إسلام ويب

الاختلاف في القواعد الأصولية - الحرص على تعلم أصول الفقهللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يجب على مريد العلم أن يتعلم فن أصول الفقه؛ لأنه مفتاح الفقه وبابه، فيتعرف على بدايات نشأة الخلاف وكيف حصلت، حتى يتمكن من تأصيل المسائل مستنداً في ذلك إلى ركن ركين من المعرفة بأصل المسألة المعينة وجذورها، وعلم الأصول يعنى بالأدلة الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد منها، وكيفية تنزيلها على الواقع، فحري بالفقيه خصوصاً وبطالب العلم عموماً ألا يغفل عن دراسته.

    1.   

    فضل العلم والعلماء

    فضل طلب العلم ومنزلة العالم عند الله

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    إخوتي الكرام! مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أنساً روى لنا -وإن كانت الأسانيد متكلماً فيها- أنه يستحب أن يقال إذا جاء طالب العلم: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم!

    وكفى بطالب العلم فخراً، وكفى بمجالس العلم بركة؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الملائكة تصعد بأسماء طلبة العلم إلى الله جل في علاه فيسألهم: ماذا يقولون؟ ماذا يذكرون؟ فيقولون: يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك ويكبرونك ويهللونك، وفي آخر الحديث يقول الملك: فيهم فلان ما جاء للعلم وإنما جاء لحاجة، فيقول الله تعالى: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

    وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع)، وكفى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم فخراً لطلبة العلم.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

    فأهل العلم لهم المكانة العظمى في هذه الدنيا؛ لأن العلماء هم منارات الهدى، وهم الشموس التي يستضيء بها الناس، بينما نرى الأمة الآن تتخبط يميناً ويساراً، ونرى ما يحدث في البلاد الإسلامية من تعديات على المسلمين، وهذا والله ما حدث إلا بموت العلماء؛ لأن الذي يستنير بنور العلم يعلم أنه إذا هلك فسيهلك عن بينة، وإذا أحياه الله فستكون حياته على بينة، كما قال الله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، وهذه البينة لا تكون إلا بطلب العلم.

    فضل علم أصول الفقه

    وقد بينا فضل أصول الفقه على الفقيه، وقلنا بأن القاعدة عند العلماء تنص على أن الفقيه العاري عن الأصول ليس بفقيه بل هو مقلد.

    وترى كثيراً من المقلدين الذين يحفظون الأقوال ويرددونها ممن لا يحق لهم الفتوى، ولا يحق لهم أن يلزموا الناس بشيء؛ لأنهم مقلدون، فإذا سألت: ما الدليل؟ وما هو وجه استدلال العالم الذي قال بهذا القول من هذا الدليل؟ وجدته يضرب أخماسه في أسداسه، فهذا مقلد، ولا يجوز له أن يلزم الناس بشيء، لأنه يقلد غيره.

    وقد فرق العلماء تفريقاً عظيماً بديعاً بين المقلد والعالم أو طالب العلم المجد الذي يعرف القول بالدليل، ويعرف كيفية استنباط العالم لهذا الدليل.

    وقد سئل كثير من الناس عن الفقهاء أو المجتهدين، فبينوا أن درجات الفقه والعلم متفاوتة، فليس العلم بالدليل فقط، وإنما العلم بالأصل والقاعدة التي يمكن أن يستنبط منها الحكم، وإلا فكثير من الناس حفظة كما هو حال كثير من المحدثين، فقد كان ينقصهم الفقه، وكان الإمام أحمد يقول: كنا نزعم بأن المحدث صيدلاني، وأن الفقيه طبيب، فخرج علينا الشافعي رجلاً طبيباً صيدلانياً.

    وقد عاب كثير من المحدثين على يحيى بن معين أنه لم يشتغل بفقه المتن، وقد قررت في المسجد أكثر من مرة قول شيخ الإسلام : إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه.

    والمقصود بفهم المتن: هو الفقه.

    كان يحيى بن معين إماماً ترتعش منه فرائص المحدثين، فإذا دخل مجلساً من مجالس التحديث قام له كل المحدثين تعظيماً لعلمه وإجلالاً له، وأخذ كل واحد منهم كتابه فنظر فيه وإن كان ضابطاً ضبط صدر، فلا يتكلم بالحديث الواحد إلا بعد أن يكرره في نفسه مرات عديدة؛ خوفاً من أن يتكلم فيهم بجرح؛ لأنه كان إماماً في الجرح والتعديل.

    وكان يحيى بن معين مشهوراً بدخوله على العلماء واختبارهم، فقد دخل مرة على أبي نعيم يختبره ومعه أحمد بن حنبل وكان قريناً له يجلس بجواره، فما تكلم أحمد ، وأخذ يحيى بن معين يختبر أبا نعيم بأن لقنه بعضاً من الأحاديث بأسانيد مختلطة ليست من لفظه وليست صحيحة، فسمعها أبو نعيم فانتبه -وكان صاعقة في الحفظ- فنظر إلى أحمد ونظر إلى يحيى بن معين ، فقال لـأحمد : أنت أورع من أن تفعل ذلك، ونظر إلى يحيى بن معين فسكت عنه، ثم ضربه برجله فأوقعه إلى الخلف وقال: أنت أجرأ على ذلك.

    فكان يحيى بن معين جهبذاً ونقاداً، وكان وقاد الذهن، يعني: الرواية للحديث وعلم الرجال والإسناد.

    ولما لم يكن يحيى بن معين مهتماً بالفقه فقد وقع في أمر جلل عابه عليه كثير من أهل العلم في زمانه، فقد سألته امرأة فقالت: يا إمام! إن زوجي قد مات، وقد أوصى أن أغسله، أفأغسله وأنا حائض؟ فوقف يحيى بن معين واجماً لا يعرف كيف يرد عليها، فمر أبو ثور الكلبي -وهو من أصحاب الشافعي - وكان فقيهاً بارعاً، فقال لها: اسألي هذا الرجل فهو فقيه!

