إسلام ويب

تفسير سورة الصافات [83 - 101]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يصطفي الله من البشر رسلاً، ويؤيدهم سبحانه بمعجزات وآيات يتجلى فيها حفظ الله لأنبيائه ونصرته لهم، ولكن من أعمى الله بصيرته عن الحق فلا يعقل معجزة ولا آية، ولنا في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه عظة وعبرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم ... إذ جاء ربه بقلب سليم)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الصافات: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:83-98].

    يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات في سورة الصافات قصة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه من شيعة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أي: ممن تبعه من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، وممن تبعه على التوحيد وعلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:83-84]، أي: اذكر ذلك حين جاء إبراهيم ربه بقلب سليم، إذ أخلص قلبه لله سبحانه، ووجه وجهه لله، وعمل الأعمال العظيمة يتقرب بها إلى الله سبحانه، لا شرك فيها، ولا شبهة فيها، ولا رياء فيها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون)

    قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ [الصافات:85] أي: كانوا يصنعون الأصنام، وكان أبوه ينحت الأصنام لقومه، فقال لقومه: مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا [الصافات:85-86] أي: كذباً، وبهتاناً، وزوراً وآلهة تزعمونها دون الله، تريدون أن تتخذوها وأن تعبدوها.

    قال تعالى: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:87] أي: أين ذهبت عقولكم؟ فظننتم بالله ظن السوء، وظننتم أن هذه تنفع وتضر مع الله سبحانه، وظننتم أن هذه يوجه إليها عباده، وأنتم الذين صنعتموها، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، أنه صانع بكم؟ وقد كفرتم به وأشركتم، هل يترككم على ذلكم؟

    قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89] أي: نظر كهيئة المتطلع والناظر في النجوم أي: متفكر حتى يظن هؤلاء أنه سيقول شيئاً بناء على نظره في النجوم، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وكأن المقصد أنه مريض، فيفهمون منه أنه سيمرض بسبب نظره في النجوم، فكأنه اطلع على غيب واطلع على شيء، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وأوهمهم أنه سيصاب بمرض أو أنه سيكون فيه مرض معدٍ.

    ولذلك تركوه بعد ما كانوا يريدون أن يأخذوه معهم إلى عيدهم في الصباح لعله يغير رأيه في آلهتهم ويكون مثلهم، فقالوا: إنا ذاهبون إلى العيد واخرج معنا يا إبراهيم، قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وكانت فرصة لإبراهيم أن يخرج جميعهم ويكون هو وحده مع الأصنام فيكسر هذه الأصنام لعلهم يرجعون عن عبادتها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى : (فتولوا عنه مدبرين ...)

    قال تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90]، أي: ذهبوا مهرولين تاركين له؛ لئلا يكون فيه مرض معدٍ يعديهم، وتركوه في هذا المكان وحده عليه الصلاة والسلام، فكسر أصنامهم.

    قال تعالى: فَرَاغَ [الصافات:91] راغ يروغ روغاً وروغاناً بمعنى: يميل ويتحرك بخفة، فتحرك إبراهيم سريعاً إلى هذه الأصنام، وراغ ومال عليها.

    قال تعالى: فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91]، يتهكم ويسخر من هذه الأصنام، وكانوا قد وضعوا طعاماً عند هذه الأصنام؛ لتحصل البركة لهذا الطعام حتى يرجعوا ويأكلوا منه.

    فقال ساخراً من قومه ومن أصنامهم: أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91] أي: الطعام موضوع، فهل تأكلون من هذا الطعام؟ فقال: مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ [الصافات:92]، وقد علم واستيقن أنهم لا ينطقون، ولكن على وجه الاستهزاء من هذه الآلهة الباطلة التي لا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها.

    قال تعالى: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات:93] أي: سريعاً جرى إليهم بفأس بيده عليه الصلاة والسلام، وكسر هذه الأصنام جميعها، إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58].

    فكان يقصد السخرية من هذه الأصنام وبعقول قومه حين يسألونه: من صنع هذا بآلهتنا؟ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، فإن كان هؤلاء يأكلون ويشربون ويعقلون، فإن هذا الكبير هو الذي فعل ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأقبلوا إليه يزفون)

    قال تعالى: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ [الصافات:94]، ذكر الله سبحانه أنه كسر هذه الأصنام بيمينه وبقوته وقدرته التي أعطاه الله سبحانه إياها، قال تعالى: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات:93]، فأقبل القوم، إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، وفي سورة الأنبياء ذكر الله عز وجل: إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58]، ولما رجعوا ونظروا إلى ذلك: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، وكأن إبراهيم قد تكلم قبل ذلك حين أقسم بالله سبحانه فأسمع بعضاً من القوم فقال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57].

