إسلام ويب

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - القرآن هو كلام اللهللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صفة الكلام صفة ذاتية لله عز وجل، والقرآن كلام الله، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ولمن يعتقد أن القرآن كلام الله عز وجل آدابٌ لا بد أن يلتزم بها عند التعبد بكتاب الله عز وجل، فلا يمس كتاب الله إلا طاهر على القول الراجح، وأما قراءة القرآن من غير وضوء فهو جائز، ومن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر كفر نوع حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة؛ لأنه تكذيب للقرآن.

    1.   

    القرآن كلام الله عز وجل

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    إن صفات الله الذاتية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هي قديمة النوع حادثة الآحاد أو حادثة الأفراد، يعني: هي ذاتية في الأصل؛ لأنك إذا مررت على رجل لا يتكلم لا تتهمه بالخرس، ولا تتهمه أنه لا يتكلم، فإذا مررت عليه بعد ذلك فتكلم، تقول: كان غير متكلم بمشيئته ثم تكلم بمشيئته، وكل عاقل يعلم أن الله قال: يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:11-12] لكنه ما قال يا موسى إني أنا ربك إلا بعد أن أتى موسى إلى الشجرة.

    إذاً: صفة الكلام صفة ذاتية، وهي قديمة النوع حادثة الأفراد، وهي صفة كمال وجلال وبهاء وعظمة لله جل في علاه، ثبتت هذه الصفة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والعقل.

    فالقرآن هو كلام الله، قد تكلم الله به، وسمعه جبريل ونزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صفة من صفات الله جل وعلا.

    ثبوت أن القرآن صفة من صفات الله بالكتاب والسنة والإجماع

    وأيضاً ذلك ثابتٌ بالكتاب وبالسنة وبإجماع أهل السنة، أما بالكتاب فقد قال الله تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، والكلام الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو كلام الله وهو القرآن، فهذا الكلام ليس بعام ولكن يقصد به القرآن.

    والإضافة نوعان: إضافة أعيان قائمة بذاتها مثل: الكعبة، الناقة، عيسى، كأن يقال: عيسى روح الله .. الكعبة بيت الله، وقوله تعالى: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، وهذه الإضافة تسمى إضافة تشريف وتعظيم، فالكلام صفة ليست قائمة بذاتها، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15]، وأيضاً قال تعالى: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة:75]، فهذه أدلة الكتاب على أن القرآن هو كلام الله جل وعلا.

    ومن الاستنباط قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:192-193] وقوله تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، كل ذلك على القرآن الذي هو كلام الله جل في علاه.

    أما من السنة: فعن ابن مسعود في السنن بسند صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ابتدأ كلامه يقول: إن أحسن الكلام كلام الله)، يعني: بعد أن يقول: إن الحمد لله نحمده ونستعينه.. إلى آخره، يقول: (إن أحسن الكلام كلام الله) فأضافة الكلام إلى الله هنا دلالة على أن القرآن هو كلام الله جل في علاه.

    وقد ورد حديث صححه كثير من العلماء من المحدثين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عبد الله بخير مما خرج منه) ويقصد به القرآن الكريم.

    وأما إجماع الصحابة على أن القرآن كلام الله، فقد ثبت ذلك عن أبي بكر وعن عمر وعن عائشة عندما قالت: إن الله برأني من فوق سبع سماوات بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، وابن عباس كان يصلي في جنازة فصلى رجل أمامه فقال: اللهم رب القرآن اغفر لفلان وفلان وافعل في فلان فجذبه ابن عباس بعدما انتهى من صلاته جذبة شديدة فقال: ماذا تقصد بقولك: رب القرآن؟ أتعلم القرآن؟ أتعلم عظمة الله؟ فإن القرآن كلام الله، فبين أن القرآن هو كلام الله، وورد مثل هذا عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.

    إضافة الكلام إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف، وإضافة الكلام إلى جبريل أو محمد إضافة بلاغ

    إذا قلنا بأن القرآن هو كلام الله أضيف إليه فعندها يرد إشكال وهو: أن المضاف إلى الله أعيان ومعاني، وأيضاً المضاف للإنسان يكون أعياناً ومعاني، فإن كان معاني فهي صفة للموصوف، فأضاف الله القرآن إلى نفسه وإلى ذاته المقدسة سبحانه جل في علاه، وأضاف القرآن إلى جبريل وأضاف القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أما إضافته إلى نفسه كما في قوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وإضافته إلى جبريل في قوله جل في علاه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21].

    فقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ أضاف القول للرسول، ويقصد به الرسول الملكي.