    فذهبت فسألته فقال لها: غسليه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً فإذا أراد أن يرجل شعره يخرج رأسه من المسجد فترجله عائشة. يعني: تغسل رأسه وتنظفه وهي حائض.

    فلما قال أبو ثور ذلك قال يحيى : نعم، وهذا الحديث جاءني من طريق فلان وفلان وفلان وفلان عن فلان، فسرد الطرق التي يحفظ منها هذا الحديث.

    فقالت له المرأة: ما نفعتك هذه الطرق وأنا أسألك فلا تجيب.

    وهذه مزية من تعلم الفقه وعرف كيف يستنبط الحكم من الدليل.

    أهمية فهم النص الشرعي

    وأقول: كيف استنبط أبو ثور الحكم من هذا الدليل وهو أن عائشة كانت ترجل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد يخرج رأسه وهي حائض؟ وما علاقته بامرأة حائض تغسل زوجها؟

    والجواب: استنبطه بطريق قياس الأولى، فإذا كان الحي الذي يستطيع بنفسه أن يرجل شعره وأن يغسله قد جعل المرأة وهي حائض تباشر ذلك فالميت من باب أولى؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه فهو أحوج إلى ذلك. وهذه فائدة الفقيه الذي يتعلم أصول الفقه.

    وقد سئل الشيخ الإمام محمد بن صالح بن عثيمين وهو على فراش موته فقيل له: هل تستخلف أحداً نسأله بعدك؟ فقال: أما العلماء فكثر ثم لا تكاد تجد عالماً فقيهاً يدرك الحكم في المسألة، أو كيفية استنباط الحكم من الدليل وتنزيله على الواقع المعايش، وهذا فهم عزيز يؤتيه الله من يشاء.

    ولذلك أنكر البعض على علي بن أبي طالب عظم بطنه، لأن علي بن أبي طالب كان من أفقه الصحابة إن لم يكن هو أفقههم، وهو أعلم الناس أيضاً بالتفسير، فلو خالف علي بن أبي طالب ابن عباس في تفسير آية قدم قول علي بلا جدال، فـعلي بن أبي طالب وتد في العلم والفقه، فقالوا له: مالك عظيم البطن؟ فقال: أعلاها علم وأسفلها طعام. رضي الله عنه وأرضاه.

    فنقول: إن العالم يعلم الكتاب والسنة، لكن الفقيه يدقق في الكتاب والسنة، ولذلك سئل علي بن أبي طالب : هل ترك لك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً خصك به من هذا العلم الذي ينهال عليك؟ فقال: لا والله ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشيء إلا فهماً يؤتيه الله للمرء في الكتاب أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه، والأثر في الصحيحين.

    وهذه كلها مدارها على الإخلاص، فقد كان يقول ابن عباس : يحفظ المرء على قدر نيته.

    وهذا الذي فضل به الشافعي عن كثير من الفقهاء لفهمه وتأمله في الأدلة، والعالم الفقيه لا يصل إلى قوة العلم وإلى باطن العلم إلا بقواعد العلم والقاعدة العريضة بأصول العلم، وهذه الأصول هي أصول الفقه.

    1.   

    الحث على التمسك بالكتاب والسنة

    الأدلة على التمسك بالكتاب والسنة

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم يستقون من بحر علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالوحيين: الكتاب والسنة، وقد حث الله الصحابة وألزمهم بنص الكتاب والسنة، فقال الله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:155].

    وقال جل علاه حاثاً الصحابة على التدبر في معرفة مراد الله جل علاه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

    وفي القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحث على اتباع الوحيين، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

    وقال جل علاه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، فمن حاد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد أبى.

    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فهو باطل لا يصح ولا يمكن التعويل عليه، ولا يمكن أن نعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد كائناً من كان.

    الرد على من يجوز الأخذ بأي قول في المسائل الخلافية

    وفي السنن ومسند أحمد أيضاً عن العرباض بن سارية أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً).

    وهذا يرد على من يقول بأن اختلاف الأمة رحمة، وأنه يجوز أن نأخذ بأي قول. وهذا هو عين الهلاك، ولو قلنا بهذا لصح الزواج مثلاً بتسع نسوة كما قال بهذا ابن حزم ، فقد جمع قوله تعالى: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] فصارت تسعة واستدل بها على جواز الزواج بتسع من النساء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قلنا بهذا لصح أيضاً وطء المرأة المستأجرة كالأمة تماماً، وأنه يفعل بها ما شاء كيف شاء من غير نكاح، ولجاز الربا مع أهل الكتاب أو في أي بلد حربي، وهذه عين المهلكة.

    ولو قلنا بهذا المبدأ لما جاز الإنكار على المخالف، فلو رأيت رجلاً في الشارع يتراقص ويسمع أم كلثوم أو مغنياً من المغنين، فهل لك أن تنكر عليه أم لا؟ فإذا أنكرت عليه قال لك: أنا آخذ بقول الشيخ القرضاوي ، وقال بأن اختلاف الأمة رحمة.

    وهكذا في أي مسألة أخرى فإنه سيقول لك بأن هذا القول هو قول الإمام الشافعي أو الإمام مالك أو ابن حزم، وقد قال بها شيخ من العلماء المعتمدين وهكذا، فهذه مهلكة لهذه الأمة، فاختلاف الأمة لا يمكن أن يكون رحمة إلا في أمر يسوغ فيه الاجتهاد ولم يتبين فيه الدليل بحال من الأحوال.

    رجوع الصحابة إلى الكتاب والسنة

    والغرض المقصود: أن الصحابة يرجعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين في حديث العرباض ذلك فقال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، قالوا: فماذا نفعل يا رسول الله؟! قال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).

    فإذا قلنا: قال رسول الله، فلا تقل: قال فلان أو قال الشيخ الفلاني أو قال شيخ مشايخه، هو فوق رأسي وهو معلمي ومؤدبي، وإذا رأيته قبلت رأسه ويده، لكن إذا خالف قول النبي فلا، وكذلك شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه.