    فسمع البعض ذلك، وكأنهم في ذلك الوقت لم ينتبهوا ما الذي يقصده إبراهيم بذلك، فلما رجعوا وجدوا الأصنام قد كسرت، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، قال هؤلاء الذين سمعوه: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء:60-61] أي: أمام الناس حتى يشهدوا عليه بما صنع. وقوله تعالى: إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى (إِلَيْهِ يُزِفُّونَ) قراءة حمزة ، يزفه أي: يجري متعجلاً إلى المكان في شيء من الإسراع والتوجه إلى هذا المكان، فقالوا: يَزِفُّونَ ، أي: يمشون مشياً سريعاً، ويتحركون حركة بخفة في الجري فيها تقارب الخطا، فهم يندفعون ويسرعون ويدفع بعضهم بعضاً حتى يقبلوا على إبراهيم وينظروا ما الذي صنع!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال أتعبدون ما تنحتون ... والله خلقكم وما تعملون)

    فقال يجادلهم: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات:95] أي: أتعبدون هذه الأصنام التي نجرتموها وصنعتموها من الخشب، ومن الحديد، ومن الحجارة؟!

    فقوله تعالى: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، أي: ألا تعجبون من أنفسكم قد صنعتم الأصنام ثم عبدتموها من دون الله!

    قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] أي: هل نسيتم الله سبحانه الذي خلقكم وما تعملون؟ فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، خلق العباد، وخلق أفعال العباد سبحانه وتعالى، (وما) هنا فيها معنيان: إما أن تكون موصولة، وإما أن تكون مصدرية، وكلاهما صحيح (ما) موصولة بمعنى: والله خلقكم والذي تعملون.

    إذاً: أنتم صنعتم هذه الأصنام من حجارة ومن نحاس وحديد ومن خشب، والله هو الذي خلق الحجارة والنحاس والحديد والخشب، فكيف تتركون الله الذي خلقكم، وخلق هذه الأشياء وتعبدون هذه المخلوقات؟! أين ذهبت عقولكم؟! وإذا كانت (ما) على المعنى الثاني، أي: مصدرية يعني: خلقكم وأعمالكم.

    إذاً: الله خالق العباد وأفعالهم، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وكل شيء خلقه الله، والعبد يكتسب فعله ولا يخلقه، ولكن الخالق الله، والعبد اكتسب هذه الأفعال، ويجازى العباد على ما اكتسبوا من خير أو شر، فهم اختاروا، واكتسبوا، وفعلوا، والله يجازيهم على كسبهم وعلى اختيارهم.

    ولما وجد إبراهيم أنهم يريدون أن يعقلوا ذكر الله سبحانه أن إبراهيم: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] أي: اسألوا هذا الكبير، فهو الذي كسرها، وهذه واحدة من الكذبات الثلاث التي كذبها إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكانت في ذات الله، وكان حقيقتها التعريض في الكلام.

    وقوله تعالى: إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] فيه تعليق الشيء على المستحيل مثل قولك: إن كنت أطير أصعد إلى السماء، وأنت تعلم أنك لا تطير فمستحيل أن تصعد إلى السماء.

    فكذلك هؤلاء يقول لهم إبراهيم: إن كان هؤلاء ينطقون فهذا الكبير هو الذي صنع بهم ذلك، وهم يعلمون يقيناً أنهم لا ينطقون، إذاً: لم يصنع الكبير شيئاً.

    قال تعالى: فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:64-65]، إذاً: أين عقول هؤلاء القوم وهم يجادلون؟ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ ، لم يرجعوا إلى عقولهم، بل رجع يلوم بعضهم بعضاً، ويقولون: نحن مخطئون، لماذا لم نجعل أحداً منا يحرس الأصنام؟!

    وإذا كانت تحتاج لمن يحرسها لا تصلح أن تكون آلهة، فقالوا ذلك، إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:64]، حيث لم تحرسوا أصنامكم، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ [الأنبياء:65]، دون أن يفكروا في هذا الذي يقولونه، فهذه أصنام تحتاج لمن يحرسها فلا تصلح أن تكون آلهة، ورجعوا على أعقابهم، وانقلبوا على رءوسهم بغباء وقالوا لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: سنكيد لك مثل ما كدت لأصنامنا، قال تعالى: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97]، ورجعوا إلى أنفسهم وقالوا لإبراهيم: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65]، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ابنوا له بنياناً فألقوه ... فجعلناهم الأسفلين)

    إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يناقش هؤلاء فلا يستطيعون أن يردوا عليه بالحجة، فيهزمهم في الرأي فيريدون أن يغلبوه بشيء ثانٍ غير الرأي، طالما ليس هناك فائدة في الرأي، فيقولون: ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97] يعني: يبنون له قرناً كبيراً جداً من ورائه سور عظيم ويضعون فيه الحطب والخشب حتى يوقدوا ناراً عظيمة فيحرقوا بها إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    وقوله تعالى: فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97] في ظنهم أنها جحيم، والجحيم: النار المستعرة، المتوقدة، فقالوا: ألقوه في الجحيم.