    قال تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:20-21]، المقصود: جبريل عليه السلام.

    إذاً: أضاف القول لجبريل، فهذه إضافة صفة للموصوف.

    وأيضاً قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [الحاقة:40-41]، وقال: وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ [الحاقة:42]، فهذا إضافة إلى الرسول البشري.

    إذاً: أضاف القرآن للرسول الملكي، وأضاف القرآن إلى الرسول البشري، وهذه إضافة صفة للموصوف، فكيف نجيب على ذلك؟ فقد قال طه حسين : هذا الكلام هو كلام محمد واستدل من الكتاب بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [الحاقة:40-41]، إذاً: أضاف القول للرسول، ونحن نفرق بين الثلاثة، فالإضافة الأولى إضافة صفة للموصوف، هو كلام الله تكلم الله به فهو صفة من صفاته، والإضافة الثانية إضافة لجبريل على أنه مبلغ، إذ المبتدئ بالكلام هو الذي يتصف بالكلام، أما الذي يبلغ فلا يتصف بأنه بدأ الكلام، فجبريل عليه السلام أضيف إليه كلام الله، وأضيف إليه القرآن على أنه مبلغ، والدليل على ذلك عموم قول الله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ [التغابن:12]، فما عليه إلا أن يبلغ، فهو يسمع من الله فيبلغ، ولذلك قال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19] ، فالرسول سواء الرسول الملكي أو الرسول البشري ينزل تحت هذه الآية: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99]، فإذاً: الإضافة هنا لجبريل إضافة بلاغ، والإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى تكون إضافة بلاغ، قال تعالى: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وهذا تصريح؛ لأن الإضافة هنا إضافة تبليغ وقول الله تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء:106]، فهذه الآية فيها دلالة على أنه يُقرِئُ الناس ما أنزله الله عليه، فالإضافة إلى الرسول إضافة تبليغ لا إضافة ابتداء كلام.

    إذاً: ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة على أن القرآن هو كلام الله، فإذا أضيف إلى الله فهو إضافة صفة إلى الموصوف، وإذا أضيف إلى جبريل فهي إضافة تبليغ، وإذا أضيف إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهي أيضاً إضافة تبليغ.

    ما ينبغي أن يتأدب به المخلوق مع كلام الخالق

    إذا قلنا: إن القرآن هو كلام الله جل وعلا، فيجب علينا أن نتحلى بآداب أمام كلام الله جل وعلا الذي هو صفة عظيمة من صفات الله جل في علاه وهي:

    أولاً: تعظيم القرآن وتوقيره، وهذا ينزل تحت التهديد الأكيد في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، وقول الله تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، فتعظيم الله بتعظيم صفاته جل في علاه، وتعظيم القرآن وتوقيره داخل تحت هذا.

    ومن تعظيم القرآن أنك تنتبه إذا تليت عليك آياته، ويكون قلبك وجلاً إذا سمعت آيات الله جل وعلا، وانتباهك هذا إما لأمر تأتمر به، وإما لنهي تزدجر عنه، كما قال ابن مسعود : إذا سمعتم الله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا بد أن تنصتوا؛ لأنه إما أن يكون لأمر لا بد أن تأتمر به، أو لنهي لا بد أن تنتهي عنه، وهذا من تعظيم كلام الله جل وعلا، أما أن تسمع كلام الله لاهياً، وتمر على آيات الله جل وعلا وقلبك غافل فأنت متلاعب وعقابك عند الله شديد، وتقع تحت هذه الآية: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . فلا بد من تعظيم القرآن وتوقيره.

    ثانياً: لا بد من الإكثار من تلاوة كلام الله؛ لأن في ذلك علامة على محبة الله جل وعلا؛ ولأن من أحب الله أحب صفاته، وهذا الذي أضهره وأعلنه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كما في البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: من أراد أن يختبر حبه لله فعليه أن يعرض نفسه على كلامه، فإذا أحب كلام الله فقد أحب الله؛ لأنه من أحب صفة من صفات الله فقد أحب الذات المقدسة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن ولكم بكل حرف حسنة وكل حسنة بعشر أمثالها ولا أقول: (ألم) حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) فلا بد من الإكثار من قراءة القرآن.

    وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه: (ما عبد الله بخير مما خرج منه) وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كما في الشعب بسند صحيح يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله جل في علاه.

    وأيضاً في نفس المصدر بسند صحيح عن ابن عمر أنه قال: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فنزل نور القرآن على نور الإيمان فكان نوراً على نور، فأصبحت الهداية تامة مكملة بهذا الكتاب، فمن الآداب التي يتحلى بها العبد الذي اعتقد أن ربه يتكلم وأن القرآن كلام الله أن يكثر من قراءة القرآن وله بكل حرف حسنة.