    فلابد أن نقترب من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه يعش منكم من فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).

    وفي السنن أيضاً بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم شبعان متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: نعرضه على كتاب الله فما وجدناه في كتاب الله حلالاً أحللناه، وما وجدناه حراماً حرمناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم منتهراً هذا القول: ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه).

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: (ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله).

    فعلى الأمة أن تلتف حول الكتاب وحول سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فلتلتف حول صحابة رسول الله؛ لأنهم علماء الأمة؛ ولأنهم السلف الصالح.

    1.   

    الاجتهاد في العصر النبوي

    اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم

    قد تقدم أن الله جل وعلا حث عباده على الالتفاف حول السنة، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم حث على الالتفاف حول سنته، ولذلك فإنه وإن ظهر الاجتهاد في عصر الصحابة لكنه كان في فهم مراد الله وفهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الشافعي : آمنت بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله.

    ومراد الله لا يعرفه إلا المجتهد الذي يسهر ليله ويظمأ نهاره حتى يصل إلى مراد الله جل في علاه.

    فقد اجتهد الصحابة كما اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الاجتهاد ما كان للإتيان بحكم جديد ولكن لفهم مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف الأصوليون في الاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإمكانيته، هل له أن يجتهد أم لا؟ والصحيح الراجح أصولياً أنه يجوز له أن يجتهد، لكن إن أخطأ لا يمكن أن يقر على خطئه.

    والدليل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ [النساء:83].

    والدليل الأوضح من ذلك قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] والمشاورة تدل على أنه سيجتهد في الرأي الصائب السليم ثم يعمل به.

    اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن الأعمى

    والصور التطبيقية لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وإقرار الله أو عدم إقراره له في الاجتهاد كثيرة، منها قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1].

    وسبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع صناديد قريش، وكانوا هم الأكابر، ومعروف أن الرعية تتبع الراعي، فلو أن الراعي الكبير مثلاً أبا جهل أو غيره أسلم فإن الرعية كلها ستسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا آتي إلى الراعي وأبين له الإسلام حتى يدخل في الإسلام، فجاءه الأعمى ابن أم مكتوم وكان رجلاً ضعيفاً، فرجح الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاداً أن ينشغل بالصناديد الأكابر حتى تأتي الرعية خلفهم، فلم يقره الله جل علاه على اجتهاده هذا فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3] إلى آخر الآيات.

    اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العفو عن الكفار والمنافقين

    وأيضاً عندما جاء المنافقون، أو ما يسمى في عصرنا: (الطابور الخامس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة يعتذرون له عن عدم الخروج معه في السرية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل عذرهم ويردهم.

    وهذا اجتهاد من رسول الله، فعتب عليه الله في هذا الاجتهاد، فقال له: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43].

    وأيضاً عندما اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فقد اختلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مع عمر : هل يأخذ الفداء ويتركهم أحراراً أم يقتلهم؟ فاجتهد وأخذ برأي أبي بكر فلم يقره الله جل في علاه على هذا الاجتهاد، فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا.. [الأنفال:67] إلى آخر الآيات.

    اجتهاد الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

    والغرض المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتهد وكذلك الصحابة الكرام في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دلالة على أن الاجتهاد لم يمت أبداً، لكن الاجتهاد يكون لمن أعطاه الله الآلة التي يمكن أن يجتهد بها.

    أما اجتهاد الصحابة في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان كثيراً جداً، لكن أشهره وأقواه كان في رقاب الناس وإهدار الدماء، كما حصل ذلك في اجتهاد سعد في بني قريظة، وذلك لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم فأجلسوه، فقال: إنهم يرضون بحكمك؛ فقال لليهود: أترضون بحكمي؟ فقالوا: نرضى بحكمك، ثم نظر إلى مكان رسول الله، وحتى لا يتقدم عليه بين يديه، فقال: أيرضى هؤلاء بحكمي؟ يعني: أترضى يا رسول الله! فكأنه يلمح إليه تأدباً، فقال: اللهم نعم، فقال: أحكم فيهم بضرب أعناق رجالهم وسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات). فهذا اجتهاد منه رضي الله عنه.

    ومن الأمثلة صلاة عمرو بن العاص بالناس وهو جنب بالتيمم مع وجود الماء خشيةً على نفسه من الهلكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت بالناس جنباً يا عمرو ؟! فقال: قد رأيت الله جل وعلا يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاده).

    وكذلك: عمار بن ياسر عندما تمرغ في التراب جهلاً منه بكيفية التيمم، فلم يقره النبي صلى الله عليه وسلم على الكيفية.

    وكذلك حديث الرجلين اللذين سافرا- وهو في السنن وفي الصحيح- ففقدا الماء فتيمما ثم صليا الفرض، فلما سارا وجدا الماء، فقال أحدهما: إذا حضر الماء بطل التيمم، فتوضأ مرة ثانية وأعاد الصلاة، وأما الآخر فقال: إني قد صليت وأديت ما علي فلا أصلي مرة ثانية، فذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر رسول الله الاثنين، فقال للذي اكتفى بالتيمم: قد أصبت السنة؛ لأنه عمل بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وقال للآخر: لك الأجر مرتين؛ وذلك لأن الصلاة الثانية حسبت له نافلة؛ لأنه قد أدى الفريضة بالتيمم.

    1.   

    الاجتهاد في عصر الخلفاء الراشدين

    والحاصل أن كثيراً من الصحابة قد اجتهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من أقر ومنهم من أنكر عليه. لكن هل حدث خلاف بعد موت رسول الله؟ فما من زمن يأتي بعد رسول الله إلا والذي بعده شر منه، فلابد أن يحدث الخلاف، لكن لرحمة الله بالأمة فقد جعل الخيرية في القرون المفضلة بعده صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الخلاف ضاق جداً في عصر أبي بكر ، وضاق جداً في عصر عمر ، ثم توسعت الخلافات بين العلماء في عصر الصحابة بعد عمر بن الخطاب.