    فكانوا جميعهم يجمعون الحطب والحجارة ويلقونها في هذا المكان الذي سيرمون فيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا [الصافات:98] أي: كادوا لإبراهيم، واحتالوا له الحيل بحيث إنه يكون في بناء محكم، ويرمونه من بعيد بالمنجنيق داخل هذه النار.

    وهزمهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم الأخسرين، وجعلهم الأسفلين، ولم ينصرهم لا في حجة ولا بغلبة من قوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى، إذ قال الله سبحانه: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

    روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في قول الله سبحانه: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

    وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل)، أي: يكفيني الله.

    وكان كل من يعرض على إبراهيم المساعدة يقول: الله الذي يكفيني لا أحتاج إلى أحد إلا إلى الله، وكان آخر ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يلقى في النار: حسبي الله ونعم الوكيل.

    جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بنوا حائطاً طوله في السماء: ثلاثون ذراعاً) يعني: حوالى خمسة عشر متراً، لكي يملئوه بالحطب، ويرموا فيه إبراهيم من بعيد على نبينا وعليه الصلاة والسلام، (فلما ألقوه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل).

    وروى ابن ماجة ، وأحمد من حديث نافع عن سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة (أنها دخلت على عائشة فرأت في بيتها رمحاً موضوعاً، فتعجبت فقالت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ)، والوزغ: عبارة عن نوع من الأبراص وهو سام فالسيدة عائشة مجهزة الرمح في بيتها رضي الله عنها لتقتل به الأوزاغ، وعللت فقالت: (فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لما ألقي في النار لم تكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار غير الوزغ).

    فالبشر كفروا بالله سبحانه، وجمعوا الحطب ليحرقوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وما من دابة إلا وتذهب لتطفئ عن إبراهيم هذه النار التي أوقدها هؤلاء، إلا هذا الوزغ السام، كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقاً أو فاسقاً، ولكن أمر الله أسرع من هذا كله، فقد أتى أمر الله وتغيرت طبيعة النار نفسها، قال تعالى: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، ولو قال: كُونِي بَرْدًا ، لكانت باردة فآذته ببردها، ولكن قال: بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، فكانت النار فيها السلامة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام باردة عليه، وهنيئاً له هذا الوقت الذي كان فيه.

    ونجاه الله من أعدائه، إذ هم لا يقدرون أن يقربوا من النار، ولو كانت النار: بَرْدًا وَسَلامًا على الجميع لدخلوا إليه وأرادوا قتله بداخلها.

    ولكن النار التي أججوها خافوا أن يقربوا منها وكانت: بَرْدًا وَسَلامًا ، عليه، وهم يرونه وينظرون إليه من بعيد وهو في هذه النار في عيشة هنية عليه الصلاة والسلام، ويتعجبون لأمره حتى خرج إليهم يمشي من هذه النار ولم تحرق منه إلا ما كان أغلالاً وقيوداً عليه، وخرج سليماً معافى، فكان من الله عز وجل المعجزة العظيمة في ذلك. فقوله تعالى: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:98] أي: المغلوبين، المقهورين بالحجة وبأمر الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)

    خرج إبراهيم من النار ولم يجد فيهم أملاً في الإيمان، فقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي [الصافات:99] أي: مهاجر من هذا المكان الذي تعبدون فيه الأوثان، وأذهب إلى ربي لأعبده سبحانه، وأدعو إليه سبحانه.

    وقوله تعالى: سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: ( سَيَهْدِيني ).

    قال الله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100]، فدعا ربه سبحانه أن يرزقه من يؤنس وحدته، وكان حتى هذا الحين ليس معه أحد إلا زوجته المؤمنة فدعا ربه أن يؤنسه بولد حليم، وولد صالح قال تعالى عنه: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:100-101]، الغلام: من الغلمة والاغتلام، أي: الاشتداد ومعناه: أنه بلغ الحلم، وكأنها بشارة من الله له أنه سيولد لك ولد ويعيش في هذه الفترة، وقال: حليم، والصبي الصغير لا يوصف بأنه حليم، إنما الحليم يوصف به الكبير، فكأنها بشارة من الله عز وجل أنه سيكون له الولد الذي يحلم ويكبر معه ويكون كبيراً ويسعى معه، فكان له إسماعيل بعد ذلك.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755777173