    ثالثاً: إذا قرأ القرآن لا بد له من التدبر بعد التلاوة، فإن الإنسان لا يقرأ قراءة كقراءة الشعراء ولا يقرأ للتسلية، بل لا يقرأ القرآن إلا ليتدبر؛ لأن ما في القرآن إما أن يكون توحيداً وذكراً لصفات الله جل وعلا الثبوتية أو السلبية أو غيرها أو أمراً أو نهياً، أو كلاماً عن الثواب أو العقاب، فلا بد أن يمحص النظر ويتدبر في كتاب الله وقد حثه الله على ذلك بعد إنكار شديد على من لا يتدبر آيات الله، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال له: ختمت كذا وكذا في ليلة واحدة، قال: أهذاً كهذ الشعر؟ ينكر عليه، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتدبرون الآية تلو الآية، ويمعنون النظر فيها فيتعلمون أحكامها، ثم يتعبدون لله بالتطبيق الحتمي في وقته؛ ولذلك ورد أن عمر بن الخطاب ختم البقرة في ست سنوات أو عشر، وعلل ذلك أنه ما حفظ آية إلا وتعلم معناها وحكمها، ثم طبق ذلك واقعاً أمام الناس، فلا بد من التدبر والتطبيق، ولذلك ورد بسند صحيح عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121]، فقال: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي: يقرءون حروفه ويطبقون حدوده. فليس القرآن رسماً ولا زينة يوضع في السيارات ولا زينة في البيوت، بل إن القرآن يتلى ليطهر القلوب ولتطبق أحكامه بين الناس، فإن الخير كل الخير في أحكام الله جل وعلا.

    وقد قال الشافعي في قول الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، قال: ما من نازلة إلا وفي كتاب الله حلها، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.

    رابعاً: ألا يهجر هذا القرآن، وهجران القرآن هجرانٌ لصفة من صفات الله جل وعلا، وزهدٌ في صفة من صفات الله جل في علاه، نعوذ بالله من الخذلان، وقد اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوام تركوا القرآن خلفهم ظهرياً، قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، والعياذ بالله، وهجران القرآن كما قسمه العلماء ثلاثة أقسام:

    هجران تلاوته، وهجران التدبر مع السماع، وهجران العمل به.

    أما هجران تلاوته فمعلوم أنه يكون بأن لا يقرأ الإنسان القرآن، بلْ لا يجعل له ثلاث آيات يختم بها ليلته ويقرأ القرآن.

    وهجران تدبره أو سماعه، أو هجران العمل به، فكل منا يختبر نفسه، فإن كان يتلو ويتدبر ثم يعلم بعد ذلك ويطبق فلن يكون ممن اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم منهم فليحمد الله، وإن كان منهم فليراجع نفسه وليستغفر الله جل وعلا، وعليه ألا يهجر هذا الكلام العظيم وهو كلام الله فإن خيري الدنيا والآخرة في كلام الله جل في علاه.

    خامساً: ألا يمسه إلا وهو طاهر، وإن اختلف كثير من العلماء والمحدثين والفقهاء في مسألة مسِّ القرآن لغير طاهر، والصحيح الراجح: أنه لا يمسه إلا طاهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً، وهذا وإن ورد بأسانيد مختلف فيها، إلا أن بعضها يعضد بعضاً فيرتقي إلى الحسن، وتتلقاه الأمة بالقبول، فهذا الحديث حديث عظيم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) وهذا عام في كل شيء، فيكون طاهراً معنوياً ويكون طاهراً حسياً، فلا يعارض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) أي: أن المؤمن لا ينجس عقيدة؛ لأن عقيدته هي عقيدة التوحيد، ونقول: إن الرجل لا يأتي المرأة وهي حائض، ونقول: المحيض هو أذى، ومكان الحيض هو أذى لهذه النجاسة، فنحن نقول: لا يمس القرآن إلا طاهر، وهذا عام، ووجه عمومه النكرة في سياق النهي، فهي تفيد العموم، فالطهارة هنا طهارة عمومية، وطهارة بدنية وطهارة معنوية، وأقصد بالطهارة المعنوية أنه لا يمس القرآن كافر حتى ولو اغتسل؛ لأنه نجس نجاسة معنوية لا حسية، فأقول الطهارة هنا على العموم، ومن أراد أن يخصص تخصيصاً للكافر فقط فليأتنا بالدليل، ومن قال: إن هذا الحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) له تأويلات، الوجه الأول: أنها الطهارة المعنوية لا الحسية، والوجه الثاني: أين يقصد بها الملائكة، فإننا نقول: أين الأدلة على ما تقولونه؟ فإنكم لو أردتم أن تؤصلوا تأصيلاً علمياً الأصل عدم المنع، إلا أن يأتي دليل ينقلنا عن الأصل، وقد جاءنا الدليل، قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر) على العموم، فإن أردت أن تخصص فائتنا بالدليل، وهي قاعدة عند العلماء، فالعموم يبقى على عمومه إلا أن يأتي مخصص يخصصه، فلا يجوز لرجل غير متوضئ أن يمس القرآن حتى يتوضأ، وليس معنى ذلك أن نمنعه من قراءة القرآن وهو غير متوضئ، بل له ذلك، فهناك فرق بين المس والقراءة، فله أن يقرأ وهو غير متوضئ، وهذا خلاف الأول، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل أحواله)، الظاهر جداً بأنه يكون متوضئاً وغير متوضئ، أما مس القرآن فقد جاء النص الصريح بالمنع لغير الطاهر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فله أن يقرأ من حفظه دون أن يمس القرآن، إلا في الحالات التي يخشى على نفسه أن يضيع منه القرآن، وهي حالات مستثناة، والأمور المستثناة لا يقاس عليها غيرها.