    والسبب في ذلك: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه كان في المدينة وكان الصحابة جميعهم مع أبي بكر في المدينة، وكذلك الأمر بالنسبة لـعمر بن الخطاب ، فإذا عمت المسألة نظر أبو بكر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    فائدة: هل يقال: كتاب الله وسنة نبيه، أم يقال: كتاب الله ثم سنة نبيه؟

    والصحيح الراجح: أن الوحيين معاً، فتقول: انظر في كتاب الله وسنة النبي، وهو الذي جرى عليه المحدثون عندما ضعفوا حديث معاذ ، والذي يستدل به الفقهاء والأصوليون دائماً: في أن كتاب الله هو الأول في الترتيب ثم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، (عندما بعثه إلى اليمن فقال: بم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فإن لم أجد في كتاب الله أحكم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم) فكأنه جعلها مرتبة بعدية، فقال العلماء: هذا شاذ؛ لأن السنة والكتاب قرينان، فيحكم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالمقصود: أن أبا بكر كان ينظر في الكتاب والسنة، فإن وجد شيئاً اعتبر الأمر منتهياً، وإن لم يجد جمع الصحابة فجلسوا إليه فتشاور معهم في حل إشكال هذه المسألة، فإذا كان لديهم علم من رسول الله وإلا اجتمعوا على رأي واجتهاد واحد، وسمي ذلك إجماعاً كما هو عند أهل الأصول.

    ومثال ذلك: عندما جاءت الجدة إلى أبي بكر فقالت: يا أبا بكر ! أين إرثي؟ فقال: إني لا أرى لك في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولكن اذهبي حتى أستشير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الصحابة لذلك، فقال المغيرة بن شعبة : (قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يورث الجدة السدس)، ووافق محمد بن مسلمة المغيرة على ذلك، فقضى أبو بكر لها بالسدس عملاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وكان عمر بن الخطاب يجمع الصحابة حوله، ويحرم عليهم الخروج من المدينة، فإذا أشكلت المسألة قال لهم: هل يحفظ أحدكم في هذه المسألة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم؟

    وقد اختلفوا مرة في مسألة الجنين، يعني: إذا ضرب رجل امرأة وفي بطنها جنين فمات، فما الحكم؟

    أقول: قد خفي الحكم في هذا على عمر ، فجمع الصحابة جميعاً فقال: ما الحكم في الجنين؟ فقام المغيرة بن شعبة وقال: (يا أمير المؤمنين! قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل في الجنين الغرة ) فنزل عمر على كلام المغيرة، وبهذا ضاق الخلاف بينهم.

    ثم بعد ذلك جاء عثمان فانتقل الصحابة إلى الأمصار، فذهب ابن مسعود إلى الكوفة، وذهب ابن عباس إلى مكة، فلما تفرق الصحابة في الأمصار عمت المسائل الجديدة، وأصبح من الواجب إيجاد حلول وأحكام لهذه المسائل الجديدة؛ لضرورة معرفة حكم الله في هذا الشيء.

    1.   

    سبب الخلاف في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال الصحابة معها

    من لم يبلغه الحديث فاجتهد وأصاب

    فمنشأ الخلاف ابتدأ منذ تفرق الصحابة في البلدان كما سنبين إجمالاً ثم نفصل بعد ذلك، وقد كان جامع أصول الخلاف عند الفقهاء: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله.

    ولقول النبي حالات: منها أن يكون معللاً، أو أن يكون تعبدياً.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للصحابة له أحوال: فصحابة بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابة لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابة بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم لم يفهموه على وجهه.

    فمثال من لم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ما حصل لـابن مسعود رضي الله عنه في الكوفة، فقد جاءه الناس فقالوا: يا ابن مسعود ! امرأة مات عنها زوجها بعد أن عقد عليها ولم يسم لها المهر فما حكمها؟

    فنظر ابن مسعود في ذلك فاشتد عليه الأمر، وقال: إليكم عني! فإني لم أجد فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتركهم.

    ثم جاءوا في اليوم الثاني فقالوا: يا ابن مسعود ! إن لم نسألك أنت فمن نسأل؟

    فقد علموا لمن يرجعون، فلا يرجعون إلا لأهل العلم المدققين المتقنين المحققين، ولا يأخذون بقول أي أحد، بل يأخذون العلم من أهله، وفي زماننا هذا اختلط الحابل بالنابل، واختلط العالم بالواعظ والداعية، واختلط طالب العلم المدقق بغيره من أشباه طلاب العلم.

    والمستفتون مسئولون أمام الله عن الذي يختارونه للسؤال؛ لأن المقلد لا يسأل أمام ربه عن الفتوى، ولكنه يسأل عن اختياره للمفتي، ولكم أن تنظروا إلى الناس في قرون الخيرية، فلم يذهبوا إلا لصحابة رسول الله، مع أن التابعين في هذه العصور كانوا من أدق الناس نظراً في أدلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا كان الصاحب موجوداً فإنه لا يرجع إلا إليه؛ لأنه أفقه وأعلم وأدق نظراً في كلام الله وكلام الرسول.

    فقالوا: يا ابن مسعود ! إن لم نسألك أنت فمن نسأل؟ فقال: إليكم عني! فإن الأمر خطير، فجاءوه في اليوم الثالث فقال: لم أجد فيها سنة فسأجتهد فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، ثم قال: لها المهر كاملاً ولها الإرث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشراً.

    فنزلها منزلة الزوجة المدخول بها، إذ إن المطلقة قبل الدخول بها يثبت لها نصف المهر فقط.

