى.

    وإذا كان الإنسان لا يقبل من عبده أن يذهب إلى غيره فكيف يقبل لربه سبحانه أن يذهب هذا الإنسان العبد عن ربه إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك ضرب يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه لهم المثل في الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وقد ذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يحيى بن زكريا أمره الله عز وجل بخمس كلمات أن يأمر بهن بني إسرائيل ويأمرهم أن يعملوا بهن، فكأنه تأخر يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام، فقال له عيسى ابن خالته: إن الله أمرك بخمس تأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تقوم وإما أن أقوم أنا.

    فقال: لا بل أقوم أنا، فقام يحيى بن زكريا وقال لهم هذه الأشياء الخمس التي أمره عز وجل أن يقولها، أولها وهو الشاهد- قال لهم في توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى: إن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ومثل من يشرك بالله كمثل رجل ابتنى داراً واشترى عبداً وقال لعبده: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأد إلي، أي: اجمع الأجر وضعه في داري، فكان العبد يأخذ المال ويعطيه لغير سيده! فأيكم يحب أن يكون عبده كذلك؟! فلا أحد يقبل ذلك، فكيف يقبلون أن يوجهوا العبادة لغير الله الذي خلقهم ورزقهم وسخر لهم الأرض ليعملوا وقال: اعبدوني وكلوا واشربوا ولا تشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، بل اشكروا لله سبحانه تبارك وتعالى.

    فقال لهم هنا: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] أي: بين واضح وأصلها مبين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا...)

    يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ:25] أي: قل لهؤلاء لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ولا حجة بيننا وبينكم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وأنتم ستسألون عما تفعلون ونحن نسأل عما نعمل.

    قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا [سبأ:25] أجرم الإنسان: وأصله من الجرم، والجرم هو الجريمة أو الذنب، وقد يأتي الجرم بمعنى: الكسب، ومنه قول الله عز وجل: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

    (لا يجرمنكم) أي: لا يدفعنكم هذا لعمل الخطأ، فلا يدفعنكم لكسب شيء تخطئون فيه، فأجرم في كذا واجترم بمعنى: كسب، وكثيراً ما تكون في الشر بمعنى اكتساب الذنب، وهنا تفنن القرآن في ذكر المعنيين، قال تعالى: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا [سبأ:25] أي: عما كسبنا في زعمكم من شر، وعما فعلناه من شرور فلا تسألون عن ذنوبنا.

    قال تعالى: وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ:25] ويظهر فيها التلطف فلم يقل: عما تجرمون وإنما قال: وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ:25]، ولو أنه قال لهم: عما أجرمتم فسيعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهم ذلك تلطفاً لعلهم يدخلون في دين الله.

    وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، وهو يتلطف لهم في القول صلوات الله وسلامه عليه، ويزدادون تعنتاً، وقام بواجبه على أكمل وجه، ولم يؤمن معه من هؤلاء من أهل مكة إلا العدد القليل من أهل مكة، فلما هاجر إلى المدينة فتح الله عز وجل له القلوب والعقول ودخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فتعلموا العلوم العظيمة من دين رب العالمين، فصار للإسلام قوة بعد ذلك، فلم ينفع مع المشركين إلا القوة بعد ذلك، والجهاد في سبيل الله سبحانه.

    فقد عاملهم بالرأفة والرحمة واللطف والدعوة إلى الله سبحانه، ولكنهم تعنتوا معه صلى الله عليه وسلم ولم يدخلوا في دينه، بل منعوا الناس عن الدخول مع النبي صلوات الله وسلامه وتهددوه وخوفوه، فأخبر ربنا سبحانه تبارك وتعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكفار أنكم مسئولون عن أفعالكم ونحن مسئولون عن أعمالنا أيضاً، ما اكتسبناه فهو لنا وما اكتسبتموه فهو عليكم، لا نسأل عن أعمالكم ولا تسألون عن أعمالنا.

    1.   

    قال تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق...)

    قال الله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26] أي: يوم القيامة، فلابد وأن نجتمع في يوم من الأيام، ونختصم معكم بين يدي الفتاح بمعنى: القاضي الحاكم سبحانه تبارك وتعالى.

    ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ [سبأ:26] أي: يفصل بيننا في الخصومة.