    سادساً: من الآداب التي لا بد أن يتأدب بها هذا العبد الذي علم أن القرآن هو كلام الله ألا يأكل به، أيأكل بصفة من صفات الله جل وعلا؟! أيفعل ذلك تجارة في الدنيا حتى يأتي الآخرة خاسئاً ليس له في الآخرة خلاق؟! فإن القرآن كلام الله لا يجوز بيعه، ولا يجوز التجارة به، ولا أقول: لا يجوز بيع المصحف على الخلاف الفقهي المشهور، بل يجوز بيع القرآن بسعر التكلفة، وأشرطة القرآن الأصح فيها أنها لا تباع إلا بسعر التكلفة، هذا هو الصحيح الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفو عنه) أي: لا غلو ولا جفو، (ولا تأكلوا به)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه سيأتي أقوام يقرءون القرآن يتعجلونه ولا يتأجلونه) يعني: يتعجلون أجرته، ولا يتأجلون الأجر من الله جل في علاه.

    وفي رواية أخرى قال: (يسألون الناس به) يذهبون إلى المساجد والمجتمعات ويقرءون القرآن بثمن معين، فهذا بيع والعياذ بالله وتجارة تبور؛ لأنه بيع وأكل بالقرآن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الأكل بالقرآن، فمن تأدب مع الله واعتقد أن القرآن هو كلام الله وأن الله تكلم به، فإنه سيتأدب أدباً جماً عظيماً مع كلام الله وكتاب الله جل في علاه.

    حكم من قال إن القرآن مخلوق

    من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، والقاعدة التي قعدناها أن الذي يتجرأ على التكفير فهو جاهل؛ لأن الكفر هذا إلى الله جل وعلا، ولا يستطيع أحد أن يتجاسر عليه، لكن القول قول كفر والفعل فعل كفر، والقائل ليس بكافر إلا أن تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، فمن قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، يعني: قوله قول كفر؛ لأنه كذب القرآن ومن كذب القرآن فقد كفر؛ لأن القرآن كلام الله جل وعلا، قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، فأضاف الكلام لله جل وعلا، فهذا تكذيب بالقرآن والتكذيب بالقرآن كفر؛ لأنه تكذيب لله، قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وقال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

    الأمر الثاني: أنه أنزل الخالق منزلة المخلوق، وقد قال نعيم بن حماد شيخ البخاري : من شبه الخالق بالمخلوق فقد كفر، فإذا كان يقول: القرآن مخلوق. فقد شبه الخالق بالمخلوق.

    والثالثة: إجماع الأمة على أن القرآن هو كلام الله وهذا ثبت ثبوتاً قطعياً، والإجماع إذا كان مستنده الثبوت القطعي أو الدليل الذي ثبت قطعياً فإن مخالفه يكفر، وهذا هو الراجح.

    وبعض العلماء يقولون: حتى ولو ثبت بآحاد الأدلة، أي: لو كان الإجماع مستنده لحديث آحاد، يكفر من خالفه، والصحيح الراجح: أنه لا يكفر. وهذا التفصيل البديع فصله الجويني وهو الراجح عند المحققين من أهل الأصول، أن مخالف الإجماع لا يكفر إلا إذا كان الإجماع مستنده الدليل القطعي، وهذا دليل قطعي فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755978899