    فقام رجل فقال: يا ابن مسعود! والله لقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق مثل ما حكمت. فخر ابن مسعود ساجداً وقال: ما فرحت بشيء فرحي بموافقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: فالصنف الأول: هو من لم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتهد برأيه في المسألة، فوافق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    من لم يبلغه الحديث فاجتهد فأخطأ

    والصنف الثاني: هو من لم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم فاجتهد برأيه في المسألة فخالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    ومن أمثلة ذلك أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه؛ فإنه استفتي في الصائم يصبح جنباً، أي: رجل جامع أهله في ليل رمضان كما أباح الله له، فما اغتسل من الجنابة إلا بعد صلاة الفجر، فلما سئل أبو هريرة عن هذا أفتى بسقوط الصيام ولزوم القضاء عليه.

    فجعل أبو هريرة الطهارة شرطاً في الصيام، فخالف بذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً وهو صائم فيغتسل ويتم صومه)؛ فدل هذا الحديث على أن الطهارة ليست شرطاً في الصيام، واستثنيت من ذلك مسألة الحيض؛ لثبوت الدليل فيها.

    فهنا اجتهد أبو هريرة برأيه لعدم علمه بهذا الحديث فخالف بذلك حديث رسول الله، ثم بعد ذلك رجع، وقال: أرجع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن هؤلاء الذين لم يبلغهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم فاجتهدوا وخالفوا النص الصحيح ثم رجعوا، عبد الله بن عمرو بن العاص أو ابن عمر ، والشك مني، فقد كان يأمر كل امرأة لها ظفائر إذا أرادت أن تغتسل أن تحل هذه الظفائر، فكان يأمر النساء أن ينقضن شعورهن أو ظفائرهن عند الاغتسال.

    فبلغ ذلك عائشة ، وكانت عائشة شديدة على الذي يخالف السنن، وهذا لا يعاب على الشديد، لكن ينبغي له أن يكون شديداً متأدباً.

    فقالت عائشة : (أما أمر ابن عمر النساء أن يحلقن رءوسهن؟ والله لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكفيني أن أحثو ثلاث حثيات على رأسي، أو قالت: وكنت أفرغ ثلاث إفراغات على رأسي ولا أنقض شعري).

    فاستدلت بهذا الحديث على عدم وجوب نقض المرأة ظفائر شعرها إذا هي اغتسلت، ووجه الدلالة من هذا الحديث: هو إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى عائشة وهي تفرغ الماء على شعرها فلم يقل لها انقضي هذه الظفائر، فإقرار النبي لها يدل على الجواز.

    فلما بلغ هذا الدليل ابن عمر فرجع إلى قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    من بلغه الحديث فلم يعمل به لعدم ثبوته عنده

    الصنف الثالث: هو من بلغه الحديث في المسألة لكنه لم يفهمه على مراده أو لم يثبت هذا الحديث عنده:

    مثال ذلك: عمر بن الخطاب: فقد كان يذهب إلى أن المطلقة ثلاثاً تثبت لها النفقة والسكنى، فإذا أراد زوجها أن يرجع إليها لزمه أن يتزوج بها غيره وأن يدخل بها ثم يطلقها بعد ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، إذاً: فلابد أن يطأها الآخر، وهذا هو الراجح الصحيح.

    وقد جاءت فاطمة بنت قيس إلى عمر فقالت: (يا أمير المؤمنين! إني قد طلقني زوجي فبت طلاقي -تعني: طلقني ثلاثاً- فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم لي سكنى ولا نفقة)، فقال عمر بن الخطاب : والله لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لامرأة لا ندري أنسيت أم تذكرت.

    وهذا يدل على الفهم الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).

    وزيادة: (ولا سنة نبينا)، لا تصح؛ لأن في إسنادها رجلاً هالكاً، والذي ثبت عن عمر بالسند الصحيح هو قوله: (والله لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري تذكرت أم نسيت)، وهو يشير إلى قول الله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6].

    فهو استنبط من هذه الآيات وجوب النفقة والسكنى للمبتوتة على الزوج، ورد حديث فاطمة بنت قيس ، وكأنه شكك في صحة ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والمحدثون لا يأخذون بهذا، ولا تضعف أحاديث المرأة بهذه الأقوال أبداً، بل إن فاطمة بنت قيس كانت من أحفظ الصحابيات رضي الله عنها وأرضاها، فقد حفظت حديث الدجال من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة قاله على المنبر، وذلك عندما صعد على المنبر فابتسم وقال: (إن تميماً الداري حدثني).

    والعلماء يلغزون بذلك ويقولون: كل الصحابة حدثوا عن رسول الله إلا فلاناً فإنه حدث عنه رسول الله، وهو: تميم الداري ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني تميم الداري بحديث أعجبني كنت قد حدثتكم به)، ثم ذكر حديث الدجال الطويل، ومع ذلك فقد حفظته فاطمة ثم سردته للأمة بأسرها، فنحن نأخذ بقولها ونرد قول عمر الفاروق وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن أمثلة الصحابة الذين بلغهم النص ولم يفهموه: عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه:

    فقد بلغه قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فأخذ خيطاً أبيض ووضعه تحت الوسادة، وأخذ حبلاً أسود ووضعه تحت الوسادة ثم نام، وكان كلما نظر إليهما لم يفرق بينهما فيأكل حتى طلعت الشمس ففرق بين الحبل الأسود والأبيض، فجاء إلى رسول الله فقال: (يا رسول الله! أكلت حتى طلعت الشمس، والله تعالى يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] فقال: أين وضعت الحبل؟ قال: تحت الوسادة، فقال: إن وسادك لعريض).

    وبعضهم يقول: إن هذه سبة من الرسول صلى الله عليه وسلم له، وهذا خطأ على رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.

    والمقصود أن الخيط الأبيض: هو المستعرض في السماء كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، والخيط الأسود: هو طلوع الفجر المستطيل في السماء، فإذا ما قست السماء بالوسادة وشبهتها بها صارت الوسادة عريضة بذلك، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم.

    فقد فهم هذا الصحابي النص على خلاف الصحيح، ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم الفهم الصحيح، وبذلك محا الله هذا الخلاف في مسألة الصيام.