    والله عز وجل يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، ثم يفتح أي: يفصل في الخصومة ويقضي ويحكم سبحانه تبارك وتعالى بالحق سبحانه، وهو الفتاح الذي يقضي الحكم العدل سبحانه، فهو الفتاح الذي يقضي بين عباده سبحانه ويحكم بينهم يوم القيامة بعلم.

    وكم من قاض في الدنيا من الناس يقضي على شيء من العلم والبينات، وكم من قاض يقضي على جهل في الدنيا، فالله سبحانه تبارك وتعالى عندما يذكر أنه سيقضي فهو العلام العليم، عالم الغيب والشهادة.

    قال: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26] أي: في قضائه سبحانه وفي الفصل بين الخصومات.

    والله عز وجل يوم القيامة منهم من يخفف حسابه ومنهم من يشدد عليه في الحساب، ومنهم من يكون الموقف بالنسبة إليه كوقت ما بين الفجر إلى الظهر ومنهم من يكون وقتاً طويلاً يستشعر الخمسين ألف سنة بين يدي الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يخفف عنا وأن يدخلنا الجنة بغير حساب.

    قال سبحانه: وَهُوَ الْفَتَّاحُ [سبأ:26] الذي يفتح بين خلقه بعلمه سبحانه تبارك وتعالى وهذا بمعنى أنه هو القاضي الذي يقضي بين الخلق سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان الفتاح بمعنى الذي يفتح لعباده أبواب الرزق أيضاً فهو يفتح أبواب الرزق لعباده، ولكن المقصود هنا الذي يختم به الآية: يَفْتَحُ بَيْنَنَا [سبأ:26] بمعنى: يفصل بيننا.

    وهذا معنى من معاني الفتاح وهو: القاضي الذي يحكم بيننا يوم القيامة ويقضي بيننا بالحق سبحانه بعلم سبحانه ولا يحتاج إلى أحد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء...)

    قال تعالى: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سبأ:27] وهنا المخاطبة لعقول المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله: أروني هؤلاء: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ [سبأ:27].

    قال: أَرُونِيَ [سبأ:27] أي: أرني أيها المشرك! الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ [سبأ:27] أي: الأصنام كيف هم شركاء لله سبحانه تبارك وتعالى؟! وكيف ينازعون الله سبحانه تبارك وتعالى في ملكه وفي خلقه وفي عباده وفي عمله سبحانه؟! هذا مستحيل ولا يكون أبداً! وكأنهم لو قالوا: تعالوا نريك، يقول: لا تقدروا على هذا وإنكم تزعمون وتكذبون، فهذا على معنى الرؤية القلبية.

    قال تعالى: بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سبأ:27] الله وحده الذي يستحق العبادة العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب والذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، الْحَكِيمُ [سبأ:27] الذي له الحكمة البالغة.

    وذكرنا قبل ذلك أن (الحكيم) له معان، وكلها ترجع إلى حكمة الله وإلى حكم الله سبحانه وإلى إتقان الله سبحانه تبارك وتعالى في خلقه، فهو الحكيم الذي له الحكمة البالغة، فلا خلل في كونه سبحانه، خلق المؤمن وخلق الكافر ولا خلل في ذلك، بل أراد سائر ذلك سبحانه، وهذه حكمة منه سبحانه تبارك وتعالى.

    وخلق السماوات وخلق الأرض، وخلق الليل وخلق النهار؛ وكل شيء خلقه بحكمة، فلا خلل في شيء من خلقه سبحانه تبارك وتعالى، فهو الحكيم الذي لا يدخل في صنعه وفي خلقه سبحانه خلل.

    وهو الحكيم بمعنى: المتقن الذي أتقن كل شيء خلقه سبحانه تبارك وتعالى.

    وهو الحكيم بمعنى: الحاكم بصيغة المبالغة، الحاكم الذي يقضي بين عباده سبحانه، والذي ينزل الكتب تشريعاً لخلقه ليعملوا بحكمه سبحانه تبارك وتعالى، فهو الحكيم بمعنى: المحكم، وبمعنى الحاكم، وبمعنى: المتقن، وبمعنى: ذو الحكمة سبحانه الذي لا يدخل في خلقه ولا في صنعه سبحانه خلل ولا زيغ.

    ففتح الله عز وجل له ما شاء وسيفتح له ما شاء يوماً من الأيام فإن وعد الله حق.

    نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت العالمين.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755954105