    فهذا منشأ الخلاف في قوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    اختلاف الصحابة في حكم فعل النبي صلى الله عليه وسلم

    منشأ الخلاف عند الصحابة في فعل النبي صلى الله عليه وسلم:

    فبعض الصحابة فهم أن فعل النبي سنة وقربة لابد أن نعمل بها، وبعضهم يرى أن فعل النبي ليس بقربة، بل هو عادة من نوى بها الاقتداء به صلى الله عليه وسلم أجر على ذلك، لكنها ليست بعبادة.

    مثال ذلك: عندما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمكان بمكة اسمه الأبطح، فقد قال أبو هريرة : هذا النزول سنة، أي: أن كل من حج ورمى وأراد أن يرجع إلى بلده فعليه أن ينزل بالأبطح؛ لأنها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فهمه ابن عمر هذا الفهم، وكان أشد الناس تحرياً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينزل بالأبطح.

    لكن عائشة لما سئلت قالت: لا والله ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح إلا وفاقاً لا قصداً، يعني: وافق مكان نزول النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون تعب ثم نزل الأبطح لموافقته مكان راحته، فتبين من كلام عائشة أن هذا الفعل ليس بسنة، بل جاء ذلك وفاقاً لا قصداً، وهذا هو الراجح.

    فالغرض المقصود أن الصحابة اختلفوا: هل فعل النبي يؤخذ على سبيل القربة أم الإباحة؟

    فمن قال بالقربة اختلف مع من قال بالإباحة، وتفرع الخلاف هنا عند الفقهاء، فيقول مالك والشافعي مثلاً: إن هذا النزول في الأبطح سنة، ثم يأتيك الحنفي أو ابن حزم فيقول: ليس بسنة، فهذا الاختلاف منشؤه الاختلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم هل هو قربة أم لا؟

    ومن ذلك أيضاً: أن ينظروا إلى فعل النبي هل هو خاص بالنبي أم لا؟

    والذي جرى به قلم العلامة الشوكاني الجهبذ المجتهد المطلق، أنه إذا خالف الفعل القول فإن الفعل خاص.

    مثال ذلك: الشرب قائماً، أو استقبال القبلة ببول أو غائط، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استقبل القبلة ببول وغائط كما قال ابن عمر : (رقيت على بيت حفصة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر الكعبة مستقبل بيت المقدس)، وكان قد نهى عن ذلك رسول الله كما سنبين في التعارض، فقال الشوكاني : فعل النبي خاص به، وعندنا النهي العام سواء في المراحيض أو غير المراحيض، فمن استقبل أو استدبر فقد أثم. هذا كلام الشوكاني.

    والشاهد من هذا: أنه يجعل فعل النبي خاصاً به، والجمهور يخالفونه فيرون أن الأصل في فعل النبي هو العموم؛ لأن الأحكام لا تتنزل خاصة بأحد إلا إذا دل الدليل على الخصوصية.

    إذاً: فالقاعدة تقول: إن كل قول وكل أمر وكل فعل فهو لعموم الأمة لا يمكن أن يختص به رجل من الأمة ولا حتى رسول الله إلا أن يدل الدليل على التخصيص.

    1.   

    الاختلاف الفقهي الناتج عن الخلاف في حكم فعله صلى الله عليه وسلم

    ومن أمثلة هذه القاعدة قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، إذ لو كان الفعل للنبي خاصاً به لما احتيج إلى قوله: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50].

    ثم تتفرع مسائل عن هذه المسألة: وهي فعله صلى الله عليه وسلم هل هو على الوجوب أم على الاستحباب؟ وهل هو على التخصيص أم على العموم؟ فهذا خلاف في الأصل يتفرع عليه الحكم الفقهي.

    إذاً: فخلاف القول خلاف للفعل.

    الثالث: خلاف القول من ناحية العلة:

    فيقولون: هذا القول معلل أو هذا القول غير معلل، فيتفرع عن ذلك الخلاف الفقهي، مثال ذلك: غسل الإناء من ولوغ الكلب، قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، فهل ينطبق حكم الإناء على الثوب فيغسل سبع مرات ويعفر الثامنة بالتراب؟

    فالجواب: أن العلماء اختلفوا في علة هذا الحكم -وهو الغسل سبعاً من ولوغ الكلب- فقالت المالكية والأحناف: نغسله سبعاً لعلة النجاسة، والزيادة في الغسل على المرة والمرتين مستحبة.

    وقال الشافعي وأحمد : بل نغسله سبع مرات وجوباً؛ لعلة التعبد فقط؛ لأن النجاسة أصل واحد، فكونه أمر بهذه الزيادة في الغسل دل ذلك على أن المسألة تعبدية محضة، ومن هنا نشأ الخلاف الفقهي في هذا الحديث: هل هو معلل أم متعبد به؟ والصحيح الراجح: أنها مسألة تعبدية، فلابد من غسل الإناء سبعاً وتعفيره الثامنة بالتراب.

    أما الصنف الثاني من مسألة التعليل فيقولون: هو معلل، لكن يختلفون في ضابط العلة، وهل هي علة أم لا؟

    مثال ذلك: الاختلاف في علة الربا، فقد قال بعض الفقهاء بالقياس على الأصناف الستة في الربا، وهي: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والملح بالملح، والشعير بالشعير، فلابد في هذه الأصناف من التقابض يداً بيد ومن التماثل.

    فهذه أصناف ربوية لا يصح فيها التبادل إلا يداً بيد، فلابد من الحلول في المجلس والتساوي إذا اتفقا في الجنس كذهب بذهب، وإذا اتفقا في الجنس واختلفا صفة كأن كان هذا ذهباً مكسراً محروقاً والآخر نظيفاً مصنوعاً بأرقى المواصفات فلابد من التساوي.

    أما إذا اختلفا في الجنس كالذهب والفضة فلا بد أن يكون يداً بيد، ويجوز التفاضل، فلو أتيت بمائة كيلو من الفضة مع كيلو من الذهب فإنه يجوز بشرط أن يكون يداً بيد، وأيضاً في البر والشعير.

    فالغرض المقصود: أن بعض العلماء قاسوا على الأصناف الستة غيرها فأدخلوها فيها، وهؤلاء الذين قالوا: بأن هذا الحديث معلل، أي: له علة.

    أما ابن حزم وابن عقيل من الحنابلة فقد قالا: بأن هذه الأصناف تعبديه فلا يقاس عليها شيء.

    ثم اختلف القائلون بالعلة في ضبط العلة، فالأحناف مثلاً والحنابلة يرون أن العلة في الذهب هي الوزن، ومفاد العلة بالوزن أن الحديد بالحديد لا يصح بيعه إلا كيلو بكيلو. وهذا غلط، والصحيح الثمنية.

    والشافعية والمالكية يرون أنها علة أخرى، وليس هذا باب النظر فيها، لكن الغرض المقصود: أنهم اختلفوا في قول النبي هل هو معلل أم متعبد به؟ فنشأ من هنا الخلاف الفقهي بين العلماء على هذا الأصل الفقهي، فهذا هو الصنف الثاني.

    ومن هذا أيضاً: الاختلاف في علة القيام للجنازة، فبعض العلماء يرون أن القيام للجنازة منسوخ، وهذا ليس بصحيح، بل الراجح: أنه ليس بمنسوخ، لكن المدققين نظروا في القيام للجنازة فقالوا: نريد أن نعرف ما هي العلة حتى نقوم أو نقعد؟ فقال بعضهم: العلة في القيام: هي احترام الملائكة، وقد جاء بسند صحيح في سنن النسائي : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودي فقام، فقالوا: يا رسول الله! إنه يهودي، فقال: تحفه الملائكة أو قال: تصحبه الملائكة)، فهي إشارة من النبي أن القيام كان تعظيماً للملائكة، وبعضهم يجري ذلك إلى جواز القيام للمعظم وللعالم الجليل وللأب وللأم، خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل الظاهر والألباني رحمه الله في عدم جواز القيام، وهذه المسألة ستأتي إن شاء الله.

    وجاء في رواية أخرى في سنن أبي داود وسنن النسائي أيضاً بسند صحيح: (لما مرت الجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم وقام فقالوا: يا رسول الله! إنه يهودي فقال: إن للموت فزعاً)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنه قام تعظيماً وتذكيراً بأمر الموت، فهو يستحضر في قلبه الموت وسؤال الملك، فإن سيسأله ويقول: من ربك؟ ما دينك؟ والصحيح الراجح في هذا: هو الجمع بين العلتين.

    وقد ورد أيضاً أن الحسن لما مرت عليه جنازة لم يقم، فاعترضوا عليه وقالوا: مرت جنازة على رسول الله فقام وكانت جنازة يهودي، فقال الحسن : قام رسول الله خشية أن تعلو جنازة اليهودي رأسه صلى الله عليه وسلم.

    وفي هذا دلالة: على أن أهل الإسلام لا يقربون إلا أهل الإسلام، ولذلك كان عمر يقول: كيف تقربوهم وقد أبعدهم الله؟ فـالحسن يقول: مرت الجنازة من فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشي ذلك فقام؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والصحيح الراجح: هو الجمع بين العلل، فإنه يجوز أن تقوم، ويجوز ألا تقوم، وهذا شاهد لنا بأن الفقهاء اختلفوا عند النظر في تعليل الدليل.

    فالغرض المقصود بهذا الصنف الثالث هو الاختلاف في العلة.

    1.   

    مسألة تعارض الأدلة والجمع بينها

    الصنف الرابع: تعارض الأدلة:

    فقد نتج عنه أيضاً اختلاف بين الفقهاء، وقد يقع التعارض بين القول والقول، أو بين القول والفعل، وقد نظر العلماء إلى هذا التعارض فوجدوا التعارض في القول والفعل، فاختلفوا في الأحكام الفقهية نظراً لهذا التعارض.

    ويجب أن نعلم أولاً: أنه لا يجوز لأحد أن يقول: إن كلام النبي صلى الله عليه وسلم متعارض، أو إن كلام الله متعارض والعياذ بالله، فقد خرج كله من مشكاة واحدة، لكن التعارض كما قال ابن حجر وقرره قال: التعارض حاصل في نظر المجتهد وليس التعارض في قول النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالعلماء ينظرون في الأدلة التي ظاهرها التعارض فيقولون: نجمع بين القولين، أو نرجح، أو ننظر في الناسخ والمنسوخ، وهذا منشأ الخلاف عند الفقهاء، فمنهم من يعرف طريقة الجمع، ومنهم من لا يستطيع فيرجح، ومنهم من ينظر إلى الناسخ والمنسوخ، فينشأ بالتالي الخلاف الفقهي بين العلماء.

    مثال ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس : (مر على رجل يشرب قائماً فقال له: تريد أن يشرب معك الهر؟)، قال: (تريد أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: يشرب معك من هو أشر من الهر الشيطان)، ففي هذا دلالة على النهي الأكيد؛ لأن الشيطان يشرب معك.

    وفي رواية أخرى في السنن بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب قائماً فليستقئ)، وهذه دلالة أخرى: على شدة الحرمة، فهذا قول.

    ثم جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أنه شرب قائماً: (فقد شرب النبي من شن معلقة -من قربة معلقة- قائماً، وشرب من ماء زمزم وهو قائم).

    فهذه أدلة ظاهرها التعارض، فقد ثبت من فعله أنه شرب قائماً، وثبت من قوله أنه نهى عن ذلك، ومن هنا نشأ الخلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: الحاظر يقدم على المبيح، فنرجح ونقول: بأن النهي هو الذي يعمل به، وبالتالي فلا يجوز أن يشرب قائماً.

    وقال الشوكاني : بل يكون فعله خاصاً به ويبقى النهي على عمومه.

    ومنهم من يقول: إن القاعدة عند العلماء: أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، وأن إعمال الكلام خير من إهماله، فيكون النهي عن الشرب قائماً مصروفاً من التحريم إلى الكراهة، وقد يفعل النبي المكروه تبييناً للأمة وتشريعاً لها وكأنه يقول: من شرب قائماً فليس بآثم، لكنه مكروه فلا يكثر منه.

    ومثال ذلك أيضاً: البول قائماً، فقد ورد النهي عنه وورد الجواز فيه بالفعل، ففي سنن الترمذي عن عبد الكريم بن أبي المخارق : (أن عمر بن الخطاب بال قائماً فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: فما بلت قائماً منذ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو منذ نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث ضعيف؛ وعلته: ابن أبي المخارق ، فهو ضعيف ضعفه المحدثون فالسند ضعيف، لكنه جاء بسند صحيح عن عائشة أنها قالت: ما بال رسول الله قائماً قط، ومن حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فقد كذب أو أخطأ.

    فهذه الآثار تدل على النهي عن التبول قائماً.

    لكنه جاء في الصحيح عن المغيرة بن شعبة قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً) والسباطة: هي المزبلة.

    فهذه الأدلة ظاهرها التعارض، ومن هنا نشأ الخلاف بين العلماء: فبعضهم يقول بحرمة البول قائماً، وبعضهم يقول بالجواز؛ لأن أصل الخلاف ورد في فهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند تعارض الأدلة.

    ونحن نقول: الراجح الصحيح هو التفصيل؛ فإن كان على أرض صلبة فلا يجوز له أن يبول قائماً؛ لأن الرذاذ سيرجع على ثوبه، فلا يصح أن يبول قائماً في المراحيض الموجودة الآن لصلابتها، إلا إذا أمن الرذاذ أن يرجع عليه، أما إذا كانت الأرض رخوة كالسباطة فيجوز له أن يبول قائماً، والأصل: هو البول قاعداً، وهذا هو الصحيح.

    فالغرض المقصود: أن منشأ الخلاف جاء في فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند التعارض بين القول والفعل أو بين الفعل والفعل.

    1.   

    معرفة الناسخ والمنسوخ وأثر ذلك على الخلاف الفقهي

    ثم يأتي بعد ذلك النسخ:

    ومثال ذلك: نكاح المتعة، والشيعة يقولون بجوازه أخذاً بقول ابن عباس.

    أما جمهور العلماء فيقولون بحرمته؛ لأن نكاح المتعة كان مباحاً في أول الإسلام ثم نسخه النبي صلى الله عليه وسلم وحرمه بعد ذلك، إلى الأبد، يعني إلى يوم القيامة.

    والحقيقة أن ابن عباس لم يقل بجواز المتعة مطلقاً، لكنه أجازها عند الضرورة، فإنه لما استفتي في هذه المسألة قال: هي كالميتة، يعني تجوز عند الضرورة.

    ويجوز للرجل الذي يعيش في الخارج وخشي على نفسه الوقوع في الزنا أن يتزوج زواجاً بنية الطلاق، فإن عقد النكاح بهذه الصورة يكون صحيحاً بشرط أن تكون من أهل الكتاب، لكن هذا الزواج ليس من المروءة في شيء.

    فالغرض المقصود: أن ابن عباس لم يعلم بالناسخ، ولكنه ضيق في زواج المتعة فلم يبحها إلا عند الضرورة، وقد سأله علي بن أبي طالب فقال: تفتي بالمتعة؟ قال: نعم، فقال: إنك رجل تائه.

    فغلظ عليه القول لأنه دين الله تعالى؛ ولذلك فإن بعضهم يعيب علينا عندما نقول: إن قول الشيخ الفلاني والعلاني لا يعتبر لأنه خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ابن عباس الذي احتضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، والذي كان يقدمه عمر بن الخطاب على كثير من الصحابة، يقول له علي بن أبي طالب معنفاً: إنك رجل تائه، إن رسول الله حرم نكاح المتعة يوم خيبر.

    ليس هذا فحسب، بل عن عبد الله بن الزبير -والذي كان خليفة للمسلمين بالمبايعة لولا ما فعله الحجاج به- فقد قام مرةً خطيباً في الناس فقال: مالي أرى أناساً قد أعمى الله بصائرهم كما أعمى أبصارهم -يعرض بـابن عباس ، وقد كان عمي في آخر عمره- قال: يفتون بالمتعة، والله لأنكلن بمن يقول ذلك.

    فقام ابن عباس وسط الخطبة وقال: مالي أراك جلفاً جافياً كالأعراب -أي: غليظاً- فقال: افعلها! فوالله الذي لا إله إلا هو لأرجمنك بأحجارك.

    والحق: أن ابن عباس كان مجتهداً في ذلك، والمشاجرة الكلامية بين عبد الله بن الزبير وابن عباس لا تفسد للود قضية أبداً، وإنما نقلناها حفاظاً على آثار السلف رضوان الله عليهم أجمعين.

    فالغرض المقصود أنه عندما لا تبلغ العلماء والفقهاء مسألة الناسخ والمنسوخ اختلفوا في الحكم الفقهي.

    وهذا يبين لك أهمية التأصيل العلمي لمثل هذه المسائل، فإن التفصيل هو الذي يجعل الإنسان يعلم كيف يصدر العلماء هذه الأحكام من الأدلة، ونحن سنتكلم في مسائل كمفهوم المخالفة، والقياس، والمصالح المرسلة، والإجماع، فمثلاً: هل من المتصور وقوع الإجماع بعد عصر الصحابة؟

    مثال ذلك: مسألة الذهب المحلق التي عارض فيها فقهاء عصرنا الشيخ الألباني فقيل له: خالفت الإجماع، فرد عليهم: بأن الإجماع غير متصور بعد عصر الصحابة، واستدل بقول الإمام أحمد : وما يدريك لعل الناس قد اختلفوا.

    وسنبين هذه المسائل التي هي محل خلاف بين فقهائنا وأصل منشأها، فإن أصلها يعود إلى الكلام عن الإجماع والقياس ومفهوم المخالفة وما أشبه ذلك.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756375108